هو سعيد بن جبير وارث علم عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر ، وأحد أعلام التابعين وكان مع عبد الرحمن بن
الأشعث حين خرج على الخليفة عبد الملك بن مروان لعسفه وإسرافه في القتل فلما انهزم ابن الأشعث في
وقعة دير الجماجم وقتل لحق سعيد بمكة ، فقبض عليه واليها حين ذاك خالد بن عبد الله القسري ، وبعث به إلى
الحجاج بن يوسف الثقفي فقال له : ما اسمك ؟ قال : سعيد بن جبير فقال الحجاج : بل أنت شقي بن كسير .
فقال : بل كانت أمي أعلم باسمي منك . قال : شقيت أمك وشقيت أنت . قال : الغيب يعلمه غيرك . قال :
لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى . فقال : لو علمت ذلك لاتخذتك إلهاً . قال : فما قولك في محمد ؟ قال : نبي الرحمة وإمام
الهدى . قال : قولك في علي ؛ أهو في الجنة أم هو في النار ؟ قال : لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها . قال
: فما قولك في الخلفاء ؟ قال : لست عليهم بوكيل . قال : فأيهم أحب إليك ؟ قال : أرضاهم لخالقي . قال : فأيهم
أرضى للخالق ؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم . قال : أحب أن تصدقني . قال : إن لم أجبك لم
أكذب عليك . قال : فلما بالك لم تضحك ؟ قال : وكيف يضحك مخلوق خلق من طين والطين تأكله النار . قال : ما
بالنا نضحك ؟ قال : لم تستو القلوب . وأراد الحجاج أن يغري سعيداً بمباهج الدنيا ولهوها ، فأمر باللؤلؤ والزبرجد
والياقوت فجمعه بين يديه ، فقال له سعيد : إن كنت جمعت هذا لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح وإلا ففزعة
واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، ولا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا . ثم دعا الحجاج بالعود والناي
، فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد . فقال الحجاج : ما يبكيك ؟ أهو اللعب ؟ قال سعيد : هو الحزن أما
النفخ فذكرني يوماً عظيماً يوم ينفخ في الصور ، وأما العود فشجرة قطعت في غير حق ، وأما الأوتاد فمن شاة
تبعث معها يوم القيامة . فقال الحجاج : ويلك يا سعيد !! قال : لا ويل لمن زحزح عن النار وادخل الجنة . فقال
الحجاج : اختر يا سعيد أي قتلة أقتلك . قال : اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتلني إلا قتلك الله مثلها في الآخرة .
قال : أفتريد أن أعفو عنك ؟ قال : إن كان العفو فمن الله وأما أنت فلا براءة لك ولا عذر . قال الحجاج : اذهبوا به
فاقتلوه ، فلما خرج ضحك ، فأخبر الحجاج بذلك فرده وقال ما أضحكك ؟ قال : عجبت من جرأتك على الله وحلم الله
عليك . قال الحجاج : اقتلوه . فقال سعيد :] وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من
المشركين [ قال : وجهوا به لغير القبلة . قال سعيد :] فأينما تولوا وجهكم فثم وجه الله [ قال : كبوه على وجهه .
قال سعيد :] منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ قال الحجاج : اذبحوه . قال سعيد : أما إني
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة ، ثم دعا
سعيد فقال : اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي ، وكان ذبحه في شعبان سنة 95 للهجرة ومات الحجاج بعده
في رمضان من السنة نفسها ، ولم يسلطه الله على أحد بعده إلى أن مات ، ولما ذبح سعيد سال منه دم كثير
فاستدعى الحجاج الأطباء وسألهم عنه وعمن كان قتلهم قبله فإنه كان يسيل منهم دم قليل فقالوا : قُتل هذا
ونفسه معه والدم تبع النفس وأما غيره فكانت نفسه تذهب من الخوف فلذلك قل دمهم . ولم علم الحسن
البصري بأن الحجاج قتل سعيد بن جبير ذبحاً قال : اللهم ائت على فاسق ثقيف والله لو أن ما بين المشرق
والمغرب اشتركوا في قتل سعيد لكبهم الله عز وجل في النار . – ولما حضرت الحجاج الوفاة كان يغيب ثم يفيق
ويقول : مالي ولسعيد بن جبير وكان في مدة مرضه إذا نام رأى سعيداً آخذاً بمجامع ثوبه ويقول له : يا عدو الله
فيم قتلتني ؟ فيستيقظ مذعوراً ، ويقول : مالي ولسعيد بن جبير ورأى الحجاج في المنام بعد موته فقيل له : ما
فعل الله بك ؟ قال : قتلني بكل قتيل قتلته وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة .
وكان سعيد بن جبير من أحفظ الناس للقرآن الكريم وأعلمهم بتفسيره كما كان أعلمهم بالحديث والحلال والحرام . قال وفاء بن إياس : قال لي سعيد يوماً في رمضان : أمسك على القرآن فما قام من مجلسه حتى ختمه وقال سعيد عن نفسه قرأت القرآن كله في ركعتي نفل في البيت الحرام رحمه الله وأثابه .