آخر المساهمات
2024-11-06, 9:59 pm
2024-10-12, 12:21 am
2024-10-12, 12:19 am
2024-10-12, 12:14 am
2024-10-12, 12:14 am
2024-10-12, 12:13 am
2024-09-21, 5:25 pm
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر

hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر 15781612
أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر Icon_minitime 2021-11-01, 8:53 pm
@hassanbalam
#أمجد_ناصر

. لص الصيف

لن أظهر في غدهم غاسلي أصابع
قدميك بماء النذور
لكنهم
سيمرون عن أنفاس ، يقظانة ، في المعابر
أنا الذي أعطى الغرباء كلمة ليفتحوا قلب الليل .
لص أعالي الصيف
حيث تبذخ حدائقك وترمي ثمارها في طريق الأعمى ،
الطالع
خفيفا
الى السهو ،
التارك خيطا من القمح على أديم النوم ،
أنى لهم أن يدركوا طرقى الى المعرى في الريش ،
مزيجا بدم الشفتين .
ليتداولهم النهار
ويصرف أعمارهم بين محابر العهد و خزائن الأوسمة
وليظهروا بأثمن مالديهم في البلاط
ولكن
لليل إذا انكشفت أطرافه وبنت
لص يحمي حدوده بالنواجذ .
لا أخ لي بين الحرس ليرمي علي وشاحه فأمر
ولا أب في مجلس المتنفذين
شفاعتي في الخفة
ومعرفة أيان يطلق الذي يبز الموت
فهوده بين الأشجار .
الضعيف في مكمنه
معتصم بأقوى مافيه .
فرحون بالسهر
أولئك الذين ربيتهم أعداء تحت ناظري
وترصدتهم في الغفلات
فازوا بظاهر يدك
وتركوا أثرا طفيفا على الثياب .
سدى يطلقون كلاب المخيلة لتحوش الطريدة
وهم
مكتفون
بالهواء
يقلبهم
في أسرة
الليلة
الواحدة.
ليست العبرة في القطعة الأجمل بين ثيابك
مرفوعة على رؤوس الأشهاد
بل
في
الحربة
عميقا
تغرس
نواة
الألم.
تتركين النادر
لمعة الساق وذكرى مرور
القدم عارية على الدرج .
دونما قصد سوى المجاز الصرف
يكشف نور الكاحل صعدا
نعمة النظر الى الهيكل
فأرى
ذهبا
محروسا
بوحش .
إنه ليلي لأبلونه بالسهر وحيدا
بين جلبة المسافرين
وحيرتي لأفحصن معدنها في مهاوي القنب .
بياضك ندمي
يتلكأ عند متاع اللبؤة ،
له أرخيت حبل جهالتي على الغارب
وغنيت ، أنا المولود تحت منجل الحصاد ،
غناء الغريب بين رطانة المبشرين بالسؤدد .
ولجت الغيابة من ردائك قد من دبر
وكان دليلي الألم الذي يبوح
بأسراره لمدوني الأمثال .
جنتي
ملء
عين
الناظر
الى الزوال .
خذي يدي لتصلي إلي
وتبلغي مابلغت
فقد ملت على النبع
وبما أرتشفت
رميت مفتاحي .
قبلت شيئا بليلا في الظل
وشممت فوح طفولتي بين الأكباش .
خذي يدي زاجلسي لنغيب
فالسدى عيدنا
لا لنا
ولا علينا
بعد رجعتهم الى تمامهم ناقصين ،
سوى
أثر
العابرين
بين الخشخاش .

أمجد ناصر - هجونا طغاةً في صحفٍ لم تُقرأ.. شعر


أمضينا زمناً طويلاً بلا بريد/
بعيداً عن رائحة القرفة ويد الأم المفلطحة/
في زمن الفكرة الكبيرة /
وهبوب الغرباء من المفازات والهجير/
لم نودع صكاً في مصرف/
وما عرفنا طريقاً إلى دائرة عمومية/
لم ندفع ضريبة من أي نوع/
ولم نر سُعاةً بثيابٍ موحّدة/
يلقون من كوى الأبواب/
مظاريف ممهورة باسم صاحبة الجلالة./
ولا سمعنا قبضات جباة/
تدقّ بإلحافٍ أبواباً على النائمين.
هجونا طغاةً في صحفٍ لم تُقرأ/
وجعلنا مرهوبي الجانب أضحوكةً في مرابع/
احتملت صعاليك تفانوا في مديح الخريف/
ضربنا أصولاً مرعية عرض الحائط/
وانتشينا في أسرّتنا المجعدة بانتصارات رعاةٍ على الليزر.
أمضينا زمناً منزّهاً من كل قصد ونمنا/
طويلاً/
نمنا/
في الكتب.


أمجد ناصر - لا يولد فجر من دون جرح..


على جسد الليل دم وتراب ومشيمة
راية بيضاء
في آخر زيارة إلى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن. كانت صور الرنين المغناطيسي عنده. من علامات وجهه شعرت بنذير سوء. قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدماً للورم وليس حداً له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.
كان مساعده دكتور سليم ينظر إلى وجهي وفي عيني مباشرة، ربما ليعرف رد فعلي.

قلت: ماذا يعني ذلك؟
قال: يعني أن العلاج فشل في وجه الورم.
قلت: والآن ماذا سنفعل؟
رد: بالنسبة للعلاج، لا شيء. لقد جربنا ما هو متوافر لدينا.
وفي ما يخصني ماذا عليّ أن أفعل؟
قال: أن ترتب أوضاعك. وتكتب وصيتك!
قلت: هذا يعني نهاية المطاف بالنسبة لي.
ردّ: للأسف.. سنحاول أن تكون أيامك الأخيرة أقلّ ألماً. ولكننا لا نستطيع أن نفعل اكثر.

قبل أن أغادره قال: هذه آخر مرة تأتي فيها إلى عيادتي. سنحولك إلى الهوسبيس. وكانت آخر مرة سمعت فيها هذه الكلمة، عندما دخلت صديقة عراقية أصيبت بالسرطان في المرحلة النهائية. يبدو أن الهوسبيس مرفق للمحتضرين أو من هم على وشك ذلك.
قلت له: لدي أكثر من كتاب أعمل عليه، وأريد أن أعرف الوقت.
حدد وقتاً قصيراً، لكنه أضاف هذا ليس حساباً رياضياً أو رياضيات. فلا تتوقّف عنده.

الطريق إلى الكتلة

عدو شخصي

ليس لي أعداء شخصيون
هناك نجم لا يزفُّ لي خبراً جيداً،
وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها.
أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيوناً تلمع
وأيدياً تتحسس معدناً بارداً،
لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،
فكيف لجبلٍ
أو دربٍ مهجورٍ أن يناصباني العداء،
أو يتسللا إلى بيت العائلة؟

أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى
والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب
ما أنت؟
ما مشكلتك معي
إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك
تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد
وجهاً لوجهٍ
لسوف ألقنك مواثيق الرجال
كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة
أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً
فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة
إن كان لك دين عندي
أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك
ومرغت شرفك في الوحل
مع أني لا أذكر شيئاً كهذا
لا تسترد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا
كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي..

روح حرَّة
(إلى هند)

أيَتها الروح الحُرَّة.
لم تنطفئ شعلتك رغم الريح التي تهب في غير موعدها،
رغم الأيام الجافة
الأيام الماطرة
النجوم التي صارت صخوراً بعدما هجرتها الأغاني
وهذه الليالي المرسومة بالفحم
كيف كانت ستدلني على الطريق.
زرعنا زيتونةً فأثمرت.
شتلة عنب فغطّت سياج الجارة التي لم تعرف
كيف نصنع من أوراقها الخضر طعاماً وخارطة
يدُكِ تقلب التراب فتعثر على دودة
تعيدها إلى مكانها،
شذرة ذهب فتطمرها
لعلها علامة الغريب الباحث عن كنز أجداده الذين مروا من هنا.
كنزك لا يلمع. بل يطلع من غصن يابس، وجذرٍ ذاوٍ.
ها نحن نرفع يداً فيرتد أربعون ظلاً على حائط الحمائم المطوَّقة
لم يعد، هنا، للكلام معنى إلا في رواسبه الغائرة
فقد أودع الأيدي سعفٌ كثير لأيام الأسبوع.
أيتها الروح الحرة
لا الأحمال هدَّتك
ولا طول الطريق.
الرحلة التي بدأت برقصة تحت نجم
لم تبلغ تلال الوعد السبعة بعد.

لم تكن لهذه الكلمات مناسبة. هكذا خطر في بالي حينها. إنها ليست أكثر من تحية لرفيقة رحلة شاقة. ولكن كلا، ففي ثناياها، في ما لم أره من وجوهها المحجوبة عني، حتئذ، تمدد شريط من الورم بين جسدين. عندما، لا تجد أي خيار، وربما بمحض اختيار حر، "تتبرع" ببضعة من لحمك (كلية) لتمشي خطوات أكثر مع رفيقة/ رفيق حياتك، قد يكون هذا أقصى ما بوسعك عمله، ثم تظن أنك قدمت، أخيراً، "هديتك"/ أو ربما "أضحيتك". تُقبل "الأضحية" وتقوم بعملها على أفضل وجه.. إلى حين، لكنه حينٌ طويل بعض الشيء (ست سنين)، إلى أن "تتسرطن"، وتفشل.. ثم يصار إلى استئصالها ورميها في مختبر ما لمزيد من "الدراسة" والتحليل.

***

كان صيف لندن هذا العام "هندياً" كما يقولون، هنا، عن الطقس الحار. يبدو أنني غفوت على أريكة في صالون منزلي. فكَّرت أنني أحلم: كان حولي ابني وابنتي وأخي، وكل منهم يقيم في بلد، تأكدت أنهم موجودون فعلاً، فهم يتحدثون، وهذه أصواتهم التي أعرفها. وهذه يد ابنتي تمسح العرق الذي بلل رأسي وعنقي بمنشفة. مع ذلك أظنني سألت باستفهام، أو استنكار، (لست متأكداً): لِمَ أنتم هنا؟ لأنك لست على ما يرام. كان رأسي خالياً من أي صورة. ذهني مشوَّش، ولكن بلا تفاصيل. أخبروني بما جرى:

كنت أنزل من سيارة أجرة أمام بيتي، ثم سقطت على الأرض. لكن لِمَ كنت أستقل سيارة أجرة وأنا لدي سيارة؟ يبدو أنني كنت عائداً من المركز الصحي المحلي بسبب صداع "زائد" عن الحد أصابني في الأيام الماضية. صداع غير ذلك الذي تعايشت معه طويلاً. حتى مع هذا التسلسل للأحداث، المسرود علي، ظلت هناك ثغرة لم تردم.

في يدي سوار بلاستيكي عليه اسمي ورقمي الطبي، وتاريخ يشير إلى يومين سابقين. ما هذا؟ سوار كهذا لا يوضع في اليد إلا إذا نمت في مستشفى. هناك خور في جسدي. داخلي فارغ. إحساس بتخدير قوي. تذكرت ليلة طويلة في جناح الطوارئ. كنت هناك. كان لدي ألم لا يطاق في خاصرتي اليمنى. صداع شديد. سمعت كلمة مورفين. كأني قلت لهم: كلا. ولكنهم لم يسمعوني. أو لم يتوقفوا عند اعتراضي. ألم كهذا لا يعالج إلا بالمورفين. هناك تقرير صغير يقول: احتمال حصى في الكلية! لم تكن هناك صور شعاعية للجسم، الرأس خصوصاً.

جاءت سيارة الإسعاف التي أقلتني إلى مستشفى تشيرنغ كروس، ذائعة الصيت، وليس مستشفى منطقتنا، في غرب لندن. في الأثناء قام الطاقم الطبي بفحصي. ركزوا على يديّ وقدميّ. عيني. طلبوا مني رفع يدي إلى الأعلى. خصوصاً الجانب الأيسر. هؤلاء يحملون أجهزة متكاملة. يصلون إلى نتائج سريعة ويقررون طبيعة المستشفى التي يتوجهون إليها. كنت وحدي. هذا ما أظنه. لا أحد من عائلتي معي. أين هم؟ زوجتي في المستشفى. مستشفى آخر. سرير آخر. بجانبه كرسي لزائر. الفشل الكلوي يعود بعد سنين من العمل "الجيد" لكلية "سليمة". لكن هذه الكلية السليمة يتسلل إليها الورم السرطاني. جاء هذا من جسد لم يكن يعاني أوراماً، ولا حتى في الخيال!!

فهمت من الطاقم الطبي أن الأمر قد يتعلق بجلطة دماغية. السرير يدفع في الباب الرئيسي لمستشفى تشيرنغ كروس. إلى الطابق الحادي عشر (أم لعله العاشر؟). تظهر لافتات تشير إلى الجراحات الدماغية. بلا إبطاء إلى تصوير المقطعي. لا تتأخر الصور في الظهور. أنا في السرير. يسألني الطبيب الذي يقدم لي نفسه: دكتور خان. أسئلة ستكرر لاحقاً، بلا توقف تقريباً. يعود الجسد إلى اسم وتاريخ ميلاد ينبغي أن ينضبطا في ملف طبي. جاء طبيب شاب يدعى علي: مصري. يتحدثان. الصور تظهر شيئاً آخر. كلا، لم تكن جلطة دماغية. شعرت أن دكتور خان يتهيأ لرمي قنبلة. سألني إن كنت أفضل وجود فرد من العائلة. قلت له مازحاً، كأنك تمهد الأرض لرمي قنبلة؟ ضحك. قلت له: أرمها:
الصور تظهر، للأسف، ورماً في الدماغ.

ماذا؟

ورم في المنطقة اليمنى من الدماغ، ها هي الصورة. أرى الصورة. وردة متوحشة. شكل هندسي نابض. يسميه دكتور خان: كتلة MASS.
صمتُّ. لم أكن أتوقع خبراً كهذا. ربما أي شيء آخر.
ينتقل، فوراً، إلى ما هو عملي: سنبدأ علاجاً بالسترويد لتخفيف ضغط الكتلة على الجوانب الأخرى من الدماغ، ووقف الصداع.

من بين كل كتل الدنيا، خطرت في بالي لحظتها القصيدة التي سميتها: قصيدة الكتلة. بلوك. أردت أن أفهم من الطبيب المصري (المساعد) المزيد بعد انصراف خان. لم أجده. كنت رأيته يدخل مكتباً قريباً للأطباء. نزلت من السرير. مشيت في ممر كان يعج بالممرضات والممرضين وعاملي النظافة وصار الآن شبه فارغ .
رحت أغني أغنية مصرية: أنت فين يا علي أمك بتدور عليك!

الليل، لا نوم

بقيت وحدي. عدت من رحلة الممر العبثية إلى السرير. الليل لا يزال "شاباً" على حد التعبير الإنكليزي.
شظايا القنبلة تتحرك.
كتلة..
ورم..
لو لم أقع على الأرض ما عرفت بالتشكّل السريّ لهذه الكتلة، هذا الورم..
لقد كنت قبل ساعات فقط من "الأصحاء"، وها أنا في قسم خاص بالأورام الدماغية في مستشفى كنت أرافق إليه زوجتي، المريضة بالفشل الكلوي، من أجل "غسل" الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، ولم أتخيل نفسي مريضاً في أحد أقسامه، بل لعله أكثرها إثارة للخواطر السيئة.
لم يطلع النهار بسهولة. يبدو أن الليل كان في أوله. منتصفه. لا أدري. أنا الآن في وضع غير الذي كنت فيه (ولم أكن أعرفه) قبل ساعات. قبل يوم. قبل أيام. شعرت برغبة شديدة بالتدخين. معي علبة سجائر. رغم أني توقفت عن التدخين ست سنين. طلبت من الممرضة المسؤولة عن الجناح أن تسمح لي بالنزول إلى الطابق الأرضي لتدخين سيجارة. رفضت. ألححت. فوافقت. أرسلت معي ممرضة وكرسياً متحركاً. كان هناك مرضى غيري يدخنون. لا تزال هناك حركة في شارع فولهم بلاس الذي تقع على جانبه المستشفى، أقف بالقرب من كتلة هنري مور. من تمثالي المتكئين إلى بعضهما بعضاً في مدخل المستشفى.

كتلة هنري مور

هذا ليس النصب الأصلي، بل هو نموذج مصغر من العمل الضخم الذي نفذه هنري مور بطلب من مركز لنكولن للفنون في منهاتن/ نيويورك. هناك يبسط عمل مور سيطرته على الفضاء/ طالعاً من بركة ماء. لا يختلف النصب الصغير في مدخل مستشفى تشارينغ كروس من حيث علاقته بالماء، عن الموجود في مدخل مركز لنكولن للفنون في منهاتن، الفارق يكمن طبعاً بالحجم. هنا في مدخل المستشفى يطلع النصب من بركة ماء صغيرة مخضوضرة تنعكس عليها صورة الكتلتين المتكئتين على الماء.

ذكَّرني ذلك بآية قرآنية تقول: وكان عرشه على الماء. المقصود هنا عرش الله. قطعاً لم يكن ذلك في ذهن هنري مور وهو يصنع نصبه البرونزي. بيد أن هذا يمكن أن يدور في خلد واحد له مرجعيات ثقافية مثل مرجعياتي. ثم إن صلة النصب والتماثيل، عموماً، بالمقدس تبرر الخاطر الذي راودني. مؤكد أن النصب الحديثة انقطعت عن منشأها الأول، عن وظيفتها الأولى، كرموز، أو تجسيد للتصورات البشرية في خصوص الآلهة، لكن من يستطيع منع المقدس من الحضور في النصب والتماثيل؟ لقد رأى المثالون الحديثون النصب والتماثيل الطالعة من فكرة المقدس ودرسوها في الأكاديميات التي تخرجوا فيها. وفي هذا الطور من عمله الفني تخلى هنري مور عن النماذج والموديلات التي كانت تمهد للعمل الفني وصار يعمل مباشرة ، بلا موديل مسبق، على المادة نفسها، سواء كانت برونزاً أم حجراً، التي يجب، حسب قوله، احترامها فهي لها "حياتها المكثفة الخاصة بها"، والتي يتعين عليه، كفنان، إفساح المجال لها بالظهور.

وجدت في "كتلة" هنري مور حليفاً لي في ليل الأرق الذي كنت أتسلل فيه من جناح المصابين بالأورام مثلي، إلى البركة التي يتكئ إليها نصفا تمثال هنري مور.. هناك من "تسللوا"، مثلي أيضاً، من أقسام المستشفى المختلفة. بعضهم للتدخين، كما صرت أفعل، بلا هوادة، آخرون لتناول طعام غير ما يقرره علينا مطبخ المستشفى..

***

دخنت أربع سجائر متعاقبة. ظمأ؟ انتقام؟.. هذا الرجل الذي يشعل سيجارة من عقب أخرى ليس أنا. هذا هو الرجل المريض. إني أرى انعكاس هيكله البشري في بركة الماء المخضرة التي تنتصب فيها كتلة هنري مور. يرتدي مريولاً تقطعه مربعات زرقاء وخضراء صغيرة. هذا زي المستشفى. في رسغه الأيمن سوار بلاستيكي عليه اسمه (أحد أسمائه!) ورقمه الصحي وتاريخ دخوله إلى المستشفى، يدخّن. ولكنه لا يفكّر. لا فكرة تخطر في باله سوى أن هذا الرجل الذي يتراقص ظله في البركة مريض، وأنه ليس هو بالضبط، وأنه لا يعرف ما الذي جرى له، بالضبط، وأنه ليس مسؤولًا عن ذلك. ولكن، مع هذا كله، عليه أن يعتاد وجوده. الأفضل، طبعاً، أن يفهمه ويتسامح معه. قد لا يكون الذنب ذنبه.

طلبتُ من الممرضة أن تعيدني إلى السرير. أريد أن أنام. أعود إلى الجناح. صوت غطيط النوم يُسمع عالياً. ثمة من ينام هنا. ثمة من حطّ عليه ملاك النوم. لكن ليس أنا. الوقت لا يمر. الليل صامد. تخطر في بالي أفكار غريبة بل أخلاط أفكار وصور وكلام قديم. أفكر في نصي "حديث عادي عن السرطان". أتذكر مسرحه. وسببه. شخص (صديق) أصيب بالسرطان. اثنان آخران يعرفانه. يتحدثان عن مرضه. الحوار حول سرطان الصديق يبلور نبوءة عشوائية:

ـ الشخص الأول يقول إن أخاه توفي بالسرطان في الأربعين من عمره، فيقول الثاني إنه قرأ لا يدري أين المرء يموت كما يموت أهله، ثم يقول إن أمه صارعت السرطان مرتين آخرها كانت في أوائل الستينات من عمرها.

النتيجة التي يخلص إليها الشخص الثاني: أنت تجاوزت عمر أخيك، فيما لما تزل أمامي سنون أمي المكتنفة بالاحتمالات!
أفكر: لماذا أعدت نبشه؟ لماذا نشرته قبل فترة قصيرة جداً من إصابة زوجتي بسرطان في الكلية، وقبل أن تتكون فكرة، أو أضغاث فكرة، عن ورمي الدماغي في ذهن عابر، لا أعرفه ولا يعرفني، في القطب الشمالي؟

أغافل الممرضة المسؤولة. أنزل من السرير. هناك باب أوتوماتيكي يفتح على المصاعد. دقيقة وأكون أمام المصعد. أهبط إلى الطابق الأرضي. لا أحد. ولا حتى عمال النظافة. الفجر بعيد. وهذا الليل لا ينتهي. ليلة الكتلة المتمددة في الدماغ. أمشي في الطابق الأرضي الفارغ من الناس. هذا عادة خلية نحل بشرية في الصباح وصولاً إلى الظهر. الكراسي مرفوعة على الطاولات. أخرج إلى ليل هنري مور. كتلته البرونزية. لا أحد. الماء ساكن. سيارات وشاحنات تمر بتقطع في الشارع. لطالما أثار شغفي أولئك الذين ينقلون، آخر الليل، مع الفجر، البضائع والمواد الاستهلاكية في شاحنات أو فانات صغيرة لتكون جاهزة للعرض والبيع ما إن تفتح الحوانيت أبوابها. راقبت أكثر من فجر في الطابق السفلي في المستشفى عندما كان مزوّدو المقاهي والدكاكين بالحليب والعصائر والخبز والمعجنات والصحف والمجلات يضعون هذه الطلبيات أمام أبواب المحال المغلقة حتى الآن. لن يطول الوقت حتى يجيء أوائل العاملين في هذه المحال ليضعوا طلبياتهم في البرادات وعلى الأرفف.

كوميديا الاسم
في هذا المستشفى البابلي ينطقون اسمي حسب ألسنتهم، وربما حسب أسنانهم. مرة ينادونني يايا، مرة يهياي، وثالثة يهي. في الخارج لي أسماء أخرى تنتظرني لتواصل عملها الآلي على ما يبدو. من أنا؟ لا أعرف. سوى هذا الجسد المتعثر بأسمائه.

يدبُّ الإسم وحده على الطريق ويكرج.
الذين سموني ماتوا. تركوا لي هذا الاسم يتضخم في الدوائر والمعاملات، ويتكفل بمصيره.
ماذا في الاسم؟ سؤال قديم.

ما الاسم؟
لثغ مرح،
إيقاع يتجدد على كل شفة؟
أم رمل، ملح ثقيل يطهرون به كل ما يفسده اللسان؟
لا اسم فارغاً. ارمه سيرنُّ كحبة جوز صلبة.
لا اسم ملآن.
اكسر حبة الجوز هذه: فارغة.
ارم الاسم في أي أرض يصبح شجرة.
في أي رحم يصبح سلالة. لكنه يظل وحيداً مع ذلك.

من يحمل عبء الآخر: الاسم أم الجسد؟ هذه المرة عرفت أن الاسم سيد التخلي. ماذا يبقى من الاسم؟ جرح الولادة، ندبة الموت، لا شيء. تحت الاسم اسم. اكشطه سترى الترسبات الألفية للجفاف الذي استمر طويلاً هنا. أسئلتي كانت أسهل عندما كان اسمي يمشي جانبي كرفيق غير مرغوب فيه. من منا المصاب بالورم، ويرزح تحت الكتلة؟ جسدي أم اسمي؟

يد/ قدم
أرقب أطرافي. يدي تتضخم. قدمي تصبح جذع شجرة. لم تكن هذه يدي ولا هذه قدمي. آخرون جاؤوا بسلالم قصيرة وسكنوني. يجتاحني الخارق. جسدي يدعوه في غفلة مني. أفكر أني إن نفضت رأسي ستتفتت الكتلة وتتطاير شظايا. ألا يعتقد أولادي أني سوبر هيرو؟ تبقى مع ذلك هذه يدي. هذه الأخاديد العميقة في راحتي، خارطة ترحالي، خط العمر، ورقة عنب؟ أعجبني التعبير. فعلاً، كأنّ يدي ورقة عنب تخترقها خطوط وعلى وجهها شبكة من الشرايين والشعيرات والأنهار الصغيرة الجافة. كان لأمي يد مثل يدي. كانت تموت تحت جناح السرطان. وكنت أحاول فهم الكلمة التي بادلَتَها بنفس أخير: نور. ربما المسمى نفسه. فقد هجرتها الأسماء. كنت أقول لها بوقفتي الطائعة أمام نظرة العين اليمنى، إنها لن تترك قمح يديها يتحلل.

***

رأيت أخواتي، في المنام، كن على برندة بيتنا في المفرق. كان الوقت مساء. كان هناك إبريق شاي وعدد كبير من الكاسات، لم يكن هناك ضيوف، أو أحد من إخواني. بجانب إبريق الشاي صحن صغير فيه أعواد نعنع. كن يعرفن "وضعي الصحي" بتفاصيله رغم أني لم أخبرهن. قلن لي: رأيناك تقع هنا بطولك كله في مدخل بيتنا في المفرق وليس في لندن. هل تذكر عندما دخلت عتبة البيت ووقعت على يديك ووجهك؟ قلت: أذكر، لكن ذلك حدث قبل أشهر، وكانت هناك درجة لم أنتبه إليها.

تحت رحمة الكتلة
ليس لجسدي إسم في هذه الممرات المقفرة. له حيز يشار إليه باليد.

رأيت علي في اليوم التالي. فكرت في أغنية الليلة التي تركت كلها لي بعدما انقض الجميع. ضحك عندما أخبرته أنني غنيتها. قال ضاحكاً: لكنك لست أمي!
ـ المهم؟
المهم هو إزالة الورم. سيحدد مستر بيترسن وقت العملية. المزيد من الصور. ربما هذه المرة للجسد كله. الصباح يدب بعجلاته وخفق مراييل ممرضيه ومرضاه. المرضى المحيطون أخذوا أدويتهم بحجوزات كرتونية بيضاء. هناك أداء أوتوماتيكي. هناك لغة مشتركة وخلفيات نسجت بينهم وطاقم القسم.

واضح أنهم سبقوني إلى هنا. وضعوا روتيناً. أنا الآن أحدهم. شقيقهم في المرض، وربما في المحن التي لا أعرف عنها شيئاً "لم أكن مريضاً"، ولم تكن لدي محنة سوى ورطة الوجود الإنساني نفسه. سوى أنك لغز، سوى أنك لا تعرف هذا اللغز الذي سيفسر لك عن وجه مقنع أيضاً.

أنا الآن تحت رحمة الكتلة. هل استدعتها كلماتي؟ يا للسخف كيف أفكر بذلك؟ هل جاء وقت قصيدة حديث عادي عن السرطان. لتثبت لي مرة واحدة في حياتي أني كنت مصيباً، أن الشعراء قادرون على التنبؤ بمصائرهم؟ من يصدق ذلك؟ أنا أول المكذبين.

لاحظوا معي: هناك شخص صامد في هذا السرد الطالع من مناسبة رحيل صديق مشترك. الراحل. السارد. المسرود عليه. المسرود عليه كان قد نجا، بحسب السرد من آفة السرطان التي أصابت أخاه. لقد تجاوزه في العمر. السرد يقول إن الناس يموتون كما يموت أهلهم. كانت أمامي بضع سنين (...) لأبلغ العمر الذي رحلت فيه. أنا الآن في هذه السنين بالضبط.

***

أفكر أن مرضي يشبه حياتي. تطرف. لا توسط. مراودة الأقصى.
أنتظر العملية الجراحية. الورم في دماغي أنا وليس في أدمغة الأطباء. ليسوا مستعجلين. أنا المتعجل. لا على ذهاب ولا على بقاء. ولكن على إزالته فقط، لست مرتاحاً لوجود هذه الكتلة القاتمة في دماغي.
كل شيء حيٌ هنا في حديقة بيتي الصغيرة. هذا الطير الثقيل الذي يمر بجانبي وفي منقاره عود يابس. واضح طبعاً أنه يبني عشاً في الأكمة الخضراء التي التفت على شجرة السرو.
رأسي مسنود إلى نبتة مليسة تفوح منها رائحة ليمونية تنفذ إلى القلب.

منعني الطبيب من التدخين بتاتاً. قلت له بعد كل هذا الورم في دماغي؟ قال: ليس هذا قصدي، بل للتنفس بعد العملية ولتسريع شفاء الجرح بعدها.
أجرت العملية جراحة شابة تدعى صوفي
لا أعرف أين دخلت وكيف خرجت
ولكني أتذكر قبل دخولي إلى غرفة العلمليات أن بني أنس قرأ علي قصيدة يحبها ويعرف أني أحبها ايضا

أي إيثاكا هذه؟
كم مرة كتبت عن هذه القصيدة من قبل؟ كم مرة قرأتها؟ العديد من المرات.
ولكنها لم تظهر على هذا النحو مرة من قبل.
أي إيثاكا من قبل كانت هدفاً لرحلة، أو عودة من نوع ما.
أي رحلة هذه التي أسمع فيها صوت ابني أنس يقرؤها عليّ بترجمتها الإنكليزية البلورية وأنا أهم بالدخول إلى غرفة العمليات؟

***

وأنت تنطلق إلى إيثاكا
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
حافلة بالمغامرة، حافلة بالاكتشاف
لا تخف من الليستريغونيات والسيكلوبات
وبوسيدون الغاضب
لن تجد شيئاً من ذلك في طريقك
طالما احتفظت بأفكارك سامقة
طالما مست روحك وجسدك الإثارة الرائعة
لن تقابل الليستريغونيات والسيكلوبات
ولا بوسيدون الغاضب
ما لم تحملهم داخل روحك
ما لم تضعهم روحك أمامك
فلتأمل أن تكون رحلتك طويلة
ولعل صباحات الصيف تكون كثيرة
ويا لها من متعة? يا لها من بهجة
لتدخل موانئ تراها للمرة الأولي
ولعلك تتوقف عند محطات التجارة الفينيقية
لتشتري أشياء جميلة

عرق اللؤلؤ والمرجان، العنبر والأبنوس
فوصولك إليها، هو غايتك الأخيرة
لكن لا تتعجل الرحلة أبداً
فالأفضل أن تستمر لأعوام طويلة
حتى لو أدركتك الشيخوخة، وأنت تصل إلي الجزيرة
غنياً بكل ما جنيته في الطريق
دون انتظار أن تمنحك إيثاكا الغنى
لقد منحتك إيثاكا الرحلة الرائعة
فبدونها ما كان لك أن تبدأ الطريق
لكن ليس لديها ما تمنحه لك سوى ذلك
فإذا ما وجدتها فقيرة، فإن إيثاكا لم تخدعك
فبالحكمة العظيمة التي جنيتها، بهذه الخبرة الكبيرة
لا بد أنك ــ بالتأكيد ــ قد أدركت، بذلك ما الذي تعنيه إيثاكا.
(ترجمة: رفعت سلام)

***

قرأت هذا من قبل. أعرفه، وكنت أظن أنني أعرف إيثاكا التي يعنيها كفافي وأعرف أن الطريق إليها لم يكن سهلاً ولا أقل أهمية.

أو على الأقل لم تكن هدفاً أقل من الوصول إلى "البلاد"، أو "الوطن"، أو أيُ ما تعنيه إيثاكا لكل واحد منا.

ولكن عن أي إيثاكا يمكن الحديث؟ بل أي إيثاكا تبدو لي وأنا أسمع صوت إبني أنس يقرأ قصيدة الشاعر اليوناني العجوز؟

الرحلة؟
إلى ماذا؟
العودة؟ إلى أين؟

أفكر في هذا وأنا جالس بالقرب من نبتة المليسة. ها هي حية، نضرة، ذات رائحة لا تنضب وها هو صباح جديد يغمر حديقة بيتي الصغيرة. لا صورة للحياة أقوى من ذلك: جوقة من أصوات طيور وعصافير تتداخل ... وأسمعها تنتقل من شجرة إلى أخرى؟

***

"تجهيز: نفسي"
أول صورتين؛
قبل العلاج الاشعاعي:
رأيت وجهي
لقد صبوا قناعا" بلاستيكيا"على رأسي
صبوه بكل معنى الكلمة. أدخلوا رأسي في الة
وراحت تنسج خيوطها البلاستيكية
باحكام حول رأسي...
وما أن انتهوا رأيت نفسي في مرآة الحمام
ففزعت. من هو هذا الرجل
الفضائي؟ أو هذا الحرثون الكبير. أو الحرباء المرقطة
بالأخضر؟

بهذا القناع المحكم الى درجة انه يترك أثره على وجهي له شكل فتحات وشبابيك صغيرة وظيفته تثبيت رأسي عندما تصلط الأشعة .. لا حركة لا نأمة. هناك شخصان على يميني ويساري يضبطان الإحداثيات وينقلانها مباشرة الى غرفة التحكم التي اعرف اين هي
أعبر ممرا في الخارج فيه مراية وأرى هذا الرجل الأخضر يمشي الى جانبي
أهذا رجل أم تجهيز فني؟

العصفور المغرد
أهلاً أيها العصفور المغرد. ها أنت تتفقد موقعي اليوم، بجانب نبتة المليسة، أو التي يسميها الإنكليز فيزبانا.
أسمع صوتك في أغصان شجرة السرو، أعرف هذا الصوت جيداً، ولطالما سمعته في هذا الركن من حديقة بيتي الصغيرة.

ولطالما رأيتك ... بالقرب مني. لا تخف. ثم تطير إلى غصنك. لكن اعذرني نسيت اسمك، لا أظن أن هذا الأمر يؤثر على علاقتنا الطويلة، فأنت أيضاً لا تعرف اسمي. ترى جسدي المكوم على كرسي ... شعر رأسي الشائب. تعرف أنني أنا، تسمعني موسيقاك من دون أن أطلبها. وبلا قيد أو شرط.
المهم الآن هو وجودنا. أنا أؤكدك وأنت تؤكدني. هذه علامة حياة لكلينا.

***

جسدي
جسدي يتداعى كمركب للاجئين في بحر هائج.
الألواح تسقط..
المياه تصعد إلى السطح.
المحرك يتلقى ضربة من قرش أو حوت.
الحصار محكم.
وأنا لا أستطيع الفرار.
ليتني أستطيع أن أترك جسدي هنا.
وأنجو ببضع حبات جوز وضعتها في آخر لحظة في جيبي.

***
جسدي يخذلني.
وهذا ليس جديداً.
كان يفعل ذلك مراوغة.
الآن صريح ومباشر في مسعاه.
كلما نهضت وقعت على الأرض.
لا أستطيع أن أبقى واقفاً على قدمي ما تبقى لي من أيام.
حتى الشجرة لا تفعل.
ألم نر أشجاراً ممددة إلى جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف؟


أمجد ناصر

ها هنا آخر قصائده التي نشرها يرثي فيها نفسه:

أمجد ناصر - الشاعر.. شعر


١
بين أترابي فزت بالمنفي
فكافأتني سيدة بكنزة كبر أولادها الخمسة
ولم يرادوها .
وبين أولئك الذين مابرحوا يتساقطون من المنعة
منحت جزيرة غادرتها بين رحلتين لقراصنة عميان
كانو آية في الغضب . وأعطيت مدنا تدين إلى
المنتحرين
بفصول من موسيقى الخشخاش .
الأبراج
والضفاف .
والأرواح المندفعة تحت المطر
أوصلتني إلى مافعلته يداى .

٢
أما العبرة التي أستخلصها التابعون
فتكمن في التأويل الذي أصبح مذهبا .
وصل عام ١٩٥٥ فعالجوه بالفاقة
وبين أترابه قاده ضوء بارد الى مارأته عيناه

٣
كبرت طفلتي
ولم تر في الأمر مايستحق الذكر .


أمجد ناصر - ١٩٥٥

أمجد ناصر - فتاة في مقهى " كوستا"


في مقى " كوستا " بهمرست جاءت وجلست على الطاولة أمامي
مع أن المقهى خال من الرواد في ضحى يجاهد عبثا لانتزاع شعاع من
سماء لندن الطلساء . كنت أفكر في قصيدة فيها فتاة تأتي وتجلس أمام
شاعر يحاول أن يكتب قصيدة عن فتاة تأتي وتجلس أمامه في مقهى
خال من الرواد .
وضعت الفتاة كتبها على الطاولة وحقيبتها على الأرض ونضت
عنها سترة عنابية من الجلد الصناعي فتساقطت قطرات من المطر
واندفع نهداهلاالقاسيان إلى الأمام وارتجا خاف بلوزتها .
مالت على حقيبتها فتهدل شعرها فلمته بحركة سريعة إلى الخلف ،
أشعلت سيجارة و أخذت ترشف قهوتها وهي تنظر بزاوية منحرفة
من عينيها .
أكثر من مرة همت أن تقول شيئا ولم تفعل وأكثر من مرة هممت
أن أتحدث إليها وأتراجع .
ببلوزتها الزرقاء نصف الكم التي تكشف زنديها المبرومين و بكتفيها
اللتين تنط منهما فهود صغيرة وبقدمها التي تتحرك تحت الطاولة
على شكل مروحة
كانت تشبه فتاة القصيدة .
كل الأشارات تدل عليها .
كان وزن الهواء وحركته يتغيران تحت الطاولة .
أوقعت قلمي ، كما لو سقط عرضا ، على الأرض ، لأرى ما الذي يجري
وما إن التقطته ورفعت رأسي حتى اختفت الفتاة .
كان على الحائط أمامي ملصق إعلاني كبير لفتاة تجلس وحيدة
تدخن وتحتسي قهوة وتنظر بزاوية منحرفة من عينيها في مقهى
يشبه هذا المقهى .
*********
دوامة الهواء ماتزال تحت الطاولة
فنجان القهوة الساخن
السيجارة المدخنة على حافة المنفضة
المنديل الورقي المبقع بأحمر الشفاه
قلبي الذي تسمع دقاته من بعيد .
القصيدة التي فكرت بقصيدة أخرى وكتبتها .


...... ........ .............. ......

أمجد ناصر - في أحوال القُبلة المتقلبة


داهمه هذا الخاطرُ وهو يمشي في شارعٍ يتدافعُ فيه الناسُ بالمناكبِ إلى أقرب محطة باصٍ أو "مترو" فراراً من يوم عملٍ طويل: ماذا لو ماتَ الآنَ لأيِّ سببٍ تافهٍ، مثلما يموتُ الناسُ عادةً، وقاموا بإفراغ محتوياتِ أدراج مكتبه ووجدوه في المغلف المطبوعة عليه قلوبُ القديس فالانتاين الحمراء؟
أيُّ سقطةٍ سينهي بها حياتَه المتأرجحةَ على حبالٍ رفيعةٍ، بل قل، أيُّ نكتةٍ سيتندرُ بها زملاؤه إلى أمد طويل؟ لم يكن الأمرُ يتعلقُ بمتحف الصورِ والرسائل والزهور المحنّطةِ التي أرسلتها إليه النساءُ اللواتي ظنتْ كلُّ واحدةٍ منهن أنها حبّ حياته. ولا أقلقته كثيراً العلبُ والأكياسُ التي تحتوي أعشاباً ومقوياتٍ جنسيةً شرقيةً هو الذي لم يعتزَ يومًا بشيءٍ قدرَ اعتزازه بفحولته ذائعةِ الصيت. أما دفترُ المذكرات الذي دوّنَ فيه رأيَه الصريحَ بربِّ عملِه كدجالٍ من الدرجة الأولى وزملائه كأنذالٍ لايستحقون أن يجمعَه بهم حلبةٌ أو "كريدور" فيهونُ أمرهُ أمام ذلكَ "الشيءِ" الموجودِ في مغلفٍ مطبوعة عليه قلوبُ القديس فالانتاين الحمراء.
...........
ابتسمَ، ثم راحَ يضحكُ يضحكُ يضحكُ من دونِ أن يلاحظَ أنَّ الشارع خلا، تماماً، من المتدافعين بالمناكب فراراً من يوم عملٍ طويل.

لندن - \3\2001

***

حلُّ متأخرٌ لأحجيةٍ قديمة

الآنَ، فقط، حزرتُ تلك الأحجيةَ بعد أن اجتزتُ الأربعينَ خبباً ووجدتُ، ذاتَ مرةٍ، ذلك "الشيءَ" تحتَ مخدتي يتفوحُ برائحةِ جَديٍ صغير. فلم يخطر على بالي أن هذا ما يمكنُ أن تتركَهُ امرأةٌ، عن سابق إصرارٍ وتعمدٍ، بعد ليلة حبٍّ رضية. السؤالُ (أو لنقل الأحجيةَ) الذي طرحه عليَّ صديقٌ متزوجٌ يكبرني بعشرِ سنينَ يرقى لأيامِ الوقوفِ ساعاتٍ من دونِ كللٍ أو مللٍ تحتَ شُباكِ الحبيبةِ التي لم يصلْ حبُنا، في ذروةِ هيجانهِ، إلاّ إلى قُبَلٍ خاطفةٍ تَرْتجُّ لها أعمقُ طبقاتِ مياهِنا الجوفيّة.:
ما الذي تتوقعُ أن تتركَه لكَ امرأةٌ بعد ليلةٍ حبٍّ رضيّةٍ؟
ذكرتُ أشياءَ مثلَ وردةٍ، منديلٍ مُعطّرٍ، خُصلةِ شَعرٍ، بل تطرفتُ وقلتُ بقعةَ أحمرِ شفاهٍ على قميصٍ تحاولُ أن تواريها وأنتَ عائدٌ إلى البيت.
ضَحِكَ صديقي الذي لم يكن يكتبُ الشِعرَ ولا النثرَ ولكنه كان يرى فيَّ شاعراً واعداً إن تخلصتُ، سريعاً، من معجمي الأثيرِ: القمر،الصفصاف، الياسمين، الأصيل، وقال بخبثٍ:
أحسنتَ
أحسنت!

***

ماذا في القُبلة؟

لشدَّ ما حيَّره الموقعُ الإنطولوجيُّ للقُبلةِ في الحبِّ، أو ما يتصورُه حبَّاً. مرةً قالتْ له بائعةُ هوى وهي تعدّدُ "ثَمَنَ" كلِّ فعلٍ يقومُ به معها (منفصلةً تماماً عن جسدِها أثناء شرحِ شُروطِ التعاقدِ.. والممارسةِ أيضاً) إنَّ لكلِّ شيءٍ ثمنه.. وكلُّ شيءٍ ممكنٍ.. إلاَّ القُبلة!

امرأةٌ مطلّقةٌ يعرفُها قبلَ الزواجِ وبعدِه تركتْ، في لحظةِ انسجامٍ كاملٍ، يدَه تصولُ وتجولُ في أنحائها البهيّةِ وشفتيه تطْبعانِ قُبلاً مُذَنَّبةً على نحرِ الصدرِ، العُنقِ، الخدينِ، ولما اقتربتا من الفمِ أدارتْ له خدَها. استغربَ، طبعاً، هذا التمنّعَ المفاجىءَ بعدَ أنْ قامَ بكلِّ ما يلزمُ للوصولِ إلى الشفتين فقالتْ له: لستُ جاهزةً لتسليم مفتاحي!

لكنَّ الأغربَ، من هذه وتلك، الفتاةُ التي بالكاد يعرفُها ولم يكنْ في ذهنه لما دعاها إلى كأسٍ سوى تزجيةِ وقتٍ مرحٍ معها. الكؤوسُ المتلاحقةُ التي تجرعاها تحتَ قصفٍ مُتصلٍ من الضحكِ والهذرِ أدتْ إلى تلامس الأيدي، السيقانِ، تقاطعِ الأنفاسِ، فعزّزَ الاحتكاكَ بلمساتٍ اختباريةٍ للكتفِ، لوحِ الظَهرِ، تجويفِ الخصرِ، أرادها عارضةً، كهذا اللقاءِ نفسِه، فتحولتْ، لدهشتهِ، ضمّاً وتقبيلاً على الفم، وراحَ اللسانانِ يفتحانِ محاراً في الفمِ ويُقطّرانِ عنّاباً على الشفاه.. وإذ حاولَ الإنتقالَ، سُفلاً، إلى الخطوةِ الأخرى أمسكتْ يدَه.

لدهشته أيضاً، بل لإحباطه، قالتْ له، بامتلاءٍ داخليٍّ لم يبلغْه: هذا يكفي.
لا بدَّ أنه احتارَ، لاحقاً، تحتَ أيِّ نجمٍ ماكرٍ يُصّنفُ أحوالَ القُبلةِ المُتَقلِّبة.
القُبلةُ..
القُبلةُ..
ماذا في القُبْلةِ؟

***

تحليلُ القُبلة

كيف يمكنُ أن يتوقف الأمرُ عند هذا الحدِّ عندما تُطبِقُ الشفتان على الشفتين ويندفع اللسانان لإيصال بريد الدم الحامي إلى أقصى الثغور ولا يتكللُ المسعى بتلك الشهقات، الانتفاضاتِ، تقطُّعِ الأنفاسِ التي تُشبهُ مفارقة الحياة؟ أهو تواطؤُ نصفِ الرغبةِ، نصفِ السُكرِ سرعان ما يتبددُ إذ تنزلقُ اليدُ لتفتحَ سحّابَ البنطلون بعدما فكّتْ عُرى القميص ونَفَرَ نهدانِ فتيّانِ لا يعترفان بأنصاف الحلول؟ أتكونُ القُبلةُ، هذا المفتاحُ السريُّ الذي نَحْسبُ أنه يفتحُ أيَّ بابٍ مهما تعقّدَ قفله، وضعاً قائماً بذاته لا يؤدي إلى أيّ شيءٍ عداه، أم نزوةً يَحْسُنُ أن تُنسى، ما دامتْ أُدْرِجتْ في دفترِ أعمالِ الليلِ الناقصةِ، في اليوم التالي؟
القُبلةُ..
القُبلةُ..

ابريل 2001

***

القلعة

جسدُكِ قاطعٌ كالكلمةِ التي رميتِها فصار تفاحُ القبلةِ نرداً، كسكينٍ تقطعُ وتقطعُ ولا تتركُ أثراً. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ إلى درجٍة أشكُّ فيها بمصدر هذا الشميم الذي يمهد الطريق إلى طيرانٍ بلا أجنحة، فكيف في هذه الأرض الضيّقة يمكنُ للخشخاش أن يذرّ بقرنه. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ كعين الحسود ولكنني بأطوال نايات أسلافي أدخلُ وأجدُ ريشاً ملوناً وعظاماً ليّنةً ولا أصلُ إلى ما أخفاه اسمُكِ عندما تقدم إليَّ بجرسه الآمرِ. جسدُكِ قاطعٌ وكتيمٌ وضيّقٌ يقرّبُ خدماً وأوباشاً من جاهلي إعجازه ويغلقُ قلعتَه على نفسه.

***

Déjà vu

I

هل كانت تغني لكاميليا جبران تحت سماءٍ أرختْ سدولاً ثقيلةً على ساحة "الطرف الأغرّ" أو هو امتدادٌ لحديثهما عن المغنية الفلسطينية التي تحزُّ، عندما تبلغُ حالةَ السلطنةِ ، حبالَها الصوتيةَ بريشةِ نسر؟ لكنه مع ذلك سمعَ، في ليلٍ مترعٍ بالنبيذِ والصبواتِ، تلك الأغنيةَ ونبشت يده كنوزاً دفينة. هكذا يتذكرُ، خفتَه غيرَ المحتملةِ (على حدِ وصفِها لحالته) في ذلك الركنِ القصيِّ من البار: ظلَ يشربُ ويشربُ ويتحدثُ عن الأرواح التي لا ترتاح في الأبدان، مهما طال الزمان، إلا بعد أن تعثر على صنوها، فيما يدُه تعبثُ بطرفِ قميصِها الأبيضِ وتتسللُ (كأن شيئاً لم يحدث) إلى الخصرِِ فالظهرِِ فسلسلةِ العمودِ الفقريّ وإذ وصلتْ إلى الفقرةِ الأخيرةِ عثرتْ على خيطٍ من النايلون راحَ يشدُّهُ كطفلٍ فأنّبته، على هذه الزعرنةِ ، بنبرةٍ حيّرَه مغزاها، فهل يواصلُ شدَّ الخيطِ، يهبطُ قليلاً، يَكشفُ القميصَ ليراه، أم يتوقف؟
يتذكرُ كذلك (وهو يزدادُ خفّةً مع توالي الكؤوس واللفائف) أنه قبّلَها على شفتيها الجافتيِن (لم يعرف إن كانت تلك علامةً على عدم رغبتِها فيه أو لا؟) ثم همسَ في أذنها، من دونِ أن يدري لماذا، أن لها صوتاً ذكورياً مغوياً فنظرتْ إليه كمن يستطلعُ ميولَه الجنسيةَ فأكدَ لها، بتضرعٍ، أنه ليس شاذاً جنسياً وأنها امرأةٌ مشتهاةٌ من أخمص قدمِها حتى شحمةِ أذنِها (تذكّرَ أيضا أنه لعَقَ الأخيرةَ مراراً عندما كانت تُديرُ له خدَها ولم تندَّ عنها آهةٌ واحدةٌ، لا بدَّ أنها ليست مفتاحَها!).
................................
عندما التقاها ثانيةً كانت ترتدي القميصَ الأبيضَ ذاتَه ولشعرِها نفسُ رائحة الأعشابِ البرّيةِ الجافّةِ التي شمَّها من قبلُ، فدعاها إلى كأسٍ أو عشاءٍ، فلاحظَ، وهما يرتشفانِ كأسيهما، أن قميصَها مُحكمُ التزريرِ (هل كان كذلك في المرة الأولى؟) ولا يكشفُ، عندما تميلُ أو تنحني، جانباً من خصرِِِها الأسمرِ، أو خيطاً من النايلون فوقَ حافةِ البنطلون ذي الكمر الساحل .

تحدثتْ، وهي تشربُ كأسَها بوتيرةٍ أسرعَ من المرةِ السابقة، عن النشوةِ الجسديةِ التي لا تعادلُها نشوةٌ أخرى عندما تُرضعُ طفلَها (أحسَّ بطعمِ الحليبِ ساخناً على شفتيه)، ثم سألته، عرضاً، هل جرَّبَ حبوبِ "إكستاسي" فقال لها إنه جرَّبَ حشيشةَ الوجدِ على "جبل قاف" ، وتسللتْ يدُهُ إلى خصرها وأمسكَ الخيطَ إياه وأخذَ يشدُهُ ولكنها سرعانَ ما نزعتْ يدَه وقالتْ بنبرةٍ مُستنكرةٍ:
ـ أين تظنُ نفسكَ؟
فأجاب: في لندن.
فقالت: بل في رام الله!
ثم شاهدَ على شاشة التلفزيون، في أحدِ أركانِ المطعمِ الذي يتفوّحُ برائحةِ الشواءِ والأراجيلِ، مغنيةً بشعرٍ قصيرٍ غزاه الشيبُ تغني: ودي أغني لنسمة الحرية...

II

لم تعد المشكلةُ أنها نِصْفُ رَفضَتْهُ نِصْفُ قَبِلَتْهُ (تلك الأنصافُ التي وسمتْ حياتَه بعدلها السقيم) بل التأكدُ أن ذلك اللقاءَ حدثَ في لندن وليس في رام الله التي لم يزرها قط.
براهينُه أقوى من كونها مصادفاتٍ: قميصُها الأبيضُ، شَعرُها المتضوّعُ برائحةِ أعشابٍ بريّةٍ جافةٍ، صوتُها المتهدجُ العميقُ (لا يدري لِمَ أحسَّه ذكورياً)، يدُه التي تجولتْ بأنحائها (دليلُها الرعشةُ وحدها)..وأخيراً حَنَقُها من وصفهِ الخيطِ الذي عثرَ عليه فوقَ حافّةِ البنطلون بأنه نايلون فصححتْ جهلَه الفادحَ بالمراتب الحسيّةِ للثياب، قائلةً:حرير!فَهمْتَ؟ حرير! أهو الإفراطُ في الشربِ واللفائف الملغومةِ ما جعله يشكُّ في لقائِها جنبَ تمثالِ "نلسون" ؟ ولكن ماذا عن السماءِ المهددةِ بمطرٍ وشيكٍ التي التقاها تحتَها، "البار" الذي تلفحُ الداخلَ إليه كمخةُ البيرةِ والرطوبة، جرسِ الكأسِ الأخيرةِ في الحادية عشرة إلا ربعا (أين تُقرعُ الأجراسُ في ليلِ الشاربينَ إلاّ في لندن؟)..ثم محطةِ "هلبورن" التي لا يعرفُ هل وصلا إليها بالسيارة أو مشياً على الأقدام؟ أجرى له كل هذا في حياةٍ سابقة؟ ولكن مهلاً. إنه يتذكّرُ، الآنَ، شيئاً عن رام الله في خلفيةِ هذا الهلامِ الرجراج. فعندما دَخَلّتِ المحطةَ مسرعةً لتلحقَ القطارِ الأخيرِ لم تقلْ وداعاً بل قالتْ، بصوتٍ أيقظَ حارسَ المداخلِ الضّيقةِ للعالم السفلي:
رام الله تُحبُّكَ !
ثم سمعَ الأغنيةَ تأتي من عمقِ الدرجِ المتحركِ: ودي أغني لنسمة الحرية...

III

بعد أن قلّبَ الأمرَ على وجوهه وصلَ إلى هذا الإستنتاجِ المريحِ: ما دامَ لا سبيلَ إلى تأكيد أو نفي ذلك اللقاءِ من أصله، لا فقط أين وكيف، فإنّ ما حصلَ ربما كان" ديجا فو" أو، بحسب رامبو، تشوشاً كاملاً للحواس.
هكذا تكون ترهاتُه عن الأرواح التي لا ترتاحُ في الأبدان إلا بعد أن تعثرَ على صنوها، حماقاتُ يدِه التي تكذِّبُ نيرفانا لسانِه، فشله الذريع في أخذِها إلى السرير، كأنها لم تكن.
هو، الآن، فَرِحٌ بنجاته من اعترافٍ مضحكٍ آخرَ عن الحبِّ الذي لم يتقدم ساعةً أو يتأخر عن موعده المرقون في اللوح المحفوظ! جيدٌ أن هذا اللقاءَ الذي فَخْخَه بشراك "القدر" كان وهما خالصاً، وإلا لعانى الأمرينِ من القُبل الزائفةِ التي تلي الفراغ من الجماع والأكاذيبِ التي ينبغي عليه حبكُها جيداً كلما بدا منه فتورٌ أو تراخِ.
أيُّ راحةٍ أن ينجو من ترهات لسانه وحماقات يديه.
حبٌّ آخرُ كهذا ويهلك ( مَنْ قالَ هذا مِنْ قبل؟).
لم يكن حبّاً.
لم يكن جرحاً.
لا مرارة في الحلق.
ولا رضاب على الشفتين.
وإنما...إنما لحنٌ شاحبٌ يتردّدُ في أقصى زاوية في نفسه.

إنه الآن حرٌّ.
إنه الآن خفيف.
إنه الآن يدندنُ في القطارِ الأخيرِ: ودي أغني لنسمة الحرية....
.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر 15781612
أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر Icon_minitime 2021-11-01, 8:54 pm


أمجد ناصر - ماريا.. ماريا


قال الرجل: أنا الآن في السبعين، ما الذي يرجوه رجل في السبعين، بل ماذا يفعل رجل في السبعين قادم من بلد بعيد في ردهة فندقٍ قاتمٍ كروح هذه البلاد، كسمائها، كحاناتها، كألوان بزات الرجال الخارجين بمظلات ملونة من العالم السفلي لا يلوون على شيء؟ ماذا أفعل هنا بحق السماء؟

تذكَّر أنه جاء إلى هذه المدينة جندياً في الحرب. كان شاباً في الخامسة والعشرين، وفي حانة قاتمة قاتمة، ذات جدران قاتمة، ووجوه رواد قاتمة رأى ذلك الوجه الذي أنار، فجأة، كل شيء: الحانة، ورق الجدران، وجوه الرجال القاتمين العاكفين، بإخلاص ديني، على كؤوسهم. هل يمكن أن تطلع شمس في حانة قاتمة؟ في ليل قاتم؟ شمس صغيرة ضاحكة تلمع في ليل قاتم وتضيء جوانبه؟ ليل قاتم. ليل ثقيل. كرَّر الرجل السعبيني تلك الكلمات أكثر من مرة. لو كان الرجل السبعيني يعرف امرأ القيس، لقال إنه ليلٌ كموج البحر أرخى سدوله، ولكنه لا يعرف امرأ القيس فقال إنه ليل قاتم. ليل ثقيل.

آه.. "ماريّا"، "ماريّا". قال الرجل السبعيني. تلفظَّ بهذا الاسم كتعويذة. نطق حروفه بتمهلٍ حرفاً حرفاً كمن يستعيد حلاوة عرفها فمُ شابٍ في الخامسة والعشرين من عمره. كان اسمها "ماريّا"... كانت... انقطع بث راديو سيارة يقودها رجل خمسيني يستمع إلى حكاية الرجل السبعيني في شارع في المدينة القاتمة نفسها ولم يعرف، المستمع الذي راح ينجذب الى الحكاية، إن كانت "ماريا" نادلة في تلك الحانة أو مجرد زبونة عابرة. لكن الرجل السبعيني التقى "ماريا"، بالتأكيد، في تلك الحانة، في ذلك الليل الثقيل. كانت عندما تتحرك يتكهرب كل شيء حولها. شمس صغيرة ضاحكة أنارت روحه الشابة الذاهبة الى حرب...

دخلت سيارة الرجل الخمسيني شارعاً انقطع فيه البث عند نقطة حاسمة في الحكاية، لكن صوت الرجل السبعيني عاد مرة أخرى يروي حكايته وهو يجلس في ردهة فندق ينتظر حدثاً تمناه طويلاً. يقول الرجل السبعيني إنه لم يصدق، أصلاً، أنَّ الحب يمكن أن يحدث هكذا من شرارة قدحت في ليل قاتم، لكن إن لم يكن هذا الذي يضيء جانباً من ليل المدينة ويختطف الأعماق، هذا الذي ترتجف له الأوصال، هو الحبُّ فما عساه يكون؟

ينقطع البثُّ مرة أخرى، لكن الرجل الخمسيني الذي يقود سيارته في نفس المدينة القاتمة يستنتج أنَّ "ماريا" أحبَّت، بالانجذاب نفسه، الشاب ذا الخمسة والعشرين عاماً الذاهب الى حرب تدور على الجانب الآخر من الحدود، وأنهما تواعدا، إن عاد حياً، على حياة طويلة بعد ذلك . كان قد حدثها عن بلدته الصغيرة ومزرعة عائلته والسماء المنقشعة هناك، والأولاد الذين سيأتون، ويمكنهما أن يفكِّرا، منذ هذه اللحظة، بالأسماء. ولكن كلا. لندع الأسماء لاحقاً. يقولان.

انتهت الحرب. خرج منها الرجل، الذي ترك قلبه في مدينة قاتمة، حيّاً. عاد الى بلاده مباشرة ولم يمرّ بمدينة "ماريا". هكذا رتبت القيادة عودة الجنود. كلّ محاولاته للمرور بمدينة "ماريا" باءت بالفشل. لكنه يحتفظ، إلى جانب صورتها في محفظته الجلدية، بعنوانها. صورتها كانت حرزه الحريز، ولعلها هي، لا شيء آخر، التي نجَّته من الهلاك في حرب هلك فيها كثيرون. يكتب إليها فور عودته الى دياره. يقول إنه حدَّث والديه عنها، وإنهما أحبَّاها، بالسمع، مثلما أحبَّها هو، وإنه جهزَّ بيت الزوجية في المزرعة.. فتعالي بسرعة.. تعالي بسرعة.

ينهض الرجل السبعيني من أريكة الفندق المريحة. ينظر إلى ساعته. العقارب اللعينة تكاد لا تتحرك. الوقت بطيء ومراوغ. يتمشَّى قليلاً في الردهة. ينظر إلى الشوارع المضيئة في الخارج. يسمع حركة الناس المتعجّلين دخول العالم السفلي. يعود إلى أريكته ويقول لنفسه: أنا الآن في السبعين. مرَّت مياه كثيرة تحت الجسر. كيف أمكن لي ألا أنسى ذلك الوجه طيلة هذه السنين؟ بل كيف تسنَّى لي أن أنسى فعلتها التي لم تفسرها قط؟ آه ماريا. ماريا. كيف فعلت ذلك بي، يقول.

لم يكن الرجل الخمسيني يسوق سيارته في نفس المدينة القاتمة، مدينة "ماريا"، على غير هدى. إنه ذاهب إلى موعد مع صديق في وسط المدينة ويخشى أن يتأخّر كعادته. لكن حكاية الرجل السبعيني التي يبثّها راديو سيارته أسرته، ويريد أن يسمعها حتى النهاية. يبدو أن قدرته على تقمّص الشخوص والمشاعر لم تغادره رغم أنه دلف الى خمسيناته.

يعود الرجل السبعيني إلى أريكته ويظل ينظر الى الساعة. ثم يتذكَّر أنها حجزت، كما أخبرته في رسالة برقية، مقعداً على متن باخرةٍ ستصل إلى ميناء مدينته في اليوم الفلاني. يقول الرجل: لا أعرف كيف مرت الأيام التي استغرقتها رحلة الباخرة حتى وصلت إلى الميناء. ذهبت قبل وقت طويل من وصول السفينة. تأنقت كما لم أفعل من قبل. نظرت كذا مرة الى المرآة. تحسست ذلك الخافق بين أضلاعي وقلت له: لا بأس. لن يطول الوقت. ثم رأيت السفينة ترسو في الميناء. خرج الركاب المنهكون من رحلة شاقة وطويلة تباعاً، ولكنها لم تكن بينهم. لم أر ذلك الوجه المنور، ولا تلك المشية الهشة. سألتُ عنها فقالوا إن هناك أمتعة بالاسم نفسه موجودة في الشحن ولكن من دون الراكبة.

يأخذ الرجل أمتعة المرأة التي لم تأت. يغالبه الفضول فيفتح أحد الصناديق. يجد فيه ثياباً تشبه ثياب العرس. كانت هيأت كل شيء، يقول الرجل لنفسه. ولكن لماذا لم تأت؟ ماذا حصل؟ ما حصل سيعرفه بعد أن تصله رسالة قصيرة منها بعد أيام. الرسالة تقول التالي: آسفة، لم أستقل السفينة في اللحظة الأخيرة. لم أستطع المجيء، أعرف أنني قطعت وعداً بذلك ولكن لا يستطيع المرء، أحياناً، الحفاظ على كل الوعود التي يقطعها. أعتذر مرة أخرى، راجية أن ترسل أمتعتي إلي. كان يريد أن يعرف لماذا لم تأت؟ سطور الرسالة وغموض كلماتها لا تشفيان الغليل. ما الذي حصل؟ هل التقت شخصاً ما قبل الرحلة بلحظات ووقعت في غرامه؟ ولكن كلا. يصعب تصديق ذلك. ليس في آخر لحظة تقع أشياء كهذه. هل امتحنت علاقتنا، قبل أن تضع قدماً على درج السفينة، ولاح لها الأمر غريباً برمته؟ يتأوه الرجل السبعيني، ثم يقول: ولكن علاقتنا كانت حقيقية. حقيقية؟! يتساءل. ما معنى هذه الكلمة؟ لم أعد أعرف. المهم أنه قرر، بأثر من الصدمة، ألا يعيد الأمتعة، بل سيمزق الثياب. يقول الرجل السبعيني إنه فعل ذلك لأنه جنَّ جنونه. ندم، لاحقاً، على ما فعل. كان عليه، أضعف الإيمان، أن يحتفظ بقطعة منها!

يتشوَّش البثُّ المنبعث من الراديو، يحاول الرجل الخمسيني أن يضبطه ولكن من دون جدوى. يريد أن يعرف ماذا حصل بعد ذلك. ما حصل يمكن استنتاجه من السياق. فقد تزوج الرجل السبعيني من فتاة أخرى، رائعة كما يقول، من بلدته. كم مضى على زواجنا؟ يسأل نفسه. ثم يجيب: خمسة عقود. إنه زمن طويل، يقول الرجل السبعيني، ويضيف: حتى إن كلبه الثاني الذي اقتناه بعد موت كلبه الأول بات هرماً جداً الآن.

أثناء تقطّع البثّ يفهم الرجل الخمسيني، من سياق القصة، أن هناك اتصالاً حصل بين الرجل السبعيني و"ماريا" وأنهما اتفقا على اللقاء في مدينتها، في فندق قريب من مكان لقائهما الأول. وهذا هو اليوم الموعود. بعد قليل ستحضر. كيف حصل الاتصال بعد نحو خمسة عقود على افتراقهما لم يعرف الرجل الخمسيني، وليس ذلك مهماً. المهم أن اللقاء سيحصل. يتذكَّر الرجل السبعيني أن لماريا شعراً كستنائياً وخصراً ضامراً وصدراً مندفعاً إلى الأمام. يتساءل : أما يزال شعرها يحتفظ باللون نفسه؟ أما يزال لها ذلك الخصر الضامر؟ أم أن الأيام فعلت بشعرها وخصرها ما فعلته بشعره الذي شاب وتساقط ومحيط بطنه الذي أصبح مدوراً. ولكن الأهم، يتساءل الرجل السبعيني: أما تزال تمتلك ذلك اللمعان الذي يشعُّ من عينيها، خصوصاً، عندما تضحك؟

ليس مهماً، المهم أن تحضر. هذا ما يقوله.. ينظر إلى ساعته ويعرف أن الوقت قد أزف.

لكن سيارة الرجل الخمسيني تدخل، مجبرةً، في الطريق الى الموعد نفقاً طويلاً، فينقطع البثّ. يسرع أكثر مما هو مسموح لسيارة تسير في نفق، لكن النفق اللعين يكاد لا ينتهي، وما إن يخرج من النفق ويعود البثُّ مرة أخرى حتى يسمع الرجل السبعيني يقول: أنا الآن في السبعين، كم سأعيش؟ خمس سنين، ست سنين، أتمنى، طبعاً، أن تكون عشراً. حينها سيكون، بالتأكيد، قد مات كلبي، وسنقتني كلباً آخر. ستطلب زوجتي أن نسميه بالاسم نفسه أيضاً، وسأقبل على الأغلب.

يعرف الرجل الخمسيني أنه يستطيع سماع القصة معادة في وقت آخر. فهذا ما تدأب عليه الإذاعة الرصينة التي لا يستمع إلى غيرها. لكنه لم يفعل. فهو يريد أن يحتفظ، في نفسه المتردّدة، بالاحتمالين قائمين: أن لا تكون حضرت في آخر لحظة كما فعلت قبل أكثر من أربعين عاماً، لكي تُبقي، ربما، تلك الذكرى بنداوتها الأولى، أو أن تكون حضرت ولم تكن هي التي توقعها بعدما نكلت بها الأيام.

تذكَّر الرجل الخمسيني شاعراً ستبقى من مجلد أعماله، بعد أن يتغمده النسيان برحمته، بضعة سطور، كتب قصيدة يتحدث فيها عن "بنلوبي" التي انتظرت "عوليس" عشرين سنة، ولما وصل قالت لنفسها: آه، أمن أجل هذا الرجل الرث ذي الركبة الجريحة ظللت أحوك لهفة صامتة كل هذه السنين؟!

طبعاً قد تكون للقصة نهاية ثالثة.. ولكنه لن يعرفها، بل لا يـــريد أن يعرفها.

أمجد ناصر - السيف والكلام


الإقناع ليس ضرورياً في حكايات "ألف ليلة وليلة"، بل كسب الوقت. هذه استراتيجية شهرزاد. نعرف أنها كانت تنهي ليلتها مع شهريار بحكاية ناقصة. الشغف بالحكاية، قوتها، طبقاتها المتداخلة، كانت تكفل أن يُرخي الملك يده عن السيف قليلاً، ليصل إلى نهاية الحكاية. لكن، كانت الحكاية تلدُ أخرى فأخرى، إلى أن ترتخي قبضة شهريار، تماماً، فيصير أسير الأسيرة: شهرزاد.
لفت نظري إلى هامشية "الإقناع" تداخل حكايتي الليلتين الرابعة والخامسة. وأتحدّث عن حكاية الصياد والجني. فقد علق في شباك صياد قمقم. فتحه، فتصاعد الدخان من القمقم الممهور بختم النبي سليمان، واستوى مارداً جباراً. ولما عرف الجنيُّ أن النبي سليمان، الذي حبسه في هذا القمقم، مات منذ نحو 1800 عام، قرَّر أن يبطش بالصياد، فقال له الأخير إنه لا ذنب له في حبسه هذه الدهور، فما هو سوى صياد يسعى وراء رزقه. غير أن الجنيّ أبى. فعمد الصياد إلى الحيلة، وقال للجني، بشيء من الاستفزاز، لا أصدِّق أنك تستطيع، بهذا الحجم الكبير، أن تدخل القمقم الصغير مهما فعلت.
يلتقط الجنيُّ الطُعْمَ، فيتحوَّل إلى دخان يتصاعد إلى السماء، ثم لا يلبث أن يدخل في القمقم، فيسارع الصياد إلى إغلاقه، بختم النبي سليمان، ويقول للجني شامتاً: حاولت إقناعك أن لا ذنب لي في حبسك، لكنك أبيت. والآن، سأعيدك إلى البحر، وسأحرص على ألاّ يصطادك صياد، حتى تمكث 1800 سنة أخرى في قاع البحر.
هنا، بالضبط، تستخدم شهرزاد حبكتها السردية، التي تربط من خلالها الحكايات، فلا تنتهي حكاية حتى تبدأ أخرى، ثم عندما يدركها الصباح، تمتنع عن الكلام المباح، تاركة حكاية الليلة السابقة ناقصة.
... يستعطف الجنيُّ الصياد ألاَّ يلقيه في الماء، فنسمع الصياد يقول للجنيّ: ما جرى بيننا يذكّرني بحكاية الملك يونان والحكيم روبان. فيسأله الجنيُّ عنها، فيقول: كان، في سابق العصر والأوان، ملك يدعى روبان، أصيب بالبرص، فتقاطر أطباء المملكة إلى القصر لعلاجه، غير أنَّ كلَّ الجهود لم تنفع، فظلَّ البرصُ ينتشر في جسد الملك الذي كره نفسه، واعتكف مكتئباً. وفي ذروة تلك الحالة، مرَّ بالمملكة حكيم عجوز يدعى روبان، له باع طويل في الأعشاب والمستحضرات الطبية، فسمع الملك بخبره، فطلب إحضاره إلى القصر، رغم ممانعة وزرائه وحاشيته، لكنَّ الملك اليائس أصرَّ. فحضر الحكيم. وبعد معاينته الملك، حضَّر له الدواء.
لم يدخل الحكيم روبان حكاية الليلة الرابعة ليفشل، إذ لا معنى لذلك. عليه أن ينجح. صار من خاصّة الملك، مما أثار عليه نقمة الحاشية، فقررت أن تتآمر عليه. وبالفعل، تتمكن الحاشية من إيغار صدر الملك عليه. فيأمر بجزِّ عنقه. وكما لكل ميت رغبة أخيرة، ينبغي أن تنفذ، يطلب الحكيم أن يمهل قليلاً كي يودع عائلته. يفعل الحكيم ذلك، ويقدم للملك هدية. هذا يحزن الملك، لكنه لا يتراجع عن قراره، فيسأله عن الهدية، فيجيبه روبان: إنه كتاب يا مولاي. كتابٌ؟! يسأل الملك. فيرد: لكنه ليس أي كتاب. فإذا قلَّبت صفحاته، أطللت عليك، وأجبتك عن أي شيء يخطر في بالك.
وفي يوم قريب من الواقعة، أشكل على الملك أمرٌ، فعمد إلى كتاب الحكيم روبان. كان ملتصق الصفحات، فراح الملك يبلل إبهامه بطرف لسانه، ويقلِّب الصفحات الملتصقة. ومن دون أن يدري، كان السمّ،ُ الذي لصق به الحكيم روبان صفحات كتاب الانتقام، يسري في جسده.
.. أوردت الحكاية، لأتحدث عن فكرة الكتاب المسموم وليس عن الغدر. نجد هذه الفكرة في ثقافاتٍ وحضارات متباعدة. ربط الكتاب بالسمِّ قد يعني شيئاً آخر، ليس السم المدسوس بين الصفحات، ولكن، ربما "السمّ" الذي تحتويه. أما ما جرى للصياد والجني، فقد وفى الجنيُّ بوعده، فحقق له وضعاً لم يحلم به، لكنَّ ذلك سيورطه مع ملك بلاده، الذي سيتورط، بدوره، في قصر مهجور، ستكون له فيه حكاية أخرى.


أمجد ناصر - وردة الدانتيل السوداء.. شعر


أوإذ رأى ما رأى
أطرقت
وضمت
وجهلت .
إجلسي
أرجوك
بهذين الحقلين المحروثين
بقرني ثور سأضمن القطاف .
إجلسي
وباعدي,
قليل من الهواء للغصن المنحني بكمثراه.
اللؤلؤة في الأنف
نجمة الذهب الضئيلة
تشع تحت النظر المستقيم .
أيتها الفائقة النمش
يا بدوية البرد
باعدي قليلا ليصل الهواء
إلى الكمأة التي تنبلج
تحت المحراث .
أمطاري جافة
وشفتاك بليلتان .
البرد يطوينا من الأعماق
نرتجف لأن النمش الذي ترمينا به
يهطل على الجراح .
قلبي يرتجف من برد قديم.
الليل .
القطار الذي تجره ثيران كهلة
المرأة تنشر أبيضها على الغريب .
أبيض هو الحليب
أبيض هذا الليل بقلب أسود
أبيض
مخاتل
غال
وعال
بحذاءين أسودين
أبيض هو الأشقر المحروس بعشب ساهر ,
عشب الوحش اللطيف الهائج في السفح .
الأبيض
البراق
المسترق
الشاع
المجتلب الشهقات
أبيض الزبد
والموت على وسادة الرعشة .
الأبيض
ذو الشامة
ذو المرمر
أبيض الفيروز
أبيض الإستدارة
أبيض علىحواف الزهري
أبيض تلال بلا مرتقى
أبيض مخبؤ
ملفوف بالشرائط
غاف في الساتان
أبيض الغالب سواه
الأبيض السليط
أبيض النوم والندم
أبيض الغيم الممطر في المخادع
الأبيض المكين
الذي أخرجنا سافرين من كل أرث
أبيض الزلفى والطاعة
أبيض الضراعة والشآبيب .
يا أبيض غلابا
حمال روائح وارتجاجات .
نائم في أقطانه
سيدي الصغير
لا يفيق على نايات اليد .
قمع سكر يذوب في الرغاب .
غر
ومزده بحليه والتخاريم .
نظيف
ومحفوف
وماثل
يلمع في نداه الزيتون .
مغسول بأمطار وصواعق ,
له هذه الرائحة :
قطع الأعشاب في الصباح.
الأفعوان يتلوى في الزخم
العين الكبيرة تحدق .
تترك الثياب شاهدة برهبة
طائر الأكمة على السهم الذي شق
تترك رائحتها
تترك الانفاس
والأصابع المنطبعة على استدارة القميص ,
عرق الركبتين
يمحو حبر الليل
ويشعشع فوح الحمى.
ذهب الهامة يضوي
مسك وبوم نساب
متطوح بعناية
عارف بمواضعه الباهرة
بالظلال التي يسقط فيها الغريب .
البتلة تتوتر وراء الشاش
الصرخات يتلوها الفيض .
الرائحة تبوح بمكنونها
رائحة الاحتفاظ بالكنـز.
الأسود يواري القوة ويدخرها
القوة التي تبسط
الكهرباء التي تشل
الارهاب المجرب
فتنة الذهب الكبرى
تسيل علىالكاحل
تقترح حربا تدوم .
تقدمي من الذراع المانحة
براكين الشبيه لا تكفي لتقدير الوطأة.
العذاب
مصور
مغتلم
ومشتبه.
العناق وقوفا
في قطار يعبر صفين من الأشجار .
باللمسة
أحرر المثال من قالبه.
وعلى
ضوء
المياه
الشفيفة
أصل
إلى
أصل
الصرخة .
حر وطليق السارح في الظلمة
يحتمي بسفحه ويثقب الرائين ببرعم قاتم
ثمل بالصهباء
التي ترشح من عطفاته .
الشفرة
تقطع
خيط
الألم .
الحقوان وما يطويان قبل المياه
فوح
نـزول
المادة
من صدع الأيقونة .
وردة الدانتيل السوداء
في أعالي الفخذ
قبلة الملك السعيد في الليلة الألف
حيث تنـزلق الأفعى المرقطة في النداوة
لتحرس الحبق .
الأعضاء تتنفس وتكنـز ثروتها
تنحنين على ثمرة الكستناء
الاستدارة تلمع في مرآة الهواء
وتهب رائحة المجرى.
في أعاليه
أسود هو الحرير
يتطاحن الأمراء تحت عقدته
وينسفك اللعاب
يصلون إلى الجوهرة ضارعين
زحفا على الأكواع .
أهذي من الحب
وأعب الهواء المتروك .
أرينيه ناهضا من نومه
مغمورا بالوعود .
على غرته ندى
وفي أقراطه رمان .
أريد
أن
أراه
خارجا من خدره
جاذبا إليه
ريق الصباح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر 15781612
أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر Icon_minitime 2021-11-01, 8:54 pm

أمجد ناصر - طرق منحرفة الي قصيدة النثر


هذه مقاطع من نص شهادة شعرية اطول القيت نيابة عن الكاتب في مؤتمر قصيدة النثر الذي عقد في بيروت بين 19و21 ايار (مايو) الجاري.


تحت وزن خفيف

لطالما سمعت عن التجريب في العمل الابداعيّ، ولكنني لم أعرف، تماما، ماذا يعني ذلك.
أكثر من ناقد أشار إلي التجريب عندي.. أو ميلي، الغالب، إليه، غير أني، بكل صراحة، لا أعرف ما الذي فعلته بالضبط لأكون تجريبيا.
ذلك لا يعني استنكاري للتجريب ولا التقليل من وجاهة النقد الذي يري في بعض أعمالي طابعا تجريبيا.
الأمر، بكل بساطة، أنني لا أجرّب من أجل أن أجرّب. أي أن الوجهة العامة لأعمالي لا تصدر من هذه المنطقة عن سبق اصرار وترصد.
فإذا كان التجريب يصدر من ضجر كاسح وأصيل في النفس، حيال عمل المرء ذاته، قبل أعمال الآخرين، فهذا يعني أنني تجريبيّ.
وإذا كان التجريب بهذا المعني، يؤدي إلي التجديد ، أو بكلمة أقل تنفجا، إلي التغيير في أساليب الكتابة ورؤيتها إلي ذاتها والعالم، فلا اعتراض لي عليه. ولكنّ هذا، في ما يخصني، لا يصدر، دائما، من وعي نظري مسبق، بل أحيانا، من انحراف عن المسار أو من خطأ في الكتابة، أو من تحد أرعن.
أكثر من مرة قادني الانحراف، أو الخطأ، إلي طريق لم تكن واضحة لي، قبلا، فسلكتها.
فضيلتي التي اعتزّ بها أنني لا أخشي الانحراف عن المسار أو الخطأ في الكتابة فليس لدي، أصلا، ما أخسره.
عندما تشعر أنك لا تخسر شيئا بـ انحرافك وبخطئك يسهل عليك ارتكابهما أو المشي في طريقهما
. المنجز عبء.
الارث قيد.
وليس لي منجز أو إرث يقيدانني.
لست مطالبا بشيء، ولا أحد يقف ببابي طالبا قوته الشعري مني.
وبما أن مؤتمرنا مخصص لـ قصيدة النثر ، فإن من السهل أن نري في هذه القصيدة الانحراف أو الخطأ.
من انحرافة عن طريق الشعر العربي، المألوف وقتها، بدأت هذه القصيدة.. وقد يكون جائزا القول، أيضا، أنها نشأت من خطأ شعري. ومن خطأ في الاسم، كذلك، سنأتي إليه لاحقا. (سأستخدم، الآن، مصطلح قصيدة النثر ، كما هو شائع في العربية، الي أن أبلغ النقطة التي سأقف عندها علي التباس التسمية والصنيع نفسه) كان الشعر الصحيح ، وقتذاك، واضحا، ولا مجال لاخطائه. وسواء كان هذا الخطأ مقصودا عند أنسي الحاج أو محمد الماغوط، أم لا، فقد كتب له أن يلد كائنا لم يكن متصورا، لحظتها، أنه قابل للحياة.
الانحراف، الخطأ، الضعف كانت في مواجهة المستقيم والصحيح والقوي. وقد لا يكون أصل هذه القصيدة، في منشئها الأوروبي الأول، بعيدا، عن الضجر الذي يسهّل الانحراف.
بالنسبة لي كان لا بدّ من بيروت كي يصبح الانحراف حادا، و الخطأ طبعا متأصلا.
لكن هذين الانحراف والخطأ تراءيا لي في الأردن، عندما اطلعت، أول مرة، علي أعداد من مجلة شعر وأصابني بعض قصائدها بألم في فكي. كنت كمن يلوك حصي، أو كمن يجبر نفسه علي النطق بطريقة معوجّة.
بدا ذلك، أيضا، أقرب إلي الشعر المترجم.
شعر بلغة عربية لكنها شبيهة بالرطانة!
بقيت ذكري ذلك الألم الذي اصاب الفكّ معلقا بخيط واه في ذاكرتي إلي أن جئت إلي بيروت قابلة انحرافات كثيرة غير قابلة للتصحيح.
حتي مجيئي الي بيروت كنت اكتب شعرا موزونا، ولكن تحت إغواء اكثر المدارس الشعرية العربية تخففا في الوزن والغنائية وأكثرها انفتاحا علي النثر والحياة اليومية: مدرسة سعدي يوسف.
قلت شعرا موزونا وهأنذا أنتبه علي الفور، أن كلمة موزون تعني في عاميتنا الشامية، الاستقامة، أو الاعتدال، وكنت، قبلا، تحدثت عن الانحراف (أو الانزياح كما يحلو للأكاديميين أن يعبروا).
والواقع، أنني لم أقصد هذا التناظر الأخلاقي بين الاستقامة و الانحراف ، ولكن لا وعيي الشقي هو الذي قذف كلمة موزون بدل أن أقول مفعل (من التفعيلة) لكي تصنع هذا التقابل غير المقصود.
أدعوكم، إذن، لاضافة معني الاستقامة إلي كلمة موزون بجانب معناها الاصطلاحي الذي يحيل الي العروض.
أعود إلي سعدي يوسف لأقول إن تلك التلمذة المتطلعة، بانجذاب كليّ ، إلي مدرسة هامشية لم تصل أصداؤها الي الساحة الأردنية، قد تكون هي التي رمت البذرة الأولي لخيارات لاحقة.
هناك قلق وانعدام ثقة متأصلان فيّ حيال كلّ ما هو مؤكد، ما هو معترف به، ما يشكل قاعدة يمكن القياس عليها، لذلك كانت معظم خياراتي الحياتية والكتابية مطبوعة بالقلق وانعدام الثقة اللذين أفضيا الي اجتراح طرق فرعية، أو ملتوية، للوصول إلي الهدف الذي لم أكن اجد في نفسي الجدارة للوصول إليه بخط مستقيم .
الطرق الفرعية أو المنحرفة، سميتها اختلافا.
وتلك حيلة امكن لها أن تصبح منهجا.
لعل هذا يبرر انجذابي إلي تجربة سعدي يوسف المجهولة يومذاك، الي حد كبير، في ساحتي المحلية والتي لا يمكن القياس عليها. كان في شعره شيء من التردد وقع بقوة علي ترددي فلم أكن قادرا علي مجاراة تلك الغنائية الوطنية الجارفة التي كانت تحتكم إليها الساحة وتزن القصيدة بمكيالها المجنح (...)



في التباس المصطلح

قرأت قصيدة النثر الريادية ولم أقرأ بياناتها. لم يقيض لمقدمة لن عمل أنسي الحاج الشعري الاول، أن تعيش طويلا في السجالات التي دارت بين قصيدة النثر و قصيدة الوزن ، فأنصار الاخيرة وهم التيار الغالب في الكتابة والتلقي، رفضوا فكرة انتساب هذه القصيدة الملتبسة الي الشعر. اما الذين كتبوا هذه القصيدة في ذلك الطور او الذي تلاه، فلم تتحول تلك المقدمة ـ المانفستو عندهم الي دليل عمل. وعندما امكن لي أن اقرأ أنسي الحاج، قرأته مقلوبا: من الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع الي الرأس المقطوع ولم اقرأ لن الا متأخرا لذلك لم اعرف ترسيمته القاطعة لهذه القصيدة، الا بعد عملين او ثلاثة لي، ولم اجد، حينها، ظلالا لتلك الترسيمة علي اعماله التي راحت تطول وتنحو صوب صوفية مسيحية هرطوقية.
كانت الوصفة السحرية قد تجاوزها صاحبها.
كتبها ونسيها، اذ لم تعد ملزمة له ولا لغيره. وهذا يؤكد، للمرة الألف، أن الصنيع الابداعي لا يمشي في ركاب النظرية. الابداع اولا، ثم للتنظير أن يفعل ما يشاء. له أن يحدد ويستنبط ويؤطر، ولكنه، علي ما علمتنا التجربة، لا يتمكن من رد قصيدتين اثنتين لنفس الشاعر الي قالبه. لان لكلّ قصيدة ولادة لا تشبه غيرها. نحن لا نشبه انفسنا في الحالتين. حتي في الحالات الاكثر تشابها وتوحدا، مثل الحب لا نكتب قصيدة الحب مرتين.
هكذا كان أنسي الحاج خارج مقدمته وهو يكتب لن واخواتها. صنيعه ليس المقدمة، بل شعره، وهو وحده الذي صنع منعطفا مشي فيه، حسب تعبير عباس بيضون، كثيرون.
المشترك الوحيد، برأيي بين مقدمة لن وشعره في لن (وغيرها) هو ذلك التوتر الذي تحسه يسري في بدنك، تلك القشعريرة التي تنتقل من النص الي الجلد، وذلك الغضب المنذر بالتهلكة حينا والرضا الواعد بجنة للهراطقة حينا آخر.
لم يشبه أنسي الحاج، علي ما أعلم، شاعرا قبله، فهو حالة فريدة في عالمها ومعجمها بالعربية، والذين مشوا في طريقه لم يواصلوا طريق قاذف اللهب في لن و الرأس المقطوع ، وانما العائد الي نفس لم تبرأ من شقائها الاصلي برغم ضراعتها الي الخلاص.
هكذا قد لا يتطابق الصنيع مع التنظير له. فماذا بقي من تلك الاركان الثلاثة التي استلهمها أنسي الحاج من سوزان برنار، وجعلها أركانا لا تكون قصيدة النثر قصيدة من دونها: الايجاز، التوهج، المجانية (او اللاغرضية، بتعبير عبد القادر الجنابي)؟
لم تعد تنطبق هذه الاركان الثلاثة علي شعر أنسي الحاج نفسه بعد نحو عملين له، ولعلها لم تنطبق، بتلك الصرامة المنهجية، علي كل قصائد عمليه الاولين. ولماذا عليها ان تنطبق اصلا؟
القصيدة كتبت، ثم صار البحث جاريا عن اسم لها. اطلق الشاعر عليها اسما راحت تضيق به وتخرج منه. او، وهذا ما ارجحه، كان الخطأ اكبر من ان يصحح، وكان الذوق ارسخ من ان يغيره كتاب.. او مقدمة من بضع صفحات. كانت الفترة صاخبة وحبلي بالدعاوي والالتباسات. كانت منعطفا، وعند المنعطف لا يمكن تبين الطرق بسهولة.
اصل هنا، الي ما اوردته سابقا، عن الفارق بين قصيدة النثر بالمعني الغربي للكلمة ومعظم ما كتب تحت يافطتها في تلك اللحظة (مطلع الستينات). من المؤكد أن أدونيس صاحب مقالة في قصيدة النثر وأنسي الحاج صاحب لن ببيانها، وجبرا ابراهيم جبرا العائد من انكلترا، كانوا يعرفون، الفارق بين قصيدة النثر العربية كما هي عند الماغوط والصايغ وجبرا، و قصيدة النثر الغربية. لأدونيس وأنسي كان دليلهما كتاب سوزان برنار الذي عرفا وترجما فصلا منه في مجلة شعر فضلا عن معرفتهما، الي هذا او ذاك، لهذا الصنيع نفسه في الشعرية الفرنسية، لكن خميس شعر قدم مع ذلك قصائد الماغوط بوصفها قصائد نثر.
وأمامنا، نحن الذين لم نعاصر تلك الفترة، الكثير من الادبيات التي تعكس ذلك الالتباس. حاول جبرا، انطلاقا مما هو متوفر لنا من وثائق، أن يعيد اسما ألصق خطأ بقصيدة التفعيلة هو الشعر الحر الي نصابه، موضحا بالحرف أن الشعر الحر، ترجمة حرفية لمصطلح غربي هو Free verse، وقد اطلقوه علي شعر خال من الوزن والقافية كليهما. انه الشعر الذي كتبه والت ويتمان وتلاه فيه شعراء كثيرون في ادب الامم، فكتّاب الشعر الحر بين شعراء العرب اليوم هم امثال محمد الماغوط، وتوفيق صايغ وكاتب هذه الكلمات في حين أن قصيدة النثر هي القصيدة التي يكون قوامها نثرا متواصلا في فقرات كفقرات اي نثر عادي .
لكنّ هذا التوضيح وغيره (عبد الواحد لؤلؤة لاحقا) لم يغير شيئا. فلم يفض الالتباس، ولم تتخلّ التفعيلة عن اسم ليس لها تماما ولم يصر الي التفريق بين الشعر الحر (Free Verse) و قصيدة النثر (Prose Poem). ويخطر لي أن الذائقة العربية، رغم كلّ صيحات التهديم والتحطيم التي رافقت فترة مجلة شعر ظلت عصية علي تقبل انتقال حاد في مفهوم الشعرية. أن تفقد القصيدة العربية الجانب الصوتي والتقطيعي علي الصفحة وتأخذ شكل كتلة نثرية وتظل شعرا؟!
هذا كثير.
لا ادري أن كان ما سأقوله صحيحا ام لا: لقد أثّر الذوق والفهم السائدان اللذان تقبلا، علي مضض، قصيدة التفعيلة، علي أنسي الحاج نفسه، فلم يواصل كتابة قصيدة النثر التي بدأها بـ لن بعد ديوانه الرأس المقطوع ، فمال في كتابته الي الشعر الحر (الذي يشبه تقطيع قصيدة التفعيلة علي الصفحة) الامر الذي يظل أقرب الي عين العربي وأذنه. وأقرب، بالتأكيد، الي النمط السائد مما يسمي قصيدة النثر .


بين الشعر الحر وقصيدة النثر

من عدم الإنصاف إذن القول أننا، اليوم، أمام وعي جديد بالكامل للفارق بين القصيدة الحرة وقصيدة النثر، فالفارق، في الوعي، والكتابة (إلي حد ما) كان موجودا منذ اللحظة التي اطلق فيها هذا المصطلح في مجلة شعر . كان أدونيس وأنسي الحاج وجبرا ابراهيم جبرا (وربما آخرون) يعرفون، كما أسلفت، الفارق بين القصيدة التي تغادر الاوزان الخليلية، وتلك التي تترسم خطي قصيدة النثر بمعناها الفرنسي والأمريكي.
لكن مصطلح القصيدة الحرةّ (أو الشعر الحر ) كان قد تم وضع اليد عليه من قبل قصيدة أخري حديثة العهد، هي قصيدة التفعيلة التي أخذت تتحرر، نسبيا، من قيود ايقاعية وتعبيرية قديمة. لكن من دون أن تصل إلي ما يسمي بـ Free Verse في الشعريات الأوروبية ـ الأمريكية.
فما العمل اذن؟
سنسمي، كل ما لا يتقيد بالبحور العربية، قصيدة نثر وتنتهي المشكلة، خصوصا أن اللاوعي العربيّ يربط، علي نحو متلازم، بين الشعر والوزن. فقصيدة بلا وزن، هي، إذن، قصيدة نثر!
والسؤال الآن، هو كيف أمكنني أن أصل الي هذا الاستنتاج؟
جوابي بسيط، أنه في العودة الي أدبيات تلك الفترة التي سترينا أنّ الذين يعرفون الفوارق بين القصيدتين لم يقاتلوا، ما يكفي، لوضع الفوارق، والتسميات، موضع التنفيذ، فاستسلموا لخطأ، ولده التباس لم يكونوا بعيدين عنه. أدونيس نفسه يشير إلي الخلط الحاصل (في لحظته) بين القصيدة التي تتخلي عن الوزن والقافية، ولكنها تعتمد نظام التشطير (التفعيلي) وبين قصيدة النثر ذات الهيئة الطباعية المختلفة. إنه يفعل ذلك عرضا في مقالته في قصيدة النثر التي ستكون أول بيان من نوعه عن هذه القصيدة في العربية. لكن أدونيس لم يكن، علي الأغلب، عندما قدّم قصائد محمد الماغوط في خميس شعر، يعلم هذا الفارق الحاسم.
إذن، إن الغالبية العظمي من القصائد التي كتبت تحت تلك اليافطة، اتخذت شكل ومقاصد القصيدة الحرة الغربية Free Verse) وسمّت نفسها قصيدة نثر بينما كانت نسبة قصيدة النثر فيها، ضئيلة، أو معدومة، خصوصا إذا عرفنا أن أنسي الحاج الذي كتب قصائد نثر فعلية (بالمعني الفرنسي) في عمليه لن والرأس المقطوع لم يواصل، تماما، هذه الطريقة، ومال إلي الشكل السائد لقصيدة النثر العربية (أي في تقطيعها الذي يشبه التفعيلة)، كما أن موضوعاته راحت تنحو منحي استبطانيا وغنائيا صوفيا يصل في الرسولة بشعرها الطويل حتي الينابيع إلي ما يشبه النشيد الديني، وهذا ما يتناقض مع ترسيمة لن .
ولكن ما هي قـصيدة النثر ؟
ليس لدينا في العربية معجم معتبر للمصطلحات الأدبية، فلا فائدة إذن من مساءلة المعاجم ولا المراجع الأكاديمية. اما في الغرب (مهد هذه القصيدة) فيمكنك أن تفتح أي معجم للمصطلحات الأدبية، وتجد تعريفا، وإن مختزلا لها.
أما الشعراء والنقاد العرب، السابقون واللاحقون، فيكادون يجمعون علي ما جاءت به مجلة شعر من تعريفات مستمدة من كتاب سوزان برنار خالد الذكر.
فماذا تقول هذه التعريفات المجمع، تقريبا، عليها بين بيانات الشعراء المؤسسين، واللاحقين:
أدونيس، أول من أشار الي هذه القصيدة في مجلة شعر (العدد 14، ربيع 1960) في مقالة تحمل عنوان في قصيدة النثر يقول، بعد أن يستعرض علاقة الشعر بالوزن، والقيد الذي تمارسه القافية علي حركة المعني، أن البيت في الشعر العربي يشكل وحدة، وحدة للأذن، ووحدة للعين، وربما وحدة في المعني. والخروج عي هذه الوحدة هو، شكليا، خروج علي الشعر. فالبيت دفعة كاملة لا تتجزأ، ووحدة بنائية منطقية، وهذا ما يؤكده التراث العربي. وهو تقليد راسخ كان من التأثير بحيث تجلي حتي في الطريقة التي تكتب بها بعض قصائد النثر حاليا، إذ تكتب في أسطر يفصل بينها بياض، تماما، كما تكتب القصيدة الموزونة (..).
أما محددات قصيدة النثر الفارقة فهي عنده، شكلا، في الجملة في مواجهة البيت ، فهي التي تخلق وحدة القصيدة وتشكل ما يشبه العالم الصغير و هي خلية منظمة تشكل جزءا من كل أوسع ذي بناء مماثل، ولذلك فهي ذات وحدة مغلقة. هي دائرة، أو ما يشبه دائرة خطا مستقيما وهي أخيرا نوع متميز قائم بذاته. ليست خليطا. هي شعر خاص يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة ثم يجمل أدونيس تحديده لمواصفات قصيدة النثر بثلاث نقاط هي: 1
ـ الوحدة العضوية التي تتيح لها أن تشكل عالما مغلقا.
2 ـ المجانية، أو ما يسميه بـ اللازمنية، بمعني أن قصيدة النثر لا تتقدم نحو غاية أو هدف كالقصة والرواية والمسرح او المقالة بل تعرض نفسها ككتلة لازمنية.
3 ـ الكثافة، فعلي قصيدة النثر أن تتجنب الاستطرادات والايضاح والشروح وكل ما يقودها إلي الأنواع النثرية الأخري.
يتضح لنا أن مقالة أدونيس في قصيدة النثر هي بيان لهذه القصيدة، أكثر مما هي دراسة، يستند، كما يقول الشاعر نفسه، في ملاحظة علي هامش الصفحة الأولي إلي كتاب سوزان برنار الصادر قبل عام واحد من كتابة هذا البيان.
ولا أدري لماذا يتجنب أدونيس كلمة بيان لمقالته هذه ويصفها في الهامش المذكور بأنها دراسة، إذ يقول، بالحرف، في الهامش: اعتمدت في كتابة هذه الدراسة، بشكل خاص، علي هذا الكتاب ويورد اسم كتاب سوزان برنار ودار النشر وسنة الطبع باللغة الفرنسية.
وأيا يكن السبب، فإننا نلاحظ أمرين في تعريف أدونيس لـ قصيدة النثر : أولا اعتماده الكامل علي دراسة سوزان برنار، وتعليقه العرضي، السريع علي أن ما يكتب بالعربية آنذاك من قصائد نثر تعتمد السطر بدل الجملة يرجع إلي تجذر شكل البيت في التراث العربي إلي درجة أن الذين تحرروا من الوزن والقافية ويكتبون قصيدة نثر لم يستطيعوا التخلص منه!

ما هي قصيدة النثر؟

بامكاني القول، هديا، بكامبيل ماك غراث Campbel Mac Grath عن قصيدة النثر أنها: (..) بلا سياج (لها) رغم وجود عمود مهتريء هنا وهناك، يؤكد زعما (بملكية) سابقة، وأسلاك مجدولة ساقطة غطاها الغبار. إلي اليسار حقل ذرة يمتد بعيدا، يهبط ويعلو الي السماء الزرقاء، سهل من الخضرة والنباتات القوية مرتبة بنظام، سطرا وراء سطر وراء سطر .
ولكن هذه قصيدة نثر عن قصيدة النثر ولا تقدم توضيحا يشفي غليل التعريف الذي طالما استبدّ بعلاقة البشر بالأشياء. لنتعامل مع الشيء، ينبغي أن نعرّفه، أن نسميه، فمن دون ذلك يفقد هويته المميزة التي يستمدها، غالبا من الاسم الذي نطلقه عليه.
كنا في الشعر القائم علي الوزن نعرف كيف نسمّي، فالتسمية وصلتنا جاهزة وتلبّست نهائيا ذلك الشكل من التعبير الأدبي. صحيح أن العرب لم يجعلوا الشعر في الوزن والقافية، فبعض نخبتنا القديمة اعتبر الوزن والقافية، أقل العناصر أهمية في العملية الشعرية، لكن ذلك لا يمنع أنه لم تصلنا قصيدة من تلك العهود القديمة بلا وزن أو قافية.
ولكن كيف، بغياب ذلك الدليل الهادئ الي القصيدة يمكن أن نعرّفها اليوم؟
أقصد كيف لنا أن نعرف أن القصيدة قصيدة رغم انها منزوعة الوزن، والأدهي أنها تستخدم وسيطا اعتبر فترة طويلة، في مواجهة الشعر: النثر؟
سأحاول أن لا أتورط في أحكام صارمة حول هذا النوع الشعري فقد رأينا، كيف لم تصمد تلك الأحكام امام زحف هذه القصيدة المتواصل الي مناطق لم تكن تبدو من لزوم الشعر وعدته. أغلب الذين يكتبون قصيدة النثر (الفعلية) يعرفون نهمها لتوسيع حدودها، وعدم التوقف عند الاشارات التي تحدد الطرق والوجهات. ولكن مع ذلك ينبغي أن نتلمس بعض المواصفات التي تدل علي هذه القصيدة.
فلكي تكون القصيدة قصيدة (مستخدما كلمات أنسي الحاج في تعريف قصيدة النثر) عليها أن تكون مقصودة. ولحسن الحظ، فإن في أصل تسمية العرب القدامي لهذا النوع الأدبي، المعني نفسه، فالشعر لا يكون نوعا، حتي بالمفهوم العربي القديم، إلاّ من خلال هذا القصد: القصيدة. البيت بيت، لكن القصيدة هي العمل الكلي الذي ينظم تلك الابيات في إطار واحد. هي إذن جسد الشعر الذي يعمل الشاعر علي لم عناصره المتفرقة في إهابه. والقصد بهذا المعني، يعني الوعي بما تقصد. القرآن اعطي، من خلال بعده البلاغي والايقاعي، إحساسا بالشعر عند سامعيه العرب الاوائل لكنه ليس شعرا. فيه شعرية غير أن تلك الشعرية لم تتحول شعرا لأنها لا تلبي شروط النظام الشعري.
التحدي المطروح امام قصيدة النثر، لم يكن مطروحا علي قصيدة الوزن، فهي تريد ان تتحقق شعريا من خلال وسيط كان يعتبر (ولعله لا يزال) في الجهة المقابلة لها.
فإذا كان التحدي المطروح أمام قصيدة الوزن (التفعيلة اليوم) هو أن تكون قصيدة جيدة، فان تحدي قصيدة النثر هو ان تكون قصيدة اولا.
واضح أن التحدي اكبر وأشقّ.
فقصيدة الوزن مسلم بها، عبر شوطها التاريخي الطويل، كقصيدة، والأمر ليس كذلك بالنسبة الي قصيدة حديثة العهد، محاطة فوق ذلك، بالالتباسات. فهذه قصيدة عليها أن تبدأ، عربيا، من نقطة الصفر. ولا يجدي هنا، الكلام عن النثر القرآني او المقامات أو نقد المتصوفة، سلفا لها.
تلك اصول واسانيد ضعيفة، والأمر لا يتعدي حدود رد شبهة العجمة عنها. قصيدة النثر عند منظريها العرب الاوائل هي نتاج أدبي غربي. كان هذا واضحا منذ البداية. أدونيس نفسه، وهو أكثر من اشترط لاحقا، علي كاتبها معرفة التراث العربي معرفة جيدة، يقول في أكثر من مقالة وتصريح إن قصيدة النثر نتاج تطور في الشعرية الأوروبية والأمريكية. طبعا نحن نعرف أن العرب المعاصرين قبلوا أشكالا أدبية لم تكن موجودة في التراث العربي من قبل كالرواية والقصة القصيرة والمسرح.
صحيح أنهم حاولوا، أيضا، تأصيل هذه الانواع عربيا، غير أن ذلك اقتصر علي نفر قليل ممن يتصور أن العرب عرفوا وكتبوا كل أجناس الكتابة الأدبية، أما الغالبية العظمي من كتاب ونقاد هذه الأجناس الأدبية، فيقرون أن وجودها في العربية، علي هذا النحو الذي هي عليه اليوم، هو ثمرة المثاقفة مع الغرب.
في الشعر يختلف الأمر.
للشعر عند العربي حساسية خاصة. فهو يعتبر هذا الجنس الأدبي ساحته ولعبته وديوانه. فكيف يتقبل صاحب الساحة واللعبة والديوان التأثر بأمم اقل شأنا منه علي هذا الصعيد؟!
وهذا يحيلنا إلي السؤال التالي الذي أرّق بعض أعلام النخبة النهضوية العربية: كيف ستكون صورة الشعر العربي لو أن الذين نقلوا فلسفة اليونان وعلومها إلي العربية قد ترجموا الملاحم الشعرية الإغريقية؟
من الصعب أن نعرف الجواب، لأن الذين نقلوا فلسفة وعلوم اليونان لم يشعروا (أو لم تشعر لحظتهم التاريخية) أنهم بحاجة الي ذلك. فماذا عند اليونان من شعر قياسا إلي لسان الشعر: العربية؟!
استطرادي، هنا، له معني واحد: تلك الحساسية الجلدية التي تصيب العربي عندما يتعلق الامر بتعرض ديوانه إلي تأثر خارجي، فكأن في ذلك تلوثا للنقاء، واستهانة بالأصل. ولكن، مع ذلك، فقد حصل، شئنا أم ابينا، أن تعرض ديواننا ، في القرن العشرين، الي تأثيرات قادمة من الخارج. فلا يمكن فهم الموجات الشعرية العربية المعاصرة منذ المهجريين وجماعة أبولو وصولا الي جماعة شعر مرورا بجماعة الآداب من دون فهم التأثير الخارجي. هذا أمر مفروغ منه الآن، ولا جدوي من البحث فيه، وما استعادته، هنا، إلاّ من قبيل التذكير، فقط، بأن أمر التحديث في الشعر العربي لاقي، ولعله لا يزال يلاقي، صعوبة قادمة من تلك المنطقة من اللاوعي الجمعي، ولا يعني اختفاء السجال الذي عرفته الستينات، ثم استأنفته السبعينات والثمانينات حول الاشكال الشعرية، بل حول ما هو الشعر وما هي القصيدة، لا يعني استقرارا وتقبلا للكتابة الشعرية الجديدة بقدر ما هو احباط عام وكسل فكري وغلبة الاحداث الكبري التي شهدتها المنطقة علي أي شأن ثقافي آخر.


حدود متحركة

حتي عند الذين عرفوا قصيدة النثر قبلنا، مثل الأوروبيين والامريكيين، هناك محاذرة من وضع أسس صارمة لـ قصيدة النثر تشبه تلك التي حددها كتاب سوزان برنار وكف عن قدرته علي وصف قصيدة النثر التي جاءت بعده، وخصوصا، في موطنها الخصيب، اليوم: امريكا.
ويبدو أن قصيدة النثر تشهد، الآن، انتشارا لم يعرفه الشعر الامريكي من قبل، بل إن هذا الشعر يعرف سجالات لم يعرفها، علي الاغلب منذ والت ويتمان.
ولعل أول امتحان لشرعية هذه القصيدة في الشعرية الامريكية حدث عام 1978 عندما صوت رئيس اللجنة المشرفة علي جائزة بوليتزر الامريكية المرموقة ضد منحها لمجموعة الشاعر مارك ستراند Mark Strand النصب The Monument التي ضمت عددا من قصائد النثر التي تتمحور حول موضوعة الموت.
كان واضحا، كما يقول ديفيد ليمان David Lehman محرر واحدة من اشهر انطولوجيات قصيدة النثر الامريكية الحديثة Great American Prose Poems، إن النثر لم يقبل بعد كوسيط شعري، اما الشعراء الذين يكتبون قصيدة النثر فقد كانوا سباقين علي هذا الاعتراف الذي لم يتحقق، علي صعيد المؤسسات الرسمية المعنية بالشعر الا مع نيل الشاعر الامريكي اليوغوسلافي الاصل تشارلز شميك هذه الجائزة بالذات علي كتاب في هذا النوع الشعري بعنوان العام لا ينتهي The World Dosen't End عام 1991.
وبالقياس الي شعرية تفتحت باكرا علي أشكال ومدارس شعرية أوروبية مختلفة مثل الشعرية الامريكية، لا تبدو الشعرية العربية متخلفة كثيرا عن اثارة سجال كتابة قصيدة من خلال الوسيط النثري.
فكيف يحدد ديفيد ليمان قصيدة النثر انطلاقا من السجال الاوروبي ـ الامريكي ـ حولها؟
يصف ليمان قصيدة النثر كما يلي: انها قصيدة مكتوبة بالنثر بدلا من النظم، وهي تبدو علي الصفحة كمقطع نثري او كقصة قصيرة مشظاة لكنها، مع ذلك تعمل كقصيدة.
وتعتمد هذه القصيدة علي الجملة بدل البيت الشعري (التشطير)، وباستثناء ابتعادها عن التشطير ، فانها تستخدم كل تكتيكات واستراتيجيات الشعر (الحر)، واذا كانت القصيدة الحرة Free Veres قد انهت الوزن والقافية كمعيار شعري فان قصيدة النثر انهت العمل في البيت الشعري كوحدة تأليفية وبنائية للقصيدة.
ويصل ليمان الي القول ان قصيدة النثر هي نوع شعري يخفي طبيعته الشعرية.
أما مادة هذه القصيدة المكتوبة كجملة نثرية علي عرض الصفحة فقد تفيد من نماذج كتابية غير مألوفة شعريا مثل المقالات والمذكرات المكتبية، اللوائح، الكلام، الحوار.
أما راسل ايدسون أحد رواد هذه القصيدة في الشعر الامريكي الحديث فيصف قصيدة النثر بالقول: أنها شعر متحرر من محددات الشعر، ونثر متحرر من احتياجات القص .
بينما يقرنها روبرت بلاي العلم الآخر في هذه القصيدة بـ الكلام الطبيعي للغة الديمقراطية .
إن دلت هذه التعريفات الفضفاضة علي شيء، فإنما تدل علي صعوبة، إن لم تكن استحالة، الوصول إلي تعريف جامع مانع. وهذا أمر لاحظه جان كوهين، وإن بشيء من الامتعاض، عندما تحدث عن التباس كلمة قصيدة بوجود قصيدة النثر في الساحة الشعرية، إذ يقول إن كلمة قصيدة نفسها لا تسلم من اللبس، ذلك ان وجود عبارة قصيدة نثر التي أصبحت شائعة الاستعمال، يسلب كلمة قصيدة في الواقع ذلك التحديد التام الذي كان لها يوم كانت تتميز بمظهرها النظمي. وفعلا، ففي الوقت الذي كان فيه النظم شكلا لغويا تعاقديا صارم التقنين كان للقصيدة وجود شرعي غير قابل للنزاع، وهكذا كان يعتبر قصيدة كل ما كان مطابقا لقواعد النظم، ونثرا ما ليس كذلك. غير ان عبارة قصيدة نثر الظاهرة التناقض تفرض علينا إعادة تعريفها .


تجربة حياة كسرد متقطع

لم أكن أعرف أي وجهة تتخذها هذه الكتابة الاّ بعد أن كتبت بضع قصائد كانت، هي، نواة كتابي حياة كسرد متقطع .
وكالعادة، كان الاستئناس برأي أصدقاء، للتأكد من صواب الوجهة. كان نوري الجراح يمّر في لندن التي غادرها للعمل في ابوظبي، عندما قرأت له نصا، استمرارا لتقليد قديم بيننا، عن السهروردي وسألته ماذا يظن هذا النص، فقال: انه، بالطبع، قصيدة.
ورغم أن معظم أعمال نوري الجراح الشعرية ظلت وفية للقصيدة الحرة (مثل معظم اعمالي السابقة) الاّ انه لم يتردد في اعتبار منديل السهروردي، قصيدة.
جاء التطمين الثاني ذو البعد النقدي من صبحي حديدي الذي اطلعته علي عدد أكبر من هذه النصوص التي طبعت، لاحقا، في كتاب وضع مقدمته النقدية الدقيقة صبحي حديدي نفسه.
ويمكن العودة الي مقدمة الكتاب لمعرفة رأي صبحي حديدي كاملا في خصوص شعرية هذا العمل، ولكن من بين ما شدد عليه حديدي بخصوص الشكل، في المقدمة، هو ان هذا العمل لا يسعي الي منافسة اجناس سردية مثل القامة القصيرة جدا ولا الي كتابة نص مفتوح ، بل الي كتابة قصيدة من خلال النثر. وصبحي حديدي هو، أيضا، من طلب مني تغيير العنوان المبدئي الذي وضعته للكتاب (قصص قصيرة، فعلا!) كي لا يضع العنوان أفقا لتوقع القراءة مغايرا لجنسه الأدبي، فيظن القارئ انه مقبل علي قراءة قصص قصيرة بينما هو شعر، فعمدت لاحقا الي اختيار العنوان الذي صدر به الكتاب حياة كسرد متقطع .
اختياري للعنوان الأول هو بمثابة، رد فعل، حرون، علي الذين قالوا عن القصائد التي قرأتها منه في مهرجان جرش الاردني قبل عام من صدور الكتاب، بانها قصص قصيرة وليست شعرا.
اردت ان اقول لهم إنها، فعلا قصص قصيرة، ولكن ليس في باب القصة القصيرة كجنس أدبي، بل في الحياة اليومية والذاكرة وفنتازيا الموروث وعادية الموت او هوله، وسر القبلة التي لها ما يليها من خطوات تؤدي الي تحقق المرغوب او تلك التي تظلّ معلقة في فضاء حائر لا يؤدي الي وجهة معينة.
أردت أن أقول إنها فعلا قصص قصيرة في حياة متقطعة، أو نتف من حياة في سرد يكتفي بما يعرضه، أو يتساءل عن معني لهذا اللامعني الذي تبدو عليه الحياة أحيانا.
لكن من يفعل ذلك ليست القصة القصيرة كجنس، بل القصيدة.. وتحديدا قصيدة النثر التي لها خاصية القص تارة، السرد تارة اخري، الأمثولة حينا، الاستطراد حينا اخر، ولها ما للنثر، أيضا، من إخبار، وبرهنة وتحليل، لكن ليس للوصول الي إخبار وبرهنة يتوقف المعني عندهما، بل يتجاوزهما في ذهن القارئ الذي تظل تدوّم فيه تلك الاسئلة والتيارات والتوترات التي يخلقها هذا النثر المنتظم في إطار يسمي القصيدة.
اول ردّ فعل علي علاقة هذا الكتاب بالشعر والشعرية جاء من شاعر متجذر في بيئة الوزن وله منزلته الخاصة علي هذا الصعيد: إنه محمد علي شمس الدين. كان ذلك أول مقال يكتب عن الكتاب وأول ردّ فعل يتساءل، بصدق، عن حدود النثر وحدود الشعر، وهو الذي اعتبر أن الكتاب بمثابة بيان شعري.
ولكنه بيان شعري من غير بيان، اللهم، إلاّ إذا استثنينا مقدمة صبحي حديدي التي تسعي لتبيان نسبة هذه الكتابة الي الشعر ولا شيء غيره، والي القصيدة ولا شيء سواها.
البيان الشعري، إن جاز التعبير، هو القصائد نفسها والتي تتقدم بكتلتها النثرية الكاملة، وبالتوترات التي تصدر عن زجّ النثر في القصد الشعري، او كما يقول الناقد الامريكي باري سيليسكي من التأرجح علي الحافة.
ومع ذلك فان التأرجح علي الحافة ليس عملا بلا قاعدة حتي وان كانت برفع الحبل الذي يتأرجح عليه البهلوان. هذا الخيط، أو الحبل، هو الذي يبقي قصيدة النثر في حيّز الشعر ويحول، بكل ما يحمله من توتر وقدرات توازن داخلية ومهارات، دون سقوطها في حيز النثر العادي، او لنقل النثر الوظيفي الذي يعمل من أجل تحقيق الإفهام.. وبالتالي الاتصال.
انني اتحدث، هنا، عن المنحي الرئيسي لـ حياة كسرد متقطع وليس عن الكتاب ككل، لأن الكتاب يضم أكثر من خط شعري (...)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

أثر العابرين بين الخشخاش مختارات من قصائد أمجد ناصر

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

مواضيع مماثلة

-
» أثر العابر,قصائد وشعر أمجد ناصر,ديوان أمجد ناصر pdf ,رعاة العزلة,مديح لمقهى آخر
» حياة كسرد متقطِّع مختارات من شعر أمجد ناصر
» قصائد ونصوص جديدة للشاعر أمجد ناصر
» مقالات أمجد ناصر pdf
» سر من رآكٍ ,شعر أمجد ناصر

صفحة 1 من اصل 1
نوسا البحر :: فوضى الحواس(منتديات ثقافيه) :: مرتفعات أو سوناتا الكلام :: تحت طائلة النصوص

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا