لي قارِبٌ في البَحْرِ روحي أبْحَرَتْ مَعَه
كَفّايَ مجذافاهُ والعينان قِنديلاه
والأضلاعُ أضْلُعُه
لا النَّجْمُ لاح لمُبحِريه
ولا بدا لنواظرِ الأحبابِ مَطْلَعُه
تَتَدافعُ الأمواجُ ضدَّ مَسارِه
وأنا بنبضِ القَلْبِ أدفَعُه
كم مِن فتىً مُسْتَصْوِبٍ إبحارَهُ غَرَقا
لو أدرك التيّارُ بعضَ خِصالِه
ما كان يَصْرَعُه
وصَبَيَّةٍ هَتَكَتْ قميصَ الريح عازِمة
عزماً يَعُمُّ على بِلادٍ لو تُوَزِّعُه
دَمُها يكادُ يُعاتِبُ الأسماكَ مُرْتَعِشا
ونِداؤها لو أصْغَتِ الأفْلاكُ لَيْلا
سوف تَسْمَعُه
والاستغاثةُ لم تَصِلْ لمُغيثِها
إنْ ضاعَ غَوْثُ المستغيث
فما له شيءٌ يُضَيِّعُه
…
لي قاربٌ في البحر
لو عَدَّ العِدى رُبّانُهُ لَتَحَيَّرا
إن رَدَّ مَوْتاً ظاهِرا
ما رَدَّ مَوْتاً مُضْمَرا
وعدٌ تَهَشَّمَ قبل أن يَعِدَ المدائنَ والقرى
يتثاءَبُ التاريخُ في هذي البلاد
كأنه مَلَّ الحكايةَ كلَّها
مَلَّ الدَّمَ المسكوبَ من جيلٍ لآخر
والرجوعَ القهقرى
هل كل هذا الموت يخلو من قيامة؟
وهل المُرَجّى ضاع
ضيعةَ خاتمٍ في التُّرْبِ،
أم إنّا ستُرشِدُنا عَلامَة؟
وهل المُسافِرُ مَلَّ أخطارَ الطريق
أم إنهُ مَلَّ السَّلامَة؟
…
لي قارِبٌ فيه النبيُّ وفيه شيطانٌ رجيم
فيه المعذَّب والمعذِّب والنعيم مع الجحيم
مع كاشف الطرقات والأعمى وأفذاذٌ وأُمِّيّونَ،
مبتكرو مَخارِجَ، موقدو أملٍ ومرتكبو مباهجَ،
ظالم فظٌّ ومظلومٌ حليم
لي قارب فيه الشجِيُّ مع الخَلِيِّ، مع المُخَرَّب
والعَفيِّ، مع الأغاني والضجيج المدفعيِّ،
مع الصبايا في الحذاء العسكريِّ،
مع المُقَدِّمِ روحَه
والصَّيْرَفِيِّ، مع الغَريرِ مع الحكيم
لي قارب فيه الرصاص
وفيه ملاحون مصطرعونَ،
فوقهمُ النجومُ كأنها موتى،
وحولهم الرفاقُ الميّتون كما النجوم
يا أيها الماء انتبه
هذا هلاكٌ كالهلاك
هل أُنْهِكَ الضِّدُّ النبيلُ فصار مَهزوماً نبيلا؟
أم غيَّر الماشي السبيلَ أم إنه ضلَّ السبيلا؟
أنا لا سرير يدوم لي
لا سقف يألفني طويلا
أما الأحبة لست ألمسهم،
وإن قالوا ”الإقامةَ” قلت بل قصدوا ”الرحيلا”
ويجيء بالأخبار راويها
فأفزع قبل أن أصغي له أو أن يقولا
تلد الحواملُ ثم تدفِنُ،
ثم تشهق فرحةً بوليدها
وتعود تدفنُ، ثم تُدْمِنُ حُزْنَها
جيلا فجيلا
وأكاد أسمع دمع جدّاتٍ فقدن الصبر
يهمس مرهَقاً:
”صبراً جميلا”
وأنا محاولةُ البقاء
وكل ما حولي يحاول أن أزولا
الوقت ذو نابَيْنِ يكمُنُ لي
وأهلي يهدمون يدِي،
أُضيفُ: يدايَ أَهْمَلَتا كثيراً أو قليلا
وطني سَماحَكَ لم أَصِلْ في موعدي
الموتُ أخَّرَني قليلا
أنا من سيبني يأسَهُ بعناية
ويقيم فيه مُحَصَّناً ضد الغبار الحلو،
ضد الإبتهاج المُرِّ والصدأ الخفي
وسوف أَخرج منه مَجْلُوّاً صقيلا
لا وهمَ يقنعني طويلا
لا نجمَ يخدعني طويلا
قل إنني مَهْدٌ يقاتلهُ ضريح
قل إنني اليأسُ الفصيح
قل إنني الخطأُ الصحيح
قل إنني ولدٌ وكَفُّ الموتِ مَلْعَبُهُ الفسيح
قل إنني مَزْجٌ عَصِي
بين بارودِ الخنادقِ والمَسيح
…
لي قاربٌ في كل بحرٍ،
خطوةٌ في كل بَرٍّ والمدى سَكَني
جسدي مظاهرةٌ، وفرقها الخصوم
ولا أظن العمرَ يكفي كي يلملمني
صرتُ التبعثرَ في البلاد
وكَثْرَةُ الأوطان تعني قِلَّةَ الوطنِ!
جَسَدي خزانةُ كل ظلم الأرض
جسدي سقوط العدل من عليائه
جسدي انهماك الروح في إعداد نقمتها:
مُتَكَرِّرٌ مثلَ الظهيرة، مثل حَبِّ القَمْحِ،
مثلَ حكاية الجداتِ،
مثلَ مطالب الأطفال مثل اللغم
أَكْمن في الزمان،
ومن يُعِدُّ القبرَ لي يخشى انتباهي وهو
يدفنني
…
قل إنني العاجز
قل إنني القادر
قل إنني العاديُّ والنافِر
قل إنني بُقَعٌ مِن المُستقْبَلِ انتَشَرَتْ على الحاضر
قل إن فيَّ عواصفاً خَجْلى
وشهواتٍ مُكَبَّلَةَ الأيادي
قل إنني مُهْرٌ بلا بَر
وشَبِّهْني بإطراقِ المُنادَى
حيث لا أحدٌ يُنادي
قل إنني جَمْرُ المَواقِد
في شتاءِ اللهِ غطاني رمادي
…
وأنا بِلادُ الروح تبني لي كهوفا
من سرائرِها
بلادُ الله تُنْكِرُ خطوتي فيها
بلادُ الموتِ تفتح لي حُدودا
دون أختامٍ،
وتستعصي على عيني بِلادي
…
وأنا عنادٌ فاجِع
وأنا عيونٌ أجَّلَ التاريخ دمعتَها
وكَلَّفَها التيقُّظَ في الظلام
أنا نظرةُ الإلحاحِ في قومي
إذا عَزَّ الكلام
أنا حارس الصحو انتبهتُ
من الفطام إلى الحطام
أنا حارس الأبواب والأسوار ساقطة
وتقترب الذئابُ
أنا حارس الفلواتِ يا قتلاي قوموا!
“لا يقوم الميتونَ”
كذلك الأحياء حولي لم يقوموا
حين أدمتني الحرابُ
يا بومة العرب انعقي وتجولي
عَمَّ الخَرابُ
وأنا خِتامُ هزائم العربي
وهو هزيمتي الأولى،
وعاري طائِلُه
قل إنني من يُخرج الأشكال من أضدادها
يبني ويهدم
ما استطاعت كَفُّهُ ومَعاولُه
قل إنني شقٌّ نحيلٌ في جدار الوقت
يكمن في انتشاري هولُهُ وزلازِلًه
قل إنني الدرب الحرامُ ومَن مشاه
ومن هَدَتْهُ مشاعِلُه
قل إنني من يحفظُ القَسَمات
حتى لو تقّنَّعَ قاتِلُه
قل إنني سَكْبُ الغَمام
على أواخرهِ تَهِلُّ أوائلُه
قل إنني نَزْفُ الحمام إذا هوت
عند الحدود زواجلُهْ
قل إنني ساعي البريدِ من الشهيدِ إلى الشهيد
لكي تُصانَ رسائِلُه
قل إنني مَن كان مِن غاياته
نسجُ الحياة كما القميص
وإن بدا أن القبور وسائلُه
وأنا البشاشة والوجوم ـ أنا التراجع والهجوم
أنا السؤالُ وسائِلُهْ
قل إنني مَن لو تكاد يداه
أن تتصافحا مع مستبد
“لم تُطعْهُ أنامِلُه”
قل إنني البنت الجموحةُ افلتتْ من سجنها القَبَليِّ
ـ تُدمى كفَّها أقفاله وسلاسلهْ
قل إنني سأموت دون مداخل الوطن الذي
تعطي الحجارةَ والصِّغارَ مشاتِلُه
قل إنني بحرٌ تتالي فيه غرقاهُ الكثار
وما بَدَتْ للمبحرين سواحِلُه
قل إنني المجنونُ أُبْصِرُ مَوْتَ حُلْمٍ رائع
وأواصِلُه
وأواصِلُه
وأواصله