كان شابّاً شديد الشكوى من ألم الرجليْن والقدميْن، كلّما مشى اشتكى من طول الطريق وصعوبة المشي، وما إن تخطو قدماه عدّة خطوات حتى يجلس ليستريح، وهو دائم التذمّر من الجروح التي تصيب قدميه، في إحدى المرّات جلس على حافة الطريق بعد ما أنهكه السير، فخلع حذاءه الممزّق، ودلّك رجليه، ثم حاول أن يلبسه بصعوبة، فسأله صديقه: طالما وددتُ أن أسألك، لماذا لا تغيّر حذاءك الضيّق الممزّق بآخر يتناسب مع حجم رجليك؟ فقال له بأنّه لا يستطيع أن يبدّل هذا الحذاء لأنّه عزيزٌ عليه ويعني له الكثير، فهو حذاء اشتراه له أبوه لامتحانه الأخير الذي نجح فيه قبل أن يتوفّى، فهو يعتقد أنّ هذا الحذاء يجلب له الحظ في حياته.
إذا تأمّلنا في أعماقنا قد نرى أنّ هذه القصّة تتكرّر بداخلنا بأشكال مختلفة، فقد تكون معتقداتٌ أو وجهات نظر وتعصّبات قديمة نحتفظ بها فقط لأنّها كانت تعني لنا شيئا في السابق، أو لأنّنا أخذنا قرارات بناء عليها، أو لأنّنا دافعنا عنها دفاعاً مستميتاً يوماً ما، والآن توسّعت مداركنا وعرفنا بأنّنا نستطيع أن نتبنّى فكراً أكثر استقامة وصحة، ولكن لتناقضه مع أفكارنا القديمة، لا نستطيع أن نتبنّى الفكرتين معاً، فنُؤثِر بأن نتمسّك بالقديمة أو نختار خليط من هذه وتلك ونعيش التناقض في أفكارنا وأقوالنا ونحرم أنفسنا من فرصة التطوّر الفكري والوصول إلى مرحلة أعلى من الفهم والاستنتاج.
وقد تكون مشاعر سلبية نحملها تجاه شخص تأذَّينا منه في موقف أو وضع ما، وحمّلناه مسؤولية تدهور حالنا أو فقداننا لشيء أو حرماننا من فرصة كنّا نرى أحقيتنا فيها، حتى ولو كان تحميله هذه المسؤولية في أذهاننا فقط، فقد لا نلاحظ الأعمال الجيّدة التي يقوم بها هذا الشخص تجاهنا أو تجاه غيرنا، ونفسّرها تفسيراً معوجّاً ونحن في قرارة أنفسنا نعرف بأنّ نواياه حسنة فيما يقوم به الآن وأنّه يريد إصلاحاً، ولكنّنا نأبى في قرارة أنفسنا التخلّي عن الصورة القديمة المرسومة في أذهاننا عنه، فلا نحن بقادرين على تقدير ما يقوم به وتوطيد العلاقة بيننا وبينه، ولا أن نقوم نحن بدور يساهم في تطوير هذه العلاقة، فنبتعد عن الإنصاف مسافات طويلة وقد نفقده أصلاً.
وقد تكون أيضاً نظرة معيّنة لأنفسنا، فقد نكون عانينا من ظلم أو أذى في طفولتنا أو في مراحل حياتنا، وبناء عليه كوّنّا معتقداً بأنّ الحياة قاسية معنا وأنّها تبحث عن فرص لتؤذينا، وأنّ حظوظنا في الدنيا قليلة، وقد يولّد هذا الإحساس بالشفقة على النفس والشعور بالراحة والسكينة بالانطواء تحت هذه المسكنة، وحين نكبر، نستطيع أن نحلّل الأمور بطريقة أكثر نضجاً، فنعرف بأنه قد لا يكون لنا يدٌ فيما حصل لنا في طفولتنا، ولكننا نستطيع الآن التحكّم بالكثير من الأحداث في حياتنا، أما تلك التي تكون خارجة عن سيطرتنا، فنستطيع أن نعطي لها المعنى المتناسب معها وليس ذاك الذي يكرّس الشعور بالشفقة على النفس والنظرة السوداوية، فهذا الشعور يقتل القدرة على الحياة في الإنسان، ويجعله كمن يقف على شفا منزلق حادّ ما أن يبدأ بالانزلاق حتى يصعب عليه التوقّف، فيتكرّس الكسل والتواكل والمسكنة في نفسه، ويصبح لزاماً عليه تفسير كل شيء وكل حدث بشكل سيء، وأن لا يرى نعم الله عليه، بل قد ينكرها، لأنّه إن اعترف بها، فهو ناقض مسكنته ومعاداة الدنيا له، فلا تصبّ قراراته وتصرفاته في رقيّه ولا تطوّره، بل وقد تساهم في تدهورها، فقط لأنّه أبى أن يترك فكرته القديمة عن نفسه ويتبنى أخرى أكثر انصافاً.
فلنرجع إلى أفكارنا ومعتقداتنا ونظرتنا للآخرين وللحياة، ونرى إذا كان أيّ منها بالياً لا يساعدنا أو يعيقنا، فنقلعه ونرميه كالحذاء البالي الضيّق، ونستبدله بما هو أفضل ويتناسب مع تطورنا الفكري والاجتماعي والإنساني، حتى لو كانت هذه العملية صعبة وبحاجة لإرادة صلبة، فحينها سنكون أكثر انسجاماً مع أنفسنا، ونقلّل التناقض والألم بدواخلنا ونعطي مجالاً للتركيز على مجالات الإصلاح بأنفسنا ومجتمعاتنا.