"مقال جميل للرجل الذى أرى روحى ممزوجة بحبر قلمه
فما أن يكتب كلمة حتى أبصر روحى تطل من شرفاتها
دائما أعثر على نفسى بين كلماته
انه مرآتى الأخرى
رغبة أن أرى جوهرى في شخصٍ آخر،
شخص أشغف بأن يصير أكثر من قرين الروح، قرين الجسد الهيولي الشفاف.
انه الرائع دوما "كريم الشاذلى"
(حسن بلم)
غرباء هذا الزمان!
متى كانت آخر مرة سمعت فيها عبارة مثل "كلمة شرف" أو "أعطيتك عهدي"؟!
في عالم مادي كالذي نحياه، والذي تَنحّت فيه كثير من قيمنا الجميلة جانبا، وحلّت محلّها قيم أخرى تتعلق بثقافة الصفقات والعمل والربح، وبات فيه -يا للمأساة- كثير من القيم والمبادئ الأخلاقية عقبة أمام نجاح البعض!
صار الشريف غريبا، وصارت كلمة الشرف، والذمة، والعهد بضاعة راكدة ليس لها فائدة!!
صارت معاني الشهامة والأمانة ومراعاة الحقوق لا يؤبه لها عند كثيرين!
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم، وبُعث وحمل الرسالة الخالدة، ومع ذلك لم ينسَ أبدا أنه شهد ذات يوم مؤتمرا تمّ عقده لإعلاء القيم السامية، وإرساء مبادئ العدل والشرف والكرامة، يقول صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلْفا ما أحبّ أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى إليه في الإسلام لأجبت".
وقصّة هذا الحِلْف أن رجلا قدم إلى مكة ببضاعة فاشتراها منه "العاص بن وائل"، وكان وقتها رجلا له مكانة كبيرة، وشرف، ويرهبه الناس ولا يردّون له أمرا، والغريب أنه أخذ منه البضاعة ولم يعطه الثمن، مغترّا بمكانته وقوّته، فما كان من الرجل إلا أن ذهب إلى كبار قريش يشكو لهم ويستعديهم عليه، كي يردّوا له حقه، لكنهم رفضوا أن يعينوه على "العاص بن وائل"، بل على العكس نهروه وطردوه!
فلما رأى الرجل أن حقه ضاع، وليس من شهم يرد له حقه، صاح بأعلى صوته يتلو شعرا ينعي فيه موت الشرف والأمان، ويشكو ضياع حقه في البلد الحرام.
هنا قام رجال هزّهم ما حدث، لديهم من النخوة ما يقلق رجولتهم، ومن العزّ ما يدفعهم إلى الوقوف بصلابة مع المظلوم مهما كان ظالمه أو كانت قوته أو جبروته.
فتحالفوا وتعاهدوا بالله ليكونُن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدّي إليه حقه، فسمّت قريش ذلك الحلف "حلف الفضول"، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر، ثم مشوا إلى "العاص بن وائل"، فانتزعوا منه سلعة الرجل فدفعوها إليه.
ومن يومها ما إن يُظلم أحد في مكة إلا ويذهب من فوره إلى ذلك الحلف، فيعود له حقه، مهما كان جبروت ظالمه.
ولأن فاجعة الأخلاق في زمننا هذا يصعب فيها العزاء، فإنني أهيب بك يا صديقي أن تقيم في وجدانك حلفا للفضول!!
حِلف كامل يحيط بحياتك كلها.. وأول واجبات هذا الحلف أن يعمل رقيبا عليك!!
أن يردعك عن أن تتنازل عن المعاني السامية النبيلة في سبيل جني مكاسب تراها كثيرة وعاجلة، ويخبرك أنها مجرد طعم لن يلبث أن يهوي بك في أعماق بئر الفشل!
أن يقضّ مضجعك، ويقلقك، ويدفعك إلى فعل كل شيء، وأي شيء، في سبيل أن تكون رجلا شجاعا فاضلا، وشهما نبيلا.
حِلفٌ يدفعك إلى قول الحق مهما كانت النتائج، ونصرة المظلوم مهما كانت العقبات، والضرب على يد الظالم مهما كانت المخاطر..
لقد عشت فرأيت من يخون أصدقاءه، ويبيع مبادئه، ويتلوّن كالحرباء.. وفي الغالب كان الثمن بخسا..
رأيت من يغضّ الطرف عن منكسر، ويعمي أذنيه عن استغاثة مستجير، ويشيح بوجهه بعيدا كي لا تقع عيناه على مظلوم أو ضعيف يستغيث به.
إن من يلجأون للمكر، والخداع، والتلوّن لَكُثُر.. وحجّتهم أن هذا زمن المكر والخديعة، واللعب على الحبال!
أمثال هؤلاء أحزن عليهم؛ لأنهم ظنّوا أن هذه الخدع البسيطة ستنطلي على الناس الذين لن يتمكّنوا من اكتشافها، ولا يدركون أنهم يخسرون الكثير والكثير..
وأولى خسائرهم هي فقدانهم أنفسهم، وأرواحهم، وجوهر وجودهم.
يودّعون معاني الاستقامة والشرف والمروءة، ويتخبّطون في دروب الحياة بلا هادٍ بعدما فقدوا سلامهم الداخلي، وصلحهم مع الذات.
إن سقوط المرء من عين نفسه مصيبة لا تصلح معها سلوى، لذا اسمح لي أن أحذّر نفسي وإياك من التهاون في حق المبادئ والقيم التي بداخلنا، ألا نساوم في عقائدنا، ولا نغضّ الطرف عن أي تعدٍّ عليها.
أعلم أن حملة المبادئ في تعب ونَصَب، لكن برد الطمأنينة والرضا وهدوء الضمير سيخفف عنا كثيرا من أعباء وأثقال الحياة.