الحمد لله الذي أمهل لعباده للوقوف مع أنفسهم ومحاسبتها قبل الحساب العسير
وأشهد أن لا إله إلاالله واشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما بعد فتقو الله عباد الله وعلموا
أن محاسبة النفس تنقسم إلى قسمان، قسم قبل العمل، وقسم بعده.
أما الأول: فهو أن يقف العبد عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له أيمضي أم يترك، قال الحسن البصري – رحمه الله تعالى-: (رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره توقف).
أما القسم الثاني: وهو محاسبة النفس بعد العمل وهو ثلاثة أنواع:
أحدهما: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق الله –تعالى-فلم تؤدها على الوجه المطلوب، وحق الله في الطاعة ستة أمور وهي:
1- الإخلاص.
2- متابعة النبي – صلى الله عليه وسلم-.
3- النصيحة لله.
4- شهود مشهد الإحسان في هذه الطاعة.
5- شهود منة الله عليك في توفيقك لهذه الطاعة.
6- شهود تقصيرك فيها.
فيحاسب العبد نفسه: هل وفىّ هذه المقامات كلها في كل طاعة يقوم بها؟ أم لا؟.
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيراً من فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح، أو معتاد لم فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؟ فيكون ذلك رابحاً، أو أراد به الدنيا وعاجلها؟ فيخسر ذلك الربح، ويفوته الظفر به.
وتكون محاسبة النفس على هذا النحو الذي ذكره الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى-:
أولاً: البدء بالفرائض، فإذا رأى فيها نقصاً تداركه.
ثانياً: ثم المناهي، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية.
ثالثاً: محاسبة النفس على الغفلة، ويتدارك ذلك بالذكر والإقبال على الله – جل جلاله-.
رابعاً: محاسبة النفس على حركات الجوارح من كلام اللسان ومشي الرجلين، وبطش اليدين، ونظر العينين، وسماع الأذنين، وغيرها، ماذا أردت بهذا؟ ولمن فعلت؟ وعلى أي وجه فعلته؟.
أخي الكريم: إن محاسبة النفس أمر عسير لكنه يسير لمن يسره الله لذلك، وهناك أمور تعين العبد على محاسبة النفس، ومن أبرزها وأهمها:
(1) استشعار رقابة الله على العبد واطلاعه على خطاياه، فإذا علم العبد ذلك استيقظ من غفلته وقام من رقاده، وقويت إرادته على محاسبة نفسه ومجاهدتها.
(2) معرفة العبد أنه كلما اجتهد في محاسبة نفسه اليوم استراح من ذلك غداً، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً.
(3) بذكر الحساب الأكبر والسؤال بين يدي الجبار –جل جلاله- يوم القيامة فإذا علم العبد أنه مسؤول بين يدي الله فيجب أن يعد لكل سؤال جواب، ومن هنا كان العبد أشد محاسبة لنفسه.
(4) معرفة العبد ربح محاسبة النفس، ومراقبتها وهي سكنى الفردوس الأعلى، والنظر إلى وجه الرب – سبحانه- ومجاورة الأنبياء، والصالحين، وأهل الفضل، وأن عدم المحاسبة تفقده هذا كله، وتفوته عليه وليس بعد ذلك خسارة.
(5) النظر فيما يؤول إليه من ترك محاسبة النفس ومراقبتها من الهلاك والدمار، ودخول النار، والحجاب عن رؤية الرب – سبحانه- ومجاورة أهل الكفر والضلال والخبث – عياذاً بالله-.
(6) صحبة الأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونه على عيوب نفسه، وترك صحبة من عداهم.
(7) النظر في سيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم- وصحابته – رضي الله عنهم- ومعرفة أخبار وسير أهل المحاسبة، والمراقبة في سلفنا الصالح.
(
زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم.
(9) حضور مجالس العلم والوعظ والتذكير، فإنها تدعو إلى محاسبة النفس.
(10) قيام الليل، وقراءة القرآن بتدبر وخشوع، وحضور قلب، والتقرب إلى الله –تعالى- بأنواع الطاعات.
(11) البعد عن أماكن اللهو والغفلة والمجون والعربدة فإنها تنسي الإنسان محاسبة نفسه.
(12) ذكر الله –تعالى- ودعاؤه بأن يجعلك من أهل المحاسبة والمراقبة.
(13) سوء الظن بالنفس، فإن من حسن ظنه بنفسه نسي محاسبتها، أو غفل عن ذلك، وربما إذا رأى العبد بسبب حسن ظنه بنفسه أن عيوبه ومساوئه كمالاً، وهذا أدعى لعدم المحاسبة.
أخي في الله: إن من التزم بما سبق فإنه وبفضل الله لا يعدم بأن يجني ثمار تلك المحاسبة سواء في الدنيا أو في الآخرة، وفوائد محاسبة النفس كثيرة جداً منها على سبيل المثال لا الحصر:
(1) الاطلاع على عيوب النفس وآفاتها، ومن لم يطلع على عيوب نفسه لم يمكن إزالتها.
(2) التوبة والندم وتدارك ما فات في زمن الإمكان.
(3) معرفة حق الله –تعالى- فإن أصل محاسبة النفس هو محاسبتها على تفريطها في حق الله –تعالى-.
(4) انكسار العبد وزلته بين يدي ربه –تبارك وتعالى-.
(5) معرفة كرم الله –تعالى وعفوه ورحمته بعباده في أنه لم يُعجل عقوبتهم مع ما هم عليه من المعاصي والمخالفات.
(6) مقت النفس والإزراء عليها، والتخلص من العجب والرياء والسمعة.
(7) الاجتهاد في الطاعة وترك العصيان لتسهل عليه المحاسبة فيما بعد.
(
رد الحقوق إلى أهلها وسل السخائم، وحسن الخلق، وهذه من أعظم محاسبة النفس .
أخي الكريم: فحق على الحازم العاقل، المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها، وسكناتها، وخطراتها، وخطواتها، فكل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز، لا يتناهى نعيمه أبد الآباد، وإضاعة هذه الأنفاس أو شراء صاحبها ما يجلب هلاكه خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا جاهل، بل هو من أجهل الناس وأحمقهم، وأقلهم عقلاً وفهماً، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن "يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ"[آل عمران:30].