ذكريات أفلتت من قبضة حسن بلم وهو يرقد فى المصلية القريبة من مقام أبو عمار(تلك الكذبة الفالتة من ألسن النواسانيين)
يجلس على البحر في هيئة المزيج الباقي من الزمن، يهمّ بمداعبة الماء بقدمين مرخيتين بإهمال، مثل جسد يتدرب على نسيان أطرافه.
(هل رأيتَ كم خذلتكَ الشطآن ؟)
يريد أن يتذكر... فينسى.
لم أضع جسدي في بحر إلا وأصابتني الكارثة. كأن هذا الماء الشاسع قد خلق لمعاقبتي كلما حاولت ترك الأرض وحدها، كما لو أن الأرض اليابسة امرأة وأنا زوجها الفالت. تخرج له نساء طريات من بين الزبد، يغوينه فيذهب معهن، وعندما يصلن به عرض البحر يتركنه لموج لا يرحم، لا يجد من يسعفه في الماء، والشاطئ بعيد عنه. فلا يسمع إلا قهقهة النساء الطريات متقهقرات به، متوغلات إلى أعماق تستدرجه وتناديه، وبكاء الأرض اليابسة هناك بعيدة عنه. عندها فقط يكتشف كم هو عرضة للخذلان إن هو ذهب إلى البحر وبالغ في طلب الشطآن، ففي السواحل ما لا يحصى من الأعداء المدججين بضغائن يغزلها الأسلاف.
بينه وبين النحيب الطالع من السفن العابرة رسائل لا تقرأ إلا في ليل كثيف الكوابيس نادر الأحلام.
(اصعدْ معنا نأخذك إلى امرأتك المنتظرة).
لكنه لا يصعد. يترك جسده العاجز يغوص مثل حجر يرتطم بقاع أبيض الرمل ناعم القطيفة تزخرفه القواقع والمحار. يجلس هناك وحيداً يتأمل الفضاء المنساب من حوله بأسماك تأخذ شكل المخلوقات الرؤوفة، تمسك بيده مثلما يأخذ الرجل امرأة إلى الرقص.
(أنظرْ،
هذه هي المسافة التي أغرت أباك لئلا يعود إليك سريعاً يوم كنت تنتظره في البيت، أنظر)
فينظر.
لماذا لم يتعلم الغرق باكراً.
يمد يده المرتعشة ليأخذ محارة ويفتحها بسهولة من يفتح رسالة طازجة، ويقرأ فيها كلاماً يتذكر أنه كتبه ذات ليل في ظلام كثيف في زنزانة رطبة، فيتيقن أنه يؤلف نفسه مثلما يصنع كتاباً ويؤثثه بالأساطير.
تحت قدميه رمل أليف يداعب باطن القدم ويمحو آثار جراح تركتها التجربة مثل زينة على الجسد من الحنجرة حتى الإحليل.
وحين يهمّ بالسؤال تتناهى إليه تلك القهقهات مختلطة بذلك النحيب، فلا يكاد أن يميز التخوم بين نساء البحر ونساء الأرض.
هذه جزيرة تحضنك بغياب طويل، غيابٌ يمحوك بالدفتر والكتابة. تهزّه يد الهواء لئلا ينام، ويرفع عينيه ليرى قاع السفن من أسفلها منسابة فوقه غير عابئة به وهو في الأعماق على بياض ناعم مزخرف بالقواقع.
وكلما فتح محارة قرأ فيها رسالة يتذكر أنه كتب كلماتها ذات ليل كثيف الكوابيس.
هذه أعماق مكنوزة به.
يذهب إليها الأب ليعود بهدايا من نجوم البحر يصنع منها أفراساً وحيوانات لبونة يتصارع عليها مع شقيقته فلقة البدر. أعماق مكنوزة يذهب إليها الابن فلا يعود إلا وهو ملطخٌ بالذكريات الدامية عن رفقة يفتك بهم جنون البحر ويصيبهم الفزع، فيبدأون في قذف حمولتهم: محار وكتب ومخطوطات وقمصان ملطخة بالحسرة ومناديل الدمع المكابر وسمك مملح وغلال التمر وصناديق الذكريات وحبال الصبر وأفئدة المحبة المغدورة، رفقة، لفرط الفزع، يقذفون بكل ما تطاله أيديهم، يتخفّفون مما يثقل سفينتهم، فيفقدون الخفيف من عناصرهم، يشهقون بالباقي خشية أن تأخذهم الريح فيصيبهم الفقد.
وعندما يذهب إلى البحر وحده لا يكون البحر هناك.
كأن كل شيء محضُ سردٍ تكتبه الأرض ليمحوه الماء.
كأن كل ماءٍ مخطوط بمكابدة الكوابيس وتمائم السفر. وهو موزع بين نسيان الأب وذاكرة الابن. وهو طفلٌ يريد أن يتذكر... فينسى.
لم أضع جسدي في بحر إلا وأصابتني الكارثة.
أيها البحر.. البحر،
يا قرين الصوت متصاعداً في نشيدٍ يابسٍ، تؤثث لي المسالك بالنحيب لأعرف أن بيني وبين جسدي درج أنزل عليه لأقرأ كتبي مكنوزة في محارات متروكة في رمل أبيض في تجاعيد غضة في نحيب وفي مرايا.
أيها البحر.. البحر،
يا نشيداً يتقدم في هودج من نخيل القطيف رافلاً بمحتملات العرس والموت.
تذكرت لي الثكلَ لكي أرى، فنسيتَ عني، ونسيتني.
أيها البحر.. البحر،
يا بريد الأقاصي، تحمل فلك الحديد وتخذل جسدي ضعيف الهيكل والجرم.
تحمي ممرات الليل وتظنّ بالحجر المسروق الظنون وتستثني رعاياك من حنان المرافئ.
تعبر بك خشبُ التمر مخبوءة بالبشر يفرّون من الذبح ذاهبين إلى الجبّانة بوهم البيت.
أيها البحر،
تعرف أسمائي السرية وتنسى ملامحي وتتيقن من نسياني.
هذا نشيد جارحٌ.
هذا نحيب يتماهى بزغاريد الثواكل،
هذه مآتم تبحث عن حزنها الشريد،
هذا باب نجاة أمة يطاردها العطش.
هذا ماءٌ قراحٌ شاغر.
هذا جسدٌ مقسوم في جسومٍ كثيرة.
هذا بشرٌ يهدهدون الموج بأجسادهم المعروقة لعله يحمي أسرارهم ويطلق أسراهم ويسكت لهم عن الأخطاء البيضاء مصقولة بزبده الفارع.
أيها البحر.. يا بحرنا ويا منتهانا.
نشيد جارحٌ وخشبٌ يحنو على بشر يفرّون
لكن، هل رأيت كم خذلتك الشطآن؟
يريد أن يتذكر... فينسى.