ما أجمل رسائلك يا ميّ وما أشهاها! فهي كنهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترنماً في وادي أحلامي، بل هي كقيثارة اورفيوس تقرب البعيد وتبعد القريب وتحول بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقدة والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة. إن يوما يجيئني منك برسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل فما عسى أن أقول في... يوم يجيئني بثلاث رسائل؟ ذلك يوم انتحي فيه عن سبل الزمن لأصرفه متجولا في إرم ذات العماد (...) وألف تحية لك وألف سلام عليك والله يحفظك ويحرسك دائماً
:::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
لقد أعادت رسائلك إلى نفسي ذكرى ألف ربيع وألف خريف وأوقفتني ثانية أمام تلك الأشباح التي كنا نبتدعها ونسيرها مركبا إثر مركب.. تلك الأشباح التي ما ثار البركان في أوروبا حتى انزوت محتجة بالسكوت، وما أعمق ذلك السكوت وما أطوله!
هل تعلمين يا صديقتي بأني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة، وهل تعلمين بأني كنت أقول لذاتي، هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا قد دخلت الهيكل قبل ولادتها ووقفت في قدس الأقداس فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح ثم اتخذت بلادي بلادا لها وقومي قوما لها؟
هل تعلمين بأني كنت أهمس هذه الأنشودة في أذن خيالي كما وردت على رسالة منك ولو علمت لما انقطعت عن الكتابة إلي، وربما علمت فانقطعت وهذا لا يخلو من أصالة الرأي والحكمة
---------
رسالة الى مي
جبران خليل جبران