الانفعال والذاكرة وارتباطهما بالدماغ مازال مستمرًّا تقفي المسارات العصبية التي تشكل الأساس لتكوين ذاكرات متعلقة بالإدراك الانفعالي الفطري، مثل الخوف. <E.J.لودوكس>
على الرغم من انشغال الفكر آلاف السنين بكل مظهر من مظاهر الانفعال البشري، فإننا مازلنا بعيدين عن الوصول إلى فهم فسيولوجي دقيق جدا لهذا الجزء من خبراتنا العقلية. فقد اهتم المختصون في العلوم العصبية في زمننا الحاضر ـ على وجه الخصوص ـ بالأساس العصبي للعمليات الاستعرافية (الذهنية) cognitive مثل الإدراك والذاكرة، وتجاهلوا ـ في معظم الأحيان ـ دور الدماغ في الانفعال.
ومع ذلك، ظهر في السنوات الأخيرة اهتمام بهذا المجال العقلي الغامض. فبتحفيزٍ إلى ما تحقق من تقدم مفاجئ في فهم الأساس العصبي للاستعراف، وبفضل تطور إدراكنا المتزايد للتعضية التشريحية anatomical organization للدماغ وفسيولوجيته، بدأ الباحثون في معالجة معضلة الانفعال. وكان استقصاء العلاقة بين الذاكرة والانفعال واحدا من مجالات البحث المجدية إلى حد بعيد. وتضمن الكثير من هذا التمحيص دراسات تناولت انفعالا واحدا بعينه هو الخوف، وكذلك الطريقة التي تثير بها أحداثٌ أو منبهات معينة حالةَ الخوف هذه عبر خبرات التعلم الفردية. وقد استطاع العلماء (وأنا منهم) أن يحددوا الطريقة التي يصوغ بها الدماغ كيفية قيامنا بتشكيل الذاكرات المتعلقة بهذه الحادثة الانفعالية التي هي أساسية ولكنها هامة. ونحن نسمي هذه العملية «بالذاكرة الانفعالية» emotional memory.
وعن طريق كشف المسارات العصبية التي بوساطتها يجعل أحد المواقف كائنا ما يدرك الخوف، فإننا نأمل أن نوضح الآليات العامة لهذا الشكل من الذاكرة. ولما كانت عدة اضطرابات عقلية بشرية ـ بما في ذلك القلق والرُّهاب (الهلع) phobia ومتلازمة الكرب عقب الرضوح post-traumatic stress syndrome وكذلك هجمة الفزع ـ تتضمن قصورا في قدرة الدماغ على السيطرة على الخوف، فربما تساعد دراسات الأساس العصبي لهذا الانفعال على فهم هذه الاضطرابات وعلى معالجتها.
لقد تم جمع معظم معارفنا عن الطريقة التي يربط بها الدماغ بين الذاكرة والانفعال عن طريق دراسة ما يسمى التكييف (الإشراط) التقليدي للخوف classical fear conditioning. ففي هذه العملية يسمع الكائن الخاضع للتجربة، وغالبا ما يكون جرذًا، صوتا أو يرى وميضا مقترنا بصدمة كهربائية خفيفة وقصيرة الأمد تصيب قدميه. وبعد عدد قليل من هذه التجارب يستجيب الجرذ تلقائيا للصوت أو للضوء، حتى في غياب الصدمة. وتُماثل ردود الفعل تماما ما يحدث تجاه أي موقف تهديدي؛ إذ تَجْمُدُ حركة الحيوان ويزداد ضغط دمه ويتسارع معدل ضربات قلبه ويجفل (يفزع) بسهولة. وحسب مصطلحات مثل هذه التجارب يسمى الصوت أو الوميض منبها تكيُّفيا conditioned stimulus، وتسمى صدمة القدم منبها لاتكيُّفيًّا. ويطلق على رد فعل reaction الجرذ اسم الاستجابة الشرطية، وتتضمن هذه الاستجابة تغيرات فسيولوجية وسلوكية سهلة القياس.
ويحدث هذا التكيف بسرعة في الجرذان. وفي الواقع فإنه يحدث بنفس سرعة حدوثه لدى البشر، حيث تستطيع مزاوجةٌ وحيدة بين الصدمة والصوت أو الضوء أن تُحْدِثَ التأثير التكيفي. وما إن يرسخ رد الفعل الناشئ عن الخوف حتى يصبح هذا التعلق مستديما، وإذا ما تلقى الجرذ الصوت أو الضوء عدة مرات غير مصحوب بصدمة كهربائية فإن استجابته تتناقص، ويسمى هذا التبادل بالانطفاء (تعفّت) extinction. ولكن هناك أدلة جديرة بالاعتبار توحي بأن هذا التغير السلوكي يأتي نتيجة لسيطرة الدماغ على استجابة الخوف بدلا من كونه نتيجة لزوال الذاكرة الانفعالية. فمثلا، يمكن لاستجابة خوف منطفئة أن تُسترد بشكل تلقائي أو أن تعود إلى سابق عهدها بفعل خبرة مُكْرِبَة لا علاقة لها بعملية التكييف. وعلى نحو مماثل، يمكن أن يسبب الكَرْبُ عودة ظهور الرُّهاب لدى أناس تم علاجهم بنجاح. ويبين هذا الانبعاث أن الذاكرة الانفعالية التي تسبب الرهاب صارت معطلة بدلا من أن تمحى بالمعالجة.
لقد أثبت التكييف الخوفي أنه نقطة بداية مثالية لدراسات الذاكرة الانفعالية، وذلك لعدة أسباب، أولها أنه يحدث في كل مجموعة حيوانية جرى اختباره فيها (مثل ذباب الفاكهة والحلازن snails والطيور والعظاءات lizards والسمك والأرانب والجرذان والقردة والناس). ومع أنه ما من أحد يدعي تماثُل الآليات تماما في جميع تلك المخلوقات، فإنه يبدو جليا من الدراسات ـ حتى الآن ـ أن المسارات تتشابه جدا في الثدييات وربما في جميع الفقاريات. ولذلك، فإننا على ثقة من اعتقادنا بأن العديد من نتائج التجارب على الحيوانات ينطبق على البشر. يضاف إلى ذلك أن أنواع المنبهات الأكثر استخداما في هذا النمط من التكييف ليست بالإشارات التي يصادفها الجرذان ـ أو البشر، لهذا الغرض ـ في حياتهم اليومية. وتساعدنا جِدّة هذه الأضواء والأصوات وعدم صلتها بأي خبرة سابقة على ضمان ألا تكون الحيوانات قد سبق وأن طورت لنفسها ردود أفعال قوية. وبذلك يراقب الباحثون التعلم والذاكرة أثناء تأديتهما عملهما. وفي الوقت نفسه، لا تتطلب هذه المنبهات من الدماغ عمليات استعرافية (ذهنية) معقدة. ونتيجة لذلك، تسمح لنا تلك المنبهات أن ندرس الآليات الانفعالية بشكل مباشر إلى حد ما. وأخيرا، فإن معارفنا الواسعة عن المسارات العصبية الداخلة في معالجة processing المعلومات الإبصارية والسمعية تفيد كنقطة بداية ممتازة لفحص الأسس العصبية للخوف الذي تستحثه (تبعثه) مثل تلك المنبهات.
يتضمن التركيب البنيوي للانفعال عدة مناطق من الدماغ. وتظهر في هذا الرسم الخاص بالجرذ (في الأعلى) اللوزة المخية amygdala والمهاد thalamus وأجزاء من القشرة المخية تتبادل التأثير لتخلق ذاكرات تخص الخبرات المخيفة المرتبطة ـ في هذه الحالة ـ بالصوت. وقد حددت بحوث حديثة المواقع الدقيقة للمناطق التي يتم فيها تعلم الخوف وتذكره: حيث تتصل أجزاء معينة من المهاد (اللون الوردي الأحمر الفاتح في أعلى اليمين) ومناطق في اللوزة المخية (اللون الأصفر الفاتح في أدنى اليمين)، والتي تعالج المنبهات الصوتية المسببة للخوف. ولما كان الاعتقاد أن هذه الآليات العصبية تشبه نظائرها في البشر، فإن دراسة الذاكرة الانفعالية في القوارض (القواضم) قد تلقي الضوء على بعض أوجه الاعتلالات الناشئة عن الخوف لدى الناس.
لقد تركز عملي البحثي على الأصول roots المخية لتعلم الخوف، لا سيما الخوف الذي يستحثه في الجرذ ترابط الأصوات مع صدمة القدم. وكما فعل معظم الباحثين الآخرين في هذا المجال، فإنني أفترض أن تكييف الخوف يحدث لأن الصدمة تحوِّر (تعدِّل) الطريقة التي تُفَسِّر بوساطتها العصبوناتُ الموجودة في مناطق مهمة معينة من الدماغ المنبهَ الصوتي. ويُعتقد بأن هذه العصبونات الحاسمة تتخذ موقعها في المسار العصبي الذي يثير الصوتُ من خلاله الاستجابةَ التكيفية.
وفي غضون السنوات العشر الماضية قام الباحثون في مختبري ـ وفي مختبرات أخرى أيضا ـ بتحديد المكونات الرئيسة لهذه المنظومة. وقد بدأت دراستنا حين طرحت مع زملائي (في كلية طب جامعة كورنيل، التي عملنا فيها منذ بضع سنوات) السؤال البسيط التالي: هل يتطلب تكييف الخوف السمعي اشتراك القشرة المخية السمعية؟ ففي المسار السمعي ـ كما في الأجهزة الحسية الأخرى ـ تُعتَبر القشرة المخية أعلى مستوى في مستويات المعالجة، إذ تشكل ذروةَ سلسلة من المراحل العصبية تبدأ بالمستقبلات الحسية المحيطية peripheral sensory receptors والتي توجد في هذه الحالة بالأذن. فإذا ما أعاقت استئصالاتٌ جراحية لأجزاء من القشرة المخية السمعية أو آفات بها حدوثَ تكييف الخوف، يكون بإمكاننا أن نستنتج أن هذه المنطقة ضرورية حقا لتلك الفعالية. كما نستطيع أن نستنتج أن الخطوة الثانية في المسار التكيفي ستكوِّن خَرْجا (نتاجا) output صادرا عن القشرة المخية السمعية. ولكن تجاربنا مع الآفات أكدت ما سبق أن أوحت به سلسلة من الدراسات الأخرى ومفاده: إن القشرة المخية السمعية غير ضرورية لمعرفة أمور كثيرة عن المنبهات السمعية البسيطة.
يمكن إحداث التكييف (الإشراط) الخوفي التقليدي عن طريق إقْران الصوت بصدمة كهربائية خفيفة موجهة إلى قدم الجرذ. ففي إحدى سلاسل التجارب يسمع الجرذ صوتا (في اليسار) لا يؤثر في الضغط الدموي للحيوان أو في طُرُز حركته. وبعد ذلك يسمع الجرذ الصوت نفسه مقترنا بصدمة القدم (في المركز). وبعد بضعة اقترانات، يرتفع ضغط الدم في الوقت نفسه الذي يقف الحيوان ساكنا لفترة طويلة حينما يسمع الصوت. فالجرذ هنا يكون قد تكيف للخوف (في اليمين): بمعنى أن الصوت وحده يسبب التبدلات الفسيولوجية نفسها التي كان يسببها الصوت والصدمة معا.
ثم انصرفنا لعمل آفات في المهاد السمعي والدماغ المتوسط السمعي اللذين يقعان تحت القشرة المخية السمعية مباشرة. فكلتا هاتين الباحتين تعالجان الإشارات السمعية، إذ يمثل الدماغ المتوسط الدَّخل (مصدر المعلومات) input الرئيسي للمهاد، في حين يمثل المهاد الدَّخْل الرئيسي للقشرة المخية. وتؤدي الآفات في هاتين المنطقتين معًا إلى إزالة تامة لاستعداد الجرذ للتكييف، مما يوحي بأن المنبه الصوتي يتم نقله عبر الجهاز السمعي إلى مستوى المهاد السمعي، ولكن لا يشترط فيه أن يصل إلى القشرة المخية حتى يحدث التكييف الخوفي.
لقد كانت هذه الإمكانية أمرا محيرا إلى حد ما، إذ إننا كنا نعرف أن الألياف العصبية الابتدائية التي تحمل الإشارات من المهاد السمعي تمتد إلى القشرة المخية السمعية. وهكذا بحثت مع كل من <A.D. روجيرو>و<J.D.رايس> الأمر من جديد؛
فوجدنا بالفعل أن الخلايا في بعض مناطق المهاد السمعي تنشأ عنها ألياف تصل إلى عدة مواقع تحت قشرية subcortical. فهل تكون هذه الامتدادات العصبية هي الاتصالات التي يثير المنبه عبرها تلك الاستجابة التي تظهر لنا على شكل خوف؟ لقد اختبرنا هذه الفرضية بإحداث آفات في كل منطقة من المناطق تحت القشرية التي تتصل بها إلى هذه الألياف؛ وكان للتلف تأثير في منطقة واحدة فقط هي: اللوزة المخية amygdala.
وعلى نحو مفاجئ، أوجدتْ هذه الملاحظة لمكتشفاتنا مكانا في نموذج للمعالجة الانفعالية كان قد تمَّ إقراره بالفعل. فلمدة طويلة اعتُبرتْ اللوزة المخية منطقة دماغية هامة في الأشكال المختلفة من السلوك الانفعالي، ففي عام 1979 ذكر<S.B.كاپ> وزملاؤه (في جامعة ڤيرمونت) أن الآفات في النواة المركزية للَّوزة المخية تعوق الاستجابة التكيفية لمعدل ضربات القلب لدى الأرنب حينما يُعطى الحيوان صدمة مقرونة بصوت. فالنواة المركزية هذه تتصل بباحات areas في جذع الدماغ brain stem تستخدم للتحكم في معدل ضربات القلب والتنفس وتوسع الأوعية الدموية vasodilation. وأوحى عمل كاپ بأن النواة المركزية تشكل جزءا حاسما من المنظومة التي يتم عبرها إبداء الاستجابات التكيفية للجهاز العصبي المستقل autonomic .
وعلى نمط مشابه، وجدنا أن آفات هذه النواة تحول دون ارتفاع الضغط الدموي للجرذ وتقيد قابليته على الجمود في حال وجود منبه مسبب للخوف. وكذلك بيَّنا بدورنا أن آفات الباحات (المناطق) التي تتصل بها النواة المركزية أزالت إحدى هاتين الاستجابتين. وقد عين <M.ديڤز> ومشاركوه (في جامعة يال) أن آفات النواة المركزية ـ وكذلك آفات باحة أخرى من جذع الدماغ تذهب إليها إشارات النواة المركزية ـ تقلل استجابة تكيفية أخرى أيضا: ألا وهي تزايد رد الفعل الإجْفالي startle reaction الذي يحدث حينما يكون الحيوان خائفا.
وتقحم جميع المكتشفات ـ التي توصلت إليها مختلف المختبرات، التي تدرس أنواعا مختلفة من الحيوان وتقيس الخوف بطرق شتى ـ النواة المركزية كمكون بالغ الأهمية في دارِيَّة circuitry التكييف الخوفي، حيث توفر وصلات ما بين مختلف باحات جذع الدماغ التي تشترك في التحكم في نطاق من الاستجابات.
وعلى الرغم من عمق فهمنا لهذا الموضع في اللوزة المخية، فإن عددا من تفاصيل هذا المسار ظل خفيا. فمثلا، هل يصل الصوت إلى النواة المركزية مباشرة من المهاد السمعي؟ لقد وجدنا أن الأمر ليس كذلك، إذ تتلقى النواة المركزية امتدادات (استطالات) من باحات مهادية مجاورة للجزء السمعي من المهاد ولكنها لا تقع ضمنه. وفي الحقيقة فإن باحة مختلفة كليا في اللوزة المخية هي النواة الجانبية (الوحشية) تتلقى المعلومات من المهاد السمعي، بحيث تمنع آفات النواة الجانبية نشوء التكييف الخوفي. ولما كان هذا الموضع يتلقى المعلومات مباشرة من الجهاز الحسي، توصلنا إلى الاعتقاد بأنها تمثل السطح الحسي البيني (الفاصل) sensory interface للوزة المخية في التكييف الخوفي. وعلى النقيض من ذلك، تبدو النواة المركزية على أنها السطح البيني بالنسبة للنظم (الشبكات) التي تتحكم في الاستجابات.
لقد كانت آفات الدماغ حاسمة في التحديد الدقيق للمواضع الداخلة في اكتشاف وتعلم ما يتعلق بالخوف. فعندما يعالِج دماغ الجرذ صوتا ما فإن هذا الصوت يتبع مسارا من الأذن إلى الدماغ المتوسط فالمهاد ومن ثم إلى القشرة المخية (في اليسار). ويمكن إحداث آفات في مواضع مختلفة من المسار السمعي بقصد تحديد أي المناطق ضرورية للتكيُّفْ الخوفي (في المركز). ولكن حدوث ضرر في القشرة المخية هو وحده الذي لا يعطل التكيُّف، مما يوحي بأن بعض مناطق الدماغ الأخرى تستقبل نتاج المهاد كما تشترك في تأسيس الذاكرات المتعلقة بالخبرات التي تثير الخوف (في اليمين).
لقد بدا أن هذه المكتشفات تضعنا عند عتبة مقدرتنا على رسم خريطة المسار الكلي للمنبه والاستجابة له، ولكننا لم نكن نعرف حينذاك كيف تصل المعلومة التي تتلقاها النواة الجانبية إلى النواة المركزية. فقد أوحت دراسات سابقة بأن النواة الجانبية ترسل امتدادات (أليافًا) مباشرة إلى النواة المركزية، ولكن هذه الاتصالات تكون ضئيلة بعض الشيء. وقد بين <D.أمارال>و<A.پيتكانين> من معهد سولك للدراسات البيولوجية في سان دييغو ـ من خلال تجاربهما على القردة ـ أن النواة الجانبية تمتد مباشرة إلى موضع مجاور يدعى النواة القاعدية (أو القاعدية الجانبية basolateral) التي ترسل بدورها امتدادات إلى النواة المركزية.
وبالتعاون مع <L.ستيفانتشي> وغيرها من أعضاء فريق سولك وجدت<R.C.فارب>و<C. جينيڤيڤ گو>(من مختبري بجامعة نيويورك) الاتصالات نفسها لدى الجرذ، وبعد ذلك بيَّنا أن هذه الاتصالات تشكل نقاط تماس مشبكية synaptic contacts. وبمعنى آخر، فإن بعضها يتصل ببعض مباشرة، أي من عصبون إلى عصبون. وتبين هذه الاتصالات أن المعلومات الواصلة إلى النواة الجانبية يمكن أن تؤثر في النواة المركزية عن طريق النواة القاعدية الجانبية. كما يمكن للنواة الجانبية أن تؤثر في النواة المركزية عن طريق ما يُسمى بالنواة القاعدية الإضافية (أو القاعدية الوسطى basomedial). ومن الجلي أن النواة الجانبية لديها فرص وافية للتواصل مع النواة المركزية بمجرد تلقي المنبه.
ولا يتعين المدلول الانفعالي لمنبِّه كهذا بفعل الصوت نفسه فقط، بل وكذلك بفعل الوسط (البيئة) الذي يحدث فيه. ولذلك لا يتعين على الجرذان أن تتعلم كون الصوت أو الإلماع المرئي فحسب محفوفا بالمخاطر، وإنما تحت أية شروط يكون المؤثر كذلك. وقد قمت مع <G.R.فيليپس> بفحص استجابة الجرذان للغرفة أو البيئة التي تم تكييف الجرذان فيها، فوجدنا أن آفات اللوزة المخية تعوق استجابة الحيوانات للصوت والبيئة كليهما. أما آفات الحصين hippocampus ـ وهو منطقة من الدماغ تستخدم في الذاكرة التوضيحية declarative memory ـ فإنها تعوق الاستجابة للبيئة فقط وليس للصوت. (تتضمن الذاكرة التوضيحية المعلومات الواضحة المتاحة بشكل واعٍ، وكذلك الذاكرة الحيّزية (المكانية) spatial memory.) وفي الوقت نفسه تقريبا، اكتشف <S.M.فانسيلو>و<J.J.كيم> (من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس) أن الآفات الحُصَيْنِيَّة التي تظهر بعد حدوث التكييف الخوفي تمنع كذلك إبداء الاستجابات لما يحيط بالحيوان من مؤثرات.
وقد كانت هذه المكتشفات متناسقة مع الرأي المقبول عموما من أن الحصين يلعب دورا هاما في معالجة المعلومات المعقدة مثل تفاصيل البيئة الحيزية (المكانية) التي تحدث فيها الفعالية. كما قمت مع فيليپس بتوضيح أن الطَّنَف subiculum ـ وهو منطقة من الحصين ترسل امتدادات إلى باحات أخرى من الدماغ ـ يتصل مع النواة الجانبية من اللوزة المخية. ويوحي هذا الاتصال بأن المعلومات البيئية قد تكتسب مدلولا انفعاليا بنفس الطريقة التي تكتسب بها الحوادث الأخرى ذلك المدلول عن طريق إرسال المعلومات إلى النواة الجانبية.
بنية اللوزة المخية لطالما اعتبر دور اللوزة المخية في السلوك الانفعالي أمرا مهما. وأوضحت التجارب على القوارض بنية المناطق المختلفة من اللوزة ودورها في تعرف ما يتعلق بالخوف وتذكره. فالنواة الجانبية تتلقى ما تتلقاه من دخل (معلومات) من المناطق الحسية للدماغ، والتي تنقل هذه الإشارات إلى النوى القاعدية الجانبية والقاعدية الإضافية والمركزية. وتتصل النواة المركزية بجذع الدماغ حيث تسبب تبدلات فسيولوجية.
[center]
ومع أن تجاربنا حددت هوية المسار الحسي تحت القشري الذي يسبب التكييف الخوفي، فإننا لم نصرف النظر عن أهمية القشرة المخية. إن تبادل التأثير بين الآلية القشرية والآلية تحت القشرية في الانفعال يبقى مثار نقاش عنيف. فهناك من الباحثين من يظن أن الاستعراف أمر حيوي سابق للخبرة الانفعالية، في حين يعتقد آخرون أن الاستعراف ـ الذي يفترض فيه أنه وظيفة قشرية ـ ضروري لاستهلال الانفعال أو أن المعالجة الانفعالية هي نمط من المعالجة الاستعرافية (الذهنية). ومع ذلك، فهناك آخرون يتشككون في أن يكون الاستعراف ضروريا للمعالجة الانفعالية.
لقد اتضح لنا أن القشرة المخية السمعية تشترك ـ وإن لم تكن أساسية ـ في إنشاء استجابة الخوف، على الأقل في حال استخدام منبهات سمعية بسيطة. فقد أجرى <M.N .واينبرگر> وزملاؤه (بجامعة كاليفورنيا في إيرڤين) دراسات رائعة تبين أنه يطرأ على العصبونات في القشرة المخية السمعية تغيرات فسيولوجية عند استجابتها للأصوات نتيجة للتكييف. ويدل هذا الاكتشاف على أن القشرة المخية تقيم سجلا للحوادث خاصا بها.
هذا وقد قضت تجارب <M.L.رومانسكي> في مختبري، أنه في غياب القشرة المخية السمعية تستطيع الجرذان أن تتعلم بأن تستجيب استجابةَ خوفٍ لنغمة وحيدة. ولكن إذا استؤصلت الامتدادات (الاستطالات) الصادرة عن المهاد إلى اللوزة المخية، فإن الامتدادات الصادرة عن المهاد إلى القشرة
المخية ثم إلى اللوزة تكون كافية. واستمرت رومانسكي لتثبت أن النواة الجانبية يمكنها أن تستقبل دَخْلا من المهاد والقشرة كليهما. ويُعَدّ بحثها التشريحي على الجرذ استكمالا لبحث سابق على الرئيسات primates.
وبيّن <W.T.جاريل> وباحثون آخرون (في مختبر نايل شنايدرمان بجامعة ميامي) أن الآفات في القشرة المخية السمعية تعطل التكييف الخوفي لواحد من منبِّهيْن كانا قد اقترنا بصدمة القدم. فالأرانب لم تبد استجابات الخوف إلا للصوت الذي اقترن بالصدمة. وعلى الرغم من ذلك، فبعد إصابتها بآفات قشرية مخية سمعية أخذت هذه الحيوانات تستجيب لكلتا النغمتين. وعندما غابت القشرة المخية السمعية وأخذت الحيوانات تعتمد على المهاد واللوزة وحدهما في تعلمها، لم يعد يمكنها تمييز كلا المنبهين. ويوحي هذا البحث بأن القشرة المخية لا تلزم لقيام تكييف خوفي بسيط، بل تفيد في تأويل المنبهات حينما تغدو أكثر تعقيدا. وتدعم مكتشفاتِ شنايدرمان بحوثٌ أجريت على الرئيسات تُبيّن أن الامتدادات الصادرة عن المناطق الحسية للقشرة المخية نحو اللوزة ضرورية في معالجة المدلول الانفعالي للمنبهات المعقدة.
لقد تم الربط بين تكوين الذاكرة ورسوخ التقوية طويلة الأمد (LTP). ففي هذا النموذج من الذاكرة يسبب الناقل العصبي (الگلوتامات) ومستقبلاته المسماة المستقبلات النمداوية NMDA (في الأعلى) تقوية النقل العصبي. وما إن تتأسس LTP حتى تولد الإشارات العصبية نفسها استجابات أكبر قدرا (في أعلى الوسط). وكذلك قد تتضمن الذاكراتُ الانفعالية الظاهرة LTP في اللوزة المخية. فالگلوتامات (الدوائر الحمراء في الشكل العلوي) والمستقبلات النمداوية NMDA (الدوائر الحمراء في الشكل السفلي) عثر عليهما في منطقة اللوزة المخية حيث يحدث التكيف الخوفي.
وتشكلت الدراسات المثيرة للاهتمام والتي قام بها ديڤيز وفريقه، في بعض أجزاء عملنا هذا؛ إذ ذكروا إن إتلاف منطقة من القشرة المخية حول الأنفية perirhinal ـ وهي منطقة انتقالية بين القشرة القديمة والقشرة الحديثة ـ يمنع إبداء (تعبير) استجابة خوف كان الحيوان قد تعلمها سابقا. ولذا يجادل ديڤز بأن القشرة المخية هي المسار المفضل تجاه اللوزة المخية، وأن الامتدادات المهادية لا تُسْتَخدم عادة في أثناء التعلم ما لم تتعرض القشرة المخية لأذى في زمن التعلم. ويرى فهمنا العام لتأثير الآفات الحاصلة بعد حدوث التعلم أن تلك الآفات تعوق اختزان الذاكرة الطويلة الأمد أو استرجاعها. ويبدو أن هذا التأويل ينطبق كذلك على عمل ديکز، وتوحي به أيضا دراسات <P.K. كوروديماس> الحديثة، في مختبري. فقد أظهر أن جزءا من الخلل على الأقل يمكن إقصاؤه بتقديم تلميحات للتذكير.
وما إن تكوَّن لدينا فهم جلي عن الآلية التي يتم فيها تعلم التكييف الخوفي، حتى شرعنا نحاول معرفة كيفية تأسيس الذاكرات الانفعالية واختزانها على المستوى الجزيئي. فقد بينتُ مع فارب أن الحمض الأميني الاستثاري excitatory الناقل ـ الگلوتامات glutamate ـ موجود في الخلايا المهادية الواصلة إلى النواة الجانبية. كما بينا معًا إلى جانب <J.Ch.أوكي>، أن ذلك الناقل موجود أيضا في مشابك النواة الجانبية. ولما كان انتقال الگلوتامات يدخل في تكوين الذاكرة، فقد بدا لنا أننا نسلك الطريق القويم.
لوحظت الگلوتامات في عملية سميت التقوية طويلة الأمد long-term potentiation (أو LTP اختصارا) والتي نشأت كمثال لتكوّن الذاكرات، وغالبا ما تتم دراستها في الحصين حيث تتضمن تبدلا في كفاءة النقل المشبكي على امتداد المسار العصبي. وبكلمات أخرى، يصبح انتقال الإشارات على امتداد المسار أكثر سهولة حالما تتولد الظاهرة LTP. ويبدو أن آلية ذلك تتضمن انتقال الگلوتامات وصنفا من مستقبلات الحمض الأميني الاستثاري (المثير) الموجود بعد المشبكية والذي يدعى المستقبلات النمْداوِيّة .NMDA receptors[انظر: «الأساس البيولوجي للتعلم والفردية»، مجلةالعلوم ، العدد 5 (1994) ، ص 36].
وهناك العديد من الدراسات التي وجدت الظاهرة LTP في مسار التكييف الخوفي. وقد لاحظتُ مع <C-M.كلوگنيت>، أنه يمكن إحداث الظاهرة LTP في المسار المهادي اللوزي. كما اكتشف <H.T.براون>و< P . تشاپمان> وزملاؤهما (في جامعة ييل) وجود الظاهرة LTP في امتداد قشري إلى اللوزة المخية. وتمكن باحثون آخرون، ومنهم ديڤز وفانسيلو، من منع التكييف الخوفي عن طريق حِصار (سدّ) blocking المستقبلات النمداوية NMDA في اللوزة المخية. كما وجد <T.M. روگان> في مختبري، أن معالجة المسار المهادي اللوزي للأصوات تزداد قوة بعد إحداث الظاهرة LTP. وتقدم حقيقة إمكان إثبات وجود الظاهرة LTP في المسار التكيفي أملا جديدا في إدراك إلى أي مدى ترتبط الظاهرة LTP بالذاكرة الانفعالية.
وإضافة إلى ما تقدم، فإن الدراسات الحديثة التي أجراها <F.بوردي> ـ في مختبري أيضا ـ أوحت بفرضيات عما يمكن أن يجري في عصبونات النواة الجانبية أثناء التعلم. فقد راقب بوردي الحالة الكهربائية لعصبونات منفردة في هذه الباحة عندما كان الجرذ يصغي للصوت ويتلقى الصدمة. وقد وجد هو ورومانسكي أنه في واقع الأمر، أن كل خلية تستجيب للمنبهات السمعية فإنها تستجيب أيضا للصدمة، وبذلك يكون المكون الرئيسي للتكيف موجودا في النواة الجانبية.
استطاع بوردي أن يقسم الخلايا المنبَّهة سمعيا إلى صنفين اثنين: خلايا مستجيبة قادرة على التعود وخلايا مستجيبة بشكل ثابت. وفي نهاية المطاف، تتوقف الخلايا القادرة على التعود عن الاستجابة للصوت المتكرر، مما يوحي أنها يمكن أن تفيد في كشف أي صوت غير عادي أو مختلف، ويمكن لها أن تسمح للَّوزة بتجاهل المنبه حينما يغدو مألوفا. وقد يؤدي اقتران الصوت مع الصدمة في هذه الخلايا إلى تقليل التعود، مما يسمح لهذه الخلايا بأن تستجيب للمنبهات ذات الدلالة عوضا عن تجاهلها.
يمكن للمسارين القشري وتحت القشري في الدماغ ـ وقياسًا على معلوماتنا عن الجهاز السمعي ـ أن يسببا استجابة مخيفة لوجود أفعى في أحد ممرات المتنزهين. فالمنبهات الإبصارية تتم معالجتها أولا في المهاد الذي يمرر معلومات غير مصقولة ـ تكاد تماثل الأصل ـ إلى اللوزة المخية مباشرة (اللون الأحمر). وهذا النقل السريع يسمح للدماغ بأن يبدأ الاستجابة للخطر المحتمل (اللون الأخضر). وفي هذه الأثناء تتلقى القشرة الإبصارية كذلك معلومات من المهاد وتقرر ـ بإتقان إدراكي أكبر وفي زمن أطول ـ وجود الأفعى في الممر (اللون الأزرق). ومن ثم يتم ترحيل هذه المعلومة بدورها إلى اللوزة المخية، فتسبب زيادة عدد ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم وتقلص العضلات. ولكن إذا قررت القشرة المخية أن ذلك الشيء ليس أفعى، فإن الرسالة الذاهبة إلى اللوزة ستلطف استجابة الخوف.
أما الخلايا المستجيبة بشكل ثابت، فإنها ذات عتبات thresholds بالغة الارتفاع: إذ لا ينشطها إلا الأصوات العالية. ويُعَدّ هذا الاكتشاف أمرا مهما بسبب الدور الذي يلعبه علو الصوت في تقدير المسافة، فمن المفترض أن تكون مصادر الصوت القريبة أشد خطرا من مصادر الصوت البعيدة. وقد يعمل الصوت المقترن بالصدمة على تخفيض عتبة هذه الخلايا، فتزداد حساسية هذه الخلايا لنفس المنبه (المثير). وتتوالف الخلايا المستجيبة بشكل ثابت لمجال واسع من النغمات. ويوجِد ارتباط الصوت بالصدمة تلك الخلايا التي تستجيب لمجال أضيق من الترددات، أو إنه قد يعدل التناغم بحيث يتناسب مع تردد المنبه. وفي الحقيقة، فقد أظهر واينبرگر مؤخرا أن الخلايا في المنظومة السمعية تغير تناغمها ليقارب المنبه التكييفي. وقد اكتشفتُ مع بوردي هذا التأثير لدى خلايا النواة الجانبية كذلك.
وتثير الديمومة الواضحة لهذه الذاكرات سؤالا هاما يتعلق بالطب السريري: فهل يمكن إقصاء (حذف) التعلم الانفعالي؟ وإذا لم يكن ذلك ممكنا فهل يمكن تخفيف شدته؟ كما سبق ولاحظنا، فإنه بالفعل يصعب جدا التخلص من الذاكرات الانفعالية. وفي أفضل الأحوال، نستطيع فقط أن نأمل في إبقاء هذه الذاكرات مقيدة. وقد بدأت دراسات تجريها <A.M.مورگان> في مختبري، توضح كيف ينظم الدماغ التعبيرات الانفعالية. فأظهرت أنه عندما يتم إتلاف جزء من القشرة المخية قبل (أمام) الجبهية prefrontal cortex يكون من الصعب جدا أن تتعطل الذاكرة الانفعالية. ويدل هذا الاكتشاف على أن الباحات قبل الجبهية ـ ربما عن طريق اللوزة المخية ـ تتحكم عادة في إبداء الذاكرة الانفعالية، فتمنع الاستجابات الانفعالية حالما تغدو هذه الاستجابات بلا فائدة. وقد اقترح <.T.E رولز> وزملاؤه (في جامعة أكسفورد) استنتاجا مماثلا من خلال دراساتهم على الرئيسات، إذ درس هؤلاء الباحثون الأنشطة الكهربائية للعصبونات في القشرة المخية الجبهية للحيوانات.
بعض الأنواع الحيوانية التي تُظهر تكييفًا (إشراطًا) نحو الخوف لقد تمت ملاحظة الذاكرات الانفعالية التي توجدها تجارب التكييف الخوفي في كثير من المجموعات الحيوانية. ويبدو أنه ما إن تتأسس ذاكرة مخيفة حتى تغدو مستديمة نسبيا. ويمكن إجراء تغيير في السلوك عن طريق التحكم في الاستجابة الخوفية وليس باستئصال الذاكرة الانفعالية نفسها. ويوحي هذا التواصل بين نتائج البحث في أنواع متباينة بأن المسارات الدماغية المسؤولة عن هذا الشكل من التعلم تكون متماثلة. وقد يؤدي الفهم الأعمق لهذه الآليات لدى الحيوانات إلى توفير معالجات جديدة لاضطرابات الخوف ـ مثل نوبة الفزع أو الرُّهاب ـ لدى البشر.
إن التباين الوظيفي في المسار ما بين هذه المنطقة من القشرة المخية وبين اللوزة المخية قد يزيد من صعوبة تغيير السلوك الانفعالي لدى بعض الناس. فقد وجد ديڤز وزملاؤه أن حِصار (سد) المستقبلات النمداوية في اللوزة المخية يعوق انطفاء (اندراس) السلوك الانفعالي. وتنوه هذه النتائج بأن ذلك الانطفاء هو عملية تعلم إيجابية. وفي الوقت نفسه، فإن موضع هذا التعلم قد يكون في الاتصالات ما بين القشرة قبل الجبهية واللوزة المخية. ولا بد أن يقدم المزيدُ من التجارب الإجابةَ عن ذلك.
إن وضع عملية ذاكرية انفعالية أساسية في المسار اللَّوْزي إنما يعطي فوائد واضحة. فاللوزة المخية موضع حاسم (مصيري) للتعلم بسبب مكانها المركزي بين مواقع الدخل والخرج (المعلومات والمردودات). فكل سبيل يؤدي إلى اللوزة المخية ـ مثل المهاد الحسي أو القشرة المخية الحسية أو الحُصَيْن ـ يقدم معلومات فريدة لهذا العضو. والمسارات التي تبدأ في المهاد الحسي لا تهيئ إلا إدراكا غير متقن عن العالم الخارجي؛ ولكن لأنها تتضمن وصلة عصبية واحدة فقط فإنها تكون سريعة جدا. وعلى النقيض من ذلك، فإن المسارات الواردة من القشرة المخية تقدم تمثيلات (صورًا) representations مفصلة ودقيقة تسمح لنا بتعرف الشيء بالبصر أو الصوت. غير أن تلك المسارات التي تمتد من المهاد إلى القشرة المخية الحسية ومن ثم إلى اللوزة المخية، تتضمن بضع وصلات عصبية، وكل وصلة في السلسلة إنما تستغرق المزيد من الوقت.
وقد تكون المحافظة على الوقت هي السبب في وجود سبيلين اثنين أحدهما قشري والثاني تحت قشري من أجل التعلم الانفعالي. فالحيوانات والبشر بحاجة إلى آلية رد فعل سريعة غير دقيقة. فالمهاد ينشط اللوزة المخية في الوقت نفسه تقريبا الذي ينشِّط القشرة المخية. وهذا الترتيب ربما يمكِّن الاستجابات الانفعالية من أن تبدأ في اللوزة المخية قبل أن نتعرف بشكل تام ماهية ما نستجيب له أو ما الذي نشعر به.
وقد يكون المسار المهادي مفيدا بشكل خاص في المواقف التي تتطلب استجابة سريعة. فالإخفاق في الاستجابة للخطر أفدح ثمنا من الاستجابة غير الملائمة لمنبه غير خطر. فعلى سبيل المثال، يكفي صوت خشخشة الأوراق لتحذيرنا عندما نكون سائرين في الغابة، من دون أن يكون علينا أن نحدد أولا ما الذي يسبب الصوت. وعلى نحو مماثل، فإن مشاهدتنا شكلا مقوسا رفيعا يستلقي منبطحا على الطريق أمامنا إنما يكفي ليثير استجابات الخوف الدفاعي لدينا. فنحن لسنا بحاجة إلى الخوض في تحليل مفصل عما إذا كان ما نراه هو أفعى أو لا. كما أننا لا نحتاج إلى التفكير في حقيقة كون الأفاعي هي زواحف، وأن جلودها يمكن أن تستخدم في صنع الأحزمة والأحذية. فكل هذه التفاصيل هي خارج الموضوع، وهي في الواقع تضر بالاستجابة الفعالة السريعة التي تنطوي على إمكان إنقاذ الحياة. وما يحتاج إليه الدماغ ببساطة هو أن يكون قادرا على خزن التلميحات البسيطة وكشفها. وبعد ذلك، يسمح تنسيق هذه المعلومات الأساسية مع القشرة المخية من التثبت (أجل، إنّ هذه أفعى) أو إنهاء الاستجابة (كالصراخ أو اللُّهاث أو الفرار).
ومع أن اللوزة المخية تختزن المعلومات البسيطة، فإنه لا ينبغي لنا أن نعتبرها مركز التعلم الوحيد، إذ إن تأسيس الذاكرات هو وظيفة الشبكة بكاملها ولا يقتصر على مكوِّن واحد فقط. فاللوزة المخية حاسمة بكل تأكيد، ولكن لا يجوز أن يغيب عن أبصارنا أن وظائفها لا تكون إلا بفضل المنظومة التي تنتمي إليها.
فالذاكرة توصف عموما بأنها العملية التي نعيد بها إلى عقولنا إحدى خبراتنا الواعية السابقة. وفي هذه الحالة، فإن التعلم الأصلي والتذكر هما حادثتان واعيتان conscious. ولقد قرر الباحثون أن الذاكرة التوضيحية يتولاها الحصين والقشرة المخية، ولكن استئصال الحصين لا يؤثر إلا قليلا في التكييف الخوفي (فيما عدا التكييف للبيئة).
وبالمقابل، فإن التعلم الانفعالي الذي ينشأ عبر التكييف الخوفي ليس تعلما توضيحيا (تفسيريا)، بل تتوسط فيه منظومة مختلفة ـ في جميع الأحوال ـ بشكل مستقل عن شعورنا الواعي. ويمكن اختزان المعلومة الانفعالية ضمن الذاكرة التوضيحية، ولكنها تبقى هناك كحقيقة توضيحية بغير عاطفة. فمثلا، إذا جُرِح شخص في حادث سيارة واستمر البوق (الزامور) ثابتا في وضع التشغيل فإن ذلك الشخص قد يصاب بعد ذلك برد فعل لدى سماعه تعالي أصوات أبواق السيارات. وقد يتذكر الشخص تفاصيل الحادث مثل مكان وزمان حدوثه، ومَنِ الذين أصيبوا أيضا، ومدى رهبة الحادث. كل هذه ذاكرات توضيحية تعتمد على الحصين. وربما يصير الفرد متوترا (مشدودا) وقلقا ومكتئبا عندما يعاد تنشيط الذاكرة الانفعالية عبر المنظومة اللوزية. فالمنظومة التوضيحية قد اختزنت المحتوى الانفعالي للتجربة، ولكنها اختزنته بوصفه حقيقة.
ويتم اختزان الذاكرتيْن الانفعالية والتوضيحية emotional & declarative واسترجاعهما بطرق مشابهة، وتكون فعالياتهما متصلة دونما تفريق في خبرتنا الواعية. ولا يعني ذلك أننا نمتلك القدرة الواعية المباشرة للوصول إلى ذاكرتنا الانفعالية، بل يعني عوضا عن ذلك أن لدينا القدرة على الوصول إلى النتائج المترتبة على ذلك، مثل كيفية تصرفنا والحالة التي تحس بها أجسامنا. وتتحد هذه النتائج مع الذاكرة التوضيحية الحالية لتشكل ذاكرة توضيحية جديدة. فالانفعال ليس مجرد ذاكرة غير واعية: إذ إنها تمارس تأثيرا قويا في الذاكرة التوضيحية والعمليات الفكرية الأخرى. وحسبما أظهر بوضوح <L.J.مك گاو> وزملاؤه بجامعة كاليفورنيا في إيرڤين، فإن اللوزة المخية تلعب دورا محوريا في تعديل خزن الذاكرات وقوتها.
إن التمييز بين الذاكرة التوضيحية والذاكرة الانفعالية أمر مهم. فقد تجادل كل من <J.W.جاكوبز> (من جامعة كولومبيا البريطانية) و<L.نادل> (من جامعة أريزونا) بأننا لا نستطيع تذكر الحوادث الناشئة عن الصدمات الرَّضْحِيّة (الرضية) التي تحدث في وقت مبكر من حياتنا لأن الحصين لا يكون قد نضج آنئذ إلى حد تكوين ذاكرات واعية يمكن استرجاعها. إن منظومة الذاكرة الانفعالية التي يمكن أن تتشكل في زمن سابق، تُكوِّن وتختزن ذاكرتها اللاواعية عن هذه الحوادث في وضوح. ولهذا السبب فقد تؤثر الصدمة في الوظائف السلوكية والعقلية في عمر لاحق وإن كان من خلال عمليات تبقى غير متاحة للوعي.
ولما كان اقتران نغمة ما بصدمة يمكن أن يسبب استجابات شرطية لدى حيوانات جميع الشُّعَب، فإنه من الواضح أن التكييف الخوفي لا يمكن أن يكون معتمدا على الوعي. فذباب الفاكهة والحلازن ـ مثلا ـ ليست بالمخلوقات التي تتميز بعملياتها العقلية الواعية. أما طريقتي في تأويل هذه الظاهرة فتتمثل في أنني أعتبر الخوف حالة ذاتية subjective state من الشعور، تحدث حينما تستجيب المنظومات الدماغية للخطر. ولا يصاحب الخوفُ المدرك الاستجابةَ الجسمية إلا إذا كان الكائن الحي يمتلك آلية عصبية راقية بالقدر الكافي. ولا يعني ذلك أن البشر وحدهم يشعرون بالخوف، بل الأصح أن الوعي يعد مطلبا أوليا لحدوث الحالات الانفعالية الذاتية.
وهكذا، فإن الانفعالات أو المشاعر هي نتاج واع لعمليات لاواعية. وإنه لأمر بالغ الأهمية أن نتذكر أن الخبرات الذاتية التي ندعوها مشاعر ليست بالشاغل الرئيسي للمنظومة التي تولدها. فالخبرات الانفعالية تأتي نتيجة إطلاق (انقداح) triggering منظومات التكييف السلوكي التي حفظها التطور. وتعد الخبرة الذاتية أيّا كان نوعها أعلى مراتب التحدي للعلماء. ولكننا مع ذلك قطعنا شوطا طويلا نحو فهم المنظومة العصبية التي تشكل أساس استجابات الخوف، وقد تسبب هذه المنظومة ذاتها مشاعر الخوف الذاتية. وإذا كان الأمر كذلك، فقد تحمل دراسات التحكم العصبي في الاستجابات الانفعالية المفتاح لفهم الانفعال الذاتي كذلك. [/center]