|
|
| فضة متربة وقصائد أخرى شعر أمجد ناصر |
| | ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2022-12-23, 3:19 am | | أمجد ناصر #أمجد_ناصر منديل السهروردي (إلى بشار زرقان وعيسى مخلوف كلٍّ لسبب) لو أن هذه الحكايةَ عبرت المجالَ القنصيَّ لأذني بورخيس الصقريتين لاصطادَها على الفور، وشكَّـها في حبل طرائدِهِ الثمينةِ من الملكين ومتاهتهما إلى حريق مكتبةِ الاسكندريةِ الذي ينسُبه، من غيرِ بيّنةٍ، إلى عمر بن الخطاب بحجةِ أن للكتاب أصلاً لا يضيع. لا أعرفُ، كيف ومتى وصل إليَّ هذا الكـُتيّبُ الموسومُ بـ ‘ديوان الإمام شهاب الدين السهروردي’ الذي بدا، عندما رأيتهُ في مكتبتي أولَ مرةٍ، كخطأ مطبعيٍ كبيرٍ ولكن ما إن فَتحتهُ حتى شممتُ رائحةَ دمٍ جافٍّ ثم ما لبثتُ أن رأيتُ يداً مقطوعةً راحتْ تنزفُ،ppp ثم كأنني رأيتُها تتحول منديلاً طارت به هبّةُ ريحٍ مفاجئة. لم أكن لأهتم بالسهرورديِّ الذي كلما نطقتُ اسمَه أضافَ صديقٌ لي، لن أفاجأ ذاتَ يومٍ بانتحاره، لقبَ: المقتول، لولا أنني سمعتُ في غرفتي في فندق ‘كونتننتال’ بالقيروان أبياتاً من قصيدةٍ له مغناةٍ بصوت مغنٍ سوريٍّ يضربُ، في سرنمةِ أعماقِ تامةٍ، أوتاراً غيرَ مرئية بأصبعٍ مجروحة. تسللَ إليَّ السهرورديُّ، وكنت أخفَّ من ريشةِ طائر نَفَقَ وهو يعودُ إلى موطنه على آخر نفسٍ، فلا بدَّ أنه وقع َ على شيءٍ في نفسي وإلا كيف ظللتُ أردّدُ لأيامٍ ‘أبداً تحنُّ إليكمُ الأرواحُ’؟ يبدو أن عاقبةَ البوحِ هي التي جذبتني إلى القصيدةِ التي لم أسمع بها من قبلُ وعجبتُ كيف يعرفُها قبلي، أنا الشاعرُ المهتمُ بتاريخ الكتمانِ، مغنٍ تتدلى قذلتا شَعر ٍ على صدغيه. ومن دون استطرادٍ على جاري الحكايات التي تراوغُ الليلَ سأروي لكم بصوتِ مَنْ كان العماءُ قناعه المخاتلَ حكايةَ السهروديِّ والراعي التركمانيِّ، قانصاً إياها من الكتيِّب سالفِ الذكِر، فلن أنسبَ شيئاً إلى نفسي، كما فعلتُ في ‘ذهب الاسكندر’ التي لم تكنِ، في الأصل، سوى حكايةٍ روتها لي جدتي ‘ثنيَّة الدخيل’ في طفولةٍ لمَّتْ شَتَاتَ الأحاديثِ بين الإزدجارات والركلاتِ المطوّبةِ، كحقٍ مطلقٍ، لمن هم أكبرُ مني سناً:كنا رهطاً بمعية شهاب الدين السهرورديِّ نشيلُ الخطى ونحطُها بالقرب من ‘القابون’ في ظاهرِ دمشق الشامِ نترنّحُ جوعاً عندما رأينا قطيعاً من الغنم يرعاه رجلٌ تركمانيٌّ (… عرفنا ذلك، على الأغلبِ، من ثيابه وربما من كلماته المسّنونةِ التي كان ينهرُ بها قطيعَه وإلاّ ما الذي يجعلُ التركمانيُّ تركمانياً؟!) فطلبتُ من الشيخ نقوداً نشتري بها رأساً من الغنم نذبَحهُ ونأكُلُه (لا أعرفُ كيف تسنى لنمورنا الداخليةِ أن تَتَحَفزَ لشقِّ العظامِ ونحن برفقةِ رجلٍ يتبلغُ بتمرةٍ وكسرةِ خبز؟) فأخرجَ الشيخُ عشرةَ دراهمَ وقال لي ليس معي سواها فانظر ما أنتَ صانعٌ بها. ابتعتُ رأساً من التركمانيِّ الذي كان معه صاحبٌ اسْتَبْخَسَ الثَمَنَ فلحق بي وقال ردَّ هذا الرأسَ يا صاحِ وخذْ واحداً أصغرَ منه. فلم أحفل به ومضيتُ ألحقُ بالشيخ الذي لم يكن يطأُ الأرضَ بقدميه. غير أنَّ الراعي الذي حمَّسَتْهُ جسارةُ صاحبهِ لحقَ بي وطلبَ أن أستبدلَ الرأسَ بواحدٍ غيره. فرفضت. لكنَّ التركمانَي ظلَّ يحوطُني بدائرةٍ من تمتماته التي لا بدَّ أنها لعناتٌ مكظومةٌ من دون أن أردَّ عليه فقال لي السهرورديُّ امشِ واترُكُه لي. فصار الراعي يسدُّ الطريقَ على الشيخ أنّي اتجه ولما لم يجد استجابة ً اقترب منه وشدَّه من ذراعه فإذا بها تنخلعُ من أصلها. بُهِِتَ التركمانيُّ وهو يرى في يده ذراعَ الشيخِ المقطوعة َ تنتفضُ وتقطرُ دماً فرماها وولى هارباً، فانحنى السهرورديُّ على الأرض ولمَّ ذراعَه المقطوعةَ واتجه نحونَا، نحنُ الذين تجَّمدَ الهواءُ في قصباتنا، فلما وصلَ إلينا لم يكن في يَدِهِ سوى مندِيلِه الأحمر .لندن – صيف 1998
الخاتمُ القيروانيّ مذ رأيتُ هذا الخاتمَ بيد الشاعر سعدي يوسف شدَّني إليه. حاولتُ في تلك الأمسية في ‘حانة سالوتيشن’ أن أتفادى النظر إليه فلم أستطع. لا بدَّ أنَّ سعدي لاحظَ ارتباكي وميلان َجذعي صوب يده اليمني حيثُ كان الخاتمُ، ربما شرخُ طغرائِه، ينفثُ ذرورَه. أبديتُ إعجابي به فخلَعَه وأعطانيه مُدمدماً ما يشبهُ القولُ من السلف إلى الخلف ، فمن الصعبِ أن تقطعَ بما يقولُ سعدي عندما يتخذُ، لسببٍ ما، هيئةَ قنفذِ قصيدته الشهيرة. لكن هذه ليست بدايةَ ولا نهايةَ مطافِ الخاتم الذي كان في الأصل لمتصوّفٍ قيروانيٍّ لم يملك عندما وافاه الأجلُ شيئاً ذا قيمةٍ غيره (أم عساه خاتمُ الولايةِ ونحن لا ندري؟) فورثَه ابنُه الذي سار على خطى أبيه حتى سَمِعَ الشاعرَ العراقيَّ يقرأُ في أمسيةٍ له بالقيروان قصيدةَ ‘الأسلافِ’ فأعجبته إلى درجةٍ لم يجدْ ما يعبّرُ عن إعجابه سوى أن يقدمَ له خاتمَه، فقَبِلَه الشاعرُ ذو الدمدماتِ السبعِ حائراً ما يفعلُ بخاتمٍ فضيٍّ مفلطحٍ في طغرائه شرخ.بعد سنةٍ، تقريباً، كنت في ‘ساوث هول’ قلعةِ الهنودِ المنيعةِ في غرب لندن أُعرِّضُ حواسي لروائحِ الشرق كيما تظل يقظةً فلا أدفنُ، على حين غرّةٍ، في مقبرة ‘غرين فورد’ عندما دخلتُ محلَ صاغةٍ وطلبتُ إصلاحَ الخاتمِ. سألني الصائغُ الهنديُّ إن كنتُ متأكداً، فعلاً، أنني أريدُ لحمَ الشرخِ، فأجبتُه منعماً. فلحمَه ما أمكنَ. لكنَّ الخاتمَ ضاقَ على بنصري الأيمنِ فنقلتُه إلى الأيسرِ فكان أنحفَ من أن يصمدَ فيه.تغيّرَ شكلُ الخاتمِ فلم يعدْ مفلطحاً.إمَّحتْ الطغراءُ التي اعتبرتُها مجردَ شكلٍ كاليغرافيٍّ.ليتَ شِعري ما الذي كان مكتوباً فيها؟أهو لغزٌ كان عليَّ أن أحلَّهولم أفعلْ؟أم رسالةٌ لم أكلّف نفسي عناءَ قراءتها؟ لاحظتُ بعد ذلك أن الصحوَ الصباحيَّ لم يعدْ مهموزاً بالبروقِ، التوقعاتِ، الترانيمِ، الوعود الطائشة، وأنني جعلتُ أشيبُ بسرعةٍ من دون أن تظهرَ عليَّ عوارضُ الحكمةِ، الصمتُ الدالُّ، التولي عن السبقِ الضاري على الموقع والمكانة…………….تأكدتُ بعد فوات الأوانأنني فعلتُ شيئاً إمْرا.ولكن هيهات أن أعرفَ ما هو.لندن – صيف 2001 في ضريح ابن عربيجالساً جنبَ ضريحِكَ المحميِّ بزجاجٍ لا يصدُّ البركات أفكِّرُ بخطاك تطيرُ من اشبيلية إلى دمشق مروراً بمكةَ التي تَفَتَّحتْ على بعد شهقةٍ منكَ تحتَ شّمسِها العموديةِ وردةٌ فارسيةٌ زعْزعتْ (أم أقولُ عَّززتْ؟) إيمانكَ لمَّا دخلت امرأةٌ وفتاةٌ وتدفقَ ضوءٌ باردٌ من الدرج. المرأةُ والفتاةُ بالطول نفسه وبمنديلين مختلفين على الرأسِ، منديلُ المرأةِ الأسودُ محكمُ الشدِّ بينما تلقي الفتاةُ منديلَها الموّردَ باهمالٍ على رأسها. ليس الشبهُ بين الاثنتين كتشابه إختين أو أمٍّ وبنتِها ولكن كصِبا وكِبَرِ شخصٍ واحدٍ جنباً إلى جنب. الفتوّةُ بكهربائها التي تسيلُ من الأطراف وتلسعُ من يصادفُها، ووردةُ الكِبَرِِ بعطرها المنكفئ إلى الداخل. بعينين مصوبتين إلى هدفهما توجّهت المرأةُ إلى الضريح أما الفتاةُ فمسحتْ بعينيها اللاعبتين الأرجاءَ فوقعتْ عليَّ جالساً في الركن الشرقي أسدِّدُ إليها، أنا أيضاً، عينين تتدرجان من الفضول إلى الأخذ. المرأةُ المحبوكةُ القوامِ شدَّت الفتاةَ من يدِها وتمتمتْ شيئاً في أذنها، لكنَّ الفتاةَ التي لم تتوقفْ عن مدِّ حبل النظراتِ إليَّ تحسّستْ منديلَها المُلقى كغوايةٍ محققةٍ على رأسها ولم تغيّر من وضعه. كنتُ على وشك المغادرةِ بعد أن سجلتُ ملاحظاتٍ عن المدفونين بجوار ‘الشيخ الأكبر’، الأشعارَ، البياناتِ المكتوبةَ على الجدران، السجادَ الذي حمله على أكتافهم مريدون من كلِّ فجٍّ عميق، غير أنني تسمَّرتُ بالخدرِ الذي رمتني به عينا الفتاةِ المفتوحتان على ما لا أدري من مجاهلَ. لم يكن في الضريح الذي تنزلُ إلى سكينته من المَنْحَلةِ البشرية لـ ‘شارع المدارس’ سوانا الأربعة: المرأةُ، الفتاةُ، أنا وخادمُ الضريحِ الذي تلبَّثَ عند المدخل يتفحّصُ سجادةً مهترئةً بعينٍ ويطبقُ علينا بالعين الأخرى. مرَّتْ غيمةٌ ثقيلةٌ فحجبتْ قرصَ شمسِ الظهيرةِ الشتويةِ لكنَّ الضريحَ ظلَّ يسبحُ في هيولى خضراء. لا أدري كم مرَّ من الوقت وأنا أحاولُ تعديل جلستي لأرى وجهَ الفتاةِ التي لم تتوقف المرأةُ عن جذبه إليها لكنني عندما تمكنتُ من زحزحةِ ركبتَّي المُنمّلتين لم أر أياً منهما، تلَّفتُّ فلم أجد أثراً لخادم الضريح الذي أخبرني كيف ظلَّ تابوتُ الخادمِ السابقِ يتوجهُ إلى الضريح كلما حاول مشيعوه أن يدفنوه خارجاً فانتهى بهم الأمرُ إلى دفنه بجوار سيده. كما لو أنني أصبتُ بعدوى الكشوفات التي يزعُمها الصوفيون لاحَ لي أن المرأةَ والفتاةَ ليستا سوى ‘النظام’ * في تجليين مختلفين. المرأةُ التي صارتها وأدركت لِمَ أثقلَ ابن عربي ديوانهَ بشروحٍ لها علاقةٌ بالسرِّ لا بالشِعر (سيقولُ البعضُ: ما الفرقُ؟) فرفعتِ الصبابةَ فوقَ الطاقةِ، والصبيّةُ التي فَتَنَتْها يدُ الأندلسيّ لا شِعرُهُ.في مطرح الفتاة كان منديلٌ حريريٌّ صغيرٌ يخفقُ كقلبٍ ضالٍ أو كعلامةٍ طالَ انتظارُها، التقطتُهُ وشممّتُهُ فشعرتُ أني أعودُ من بعيدٍ ولما هممتُ بدسّه في جيبي سمعتُ خرخشةً فاكتشفتُ أنني أحشرُ صفحةً من كتابٍ في جيببيجامتيوأنا مُمدّدٌ على سريري في 54 سبرنغ غروف كرسنت في حي هانسلو غرب لندن أقرأُ ‘ذخائر الأعلاقِ في شرح ترجمان الأشواق’ .لندن – شتاء 1998 اشارة: النظامُ بنت مكين الدين هي الفتاةُ التي صحبَها أبن عربي في مكة وكرَّس لها عملَه الشعريّ ذائعَ الصيت ‘ترجمان الاشواق’وتقولُ الروايات انها لم تكن تتجاوز السادسةَ عشرةَ آنذاك. معلومٌ أن ابن عربي اضطر، لاحقاً، إلى أن يشرح ديوانَه بنفسه عندما ثارْت تقولاتٌ عن وقوع ‘الشيخ الأكبر’ في ‘الحب الأرضي’.
مساءلة ابن عربي من إشبيلية إلى صالحيةِ دمشقَ التي خضتُ في روائحِ مطابخِها وأصواتِ باعتِها الملحاحةِ حتى اهتديتُ إليك قد تكون السماءُ يا سيدي واحدةً بغيومٍ تمطرُ هنا تُمْسِكُ هناك، بملائكةٍ منهمكةٍ بتدبير رحمةٍ لا تصلُ، أو بطيورٍ تهاجرُ مثقلةَ الحواصلِ بخُردقِ البنادقِ المطاردةِ، وأخرى بقشِ مواطنها الأولى في مناقيرها تصِلُ الشتاءَ بالصيف.النجومُ التي مشيتَ على شمالها تسهرُ على فضّتها المتربة. ثمة من يعدُ بيديه نقودَ اليقظةِ ومن ينامُ جنبَ عين الليل المترعة.وقد تكونُ الأرضُ واحدةً بأناس ٍ يتأرجحونَ جهةَ الليل وجهةَ النَّهارِ ولا وقتَ لديهم ليشعروا بل ليحفلوا بهذا الرقاص الذي لا يترجلُ عنه إلاّ من تتساوى عندَه الأشباحُ المتطاولةُ للفقدِ والمُلْكِ الرضا والغضب وأنّى للمتحدرينَ من جبلِ الطينِ وماءِ الشهوات الثقيل مِثْلَنا هذي المكاييل. الأرضُ، كما يقالُ، تدورُ والناسُ تراوغُ بمكرٍ مكشوفٍ سعاة ً يحملون لهم مكاتيبَ لا يريدون تَسـَـلُّمَها لكنَّ المصائرَ قصاصةُ أثرٍ لا تُضِلُها المراوغات.طالما أن الذي لا يُشْعَرُ به لا يَصِحُ طَلبُه والعكسُ صحيحٌ لماذا إذن حاولتَ أن تطمسَ موضعَ اليدِ التي حفرت شكلَ أصابِعها الهشةِ على الضمائرِ المستتِرة لقصائدك وأن تمزجَ الصوتَ الولاديَّ الذي ظللتْ تسْمعُهُ وأنت تَهمُ بتسليم الوديعة بأصوات رَبّت بُحتَها في المدائح فعالجتَ الشوقَ المتصببَ من أطرافك بالتأويل فصارَ ثغرُ الحبيبةِ ثغرَ اللهِ ونحن نعلم أنه ثغرُ الفتاةِِ الفارسيةِِ التي هزّكَ جمالُها الصبيُّ فرحتَ تبوحُ بما لا يَحْسُنُ بسيد السِّر مِثْلِكَ أن يفعل.أنت سيّدُ السرِّالكتمانُ أصغرُ مريديكَلكنَّ سيّدَ السرِّ يحبُ مِثلَ الذي كلما فاهَفضحتُه الفراشاتُ التي تطيرُ من فمه.أحبُ يا سيدي أن أصدق أنَّ الرحمةَ التي تعدُنا بها تسعُ كُلَّ شيءٍ بما في ذلك رافضُها وأن الوجودَ كلَّه ينبضُ في الأرضةِ التي تقرضُ الرمحَ والناي وأننا عندما نضعُ يداً مرتعشةً على أخرى متلهفةٍ فإنما نضعُها على يد الله وأن وحدةَ الوجودِ شيءٌ آخرُ غيرُ هذا الطنين المعدنيِّ الذي يلفُّ الكون.نحبُّ لأننا نحبُّ فعندما ننام لا نأبه بالشفع والوتر بالشقِّ والفتحةِ بأوجاع الهواء بالماء يربط بين ضفتين أو يهطلُ على صحراءَ يسمونهاالأشواق. ولكن أتعرفُ ما الجيدُ في الأمر؟ أنك هنا تحت ناعورةِ الأصواتِ والروائحينقطعُ عنكَ الماءُ والكهرباءُ مثلُكَ مثْلُ أهلِ دمشقَ، لستَ في خلوةٍ صحراويةولا على قمة جبل؛ الناسُ يدخلون إليك ويخرجون بحطاتٍ على رؤوسهم،إيشارباتٍ، بسراويلَ سوداءَ فضفاضةٍ، جلاليبَ، دشداشاتٍ، تفوحُ منهم روائحُ بيوتِهم، أنعامِهم، التبغِ السوريِّ الحرّيف.رأيتُ في ضريحكَ إسباناً وإيطاليين وبعضَ الإنكليز بأيديهم خرائطُ وكتيباتٌ مثقلةٌ بالحواشي لكنَّ سكانَ ‘شارع المدارس’ الرازحِ تحت غيومِ المازوتِ وشعارات الحزبِ القائد ِلا يحتاجونَ كشافاً ليعرفوك.زوارُكَ اليوميونَمؤدو الركعاتِ السريعةِفي هيولتك الخضراءِ،لم يرتدوا خرقتَكلم يقرأوا فتوحاتِك المكّيةَلا يعرفونَ وجهَ الصلةِ بين هندستِك الإلهيةِ و’دانتي أليغيري’يسمونكَ ببساطة: الشيخ محدّين. لندن – شتاء 1998
المرايا المتقابلةإذا كانت الموجوداتُ مثل مرايا متقابلةٍ توجدُ جميعُها في كلِّ واحدةٍ منها، فأنا أنتَ وأنتَ أنا وكلُّ ما أردتُ وما لم أرد. الأمسُ واليومُ يمشطان شعرَهما الطويلَ ويتمليان صورةً لا تملُ من التكرار.لندن – صيف 1998رُقمٌ طينيةرأيتُها أولَ مرةٍ في ساحةٍ شعبيةٍ بعمانَ حيثُ تختلطُ أصواتُ صِبْيَةِ سائقي الحافلاتِ بباعةِ اليانصيب بدمدمةِ الأرواحِ الغابرةِ في المدرّجِ الروماني. كانت العاصفةُ الأطلسيةُ التي ارتدتْ براقعَ الصّحراءِ قد انشبتْ زعانفَها في أرضِ السوادين فتدفّقَ عراقيونَ وعراقياتٌ لم يغادروا مدنَهم ودساكرَهم البابليةَ من قبلُ. لم يأبه أحدٌ بهذه الرُقمِ الطينيةِ التي تحملُ إشاراتٍ لا تعني شيئاً لمن يراهنُ على ثروةٍ سريعةٍ من ورقةِ اليانصيبِ ولا لفاتحةِ البختِ التي ترمي خرزاً وقواقعَ على خطوطِ الطوالعِ الجانحةِ في الرّمل. يمكن أن تشتريها بدينارٍ أو تبادلَها بساندويتش شاورما وزجاجةِ كازوزٍ باردة. غير أن لهذه الكِسَرِ الطينيةِ التي تُقلّبُها، بأيدٍ مفلطحةٍ، نسوةٌ متشحاتٌ بالسواد وموشوماتٌ من أعلى الجبين إلى أسفلِ الذقنِ قوةَ تهديدٍ كامنة. تمليّتُ أحدَها مليّاً، قلّبتُه، قرّبتُه من أنفي، مثلما تفعلُ، لسببٍ أجهلُه، النسوةُ المتشحاتُ بالسواد، فصار يزدادُ ثقلاً في يدي وتنبعثُ منه رائحةُ طميٍّ وجعلتُ أرى صوراً وأسمعُ أصواتاً لم آلفها قبلاً. رأيتُ آلهةً وملوكاً بذقونٍ مدببةٍ، نموراً وأسوداً تزأرُ في أقفاصٍ من الذهبِ الخالصِ، أسرى يَرسفونَ بالحديد، عازفينَ يُدمونَ أصابعَهم على أوتارٍ رفيعةٍ. رأيتُ بوابةً من الآجرّ المُزجْجِ بقامةِ جملينِ يطبعُها اللونُ الأزرقُ (لم أعرف إن كان لونَ سماءٍ أم تَنَهُدةَ بنتٍ) سأراها ثانيةً وألمسَها بيدي بعد أكثرَ من عشرِِ سنينَ في متحف ‘بيرغامون’ في برلين.هاتفٌ قال لي: إرمِ هذا الرقيمَ.إرمِهِ.ليس باليدِ التي سيأكلُها الدودُ تحملُ عبءَ الأبد. لندن – نيسان 2003(من ‘حياة كسرد متقطع’) | |
| | | | ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2022-12-23, 3:49 am | |
ظلُّ الوردة
(استلهاما من بورخيس)
هل الظاهرُ عكسُ الباطن؟ سَوْرَةُ الريح؟ الحياةُ الصامتةُ للأشجار؟ زنةُ لفظِ الجلالةِ علي لسان القانط من كلِّ رجاء؟ ذلك الجبلُ الذي صعدتُه لا أدري متى وكيف وقال لي راهبٌ معمدانيٌ عندما علم أن أسمي يحيي أن موسي ألقي عصاه هنا ولم تكن أفعى بل خشبةً منخورةً وتطلَّعَ من هذه القمةِ الجرداءِ فرأي دماً يغمرُ الوادي؟ أهو قطعةُ النقدِ التي أرَّقتْ ليل الأعمى الذي لا يشبُهُ نهارَه إلاّ في درجة الماء الأزرق؟ الخنجرُ الصرخةُ القميصُ الذي تتساقطُ أزرارهُ من الألم؟ اليدُ التي تلوِّحُ لمشاة يولدون من الغبار ويعودون إليه بوسومٍ علي الجباه، نُدبٍ علي التراقي؟ هذه المدنُ التي لم يرها أحدٌ: بوينس أيرس بورخيس شيراز سعدي فينيسيا إيتالو كالفينو طنجةُ محمد شكري. ظل ُ الوردة؛ خيطُ الدمِ الخاثرِ؛ فتقُ الحجاب؟
*******
القلعة
جسدُكِ قاطعٌ كالكلمة التي رميتِها فصار تفاحُ القبلةِ نردا، كسكينٍ تقطعُ وتقطعُ ولا تتركُ أثرا. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ إلي درجة أشكُّ فيها بمصدر هذا الشميم الذي يمهد الطريق إلي طيرانٍ بلا أجنحة، فكيف في هذه الأرض الضيّقة يمكنُ للخشخاش أن يذرّ بقرنه. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ كعين الحسود ولكنني بأطوال نايات أسلافي أدخل وأجد ريشا ملونا وعظاما لينة ولا أصل إلي ما أخفاه أسمك عني عندما تقدم إلي بجرسه الآمر. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيق يصدُّ ويردُّ، يقرّبُ خدما وأوباشا من جاهلي إعجازه ويغلق قلعته علي نفسه.
*******
يسمونك الشيخ محدين
1
من اشبيلية الى صالحية دمشق التي خضت في روائح مطابخها وأصوات باعتها الملحاحة حتى اهتديت إليك
قد تكون السماء يا سيدي واحدة بغيوم تمطر هنا تمسك هناك، بملائكة منهمكة بتدبير رحمة لا تصل، أو بطيور تهاجر مثقلة الحواصل بخردق البنادق المطاردة وأخرى بقش مواطنها الاولى في مناقيرها تصل الشتاء بالصيف.
النجوم التي مشيت علي شمالها تسهر علي فضتها المتربة
ثمة من يعد بيديه نقود اليقظة
2
ومن ينام جنب عين الليل المترعة.
وقد تكون الأرض واحدة بأناس يتأرجحون جهة الليل وجهة النهار ولا وقت لديهم ليشعروا بل ليحفلوا بهذا الرقاص المضني الذي لايترجل عنه الا من تتساوي عنده الأشباح المتطاولة للفقد والملك الرضا والغضب وانّي للمتحدرين من جبل الطين وماء الشهوات الثقيل مثلنا هذي المكاييل.
الأرض، كما يقال، تدور والناس تراوغ بمكر مكشوف سعاة يحملون لهم مكاتيب لا يريدون تسلمها لكن المصائر قصاصة اثر لا تضلها المراوغات تمشي
3
طالما ان الذي لا يشعر به لا يصح طلبه والعكس صحيح لماذا إذن حاولت ان تطمس موضع اليد التي حفرت شكل أصابعها الهشة علي الضمائر المستترة لقصائدك وان تمزج الصوت الولادي الذي ظللت تسمعه وأنت تهم بتسليم الوديعة بأصوات ربت بحتها في المدائح فعالجت الشوق المتصبب من أعطافك بالتأويل فصار ثغر الحبيبة ثغر الله ونحن نعلم انه ثغر الفتاة الفارسية التي هزك جمالها الصبي فرحت تبوح بما لا ينبغي لسيد السر مثلك ان يفعل.
أنت سيد السر الكتمان اصغر مريديك لكن سيد السر يحب مثل الذي كلما فاه فضحته الفراشات التي تطير من فمه.
4
أحب يا سيدي ان اصدق ان الرحمة التي تعدنا بها تسع كل شيء بما في ذلك رافضها وان الوجود كله ينبض في الأرضة التي تقرض الرمح والناي وأننا عندما نضع يدا مرتعشة علي أخرى متلهفة فإنما نضعها علي يد الله وان
**************
أطراف النهار
إلى جميل حتما
I
لأنني ما نجوتُ من أمل حتى وقعتُ في غيره وما بشَّ لي قناعٌ إلاّ واتخذته نجيّا فقد مِتُّ لا كما يموتُ الماشي مرَحَـاً بين أقرانه اليقظينَ ولكن كمن مات كثيراً، فلما جاءَ الموتُ ضاحكاً تحت قنزعتهِ الخضراءِ وأسبل عينيَّ علي شعاع الوداع الطفيف لم أصَدّقْهُ فقد كنتُ أظنُ الموتَ جلجلةً، صرخةً عظيمةً تودعُ كلَّ ما استسلمنا إليه فاغتني وهجرنا لا مجردَ غفوةٍ في سريرٍ قاحلٍ سريرٍ وحيدٍ في عراء البياض.
هناك من يموتُ يأساً وأنا مِتُّ لأن الأملَ ظلَّ يَفْتلُ حولي فالأملُ، صيادُ النفوسِ الضعيفةِ، يأخذكَ إلي جَذرِ الماءِ ويعيدُكَ ظمآن يلعب بك لَعِبَ البيضةِ والحجر.
متُّ كثيراً وظللْت أُجَرْجِرُ نفسي تحتَ طائلةِ الوعودِ فكلُّ من يعرفُني يعلمُ كيف يغدو الموتُ حلماً تزيِّن له أشرسُ الليالي فراشَها تُبخِّرُ الشراشفَ تناديه بألطف أسمائه ولا يأتي. ليس الموتُ سهلاً حتى نَغْويَه بكأسٍ أو نرمي إليه قمراً بدَّدَ العُشَّاقُ تحت ضيائه ثروتَهم من الدموع فمن رأي يديه مثلي يعرفُ كم صعباً أن يعودَ الغائبُ، بوثبةِ مُهرِ القلب، إلي كفِّ أمه ليشرَبَ. فلا أحدٌ يعودُ كما خرجْ وليس للماء ذاكرةٌ لتحفـظَ أوجهَ الغائبين ولا أحدٌ يموتُ وقتَ يشاءُ
لا تصدقوا المنتحرينَ الذين يَرمُون أنفسهم في الأنهار أو من فوق بنايات مأهولة بالنائمين شيءٌ آخرُ غيرُ طوالعِهم استلَّ شَعْرَتهُ من عجائنِ الليلِ وأرخي عليهم سُدوله. فعلتُ كلَّ ما يفعلونَ ولم يضع مَنْ يلهو بالساعات ويطعمُ العقاربَ سُكَّرَ الغَفلةِ شيئاً في يدي. ابتلعتُ مرةً مئةَ حَبةِ مُنوِّمٍ أكلتُ حتى بشمتُ من عنب الأفعى طرحتُ طولي كلَّه علي سكةِ المترو وحزّه الهديرُ من الوريد إلي الوريد سدَّدتُ قبضتي إلي قلبي المعلقِ بخيطٍ في فراغِ الجوفِ ورحتُ أشبُّ بكلِّ قواي لكنَّ شيئاً لم يسقطْ من الغصن المنحني علي طرف النَّهار، الأوراقُ وحدُها اصْــفرتْ وتحنَّطتْ في خريف الأملِ الطويل.
II
ولما تعبتُ من جَرْجَرةِ نَفْسي بينكم نمتُ فرأيتُ عابراً مائلاً يشبهُني يغذُ الخطي في أصيلٍ بطيء. حاولتُ أن أتبينَ وجهَهَ فلم أستطع فكلما فعلتُ جعلتُ أغوصُ في عهنٍ منفوش سمعتُ همهماتٍ ووقعَ خطي تتراجعُ وغامتِ الدنيا في وجهي وراحتْ تطفئ مشاعلَ فوق قلاعٍ غامضة وترفعُ دلاءً من آبارٍ غاضت مياهُها؛ أسمعُ صريرَ بكراتٍ وحبالاً تُسْحَبُ وطرطقةَ دلاءٍ فارغةٍ جلبةً خطي نداءاتٍ تتـ لا شي. يبدو أنني متُّ وإلاّ كيفَ أري من وراء جفنيَّ المخيطين ولا أحركُ ساكناً في جبل القطنِ الذي انزلقتُ إليه. فمي ناشفٌ تماماً وحلقي حُقّ فلينٍ وما خلتُه صوتي كان صديً يتردَّدُ في مجري جافٍ فما حاجتي، علي كل حالٍ، للكلامِ في حِمي أبويَّ. حَسْبي أن أنفضَ يديَّ مما كرهتُ فأفسدَ دمي أو مما دببتُ علي أربعٍ كُرمي له.
فليضعْ من يلهو بالساعات ويربّي العقاربَ تحت بروجٍ مشيّدةٍ أكبرَ عقاربِه في جفنةٍ العنبِ فالرِّيحُ تجمَّدتْ في قصبة الناي والريشةُ التي ظلَّتْ تسقطُ من طائر الأجلِ وصلتْ فشكراً لكم إذ أرسلتموني ببزتي المقلّمةِ وقميصي الليلكي إلي أبويَّ فقد كدتُ من فرط تأثري أن أشدَّ علي أيديكم لولا أنني لا أعرفُ كيف تكونُ ملامسةُ أيدي الميتين.
III
عارياً خرجتُ وبأفضلِ كسوةٍ عندي أعودُ. أمي الرَّهينةُ نوِلِها تنتظرُ فالأمهاتُ يحكْنَ انتظاراً لا مثيِل لأقطانه وأبي لاعبُ الأكروباتِ الفاشلُ يؤرْجحُ السرطانَ، برهبةٍ، علي أمتن حباله الصوتية. أيامي نفدت في مدينةٍ يتناسلُ أهلُها في حاضناتِ البرقِ ويتغذونَ بالوشائع
أحببتُ وخرجتُ من الجهة الأخرى بأكثرَ من ضلعٍ ناقصٍ فالحبُّ ليس أقصرَ مخلباً من الأمل.
لم يبق حاجزُ مترو لم أقفز عنه ولا شارعٌ إلاّ تَخزَّنَ في ذاكرةِ قدميَّ كتبتُ قصصاً عن الحبِ والجنونِ لم تعجبْ أصدقائي المُتَطـلِّبين؟ فلم أكن مهتماً بالصنيعِ بل بتصنيفِ مراتبِ الخديعة.
ليس لديَّ ما أفعلُهُ هنا ولا في أي مكانٍ آخرَ لذلك أتركُ لكم كتبي وحرائقَ الحصادِ في اللوحات المعلقةِ علي جدرانِ غرفتي والأيامَ الموعودةَ التي لم تأتِ فأعطوها لعابرٍ مائلٍ بين ليلتين بلا نجوم. الخريفُ فصلٌ مثالي لتوديع باريس زهرُ النَّردِ يتساقطُ، بغزارةٍ، علي مربعات الّصدفةِ. السائرونَ نياما يعودونَ الى مضاجعهم الجبابرةُ يتحَّررونَ من صريفِ أسنانهم شَمسُ المصلِ تغمرُ مستشفي كوشان وفي الخارج أصدقاءٌ مجازيون يُدخنونَ في ضجرٍ لا تخفيه وجوهُهُم المقطبةُ أو ينكثونَ الأرض برؤوسِ أقدامهم.
هناك ذئابٌ لا تُري بالعين المجردة تُقعي صامتةً في العطفات والنواصي وهناك من يسمعُ ما لا تسمعون.
غير أنَّ الحياةَ سرْجَ الأملِ الرَّخوِ علي ظهر حصانٍ جامحٍ تستمريءُ وعودَها تأخذُ وتُعطي من ُغلّةِ الريح.
لندن ـ شتاء عام 1995
إشارة: يوظف هذا النص شذرات من ريلكه، دانتي، سفر أيوب
************
صداقة الشعراء
I
لم يعد من يراني يسألُني عنكَ ولا من يراك يسألُك عني وإن حصل فإننا نجيبُ بغمغمةٍ لا كما كنا نصهلُ من قبلُ.
يبدو أننا فجأةً كبرنا اجتزنا الأربعينَ التي لا يبلغُها إلاّ الذين لم يبددوا طاقةَ الخيانةِ علي العابرين فالشعراءُ الذين يطعمونَ تنينَ الصداقةِ لحمَ أكتافهم يموتون، عادةً، قريباً من قصائدهم الأولي.
II
كنت تركضُ بقصائدي بسرعةِ عداءِ المسافاتِ القصيرة وأركضُ بقصائدك لأسبقَكَ عند خطِ النهايةِ ولم نكن نتوانى عن تسديد اللكماتِ لمن تسوِّلُ له نفسُه انتقادَ قصائدِ الغائبِ منا. الآنَ أفكِّرُ أمطُ شفتَّي أجيبُ بحياد الكلمات التي جفَّ نُسْغُها عن مستواك الشعري محاولاً أن لا يبدو تبرمي واضحاً من بقائِكَ علي قيد الكتابة وكذلك، أغلبَ الظنِ، تفعلُ.
III
أين رنَّةُ النحاسِ التي كانت تميّزُ صوتينا عندما تتحدثُ عني وأتحدثُ عنك؟ أين تلك القبضاتِ التي كنا نَهِزُّها في وجه منتقدينا الذين لا ريب أنهم تكاثروا الآن في المقاهي؟ أيننا نحن اللذان عندما الآخرون كانوا يرونَ الواحدَ منا يظنونَه اثنين؟
IV
الشابان اللذان التقيا تحت بروقِ الوعودِ في ليلٍ عربيٍ يسترُ حياةً تمشي الى الأمام ورأسُها الى الخلف أحدُهما يكتبُ قصيدةَ نثرٍ رعويةٍ والآخرُ قصيدةَ تفعيلةٍ تسحبُ نفسَها من دبقِ الغنائيةِ، يتمددانِ الآنَ جنبا إلي جنب في تربةِ الصداقةِ الخضراءِ ويقرآن لبعضهما البعض قصائدَ لا تقبلُ بأقلَّ من تغيير العالم.
لندن ـ ربيع 9991
***********
السبعة جسور
إلي أخي أحمد عندما كنا نقفُ علي السبعة جسور وننظرُ إلي القاع المـُحصِب للوادي الذي لا اسمَ له (حيثُ لا ماء لا اسمٌ) ما كنا نعرف أن الأيام ستوصلـُنا ذاتَ يومٍ أنا إلي جسر لندن وأنت إلي جسر بروكلين .
لم يكن أحدٌ ممن عرف السبعةَ جسور ، أعجوبة الزرقاء المعلقةَ في إهليلج الغبار، يسمعُ بهذين الجسرين ولا يظنُ أن هناك جسوراً أكثرَ رهبةً من هذا الجسر ذي الأفواه السبعة الذي بناه العثمانيون في آخر نفسٍ من إمبراطوريتهم الإنكشارية لتمر عليه سكة حديد الحجاز.
الرياحُ تسنُّ تَحْتَه زَعانِفَها الجوارحُ تبني أعشاشَها في شقوقه وفتحاته النساءُ يربطن لأزواجهن بأحجاره الليل ينتدبه حارساً مثالياً لظلمته.
تَذْكُرُ كنا نرمي فلساً فيصدأُ قبلَ أن يصل إلي الأرض قميصاً فتمزقُه الريحُ غصناً أخضر فيصيرُ عرجوناً.
ولكن في بلدٍ باردٍ وبعيدٍ يدعي إنكلترا يتضرعُ إلي إله الأمطارِ كي يرفعَ كفّيه قليلاً كان هناك جسرٌ سيخلدُه شاعرٌ إنكليزيٌ من أصلٍ أمريكيٍ يدعي إليوت يربطُ بين ضفتي لندن الموحلتين يعبرُه المسرنمون إلي قلعة المال أو يرمي المنتحرون من فوقه أنفسَهم ، وفي الضفة الأخرى للأطلسي التي لم تنفع في التكهن بها فراستُنا البدويةُ كان هناك أيضاً جسرٌ أدهي يدعي بروكلين تمُر عليه قبائلُ الأردنِّ كلُّها ولا تهتزُ فيه عزقة ٌ.
السبعة جسور التي هددني والدي (بحضوركَ، ربما) أن يلقيني منها إن لم أتوقف عن التدخين، السطوِ علي البساتين المجاورة، التحرشِ بالبنات، دخولِ البيت من الحوش لا من الباب (كانَ قلبي يقعُ ولا يصلُ وأبي يطبقُ علي عنقي بيدهِ الكبيرةِ وهو يريني كم الأرضُ بعيدةٌ) لم تُزَحْزِحَها من ذاكرتي كلُّ الجسورِ التي رأيتُها في حياتي.
ليس العلوُّ ليس القاعُ المحصبُ ليس قبرُ أم يوسف السليم أولُ ميتٍ لنا في الربوة المقابلة بل القذائفُ العثمانيةُ الثلاثُ التي عثرتُ عليها مع عصبةِ جناعة وكانت معبأةً بـ: - قطعٍ من المجيدي حسبَ زعمي - بارودٍ فاسدٍ حسبما أكدت الشرطة.
بعد عِشرين سنة من طيراني الخرافي أمام أعينٍ تصطادُ الذبابَ الأزرقَ جلستُ علي حافّةِ السبعة جسور فخفتُ أن أدلِّي قدميَّ فتفضحا المسافةَ بين ذاكرتي والأرض.
لندن ـ ربيع 2001
***********
قمصان واسعة
إلى خيري منصور
قال لي صديقٌ متهتكٌ ذاتَ صيفٍ بيروتيٍ واسعِ القمصان ينغلُ بغبار الطلعِ الشبقيِّ أن النساءَ نوعان ولم يعرف في حياتهِ كذئبٍ ثالثاً لهما. فهناك (والتشبهاتُ له) المكتفيةُ بقرينها أياً كان شكلَهُ، حظوظَهُ من الدنيا أو الأرضُ التي يبلغُها محراثُه وهذه تعرفها من عينيها الراكزتين، من يديها اللتين لا ترسلان إشارةً ولا تِنتظران، بمنديلٍ علي الرأس بميني جيبٍ ببنطولِ جينزٍ ضيقٍ ما همّ فلا تضيعُ وقتَك معها. وهناك من تشبُه نعجةً حائلاً في حقل قمحٍ جزَّه حصَّادون مبتدئون تبحثُ بأحشائها العطشى عن ارتواء ولن تعرفها من عينيها الفارغتين من فمها المتحلّب من اقتراحات يديها بل من رائحةِ المادةِ التي لا يشمُّها إلاّ كبشُ الِهَدادِہ. ................................................. وهذه، أيضا، لا تضيعُ وقتكَ معها.
ہكبشُ الِهَدادِ هو الكبشُ المخصص للتلقيحِ والنط.
لندن - شباط 2001
*****************
قناع كفافي
كشاعره الشابِ، الذي ظنَّ أن درجةً واحدةً في سُلمِ الشِّعرِ الطويلِ ليست شيئاً ذا بال، زرتُ يوماً بيتَ كفافي. إسكندريةُ الشّاعرِ ذي القناع الهليني الماكرِ تحيا، فقط، في القصائد، أما الشمعةُ الإضافيةُ التي كانت تضيءُ وجهَ الجمالِ الفتيِّ وجذعَه المستقيمَ في صالة المنزل الوثني فظلت تتراقصُ في كتابٍ قرأتُه تواً. سريعاً، مثل مروري بالمعاني (لا بالصور) ألقيتُ نظرةً علي أنحائه الثلاثة: الحانةِ التي تُسكرُ، الكنسيةِ التي تصفحُ، المستشفي حيث يموتُ ولم أرَ سوي الأمثالِ تلغو بالعِبَرِ. مشيتُ شارعاً، شارعينِ، فكّرتُ بسطوةِ الحبِّ علي قلبِ أنطونيو وبأهواء كليوباترا المتلاعبة بالرّماح والرؤوس. أكلتُ سمكاً عند عجوزٍ إسكندرانيٍّ يدعي قدورة وحبستُ، حَسبَ تعبيرِ المصريينَ، علي اللذة الدنيا، شاياً غامقاً كالحبر. تخيلتُ كفافي، حينها، أنا الفتي الذي ما حَسِبَ يوماً أن سلحفاةِ الأيامِ ستجتازُ خطوهَ المُجَنحَ، عجوزاً دردبيساً يقف عنيداً عند زاوية منحرفة عن الكون قليلا . مبكراً، ومرتحلاً من مدينة إلي أخري، طاردتني قصيدتُه المدينة كنبوءةٍ أشدَّ شؤماً من نبوءة أمي عن نفسي التي لن تعرفَ الراحةَ مهما طالَ الزمانُ وتبدلت الأمكنة. ........................ ثم نَسِيتُ كفافي، نَسِيتُ بيتَه، نَسِيتُ نبوءةَ أمي، نَسِيتُ قدورة (ما نَسِيتُ سمكَه!)، لكنَّ أزميلا خفياً، تحت جُنح النسيانِ (.. الذي هو العمرُ نفسُه) ظلَّ يَنْقُبُ، بضرباتٍ صغيرةٍ منتظمةٍ، قلعتي من الداخل والخارج. ودونما سببٍ يُذكرُ عدتُ لقراءة كفافي ثانيةً فتذكّرتُ بيتَه، رقصةَ الشمعةِ الإضافيةِ، بقايا العز القديم لمدينة الإسكندر الكوزموبوليتيه، وفهمتُ ما لم يقيض لي فَهمه من قبلُ، زهوَ شبانِ قصائدِه، بأجسادٍ ترشقُ الليلَ بشررٍ من نحاسٍ، وكآبةَ عجائزه تحت جلودٍ أكلَ الدهرُ عليها وشرب. تراءي لي الخواجةُ اليونانيُّ، ملاحظُ القنواتِ والسدودِ، يقتفي، متنكراً، أزياءَ مصريةً يَنْفُرُ منها نهاراً ويتمرّغُ برائحةِ ذكورتِها الحرّيفةِ ليلاً. يتوسلُ، بعربيةٍ مُضحكةٍ، لحوذيٍ، قهوجيًّ، إبنِ ليلٍ زنيمٍ أن يطفئ ضِرامَ شهوتِهِ المنْحرفةِ (مثل وقفتِه) التي تقودُه، مُسرنماً، إلي الحضيض. .......
إنه الليلُ يا كفافي. الليلُ. حيثُ تهتكُ بروقُ اللذةِ الموعودةِ قناعَ النَّهارِ الرصين. ستقولُ لنفسِك هذي آخرُ ليلةٍ، آخرُ زردةٍ في القيد وانتزعُ بيدي قلبَ هذا الليلَ الذي يأخذُني بالتلابيب، سيكون هناك طريقٌ آخرُ، حياةٌ أخري.
ولكنك لن تفعل. فليلةً بعد ليلةٍ ستمشي الخطي ذاتَها في الأحياء نفسِها مأخوذاً بالتلابيب. فلا مفرٌّ ولا طريقٌ.
إنه الليلُ. عطرُ الإثم، كاليبسو الباحثين عن أي دربٍ، أي شراعٍ إلي البيت. الأشباحُ تتراقصُ في الظلمة، أبواقٌ وكونترباصاتٌ تستدّرجُ رغباتٍ كلما رميتَ لها بضعةً من لحمك فغرتْ شِدقَها من جديد.
إنه الليلُ. سيجدُ إليك طريقاً أنّي كنت فتأهبْ كي تقولَ له وداعاً مثلما قال انطونيو، بلوعةٍ، وداعاً للإسكندرية.
****************
ماذا في القُبلة؟
لشدَّ ما حيَّره الموقعُ الإنطولوجيُّ للقُبلةِ في الحبِّ، أو ما يتصورُه حبَّاً. مرةً قالتْ له بائعةُ هوي وهي تعدّدُ ثَمَنَ كلِّ فعلٍ يقومُ به معها (منفصلةً تماماً عن جسدِها أثناء شرحِ شُروطِ التعاقدِ.. والممارسةِ أيضاً) إنَّ لكلِّ شيءٍ ثمنَه.. وكلُّ شيءٍ ممكنٍ.. إلا القُبلةُ! امرأةٌ مطلّقةٌ يعرفُها قبلَ الزواجِ وبعدِه تركتْ، في لحظةِ انسجامٍ كاملٍ، يدَه تصولُ وتجولُ في أنحائها البهيّةِ وشفتيه تطْبعانِ قُبلاً مُذَنَّبةً على نحرِ الصدرِ، العُنقِ، الخدينِ، ولما اقتربتا من الفمِ أدارتْ له خدَها. استغربَ، طبعاً، هذا التمنعَ المفاجئ بعدَ أنْ قامَ بكلِّ ما يلزمُ للوصولِ الشفتين فقالتْ له: لستُ جاهزةً لتسليم مفتاحي! لكنَّ الأغربَ من هذه وتلك الفتاةُ التي بالكاد يعرفُها ولم يكنْ في ذهنه لما دعاها إلي كأسٍ غيرُ تزجيةِ وقتٍ مرحٍ معاً. الكؤوسُ المتلاحقةُ التي تجرعاها تحتَ قصفٍ مُتصلٍ من الضحكِ والهذرِ أدتْ إلي تلامس الأيدي، السيقانِ، تقاطعِ الأنفاسِ، فعزّزَ الإحتكاكَ بلمساتٍ اختباريةٍ للكتفِ، لوحِ الظَهرِ، تجويفِ الخصرِ أرادها عارضةً، كهذا اللقاءِ نفسِه، فتحولتْ، لدهشتهِ، ضماً وتقبيلاً علي الفم، وراحَ اللسانانِ يفتحانِ محاراً في الفمِ ويُقطّرانِ عنّاباً علي الشفاه.. وإذ حاولَ الإنتقالَ، سُفلاً، إلي الخطوةِ الأخرى أمسكتْ يدَه. لدهشته أيضاً، بل لإحباطه، قالتْ له، بامتلاءٍ داخليٍّ لم يبلغْه: هذا يكفي! لا بدَّ أنه احتارَ، لاحقاً، تحتَ أيِّ نجمٍ ماكرٍ يُصّنفُ أحوالَ القُبلةِ المُتَقلِّبة.
القُبلةُ..
القُبلةُ..
ماذا في القُبْلةِ؟
*************
حديث عادي عن السرطان
إلى صالح العزاز
I
كلما تذكرنا صديقاً راحلاً لاحظنا أنه أصيب به. أتري؟ لا أحدٌ يموتُ في محيطنا هذه الأيام بغير السرطان، إنه طاعونُ العصر وسيفُه الحاصدُ. قلتُ هذا للصديق الذي أخبرني عن صديقٍ آخرَ تسللَ إليه السرطانُ وهو يفكرُ بمنظورٍ أهلي للصحراء. قال إن صديقنَا المشتركَ شعرَ فجأةً بصداعٍ غيرِ عاديٍ فأخذوه إلي المستشفي فوجدوا الورمَ الخبيثَ متمكناً من الدماغ فاستأصلوه، ثم أخضعوه للعلاج الكيماوي الذي حَتَّ شَعْرَ رأسه ورموشَه وحاجبيه حتى صار له وجهُ طفلٍ رضيعٍ معتلٍ، ثم مات صامتاً، محدقاً بمن حوله بذهولٍ غيرِ مصدقٍ أن الأمر كلَه بدأ بصداعٍ زائدٍ عن الحد قليلاً. صَمَتَ ثم قال: أتدري أن أخي الأكبرَ ماتَ بالسرطان في الأربعين من العمر؟ فأخبرتُه أن أمي أيضاً، باغتها السرطانُ مرتين، الأولي في حدود الخمسين فأمهلها عشرَ سنين ثم صارعته في الثانية سبعةَ أشهرٍ من دون أملٍ يذكرُ، والمشكلةُ أنني قرأتُ لا أدري أين أن الإنسانَ يموتُ كما يموتُ أهلهُ. تهيأ لي أنه تَحَسَّسَ رأسهَ فقلتٌ له بما أنك تجاوزت الأربعين فمن الجائزِ أن لا تنطبقَ عليك القاعدةَ، أما أنا فالاحتمالُ ما يزال يُدوّزنُ أوتاره الرهيبة أمامي. سألني كيف أحبُ أن أموت. فقلتُ له: بالقلب، وأنا نائمٌ علي سريري وفي الصباح يجدونني ميتاً. فوافقني الرأيَ قائلاً إن السكتةَ القلبيةَ هي، علي ما يبدو، الطريقُ الأقصرُ والأقلُ ألماً للموت، فليست لدي شجاعةُ أخي الذي رفضَ العلاجَ الكيماويَ وظل بكامل شعره يدخنُ إلي أن لفظَ أنفاسَه الأخيرة. صَمَتَ فترةً أطول ثم قال: هل أنت متأكدٌ أن الإنسانَ يموتُ كما يموتُ أهلُهُ؟ فقلتُ: لا أدري!
II
لست متأكداً أيضاً أن الشعراءَ قادرون علي التنبوء بموتهم رغم أن سيزار فاليخو ماتَ في باريسَ وفي يومٍ ماطرٍ، تماماً، كما تنبأ بقصيدته حجرٌ أبيضُ علي حجرٍ أسودَ ، وأنا أتوقعُ في هذه القصيدةَ التي أكتبُها الآن أن أموت بلندنَ في يومٍ ماًطرٍ(يومٍ ماطرٍ في لندن؟ يا لها من نبوءة!) موصياً، منذ اللحظةَ، أن أدفنَ بالمفرق قربَ أمي التي ماتتً وهي مقتنعةٌ أنه لن يضمَنا حيزٌ ذات يوم. فالجميع يعلمُ أنها ستذهبُ إلي الجنة التي لن تطأها قدماي!
لندن خريف 2001
إشارات: صالح العزاز صحافي ومصور فوتوغرافي سعودي. سيزار فاليخو شاعر بيروفي كبير تنبأ بموته.
******
البيتُ بعدَها
لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي. فأخواتي الأربعُ، صورُها الجانبيةُ شابةً، يواصلنَ رفعَ النَّهارِ علي أثافيه الثلاثِ: الهالُ صباحاً، الكُرْكُمُ ظُهراً، النعْناعُ مساءً. ففي بيت أهلي لا حاجةَ بكَ إلي ساعةِ يدٍ أو حائطٍ يكفي أن تشمَّ الرائحةَ لتعرِفَ موقعَ الشَّمسِ في السّمتِ. لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي. فأيدي أخواتي منهمكةٌ في ترتيبِ غرفٍ غادرَها أشقاؤهن الخمسةُ إلي بيوت أخري لن يعرفوا فيها الراحةَ رُغم أنهم لم يعودوا ينامون علي فرشاتِ الليفِ الممدودةِ علي الأرضِ ولا يرتجفونَ أمام شاي الصباحِ وخبزهِ كالمدمنين. لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي. حتى أننا كلما رأينا كوثرَ، كبري أخواتي، عاكفةً علي ضبطِ توازنِ الملْحِ في القمْحِ، ظننا أن أمي لم تبرحِ البيتَ الذي بنته لهفةً لهفةً بكفنٍ أبيضَ وجسدٍ أكلَه السّرطانُ قطعةً قطعةً إلي مقبرةٍ ستضمُ أولَ ميتٍ في العائلة.
لم يتغير شيءٌ يُذكَرُ في البيتِ بعد وفاةِ أمي. النَّهارُ بخطوطِ عرضهِ الثلاثةِ الغرفُ المرتبةُ تنتظرُ أولادَها الغائبينَ المارثونُ الأبديُّ لأبي بين إبريقِ الوضوءِ والجامعِ. الحنينُ الذي لا يكلُّ لأيامِ الفاقةِ السعيدة.
كلُّ شيءٍ علي حالهِ. إلا تلك اليدَ التي يخضرُّ لها التراب.
لندن 9/2002
******
وجهُ شبه
تحتَ وطأةِ حرًّ فظيعٍ كنتُ أكرعُ كوباً من البيرة الباردة عندما سمعتُ شخصاً ينفثُ دخانَ سجائرِه بصوتٍ مسموعٍ ويضربُ بقبضتهِ الطاولةَ بين فينةٍ وأخري يقولُ لصاحبِه إن النساءَ اللاتي تعلّقَ بهن، في بحثهِ المضني عن الحبِّ، هن اللواتي رَفضْنَه أو تمنعْن َعليه، وذكرَ امرأتين أو ثلاثاً. الأولي ابنةُ الجيرانِ التي فضّلتْ عليه، رُغم استعدادِه قطعَ شرايينه من أجلها، فراناً شاباً مفتولَ العضلاتِ له غُرّةٌ علي شكلِ عرفِ الديك، وتلك لم ينسها قطُ مع أنه رآها مراتٍ بكتفينِ مهيضتينِ تجرُّ وراءَها جيشاً من الأطفال المتقافزينَ حولها كالصيصان (لا بد أنهم من صلبِ ذلك الفرانِ اللعين) أما الثانيةُ فهي التي تركتْ طعماً مراً، طعماً لم يتزحزح من حلقهِ، بعد حلاوةِ قبلةٍ لم يعد واثقاً، الآن، من حصولها. فكيف حدثَ ما حدثَ ورِغابُ الفمِ المشتهي ما زال يبللُ شفيه؟
النبرةُ التي نطقَ بها الشخصُ كلماتِه الأخيرةَ دقتْ جرساً في أعماقي فاستدارتْ أذناي واتسعتا كصحنين لاقطين.
كانت مضيفةَ طيرانٍ علي خطوطٍ أجنبيةٍ تعرَّفَها في هذا البار وكان بمعيته صديقٌ آخرُ، ألعبانٌ أشدُّ مكراً منه، ليته لم يَعْرِفْه أو لم يكن معه في ذلك الموعدِ المرقونِ في لوح القدر...
لم أعد اهتمُ بالحكايةِ التي حزرتُ نهايتَها. لكنَّ الصوتَ هو الذي نحتني في مقعدي تمثالاً بوجهين ، إنه الصوتُ نفسُهُ بل النبرةُ الطافحةُ بالأسى ما غيرُها وقبضةُ اليدِ ذاتِها التي تهوي بانفعالٍ علي الطاولةِ والقصصُ إياها التي تتركُ طعماً مراً في الحلق.
خفتُ أن أتلفّتْ ورائي فأراني.
لندن 10-2002
**************
حذاءُ سندريلا
(إنطلاقا من لوحة ليوسف عبدلكي)
حتى الرسام الذي رآها معلقةً علي أحدِ جدران مكتبي ظنَّ أنها صورةً فوتوغرافيةً وليست رسماً بأكثر الموادِ خشونةً. أعرفُ أنَّ هذا أسوأ إطراءٍ للوحةٍ، لكنَّ فردةَ الحذاءِ النسائيِّ السوداء ذات الرباط الجلدي الملتفِّ علي الكاحل الغائب كأفعى صغيرةٍ، كانت في أهبةِ الطيران بأكثرِ الأقدامِ خفّةً علي الأرض. أعترفُ أنني لم أنصفك أيّها الفنان، فكلما نظرتُ إلي هذه اللوحة نَسِيتُ ضرباتِ ريشتِكَ وفكّرتُ بصاحبةِ الحذاءِ الذي لم أرَ قدمَ امرأةٍ تخفقُ به من قبلُ. تصورتُها راقصةَ باليه، عازفةَ كمانٍ، أو شاعرةَ تفعيلةٍ لا قصيدةَِ نثر . فثمة إيقاعٌ مشحونٌ تركته وراءها قصيدة غنائية مشبوبة. ثمة مسحةٌ صنميةٌ ، أيضاً، ذكّرتني برغبة غوته أن ترتدي حبيبتَه في لقائهما القادمِ حذاءَها الأصفر. ولكن لماذا راقصة باليه، عازفة كمانٍ، أو شاعرة، وليست سندريلا صاحبة هذا الحذاء المحسود؟
لندن حزيران 2003
*************
رُقم طينية
(إلي ليلى الشماع)
رأيتُها أولَ مرةٍ في ساحةٍ شعبيةٍ بعمانَ حيثُ تختلطُ أصواتُ معاوني سائقي الحافلاتِ بباعةِ اليانصيب بدمدمةِ الأرواحِ الغابرةِ في المدرّجِ الروماني. كانت العاصفةُ الأطلسيةُ التي ارتدتْ براقعَ الصّحراءِ أنشبت زعانفَها في أرضِ السوادينِ فتدفّقَ عراقيونَ وعراقياتٌ لم يغادروا مدنَهم ودساكرَهم البابليةَ من قبلُ. لم يأبه أحدٌ بهذه الرُقمِ الطينيةِ التي تحملُ إشاراتٍ لا تعني شيئاً لمن يراهنُ علي ثروةٍ سريعةٍ من ورقةِ اليانصيبِ ولا لفاتحةِ البختِ التي ترمي خرزاً وقواقعَ علي خطوطِ الطوالعِ الجانحةِ في الرّمل. يمكن أن تشتريها بدينارٍ أو تبادلَها بساندويتش شاورما وزجاجةِ كازوزٍ باردة. غير أن لهذه الكسرِ الطينيةِ التي تُقلّبُها، بأيدٍ مفلطحة، نسوةٌ متشحاتٌ بالسواد وموشوماتٌ من أعلي الجبين إلي أسفلِ الذقنِ قوةَ تهديدٍ كامنة. تمليّتُ أحدَها ملياً، قلّبتُه، قرّبتُه من أنفي، مثلما تفعلُ، لسببٍ أجهلُه، النسوةُ المتشحاتُ بالسواد، فصار يزدادُ ثقلاً في يدي وتنبعثُ منه رائحةُ طميٍ وجعلتُ أري صوراً وأسمعُ أصوات لم آلفها قبلاً. رأيتُ آلهةً وملوكاً بذقونٍ مدببةٍ، نموراً وأسوداً تزأرُ في أقفاصٍ من الذهبِ الخالصِ، أسري يَرسفونَ بالحديد، عازفينَ يُدمونَ أصابعَهم علي أوتارٍ رفيعةٍ. رأيتُ بوابةً من الآجرّ المُزجْجِ يطبعُها اللونُ الأزرقُ ( لم أعرف إن كان لونَ سماءٍ أم تَنَهُدةَ بنتٍ) سأراها ثانيةً وألمسَها بيدي بعد أكثرَ من عشرِِ سنينَ في متحف بيرغامون في برلين. هاتفٌ قال لي: إرم هذا الرقيمَ. إرمه. ليس باليد التي سيأكلُها الدودُ تحملُ عبءَ الأبد.
لندن نيسان 2003
**********
هارولد بنتر في الهايد بارك
لم أره عن قربٍ. بيننا موجةٌ بشريةٌ تُرغي ببيارقَ ثوراتٍ مجهضةٍ ودُمي لمشعليِّ الحرائق في شرقٍ سيظلُ، حسبَ رؤيا كابلنغ، شرقاً إلي الأبد، يسيلُ من أنيابِها دمٌ، ولكنني رأيتُ وجهَه السبعينيَّ المُخْدَدَ علي الشاشةِ الكبيرةِ في الهزيع الأخير للنخيل وسمعتُ صوتَه الذي لم ينلْ منه السّرطانُ يطفو فوق الجموعِ كرفيفِ جناحيِّ طائرِ الرُخّ . أبطالُه المسرحيونَ مُحْتَشِدونَ فيه، باغترابِهم بغضبِهم بعزلتِهم بعجزهم عن فَهمِ ضراوةِ ما يجري حولَهم. َتحَدَثَ عن حربٍ علي بلدٍ مارقٍ وعن برابرةٍ قادمينَ من وراءِ البحارِ، لا يشبهونَ برابرةَ كفافي المرحينَ يسلِّكون أسنانهم بالليزرِ، سمي بلاداً تدعي أمريكا لها شدقٌ كبيرٌ ومعدةٌ نهمةٌ لا يكفان عن الإلتهامِ، وسميّ رجلينِ يسوقانِ الجنودَ إلي جبهةٍ غامضةٍ كخراف الأضاحي أحدهُما يشبُه السيدَ بونتيلا والثاني يشبُه تابعَه ماتي.
لندن شباط 2003
*********
سكة العاشقين
1
وراءَ مريولِ سحر المقلَّمِ وشَعرِها الأشقرِ المتوهجِ تحتَ شمسٍ
تطبخ الرؤوسَ أمشي بخطي مدروسةٍ بالمنقلِ والفرجار. المسافةُ بين خطوينا المرتبكينِ أمامَ محالَّ يَغُطُ أصحابُها في قيلولةٍ قاهرةٍ فيما صبيانُهم يكْرعونَ المرطباتِ خلسةً، ضروريةٌ لدرءِ شهامةِ العابرين. لفتاتُها للوراءِ المحسوبةِ بالضلعِ والنبضةِ، والأغنيةُ التي تنبعثُ من جانبيّ الطريقِ تكفيان كي أمشي وراءَ مريولِها الُمقلّمِ وشَعرِِها الأشقر إلي الأبد. لفتاتٌ لهفي تخشي افترارِ همةِ العاشقِ أو عدمَ وصولِ الرسالة: أنتَ نعم أنتَ لا أحدٌ سواك! وأغنيةٌ مغناةٌ لنا وحدَنا في فراغِ الدنيا العظيمِ تندبُ مصائرَ العشقِ رُغمَ أنني لم أجرحْ قلباً ولا هجرتُ بلداً بعدُ علي ما هو حالُ حبيبِ المغنيةِ الخؤون.
11
بعد سنينَ لم أعدْ أحصي تَكَسّرَ نصالِها وضعتُ شريطاً في مسجلِ سيارتي علي الطريقِ السريعةِ من غرب لندنَ إلي وسَطِها (لا أدري بأيّ معجزةٍ نجا من تنقّلِ المنازلِ والقلوب) فانسابَ الصوتُ : رندا فون تقدم صوتَ القلوبِ الهامسة صوتَ السحر: نجاة، وكرَّ شريطٌ آخرُ مثقلٌ بالخدوشِ إلي الوراء.
................ ................ في السنة التاليةِ ارتدتْ سحر مريولاً أطول. شَعرُها الأشقرُ خفَّ تَوَهجُهُ تحتَ شمسٍ تواصلُ طبخَ الرؤوسِ المسافةُ بين خطوينا تقلّصتْ حتى صرتُ أسمعُ نبضَها المتسارعَ لكن النظراتِ أخذتْ تنحرفُ عن الهدفِ قليلاً لم تعدْ تؤكدُ بلهفةٍ: أنتَ نعم أنتَ لا أحدٌ سواك! ............ في الإجازةِ الصيفيةِ علمتُ من كاتمةِ أسرارِها أنها تزوجتْ جندياً قريباً لها ورحلتْ معه إلي معان . غير أن الأغنيةَ التي كانت تنبعثُ من صناديقَ عظميةٍ مُجللةٍ بالأقمشةِ وتعاويذَ عينِ الحسودِ علي طولِ شارع السعادة ظلتْ تندبُ مصائرَ العشقِ والحبيبِ جارحِ القلوبِ الخؤون. من معسكر الزرقاء إلي قصر شبيب وبالعكس، الأغنيةُ التي تدندنُ لي وحديَ، الآنَ، تهوّنُ عليّ الطريق: طويلة طويلة يا سكة العاشقين.
لندن صيف 2003
| |
| | | | ® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2022-12-23, 3:49 am | | مديح لمقهى آخر :
مقهى آخر
بوسعك، أنت الذي لا يكل من الارتهان بوسعك أن ترحل الآن: لا وجهة لا حقائبَ لا ماء في جرة العُمر لا زوجة في الثياب النظيفة لا مطرا في المسالك لا نجمة في الفضاء الذي يكسرُ الظَهر منذ انحسار الرضا صحيح! ولكنه كفن واحد ثم ترتاح! ـ أقمتُ طويلاً؟ ومقهى الجزيرة لم ينحنِ في المساء، علي ركبتيه لم يشته شارعا آخر لم يضق بمساحته وبأخشابه الشتوية، بالزبن الدائمين ولم يرتجل مشهدا للنساء المثيرات في المدن الساحلية لم ينته ضيقا كيديك، ولم ينتشر كالدماء. ـ وماذا تقول؟ ـ أحاول ان أهتدي لصباح يلائم ترنيمتي وهوام الشعاب.
صباح آخر
وكل صباح يفاجئنا باحتمالِ الرحيلِ الى مدن الآخرين، ذاتُ الملامح في وجهه المستطيل البثور الدميمة ـ ما يسميه حب الشباب ـ التعابير والمبسم المتراخي. ـ أترحل؟ ـ هذا الصباح موات؟ ـ اذا شئت كان.. ولكنها نظرة للمدى المتباعد تلك الغيوم البعيدة فوق الشعاب التي لا تُري وأخري لشاي الجزيرة هذي السخونةُ في ملمس الكأس وثالثة للرفاق المحيطين التآلف في لغة اليوم والفهم، يسقط طير الفجيعة في دمه المرتخي ولا يهتدي للبداية.
كلام آخر
لم تكنْ تلك رغبته الوحيدة ولم يكن يحفلُ بالمسرات كثيراً ولكن جسده المحترق بالرغبات والمنطفئ في الإسفلت البارد واصل النشيد المحكوم قبلا بالفجيعة والتشوف. يحاصرنا بالخرائط، بالاحتمال وبالحدقة الفارغة. ويبحث بين الوجوه عن الدهشة المستمرة وبين البلاد عن الوطن المستمر وبين الأصابع عن لسعة الاغتراب وبين الجوارب عن لحم أنثي. وما كان يبحث عن لغة تنشل العمر والشعر غبَّ ابتعاد الخطي والحقائب، ما كان... ما كان... كل بلاد علي بُعد مرمي الحجر والبلاد التي لم تصلها اليدان لم تصلها الحجارة بالناس، منبوذة في مياه الأظافر. أي القصائد لم تبتدئ بالأنا واليباس؟ وأي الرياح التي لا تهبُّ علي غرتي؟ لم تكن رغبة في عبور الضبابات والمطر المتساقط في العين ولكنه الجسد المتواثب يحملني للنشيد أو الانتحار.
تداع أخير
لا فرق بين المعاطف في ثلج جلعاد وبين القميص المشجر بالدم في الأشرفية هذي البثور الدميمة في وجهك المستطيل ومقهى الجزيرة في جادة الملك فيصل والله في أهبة للرحيل، ولا زوجة في ثيابك،
لا نجمة في السماء التي تكسر الظهر منذ انحسار الرضا.
بيروت نهاية/1978
*************
مديح لمقهى آخر:
لن تجد أرضين جديدة، ولا بحارا أخرى فالمدينة ستتبعكَ وستطوف في الطرقات ذاتها، وتهرم في الأحياء نفسها وتشيبّ، أخيرا، في البيوت نفسها. ستؤدي بك السبل، دائماً، الى هذه المدينة فلا تأملن في فرار إذ ليس لك من سفينة ولا من طريق. وكما خربت حياتك هنا في هذه الزاوية الصغيرة فهي خراب أن ذهبت.
قسطنطين كفافيس ترجمة: سعدي يوسف
أبواب للسماء ولكنها.. ضيقة
I
لن اغتصب ملامحي بدعوي التفاؤل ولكني سأنشر ألواح صدري للطيور القادمة من البحر أو الصحراء، وأنفثُ حزمة من الدخان الحي، وأهدأ.
II
أرعن كان القلبُ، صبياً طائشَ الشعر، يعثرُ في غصون الليل المتهالكة والمدينة لم تتحول بعد الى حصان خاسر. عادة يطلقون الرصاص الحار بين عيني الحصان الخاسر، لم تطاوعني أصابعي المتشنجة، الممسكة بشبكة من الفراغ أو بقبر خال من الجثة. تلمست كفاً من الحديد المطاوع، لم أطلق النار، فالمدينة لما تزل غارقة في الصهيل.
III
أين تذهب الأحزان والسجائر، إذا ارتحلت المقاهي الى غير عودة: الشعراء الصغار والرغوة، والنقد غير الموضوعي،
والقصص التي تصلح للخواطر والبؤس ايضا! أين تؤسس مملكتك الوهمية أيها الحلم.
.............. ..............
ان المقاهي أكثر رسوخا من الأظافر، فما الضير في ذلك؟
IV
القلبُ وهو مُضغة من الإسفنج النادرِ لا يملك اتقاء العثرات القادمة من كل صوب. والمدينة لم تتحول بعد الى سيف مرهف والشقاء أوسع أبواب السماء الضيقة.
V
لن اغتصب ملامحي بدعوي التفاؤل إرضاء للزوجة والجيران السبعة فالحزن، الجواد المرشح للسبق صادفني في الطريقِ ومدّ لي يده الشاحبة المعروفة، فمددت له يدي، وضحكنا معاً: ليل المدينة طويل، بدون تلك الأجرام المضيئة المكونة أصلا من مزاج الفوسفات واللحم الآدمي، والمقاهي برغم كونها سرادق للشعرِ الخائب والنقد غير الموضوعي والسجائر المدخنة أبدا، الا أنها صخور واطئة للطيور القادمة من البحرِ أو من الصحراء.
VI
لعمّان رائحة الجياد والقميص الوحيد المعلق في خزانة الأرملة. لعمان رائحة الأجساد المرهقة. أفكر الآن: هل كان البنك العربي قريباً من ماء السيل قريبا من آخر ليل، أم كان بعيدا عن قلبي (1) ترتعش الأصابع المشيرة نحو الأفق. لا.. كان صيفا لا سبيل الى إطفاء حرائقهِ كان وقتاً مكرسا للانتكاسة.
VII
في المحطة يتشكل المشهدُ: حقائبُ من جلود وأحجام ومحتويات مختلفة، وجوه تتطاولُ وتشرئب، ملامح تأخذ شكل التقلصات الحادة. القطارُ يذهبُ الى الشمال أو الجنوبِ، لا فرق. المصفرات الطويلة تصبح خيطاً رفيعاً متوتراً وينفرط المشهدُ. آه أيتها المدن الأكثر بُعداً من الحلم. لن يصلك الصفير أبداً.
بيروت ـ مطلع 1979
**********
الجبل
I
... فيا سيدي، يا جميل المحيا لك الآن إغماض عينيك بعض من الثلج بعض نبيذ القرى يعيد لك اللون والهدأة الصافية. لك الآن ان تشتهي منزلا في جنوبِ الوطن وتبدأه بالشجر وأنت تحب من الشجر الأرز، فخذ أرزة، فرعها طيب وامض في الأرض، لا تلتفت للوراءِ فما الأرز الا اراغون أطفالنا الميتين.
II
لك الآن بعد ان أدرك البحر، أدركت سهلنا الطبقاتُ العريضةُ أن تهتدي للجبل. فالقصور مطعمة بالذهب والقصور مطعمة بالرصاص والقصور علي غرّة الثلج عارية كالحجارة.
III
لك الآن ان تشرب القهوة الرائقة. وتذكر: كنت تغسل كفيك بالثلج والبندقية في الكتف مائلة والصباح صغير علي المتن حين استدرت الى الخلفِ عانقتها، كالعصافير زرقاء، قبلتها، في الفم المستثير، الفم المشتهي. وثبتّ في مفرق الشعر، فجرا، قرنفلة من دماء الرفاق. تلك كانت تناولك الطلقات، البيان الشيوعي ، تقرأ ايلوار ، كانت تترجمه لغة من تراث البنادق والشعر. تفتح نار المواقع واسعة، فتخبئها بين صدرك والسترة العسكرية كانت تطارد خصلتها بعد ان يرفع القصف كفيهِ لكنها، حين تطبق كل الجهات شجرا ترتديه العساكرُ تبصر رتلا من القبعاتِ وتبصر نهرا من القبعاتِ وتبصر أرضا تحاصرها القبعاتِ.
IV
فيا سيدي، يا جميل المحيا لكَ الآن ان تستعيد السكينة والحلم: ان البلاد التي راودتك فنادقها، مرة في المساء داهمتك مدافعها فجأة في الجبالِ وكانت بلادا تراشق حلم المسافر ِ بالياسمين الدمشقي لا تبتغي ان تسمي الجراح جراحا تقول اصنعوا لغة وجوادا من البرتقال. ولكنها ........ .............. .............. قلنسوة فوق رأس المسافر ترشح منها الطيور الذبيحة.
V
هذي البلاد مزيج من الحزنِ والشجر المتسامق والطبقات الفتية.
بيروت ـ مطلع 1978
***********
صحراء عودة أبو تايه (*)
1
خذوا هذه الأرضَ مني، أيها الرامحونَ إلي الغربِ أقصي النوافذِ في الغربِ، أقصي التلاشي، الجنون ولا تتركوني وحيداً علي حافةِ الأرضِ أرثي بلادي الخراب. خذوا هذه الأرضَ (ما قد تبقّي من الأرضِ) هذي الأخاديدَ والجثثَ المرمريّةَ لا تتركوا ولداً خلفته العشائرُ في قبضة الشِّعرِ سطوَتُه في انتقاء الكلامِ الرضيّ ارتحالاتهُ في غضونِ الشقاءِ، الشقاء الذي لا مثيلَ لأخشابهِ، ولا تتركوني...
أنا ولدٌ خائبٌ في العشيرة والشِّعرِ جئتُ من مضربٍ في شمالِ الرّياح وفي لغتي نبرةٌ كالصهيلِ، كان سوطيَ من جلدِ ثور ٍ أمرُّ به فوقَ ظهرِ اللغاتِ الأنيقةِ والسافلينَ، ولا تتركوني أسمّي المذابحَ من أرضِ جلعادَ حتى قميصي الأخير، أعد انتهاكات لحمي، وأمّي التي فارقتها النبوءاتُ أعد الندوبَ الطويلةَ في وجهِ، وضحةَ وضحةَ وضحةْ.. تلكَ التي كانت الأرضُ تنفثُ شهوتَها بعثراناً وشيحاً بقعدتها في فساح الصباح وتلكَ التي لم تنم بين فخذين ما شاهدتْ غيرَ أعضائِها الذئابُ تحن الى لحمها الرّعويِّ، تخبطُ الخيلُ أقدامها في الهواء المعبأ بالمسكِ والعرق الأنثوي لدي لمحها. والرجالُ الرجالُ الذين استطاعوا إليها سبيلاً قضوا واحدا واحداً في الشقاء.
II
ولا تتركوني هنا، في سماء الصّحاري تحجُ إليَّ العقاربُ من كلِّ صوبٍ وتسعي أفاعي الشّعاب إلي نُقرةِ الماءِ، يا للصفير النحاسيّ في أفقٍ من هباء: لقد ضاقت الأرض في قامةِ الإبلِ ثم انحنتْ دورةُ الوقت تحت السروجِ فلا خَيلَ تصهلُ في مُقبلِ الليل، ولا راحل يهتدي بالنجوم. ويا ليديَّ ويا للعراءِ ويا لانهمار الخرابِ علي جثة الشيخِ عودة ويا للسكون الملوّثِ بالانقراض ويا...
III
قفوا أيها الرامحونَ إلي جهة يبتليها الحديدُ فها قهوتي ما تزالُ علي جمرةِ الانتظار وها جمرُنا واضحٌ في الرمادِ، الرما.. د.
بيروت 2/1979
**********
الشافعي
I
(الى صلاح الحباشنة)
واحدٌ، ليس أكثرَ من رجلِ واحدِ، ولكنه عالياً كان منتشراً كالجبال التي حدّرته الى السّهل، كان عصيّاً ومحتدما مثل صخّر الجنوب. جموحاً ومنبسطاً مثل خيل الجنوب. إنه الشافعي.
راكينُ (1) هبَّتْ علي فرعه مثل غصن من النار نادته نسوانها الحاملاتُ ملابسَه الدامية. يا عريسْ أنت يا زين الشباب، عُـلّية الدار يا قمرْ ما غابْ عن بيرْ الكرمْ ولا خلا الحجار. الآن تأتي مثقلاً بالثلج والنوار.
II
كان جلعاد (2) يدنو من السهلِ يدنو من العشب. إنّ السماء (وننظر) تلامس لينة رأسه المرتفعْ فيهجس مؤتلقاً بالأسى والخطي تهبطُ الصخرَ نازلة للقرى (فقدنا التجمُّل بالصبرِ حين فقدنا الغصون) والشافعي، تسامق واحتد في هيئة الحور وارتد نحو الجبل. هتفت به: ـ ليت أن البلاد التي بين عينيك، تعرفُ أسماءك القروية أسماء أشجارك المائلة علي أنه ماثل الصخر في قلبهِ (كان أيضاً وديعاً وسهلاً) فخاطبني وهو يترك للريح قامته الناحلة ـ عاود الرقص يا صاحبي وترفق بأغانيك والشعر، إنك للسهلِ لكنني للجبال التي أتبين أطيارها مثلما تتبينُ وزن القصيدة، يا صاحبي، حين يدركُ عشب خطاك اتئدْ وامش هوناً علي أختنا الأرضِ.
III
أيها الشافعي، ويا واحداً راودته المقاهي طويلا ويا واحداً راودته النساء نحيلا ولكنه ما انثني حسبك الآنَ ان تبتني نخلة من حديد وماء. نخلة في يديكَ نجوة من عصور الهلاك. حسبك الآن ان تشتهي لغة لنحاس الوطن هكذا.. نشتهي لغة من نحاس ونهملُها نشتهي وطنا مثل جلعاد يوماً ونهمل أشجاره في الغداة نشتهي امرأة من رصاص ونجهلُ من أين يفجؤها الطلقُ.
IV
سيدي أيها الشافعيُّ إذا غادرتني يداك وغادرتَني نخلة للسماء، فما زال جلعادُ أرضا لطير الجنوب وما زلتُ أعرفُ أسماء هذي القرى.
عمان- 6/1977
********
عمال النسيج
تدورُ المصانعُ في دورة الياسمينِ الصباحي والعضلات، في دورة الشارعِ المترجل عن شجرِ العتمِ منذ ذراعين، في أولِ العربات التي تنقلُ العاملين الى مصنع في الضواحي القريبة من ماركا (1) تدور المصانع، (تلك التي أوقدت نارها في رماد المدينة) ملتفة بالدخان النحيلِ: عامل عاملانِ خمسون، كانوا يمرون مثل الفراش النحاسيِّ مثل الحديد الثقيل..
I
إنهم يعرفون الخيوط وما تقترحه أزرق: للستائر، للجنس، للغرفات العليةِ أخضر: للسجاجيد والحرمِ الجامعي أحمر:.... أبيض: خشن للكفن. ولكنهم يعرفون: نقابتهم حجرا، حجراً سواعدهم ساعدا ساعداً والطريقَ الى المطعم المنزوي
II
عامل عاملانِ خمسون، كانوا يسيرون في آخر الشمس، فوق الطوار الطويلْ كانوا يهبون، علي مطعم بجوار السنترال (2)، مطعم يعرف هذي الوجوه الطويلة مثلما يعرفُ ظل كراسيه القش. ذا يأكلون مع العصر حُمّصهم ثم تأخذهم دورة الشارع المزدهي بالنساء وبالضجة الواسعة.
عمان 5/1977
*****
أجنحة
أشياؤهم التي غادروا، ظَلتْ تتوهَّجُ في الباحةِ. أيُّ عابرٍ لا يقعُ فريسةً لسحرها الغامضِ؟ ومن ظلّوا هنا، كيف لا ينتشونَ بذكري وجوههم القويةِ المشدودةِ علي رُخامٍ حيٍّ؟ غادرونا وظلّت أشياؤهم تخترقُ أروَحنا كالعصافير.
غادرونا وظلتْ أشياؤهم تسحبُنا من أطرافِ أصابِعنا إلي حريرِ الليالي النادرة.
بيروت ـ آذار 0891
*****
قمصانٌ جديدة
I
قادني قميصيَ المُبتلُّ عند الإبطين والنّاشفُ في الرِّيحِ إلي أعضائي.
II
انفتحَ قميصيَ كمظلةٍ في رياح الشّمال فهبطتُ إلي المدرج الروماني حيثُ فيلادلفيا ما تزالُ تشجِّعُ المصارعينَ بحركةٍ من رأسها.
III
قادني قميصيَ المقدودُ من دُبرٍ إلي أمي فسألتني عن امرأة العزيز. خلعتُ قميصي فارتجفتُ. لكم قمصانُكم ولي قميصي.
IV
أنتم، أيها الفتيانُ، من كان له قميصٌ مشجّرٌ فليخرج إليَّ بعد صلاة الجمعة.
V
ارتدوا القمصانَ، فقد هبّتْ رائحةُ النعناعِ. تمايلوا في النسيم فقد شمَّرتْ فيلادلفيا عن ساقينٍ شقراوين، وارتقتْ سُلّم العشب. اصطفوا بانتظامٍ وافتحوا القمصانَ حتى السُّرّةِ انتظروا، أيها الفتيان، سيفاً من البنفسج يهتزُّ تحت جبين الملكةِ.
بيروت 6/1891
*********
منفى
أرأيتِ؟ نحن لم نتغيَّر كثيراً وربّما لم نتغير أبداً: الألفاظُ المشبعةُ النبرةُ البدويةُ العناقُ الطويلُ السؤالُ عن الأهل والمواشي الضحكةُ المجلجلةُ رائحةُ الحطبِ القديم الحطبِ المخزّنِ في الحظائر ما تزالُ تعبقُ في ثيابنا. أرأيتِ؟ نحن لم نتغيَّر كثيراً وربما لم نتغيَّر أبداً: جلساتُ القرفصاءِ الغسيلُ المحتشدُ أمامَ البيوت الأولاد المعفرون بالتراب الشّايُ المنعنعُ في المساءات النميمةُ المنعشةُ الرضي بالقليل الأخذُ بالثأر والدمُ الذي لا يصيرُ ماءً كلُّ ذلك، وكأننا ما نزالُ في المفرق أو السلط، في الكرك أو الرمثا. كأننا ما اجتزنا حدودَ الشمالِ الى المدن الكبرى والسواحل. حيث تهدُر حربٌ ويَهدُر بحّرٌ ويمسكُ الغرباءُ بعضهم بعضاً من الياقاتِ، أو يطلقونَ الرصاصَ من شرفاتِهم علي حبال الغسيل.
بيروت 92/1/2891
***************
وديعة
لم أرَ الذي استردها ولكني سمعت خطواً علي حاشية الليل، وفي الصباح وجدتُ جلدَ أفعى وريشةً بيضاء.
*******
مساواة
الأيدي التي صافحتنا ربّتتْ علينا فتحتْ لنا باباً لوّحتْ من بعيد خضّتْ الهواءَ في وجوهنا توّطحتْ بلا هدفٍ أنذرتْ توعّدتْ استكانتْ لامستْ تبراً أو تراباً، أسبلتْ كلها علي الجانبين عندما حطَّ طائرٌ من سديمٍ كبيرٍ قبسَ شيئاً غامضاً وطار.
********
ملاعبة الشيطان
ليس الفرحُ باقةَ وردٍ تأتيك بلا مناسبةٍ ولا عنوانا لحفلة سمرٍ علي شرف الغريب الذي كلما عاد الى أهله حزم حقائبه من جديد، ليس خفّة الكأسِ ولا طلةَ الشمسِ من قلبِ الرماد ليس الذكري ولا النسيان، بل ذلك الصوت المتكسر، الهش الذي حركَ فيك مياهاً راكدة وأكد أنك ما تزال قادراً علي ملاعبةِ الشيطان.
******
قليلاً، قليلاً
آه لو أنني أطولُ قليلاً أنحفُ قليلاً أفتحُ بشرة قليلاً ذو عنقٍ أرقُّ، أطولَ قليلاً بشامةٍ سوداءَ عند طرفِ الأنفِ الأقني وعينينِ سوداوينِ وواسعتينِ قليلاً كتفاي تستدرجانِ طيوراً مداريةً وتعتذرانِ عن انحنائهما قليلاً؛ ليس مهماً أن يكونَ زنداي مبرومينِ أكثرَ وما بين ساقيَّ أطولَ قليلاً ولكن عندما أمشي أتركُ ورائي رائحةَ ليمونٍ وعيوناً تتلفتُ، بغبطةٍ أو حسدٍ، إلي الوراءِ قليلاً لصرتُ الشخصَ الذي حَلُمْتُ ولم أُصْبِحْهُ عندما كان عمر الشريف معبودَ النساءِ وكنتُ َ كثيراً.
*************
نباتات الظلّ
I
الحبُّ غيرُ ممكنٍ كالمرأةِ التي دشّنتْ حبيبَها بالتداعيات، كأزهار الفُلفل التي أعادتْ إلي الحديقةِ فحولةَ الرائحةِ. عَطَسَ الرجل ُومضي بين الخيطِ الأبيضِ والخيطِ الأسودِ، ولم يقع في الحبِّ.فالحبُّ غيرُ ممكنٍ، كالنوم في ضوء مصابيح المركبات الفضائية، كلغةٍ تقشّرتْ في ظهيرةٍ استوائيةٍ، فاستوتْ علي عرشِ التنقيط.
II
وعندما مررنا، وكانوا يتجادلونَ في الحبِّ نَطّتْ امرأة ٌمن نافذةٍ واطئةٍ، وأعطتْ انطباعاً بأنّ الحربَ ما زالت دائرةً في الرُّبعِ الملآن من الكأس. في ذلك الوقتِ لم تكن الخلاخيلُ قد دَرَجَتْ كاحتمالٍ للغواية، ولكننا سمعنا، ونحنُ علي ظهور الجياد، نشيجاً عالياً أقربَ إلي سكِّ الدراهم، ولم نبالِ بالرّجفة التي سرت في أعناق الخيول فلكزناها، ولكن النّهار قد طَلَعَ، وظلَّ النشيجُ عالياً في الكتب. قال لنا رجلٌ: انهم ثلاثةٌ ورابعُهم كلبُهم. وقال آخرُ: أربعةٌ وخامسُهم كلبُهم. وقالتْ امرأةٌ تفوحُ برائحة البابونج: المياهُ قريبةٌ من كتفِ الجبلِ فاغسلوا ثيابَكم، واذهبوا الى النوم.
وبعد قليل عادَ التيارُ الكهربائي وألقي السلامَ، ولم يعد الحبُّ ممكناً في ظلِّ نباتاتِ الظلِّ التي تحتلُ أركانَ الغرفة.
نيقوسيا 7/4891
************
مسرح
لستُ أصلاً ممن ينتظرون. فلا أنتظرُ. شيءٌ عَبَرَ الحواسَّ الخمسَ وتلاشي. فقاعةٌ حطَّتْ علي مقدمةِ الأنفِ وانفجرت. دويُّ العصافير يشيلُ النائمةَ من سريرها ويضعُها أمام المرآة. صورةٌ غائمةٌ لأفقٍ يبلّلهُ مطرٌ غيرُ متوقعٍ. أن يجيءَ لا أحدٌ يتكهنُ بذلك. ولكن صِبية كانوا يجرّونَ جرواً صغيراً من ذيله أذهلوا المارَّةَ بصفيرهم الكئيب. اختلاطاتٌ دفعت المتشائمين إلي التشهد فقد دنتْ ساعةُ الإفطار، واصطفت العائلةُ حول المائدة. كان الواجبُ انتظارَ الذي يجلسُ في الصدارة عادةً. وعندما استوضحوا الأمرَ سُمِعَ عويلٌ في الجناح العلوي.
فكان طفلٌ صغيرٌ يجرّبُ سكينَ المطبخِ. الاّ أنها لحسن الحظ عادتْ إلي النوم ثانية، واكتفت العائلةُ بجرعاتٍ سريعةٍ من الشاي. أجراسٌ تقرعُ. رائحةٌ غريبةٌ. كأنَّ قطيعاً من الماعز يرعي أعشابَ الإبطين.
هذا ما قاله الرجلُ لزوجته في الرسالة الأخيرة،غير أن الهواءَ الطلقَ الذي أزاحَ السِّتارةَ كشفَ للجميع أن اللعبةَ انتهتْ.
نيقوسيا 3/5891
*************
عازفو الأنفاق
إلى نوري الجرَّاح
I
دع الحنين يُربّي خِرَافه في الظل واخلعْ عنكَ سترةَ ناظري السّفوحِ، فأنت هنا لا ياسمينَ لتؤجّج شَهوةَ الباعثاتِ مناديلهنَّ بيدِ الصَفِير ولا حبقَ لموكبِ العائدينَ من جبهة الندي. أنتَ هنا وأنا ضيفٌ علي مائدِة الحيرة نقلِّبُ معاً مساكبَ الذاكرةِ في ليلٍ مسلَّحٍ بعازفي الأنفاق. لا حبلَ مودةٍ لتزهو بقميصِ البرقوق ولا جوابي أصقاعٍ يرحلون إلي منبلجِ المياه. إدجوار رود ليس شراعاً في نهر شربهُ المنحدرون من الجبال بل مركبٌ جانحٌ في خزانة الديون.
II
القصيُّ يطلقُ في إثركَ سبعةَ أخوةٍ يصطخبونَ في دسكَرةٍ يضربُ الغرباءُ في مدخلها أعمارَهم علي الآلةِ الكاتبةِ. أنتَ هنا مُدبرُ عادياتٍ ومدائحَ وأنا ضيفٌ علي مائدةِ النسيانِ نسامرُ أرواحاً تتفاقمُ في دهليز ونطاردُ طفلاً يرغمُنا في منتصفِ الليل علي الاستسلامِ لمخلوقاتٍ هاجعةٍ في زرقةِ عينيه. ملوكُ أقاليمِ الخردلِ ينتحبونَ منِ الضجر في ثياب النّومِ فيما المنشدونَ يتناوقونَ من وراءِ الحُجب.
III
مثقلٌ مثلكَ بالأبواق والقراطيس تركتُ مدينةً عُرضةً للرّبيعِ وبيتاً لظلال الأخوّةِ قفزتُ عن حافّةِ القطن وجرار المؤونةِ، تأرجحتُ في مستطيلِ اللهفةِ وسَقطتُ من علوِّ لوعَةِ الأختِ ونميمةِ الأصهارِ الذاهبين إلي صلاةِ الجمعةِ. مثقلٌ مثلكَ بوصايا أسلافٍ يرسلونَ شعباً من الغبار إلي مصائدِ الإسمنتِ والوظائفِ. لكلِّ أجلٍ أمارةٍ ولكل أمارةٍ ميعادُ.
دعِ الحنينَ لسَدنَةِ السُّحبِ فلا خراجَ لجباةِ الشعيرِ.
أرضُنا بعيدة.
لندن ـ أيار 7891
********** | |
| | | | | فضة متربة وقصائد أخرى شعر أمجد ناصر | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
|
|