"د مصطفي محمود
عالم جليل ومصباح منير ورغم رحيله مازالت افكاره وكتبه تضىء الطريق وتنقذ الغريق فهو كنز من المعرفة دائما بالخير يفيض رجل لن يجود الفكر والعلم بمثله.. على يديه تعلمنا ان نفكر..وان نبحث فى الاشياء..بمنظور دينى.. وصلت احاديثه الى كل انسان بمنتهى البساطة والهدوء..بدون تعقيدا..ت ولا لوغاريتمات..
فتعلم منه العالم...وفهم علمه البسطاء.. كتبه واعماله ..اثرت الادب والفكر والعلم..رحمه الله "
الشيء التافه
ما يجري في الكون من أحداث مرتبط ببعضه في سياق دقيق من الأسباب والمسببات كحلقات سلسلة , لا يهم إن كان بعض هذه الحلقات صغيرا وبعضها كبيرا , فلا فرق بين انكسار حلقة صغيرة أو انكسار حلقة كبيرة , فالنتيجة واحدة في الحالين , وهي تحطم السلسلة وانفراط عقدها .
نحن نقول عن واحد أنه أتفه من ذبابة .
هل فكرت ماذا يمكن أن تصنع ذبابة ؟!!
إن ذبابة واحدة تافهة يمكن أن تحمل على أرجلها الدفتيريا , والسل , والدوسنتاريا , وشلل الأطفال , والكوليرا , ويمكنها أن تبيد أمة وتفني جيلا , وتقلب دفة النصر في معركة ... تفعل كل هذا وهي ذبابة .
إن ميكروبا لا يرى بالعين قتل في سنة 1919م أكثر من عشرين مليون ضحية .
وراهب منقطع في دير تمر به وتقول ما أتفه هذا الرجل .. ماذا يفعل في هذه الدنيا ؟ .. لماذا لا يخلع ملابس الرهبنة وينزل إلى خضم الحياة ويعمل ويؤثر في الأحداث ... مثل هذا الراهب ليس تافها , فهو يمكن أن يكون (( مندل )) الذي اكتشف قوانين الوراثة وهو يلقح أزهار حديقته ويتأمل في نسلها .
وهذا الكيميائي الذي يترك كل شيء ويكتب بحثا في العفن لا تتهمه بالجنون , لأنه لم يبحث لك كما تريد في مبيدات قواقع البلهارسيا أو دودة القطن ... فالعفن ليس شيئا تافها ... ألم يخرج لنا البنسلين ؟ !
وما أتفه الذرة ... أليس كذلك ؟
إنها لا ترى بأكبر ميكروسكوب .
وهي ليست سوى فرض من فروض الكيمياء .
ومع ذلك فإن تلك الذرة المفترضة هي التي أنهت الحرب العالمية الثانية وجعلت اليابان تركع على قدميها .
وهي التي سوف تقود أول سفينة بشرية الى المريخ .
والملازم ديغول فعل ما لم يستطيع أن يفعله الماريشال بيتان .
وأم بيتهوفن لا أحد يعرفها وهي في عصرها كانت امرأة من ملايين لا تقدم ولا تؤخر .
ولكن ألم تنجب لنا هذه الأم بيتهوفن ولولاها لما جاء إلى الوجود .
إنها سلسلة من الحلقات كما قلت .
سلسلة مترابطة . لا يهم أبدا أن يكون بعض هذه الحلقات صغيرا وبعضها كبيرا . فبدون أي من تلك الحلقات لا يكون للسلسلة وجود .
لا يوجد شيء تافه وشيء عظيم .
والذي يقول لك أنت تافه لأنك لم تفعل في نظره شيئا ذا بال إنما يدل بكلامه على جهله. . فمن يدري ماذا تفعل غدا .. ومن يدري ماذا يترتب على مجرد وقوفك بدون فعل .. إن عدم الفعل يكون له في دورة الأحداث أثره مثل الفعل .. والسكوت يكون أحيانا أخطر من الكلام .
الحضارة المادية عظيمة .. ألم تصنع لنا القطار والطيارة والسيارة والراديو والتليفون والتلفزيون والمدفع والقنبلة.
والحضارة الروحية تخاريف .. هكذا يقول البعض .. فما هو دور يوجا منقطع للتأمل في كهف من كهوف التبت .
ولكن من يدري ؟
لوكنت حكيما لقلت من يدري .. فقد تحطم هذه الحضارة المادية نفسها بنفسها , وقد ترسل العالم بقنبلة من قنابلها إلى قاع المحيط فتصبح هي ذاتها خرافة مثل خرافة (( الأتلانتيس )) القارة التي غرقت بمن عليها في قاع المحيط ... ولا يبقى للدنيا إلا سلالة ذلك اليوجا تبدأ من عنده العلوم والمعارف والمدنية من جديد .
ألم تبدأ بشائر هذه المهزلة بالفعل ؟ فهاهي ذي أمريكا وغيرها تتنافس على أسلحة الدمار .
ساذج العقل من يقول لك أنت تافه ... فلكل شيء في هذه الدنيا خطره مهما كان صغيرا ضئيلا ... ولقد تغير أنت الدنيا ... وقد تفتح عينيك غدا فتكتشف شيئا ... وقد تكون و أنت الجندي اليوم قائد المعركة غدا .
لا تستخف بذبابة تقف على طعامك ... فهؤلاء الرجال كالثيران يدوخون العالم وقد تصرعهم ذبابة.
الاسكندر المقدوني قتلته بعوضة .
إنها ليست نكتة ولكنه التاريخ , فالإسكنرر الذي خرج من مقدونيا فاتحا وهب على العالم القديم كالإعصار لم يعد إلى بلاده ثانية , فقد مات بالملاريا أثناء عودته من الهند بلذعة بعوضة .. ولا أحد يدري أين دفن .
وقد تعبث بقدمك تحت شجرة غدا فتكتشف قبر الإسكندر وتصبح أغنى رجل وأشهر رجل في الدنيا , وتصبح حديث الصحف لعدة سنوات .
فقط لا تقل على أحد إنه تافه ... احترم كل شيء مهما صغر شأنه :
الطفل . والحشرة , وزبال الطريق , وجرسون المقهى , وبهلوان السيرك , ومن لا حيلة له ولا صولجان في يده ... فالله وحده يعلم من في الغد يكون في يده الصولجان ...
إذا فعلت هذا فإنك سوف تخطو أول خطوة لتكون رجلا حكيما .