أضئ شمعة واحدة _ بيفرلي بتلر [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] عندما
فرغت من نقل هذا الأثر الأدبى إلى اللغة العربية أدركت أنه أقرب إلى
الترجمة الذاتية منه إلى الرواية بالمفهوم الفنى، ذلك لأن المؤلفة إنما
عبرت عن تجربة واقعية كان لها أكبر الأثر فى بناء شخصيتها وتحديد مسارها
فى الحياة وتعديل علاقات الناس بها. وإن كانت قد أشارت فى صدر الرواية إلى
أن الشخصيات والمواقف ليست واقعية. وإنى لاعترف بأننى اخترت هذه الرواية
اختياراً لسبب يمكن أن يوصف بأنه شخصى وفنى فى وقت معاً، شخصى لأن التجربة
التى تحققت بهذا التعبير الأدبى، تشبه بل تماثل التجربة التى واجهتها فى
حياتى. ففى بواكير الصبا دلفت الكاتبة من عالم المرئيات إلى عالم
المدركات، وفى بواكير الصبا أيضاً أسدلت الستائر لتحول بينى وبين عالم
المرئيات، وكانت العودة لكلينا صعبة، لأنها تتصل ببناء الشخصية وباكتساب
المعرفة وتحقيق الوجود ومحاولة التغلب على المشكلة إلى جانب تصحيح
العلاقات بالآخرين، وفنى لأن مثل هذا الموقف الصعب، يدفع صاحبه دائماً إلى
أن يحققه بالتعبير الأدبى، وليس ذلك سهلاً لأن صاحب التجربة لا يريد أن
يعرفه الناس كظاهرة خارقة أو منحرفة، وقصاراه أن يثبت أنه سوى كغيره من
الأسوياء. ولكم حاولت جهدى على مدى عشرين سنة أو تزيد أن أكتب ترجمة ذاتية
تستوعب هذه التجرية، وكنت أواجه ما يشبه "التحريم" فى مرحلة الذروة
الانفعالية التى اقترنت بالتحويل من عالم البصر إلى عالم "النور والأمل".
وصح عندى أن أستاذى الدكتور طه حسين كان موفقاً غاية التوفيق عندما جعل من
ذاته شخصاً آخر يصوره فى مرحلة الطفولة وبواكير الصبا ويتحدث عنه بضمير
الغائب لا بضمير المتكلم. ومع أننى لم أقنع بهذه الوسيلة النفسية والفنية
إلا أننى أقر بأن التعبير عن مثل هذه التجربة يجاوز الطاقة ويكاد يقترب من
الاستحالة، ومن هنا كان إعجابى بالرواية التى أقدمها اليوم إلى قراء
العربية لأنها تعبير مباشر عن الذات وعن الموقف الصعب، ولأنها تجمع فى
أعطافها فضائل الترجمة الذاتية والرواية الفنية فى آن واحد. والمؤلفة
"بيڤرلى بتلر" من الأديبات اللائى تخصصن فى كتابة الرواية، ولها فى هذا
الفن الأدبى منهجها وأسلوبها ومكانتها فى عالم الأدب. وقد استطاعت أن تحقق
نبوغها الروائى ولما تزل طالبة فى كلية مونت مارى فى ميلووكى، وذلك
بروايتها الأولى "أغنية المسافر" التى حصلت بها على الجائزة الأدبية فى
المسابقة التى تنظمها إحدى دور النشر الكبرى متعاونة مع مجلة "كومباكت"،
وواصلت سيرتها الأدبية فأصدرت عدداً من الروايات التى نالت حظاً من الشهرة
مثل "الأسد وثعلب الماء" و"المفتاح الفضى". ولكن روايتها "َأضئ شمعة
واحدة" هى التى استحوذت على اهتمام النقاد والمتذوقين وعلماء النفس
والتربية، لما فيها من تعبير مباشر عن تجربة فذة واجهتها فتاة فى الرابعة
عشرة من عمرها، فتاة تنفعل بالمرئيات والمشاهد والمناظر وتنزع إلى التعبير
الفنى عن ابتهاجها بالحياة، لا بالكلمات، ولكن بريشة الرسام، ثم تواجه
التحول الفجائى من عالم المرئيات إلى عالم المحسوسات والمدركات بالسمع
واللمس والشم، وتواجه من التحديات ما يزلزل النفس ويقضى على الثقة ويكاد
يقوض الإيمان بالحياة. وتتعدل وسائلها فى اكتساب المعرفة ويتبدل إطارها
الدراسى ولكنها مع ذلك تتغلب على الظروف بمنهج واقعى، لا يحب التخاذل،
ويكره العطف، وتدرك آخر الأمر أن المشكلة لا تكمن فى ذاتها وإنما تكمن فى
مواقف الآخرين منها. وهكذا تشحذ إرادتها، وتستعيد مكانها على الطريق وتنحى
عن نفسها الإحساس بالعجز، وتتخلص من الإحباط ومن التردد وتصبح شخصية عادية
سوية تستكمل دراستها فى مدرسة عامة ـ لا فى مستعمرة للمكفوفين ـ وتتفوق
على غيرها وتطب لذاتها من الوهم والتخيل والتبرير وتعتصم بالواقع، وتفيد
منه إلى أقصى حد، وتسهم فى العمل والبناء والعطاء. ولقد كانت المؤلفة
موفقة غاية التوفيق فى اختيار عنوان روايتها أو ترجمتها الذاتية، فإن ذروة
التجربة الانفعالية التى تجعل المرء يواجه فجأة التحول من عالم إلى عالم
آخر لا يترجمها غير تلك الحكمة الذهبية المأثورة عن الحكيم الصينى
كونفوشيوس، وهى: "خير لك أن تضىء شمعة واحدة من أن تقعد وتلعن الظلام". إن
هذا الشعار هو الذى يتغلب على اليأس ويحول السلبية إلى عمل إيجابى يحقق به
المرء وجوده وإنسانيته. وإذا كانت قد اقتطفت عنوانها من نصيحة أستاذ
الجامعة، الذى كان زميلاً لبطلة الرواية فى مدرسة تدريب الكلاب المرشدة،
فإنها كانت تدرك بحسها الفنى أن حل العقدة فى بناء روايتها إنما تجسمه هذه
الحكمة الذهبية التى تصلح شعاراً لجميع الأحياء. وعلى الرغم من العناء
الذى لقيته فى نقل هذا الأثر الأدبى إلى اللغة العربية ـ لما فى أسلوب
الرد ومنهج الوصف وطريقة الحوار من تعقيد وإغراب ـ إلا أننى أشعر بقدر من
الرضا عن النفس وأنا أقدمها إلى القراء، وحسبى أن يرددوا معى ومع المؤلفة،
كلما حزبهم أمر، هذه الحكمة الذهبية النابعة من المشرق: "أضئ شمعة واحدة".