المضحكات المبكيات
في شعر : عبد الحميد الديب
من كتاب " أضواء علي أحزان الشعراء للشاعر / إسماعيل بريك صدر سنة 2000 م "
بقلم /إسماعيل بريك
ولد الشاعر / عبد الحميد الديب عام 1898 م في قرية كمشيش بمركز تلا منوفية وبدأ رحلته مع التعليم في كتاب القرية ثم التحق بالأزهر الشريف ثم مدرسة دار العلوم – ولم يواصل دراسته بدار العلوم بعد وفاة والده يرحمه الله فتركها وبدأ رحلته مع التشرد والضياع في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي لتدركه في النهاية حرفة الأدب فيفرض نفسه علي الساحة الأدبية في ذلك الوقت بقوة إبداعه الشعري وتفرده وتميزه وحفظ الناس أشعاره ورددوها لما فيها من طرافة وخفة دم وظرف رغم أنه قال كل شعره في الشكوي من الزمن ومن الناس .
لقد كان عبد الحميد الديب يبكي في شعره فيضحك الناس لبكائه وظل يبكي في شعره والناس يضحكون ويضحكون إلي أن حانت وفاته في عام 1943م ومات عن عمر يناهز خمسة وأربعين عاما قضاها في البؤس والتشرد ويومها كتب عنه الشاعر كامل الشناوي يقول :
" اليوم مات شاعر تعري واكتست الأضرحة .. جاع وشبعت الكلاب " .
لقد بذلت بعض المحاولات الجادة لتحقيق التراث الشعري لعبد الحميد الديب لعل أهمهما تلك المحاولة التي قام بها الدكتور / عبد الرحمن عثمان في كتابه " الشاعر عبد الحميد الديب حياته وفنه " الصادر عن دار المعارف بمصر سنة 1968 وكذلك المحاولة التي قام بها الأستاذ / محمد محمود رضوان في كتابه " مأساة شاعر البؤس " الصادر عن دار الهلال مصر – فبراير سنة 1976 العدد 202 ومن ثم يندرج الشاعر البائس عبد الحميد الديب تحت قائمة الشعراء المظاليم الذين نسيهم النقاد وما أكثرهم في كل عصر من العصور .
لقد كان لعبد الحميد الديب فلسفة ماجنة يعبر لنا عنها في شعره فيقول :
دع الشكوي وهات الكأس نسكر ودعك من الزمان إذا تنكر
وهام بي الأسي والبؤس حتي كأني عبلة والبؤس عنتر
كأني حائط كتبوا عليه هنا يا أيها المزنوق " طرطر "
ويصور لنا الشاعر البائس عبد الحميد الديب الخلل الاجتماعي الذي أصاب مصر في تلك الفترة فيقول :
بكم يباع غباء الناس في بلد لا نافعي فيه علمي ولا أدبي
القابضون علي أسباب نعمته من آكلي العرض أو من أكلي الذهب
سلوا موالية الأفكار أي هدي في الليل ... أي ندي في النار واللهب ؟
بمصر كل غني ساكن فلكا والعبقري بها سكناه من حطب
من لي بيوم ضريح استجم به في يقظة النصر أو في صرعة الغلب
* ويرد الشاعر البائس / عبد الحميد الديب علي من يتندرون عليه في المجالس مدافعا عن نفسه فيقول :
قالوا غوي شقي ، قلت يا عجبا قد امتحنت بفجار وفساق
وما تألمت من خطب ضحكت له كما تألمت من خطبي بعشاقي
أنا علي القرب منهم كل متعتهم وإن نأيت حبوني فيض أشواقي
فما لهم قد أشاعوا كل مخجلة عني وأعلنوا بؤسي بأبواق !!
* ويصور لنا الشاعر البائس عبد الحميد الديب حجرته التي استأجرها في حي الأزهر بالقاهرة فيقول :
أفي حجرتي يارب , أم أنا في لحدي الا شد ما القي من الزمن الوغد
لكم كنت أرجو حجرة فأصبتها بناء قديم العهد أضيق من جدي
تراني بها كل الأثاث فمعطفي فراش لنومي أو وقاء من البرد !!
أما وساداتي بها فجرائد تجدد إذ تبلي علي حجر صلد
فأهدأ انفاسي يكاد يهدها وأيسر لمس في بنايتها يردي
تساكنني فيها الأفاعي جريئة وفي جوها الأمراض تفتك أو تعدي
أري النمل يخشي الناس الا بأرضها فأرجله أمضي من الصارم الهندي
تحملت فيها صبر أيوب في الضنا وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي
* ويصور لنا الشاعر البائس عبد الحميد الديب العلاقة بينه كمستأجر للحجرة التي يعيش فيها وبين المالك الذي يطالبه كل أول شهر بإيجار الحجرة فيصف صاحب البيت قائلا :
يمر علي سكناي في ذيل بيته مرور عيون الموسرين علي الفلس
تكبر فالألفاظ منه إشارة كأن عباد الله طرأ من الخرس
وان نطق الفصحي فمن طرف أنفه كنفخة ذي جاه ومال من الفرس
صحوت علي قصف الرياح وصوته وما أحدث الطرق الخليع من الجرس
يطالبني بالأجر في غيظ دائن فصيده المحتال بالثمن الوكس
وقال يداري ظلمه أي ضامن لسكني تعرت عن سرير وعن كرسي
أراك بها كل الأثاث ولا أري سوي قلم ثاو علي الأرض أو طرس
فقلت له : هذي جدودي كما تري فما مسكني في بيتي بل أنا في أمس
وأسمعته صوت الدراهم فانحني يقدم أعذار اليهود من الوكس
* وإذا بحثنا عن قيمة الإيجار الشهري للسكن الذي كان يقيم به الشاعر البائس عبد الحميد الديب في ذلك الوقت الأربعينيات الميلادية لوجدناها ثمانين قرشا فقط يصورها لنا في صورة شعرية رائعة فيقول:
ثمانون قرشا أهلكتني كأنها ثمانون ذنبا في سجل عذابي
طويت لها الدنيا سؤالا وكدية فما ظفرت نفسي برد جواب
لعنت كراء البيت كم ذا أهنتني وأذللت كبري بين كل رحاب
لأجلك إما أن أبيع كرامتي وإما افديها ببيع ثيابي
ففي كل شهر لي عواء بموقف يباعد عني أسرتي وصحابي
وطول ليالي الشهر يهتاج مضجعي مخافة رب البيت يطرق بابي
يطالبني في غلظة فأجيبه إجابة من يرجو يدا ويحابي
ألا سكن ملكي ولو بجهنم وأكفي من الأيام شر حسابي
* ومن الطرائف شر البلية ما يضحك فقد أرسل الشاعر البائس عبد الحميد الديب رسالة إلي صديقه الشاعر / محمد الأسمر يقول فيها :" إن مالك البيت الذي يسكنه الديب أوقع الحجز علي أثاثه " ومعها الأبيات الآتية :
يا صاحبي حجز الغريم ولم أجد في الناس من بيع الأثاث مجيري
وغدا سيفضحني ويفضح عيشتي نذل يبيع حشيتي وحصيري
والناس قد جمعوا إلينا شامتا أو باخلا يسخو بكل مضير
ليروا مبيتي بالعراء وزوجتي حيري لبؤس مصيرها ومصيري
* فبعث إليه الشاعر محمد الأسمر بهذه الأبيات :
قد بعثنا إليك شيئا يسيرا فتقبله شاكرا أو عذيرا
لو حبانا الزمان أكثر منه لحبوناك منه شيئا كثيرا
كم بنيت البيوت فانزل بما شئت وطف بالجميع دورا فدورا
كيف تشكو " يا ديب " ما رحت تشكوه وأنت الذي يشيد القصورا
أنت " يا ديب " يا أديب غني بالقوافي وإن رهنت الحصيرا
* والمعروف أن الشاعر محمد الأسمر كان من ظرفاء عصره .
ويروي الدكتور / احمد محمد الحوفي في كتابه " الفكاهة في الأدب أصولها وأنواعها صـ 89 أن الشاعر البائس عبد الحميد الديب أراد أن يشرب اللبن عند لبان بالحي الحسيني – اسمه المالكي إلي اجل فرفض اللبان فقال الديب متهما الرجل بالغش :
بريء منك مولانا ابن مالك رماك الله في شر المهالك
لبانك كلها سم زعاف ومن غش البرية رأس مالك
فويلك من رجال الحي طراً ونسوته إذا علموا بذلك
* ويروي الدكتور / عبد الرحمن عثمان في كتابه " الشاعر عبد الحميد الديب حياته وفنه صـ 125 " فيقول :
" لقد كان للشاعر عبد الحميد الديب حلاق يسمي الحاج / محمد شعبان وكان يألف الشاعر ويقص له شعره وقد ادخره عبد الحميد الديب " للزمن " وطفق يمتدح فيه الأريحية ليستبقيها لديه وامتدح مقصه ومرآته وثرثرته بهذه الأبيات :
أخي وجاري وحلاقي ودياني وممسكي إن أمال الدهر ميزاني
مقصه حالق للشيب يمحقه وحالق بالحديث الغث أحزاني
مقصه قصص صدق وراوية كم قص شعري علي صحبي وخلاني
* ويروي الأديب محمد محمود رضوان في كتابه " مأساة شاعر البؤس " الصادر عن دار الهلال بالقاهرة عام 1976 صـ 17 :" أن الشاعر عبد الحميد الديب عندما التحق بمدرسة دار العلوم مضت حياته بين دار الكتب ودار العلوم والتسكع في أحياء القاهرة الشعبية وضواحيها ... إلي أن كان ذات مساء ساقته فيه المصادفة إلي حي " بولاق " وهناك جلس في احد المقاهي يسترق السمع إلي شخص آخر كان يجلس في الركن المقابل اخذ يردد بصوت هامس شطرة من أغنية .. تقول :
" والله تستاهل يا قلبي " وظل يرددها عشرات المرات ولا يتمها ولاحظ الديب ذلك فتقدم منه بلا مقدمات وقال : اقترح أن تتمها هكذا :
والله تستاهل يا قلبي ليه تميل .. ما كنت خالي
أنت أسباب كل كربي أنت أسباب ما جرالي
* وكاد الرجل يطير فرحا فقام من فوره واحتضن عبد الحميد الديب وراح يغمره بالقبلات وقدم له نفسه فإذا هو سيد درويش !! وجد في الديب ضالته المنشودة التي كان يبحث عنها ... وكان مسرفا سخيا فأغدق علي الديب ... ونسي الديب دار العلوم وبدأ يعيش حياة جديدة مفعمة بكل ألوان الترف والنعيم .. ولم تستمر هذه الصحبة طويلا .. إذ توفي سيد درويش فجأة عام 1923 في عنفوان رجولته وتوهج عبقريته ليعود الديب إلي حياة التشرد والضياع ويصور ذلك في أبيات شعرية رقيقة يقول :
نهاري إما نومة بين مسجد غرارا وإما في الطريق تسكع
وأطوي عصي الليل في القر ساعيا وأيان للأفاق في الكون مهجع
أمر علي المقهي فأسمع شامتا يمزق في عرضي وأخر يشفع
وقد ساء ظني بالعباد جميعهم فأجمعت أمري في العداء وأجمعوا
* كما يصور لنا في قصيدة أخري عداءة للمجتمع الذي يعيش فيه ومدي رفض هذا المجتمع لعبد الحميد الديب وعدم تقبله له فيقول الديب :
أنا الغريب علي الدنيا فعالمها أعدي عدوي يهجوني وأهجوه !
فما سمعت علي الأعياد تهنئة إلا مداهنة يلقي بها فوه
يا قوم مالي ذنب أدان به ما بال نوري إن أظهرت تخفوه
لكنها محنة انتم طواعية فيها لدهري ... إن يأمر تجيبوه
* وتبلغ الشكوي من الزمن ذروتها عند الشاعر عبد الحميد الديب في قصيدة يقول فيها :
شكوت إلي أن قيل قد ذل واجتدي وأصبحت لا صوتا يرجي ولا صدي !!
من الظلم تحطيم الحسام لأنه بكل جهاد في الحياة تجردا !
شكوت وما شكواي ضعف وذلة فلست بمستجد ولا طالبا يدا
ولكنني أفحمت ظلما بمنطق من الدهر لم تبلغ غباوته مدي
دمي دم أكفاء الحياة ونظرتي بها للمحيط الضخم لا الطل والندي
أجدد للدنيا نشاطي وهمتي فتنفحني الدنيا شقاء مجددا
· وقد وقع عبد الحميد الديب أسيرا للمخدرات فقادته إلي السجن مرات ومرات ثم دفعت به أخيرا إلي مستشفي الأمراض العقلية " الخانكا " أو " المارستان " كما يطلق عليه ولنقرأ معا قصيدة لعبد الحميد الديب في مستشفي الخانكا يقول فيها :
رعاك الله مارستان مصر فإنك دار عقل لا جنون
حويت الصابرين علي البلايا ومن نزلوا علي حكم السنين
ومن هبطوا بهم من صرح عز إلي أغلال إذلال وهون
تراهم خائفين فان أثيروا بمهزلة فأساد العرين
ورب مهرج منهم بقول يريك الجد في ثوب المجون
فان يغضب بقارصة تباكي فأبكي العين بالدمع الهتون
يعذبه عبادك كل يوم ويصلي الضيم حينا بعد حين
وكم في مصر من غر غبي تمتع بالجميل وبالثمين
ولو عدلوا لأمسي " خانكيا " يعذب بالشمال وباليمين
* وفي عصر عبد الحميد الديب أعلنت احدي الحكومات عن مشروع لمقاومة الحفاء في مصر فرد عليهم الشاعر عبد الحميد الديب متهكما يقول :
قالوا الحفاء ، فقلنا لا يضيركموا من يأمن الموت جوعا أنه حافي
الشعب جوعان لم يشك الحفا أبدا ولم يمد لكم رجلا لإنصاف
فقد يبيع الحذاء الفخم صاحبه لينقذ النفس من جوع وإتلاف
وفي البلاد علي خطب الطوي صبر وليس كالصبر في خطب الطوي شافي
ولا بسين علي فقر جلودهمو لا يلبسون سوي ماحير الرافي !
هذا هو البؤس لا حاف ومنتعل والجرح ... لكنه عن طبكم خافي !!
* وحين يئس الشاعر البائس عبد الحميد الديب من الحكومة بدأ يستعدي الفقراء علي نظام الإقطاع ويستنهض همم الجياع ان يبطشوا بالحكومة فاطلق صرخة قوية يقول فيها :
كلوا الحكومة أو موتوا من الجوع صوت الضعيف المرجي غير مسموع
من حرموا اللحم في يومين هل علموا أن ليس في حكمهم زيد لتشريع ؟
حكومة الفقر والأيام قبلهموا علي الوري حرمته ألف أسبوع ؟!
* وهكذا كانت حياة الشاعر البائس عبد الحميد الديب كلها الم وبؤس .. حياة كلها عذاب وشقاء .. عاش ظالما لنفسه ومظلوما من قومه .. قست عليه الحياة فعاش ثائرا حاقدا ناقما علي كل من حوله .