67
إني لأراك ياحبيبتي كما كنت منذ عام.
أراك حية، وقد ولجت غرفتي وارتميت بين ذراعي، وقطرات العرق تسيل علي خدك الجوري، من طول ما قطعت إلي من شقة، كندي سال علي وردة في البكور.
فآخذ عندئذ من يدك البيضاء منديلك الحريري، وأنكب عليه أجففه في رفق وأقبل جبهتك.
أراك حية؟ وقد جلست علي حجري تحدثينني حديثك الساذج، وأنفاسك الدافئة تتدفق في صدري، ساكبة فيه عبير شبابك الغض.
نعم أراك كما كنت يومئذ حية، وقد أخذت تعبثين في وجهي ببنانك الوردي، وتهزين ساقيك في نزق الأطفال.
يا لك طفلة، قدمت إلي الحياة في ذات فجر ذهبي، فلم تعيش فيها غير هذا الفجر وبعض الصباح، ثم رحلت قبل أن تغرب شمسُ يومها.
فكان مثلك مثل زهرة الروض، ماتكاد تتألق علي فرعها حتي تسارع إلي قطفها الأيدي، لتزين بها قبل أن تذبل. فذهبت في باكورة العمر وأوج الجمال، ولكن لتزيني الخلود.
68
لقد تفتحت وسط أحزاني طاقة من نور، حين دب علي الظلمات طيفك النائي، وإذا بي أطل خلالها علي عالم كله نسيان في نسيان، غير أنه كان في وقته شيئاً يُذكر.
فرأيتُ ثم بحيرة قد انعكس علي سطحها ضوء القمر، يسري بها فلك، ذو شراع، وقد جلس إليه عاشقان في ريعان الصبا، لم يكونا إلاك وأنا.
وإذا بك تقولين لي وكنت يومئذ حية: ما أجمل لقاءنا! أني ما أحسب أن الليل شهد لقاء أجمل منه. ولا انعكست أشعة هذا القمر، في عيون أعمق حلماً من عيوننا وأشد رضوخاً للهوي.
ولكن لماذا كل شيء جميل يحز في نفسي؟ ألأنه يعكس علي مقامه السعيد صور اغترابه، فيقرن فرحتنا به بالقلق عليه؟
لم نلتق الآن، إذا كان لابد من أن نفترق يوماً، ونعاني مرارة هذا الفراق؟
إني لأري بعين الفؤاد، آلامنا المستقبلة، راسبة في ذات الكأس التي ننهل منها رحيق سعادتنا الآن. ولسوف يأتي يوم نجرعها حين نأتي علي قرارة الكأس.
فعلا م نشدانُ الأشياء الجميلة؟ ولم نزرع بأيدينا بذور حسراتنا المقبلة، من أجل وامضة من نعيم ماتلبث أن تنطفيء؟
أو ليس من الامتهان لكرامة هذه الأشياء العزيزة أن نخلقها للنسيان؟ أو ليس الأولي بنا أن نتركها ثاوية في أطواء العدم، تنزيهاً لأنفسنا عن أن نكون حافري قبورها فيما بعد؟ لماذا نكون كتلك الهرة، التي تلد لتأكل أولادها؟ لايجدر البتة بعاقل، أن يدع له شيئاً عزيزاً علي هذه الأرض. إننا فيها عابرون. فلا ينبغي أن نترك شيئاً من هذه الفانية يعلق بأذيالنا ساعة الوداع، لأننا لن نعود إليها لنصل ود ما انقطع.
إن قلبي ليرتعد وجلاً من مستقبل غادر. وكأني أري بعين بصيرتي خاتمتنا محفورة في هذه السماء.
وإني لأعدني وأعدك مسئولين عن أن مهدنا بتعارفنا لهذه الخاتمة. أجل، ما كان ينبغي أن نخلق البداية، لئلا تكون ثمة نهاية. فإن في أحرف هذه الكلمة الرهيبة، تجم كل آلام البشر.
وانتهيت عندئذ من حديثك، وما يزال الفلك يجوس بنا خلال الأمواج، فرفرف علينا سكونٌ أشبه بذلك السكون الذي يرفرف الآن علي أيامنا. اللهم إلا خطواته من نسيم ان يهب، فيسمع له خفق بالشراع.
ثم أخذت سحبُ المستقبل تمطر مآقينا وابلاً من دموع، ذرفتها ليلتئذ أعيننا قبل الآوان.
ولبثنا هكذا إلي أن رسا الورق وطوينا الشراع، ثم رقينا البر ملوحين بالوداع لليلتنا. فكان في هذا المعني نفسه، ما تمثلنا فيه خاتمتنا المحزنة. حين يئين لسفينة حبنا أن تقطع الشوط الذي كتب لها، ثم تبلغ المرسي وتقف إلي الأبد.
وها قد مرت الأيام، وغاب عني طيفك الحبيب في ظلمات القبور. ولحقت ليالينا بتلك الليالي التي ذهبت ونسيت منذ بدء الخليقة، كأنها لم تمر بهذه الدنيا.
وهأنذا الآن أحصد حسراتي الراهنة، من غرس تلك الليلة وشبيهاتها وأجرع الآلام من ذات الكأس التي رشفت منها فيما مضي الرحيق.
فسلام عليك ياحبيبتي في جدثك النائي. وعلي أيامنا في غياهب النسيان سلام.
69
أسائل نفسي: علي أي المناظر ينسدل ستار حياتنا؟ أليس علي منظر الموت البغيض وهو يصارعنا فيصرعنا؟ أوما نغمض آخر مانغمض، علي هذه المأساة؟ أولسنا ننام علي هذه الحسرة الأليمة ملايين الأعوام، وهي ماثلة أمامنا وطي جفوننا إلي الأبد؟
وأسائل نفسي ما هو آخر صوت يطرق أسماعنا؟ أليس صرخة فزع مخنوقة، نصرخها ثم تخرس ألستنا ونفارق الحياة، فتظل تدوي في آذاننا مدي الدهر؟
أسائل نفسي بكل هذا، ثم أعجب لأولئك الذين يزعمون أن الحياة مرحٌ وحبور، ويتغاضون عن الحقيقة المرة.
لماذا لانعرف الأشياء بنهاياتها؟ تلك النهايات التي يبقي أثرها فينا وينمحي ماعداه. ولئن فعلنا، فماذا غير الهول حقيق بأن يسم الحياة بميسمه، وهو خاتمة كل حي؟
إننا نعيش أعواماً محدودة، قد تكتحل فيها أعيننا بمرآي أشياء مبهجة، أو تطرب آذاننا فيها لنغمات حبيبة، ولكننا نعيش الدهر كله رهن هذا الفزع الذي هو آخر ما نري. أفبعد هذا لاتكون حماقةً منا أن نرمق الحياة بنظرة متفائلة؟
يقولون: لنضحك لنغالب الحياة! وياحبذا هي من أمنية، ولكن كيف السبيل إليها والحياة تغلبنا في النهاية؟ ولماذا نناضل في عراك لن ننتصر فيه، ونعرض للزراية كرامتنا؟.
لماذا نثير وسط أحزان الضمير المبهمة، بسبب محن يسمع من الغيب ديب خطاها، ذوبعة ضحك تخدش وقاره، وفيها من الاستخفاف بحزنه ما فيها؟
إضحك يضحك لك العالم! هكذا يقولون! ولكنني أشهد أن الموت لم يزر امرءاً قط بوجه بشوش، يدخل السرور علي فؤاده، حتي يقال إن من دأب دنيانا المرح.
إني ما أمعنت في الضحك مرة، إلا شعرت بوخز مبهم في ضميري. وكأنه راح يقول لي: كيف سولت لك نفسك الضحك، وتلك الحسرة الأليمة تغمض عيون رفاقك منذ بدء الخليقة، وتنتظر أجفانك أنت ومعاصريك لتغمضها ذلك الإغماض البغيض؟
ابك، خير لك، علي أولئك الثاوين في التراب. علي أولئك الذين أغمضت عيونهم علي فزع، وأطبقت شفاهم علي غصة. ثم ابك سلفاً لعينيك وشفتيك.
ولاتلومن في ذلك نفسك علي ضعف تتوهمه فيك، أو تتهمن شجاعتك. فهكذا شاءت الحياة، وفي ذلك الطريق أمرتنا أن نسير.
والحكيم من استمد من طبيعة الأشياء فلسفته، وليس من ترهات يخدع نفسه بها.
70
بينما يفد العشاق زمراً علي الرياض، يتراشقون بالزهر ويرشفون القبل، وأقبع وحيداً في ركن منعزل، أذكر أزهاري الذابلة، وأزدرد حسراتي.
واأسفاء لي! غصونهم مورقة، وغصني عار. وبلابلهم شادية، وبلبلي كسيف.
إيه يازمان! لكم أتيتك يا روضُ وحبيبي معي. نمرح فوق ظلالك، ونهش في وجه زهرك. حتي إذا ما دعا للشوق داع، ولجنا خمائلك، ومضينا نتبادل القبُل في حماها ونعتنق.
وهأنذا الآن بعد عام فراق، أجيئك وحدي وأسير ذليلاً في مماشك. لا يد في يدي، ولا عين ترنو إلي.
71
قديما والأمل بين جوانحي يتبسم، كان كزهرة الربيع فؤادي، مفتح الأبواب لكل عابر جميل.
فكانت كذا مرت بي نفحة من عطر الغيد، أنشقها وأتنهد.
أو لمست راحتي منهن كفاً ناعمة، أرتجف صبوة من فرعي.
أو قبلت شفتي منهن شفة، يرقص قلبي وهو نشوان.
يومئذ كان مجنونً، فؤادي. جد ظريف في جنونه.
أما الآن وقد ولي الأمل، فلقد انغلق علي نفسه هذا الفؤاد.
لفه اليأس كما يلف الضباب زهر الخريف. يمر به الجمال فما يدري. ويناديه فما يستجيب.
لقد أوصدت أبوابه في وجه كل شيء. وأن الأكف لتدمي في طرقها، ثم ترتد علي أعقابها يائسة.
مسكين، من ذا يفتحه، وهذه شمسه غربت؟
لك الله يا أمل! لا شيء جميلٌ يدخل قلوبنا حتي تفتح له. ولاسعادة تزورنا إلا أن تزفها إلينا.
72
حياك الله يا أيام الصبا! يا أيتها الطريق المعبدة للجمال، يطؤها بأقدامه الذهبية، ليحل منها ضيفاً علي الفؤاد.
لقد وليت واأسفاه، فأضحت شائكة طريقه. يدمي وطؤها أقدامه الرقيقة.
ولذا فهو يتحول عنها إلي حيث الطرق المفروشة بالورد، يدب عليها دبيبه المحبوب، فيتلقاه من أقصي الطريق قلب فتي، مايلبث أن يفتح له شغافه وهو جذل.
أجل، ذهبت ياصبا فذهب في أثرك العبد الحسان. تاركات في الضلوع طريقهن المهجور لاورد يفرشه، ولاقدم جميلةٌ تدب عليه.
73
كانت في حديقتي زهور، ولكنني لم أهتم بقطفها.
وكان بها طير، غير أني لم أكترث لغنائه.
وكانت تخطر بين خمائلها غيد فلم أحفل بشأنها.
ذلك أني لم أكن أري فيها الجمال الذي يغريني بها.
ثم مرت أيام فذبل الزهر، وشردت الطيور، واختفت الغيد.
عندئذ تراءت لي كلها رائعة من بعيد. وأدركت عظم الفرصة التي ضيعت.
فضربت كفاً بكفً ورحت أقول: واأسفاه! لقد كانت السعادة بين يدي، ولكنني لم أرها حتي كنتُ أفتح لها قلبي. شيء ما أْغماني عنها.
أتري كانت يومئذ مقنعة؟ أم أن العين لم ترها لأنها كانت في العين؟
واهاً لذلك الإنسان الذي لايبصر الأشياء إلا من بعيد! إنه ليري النجوم في السماء، والقمم في الجبال الشوامخ، والشاطيء النائي عبر النهر، ولكنه لايري أنفه المثبت في وجهه.
كأنك أيتها السعادة أسطورة! تحكي حوادثها وماتري. حتي إذا ماتناهت للأذن أخبارها النائية، كما تتناهي إليها الأصداء، ذرفت العين علي نعيم ضاع سدي. وذهب ولم يمتع به أحد.
74
لي زمان يمر بي أحداثاً
وأراني كريشه في يديه
إن مثلي إذا تأمل في الدهْر
يري عبئه علي كتفيه
وإذا ما الجمال تيم صبا
شيب الأسودين من فوديه
ياحبيبي هل لي إليك سبيلٌ
قدمي زل بي فما نفع ويه
ماتغني الفؤاد إلا ليشكو
لوعة للغرام صارت إليه
يا له عاشق إذا هو غني
تسمع الدر فاض من شفتيه
فكلامي مثل الجمان نضيد
يملأ الصب عنده راحتيه
عشق الدهر ما أقول فأصغي
مرهفاً للسماع لي أذنيه
ولكم بحت في الهوي بنشيد
فوعاه الزمان في مسمعيه
75
ياللخجل! لن يشهد لك معاصروك أيها الشاعر. أولئك الذين يحسدونك.
عليك أن تموت أولاً، لأن الموتي لا يحسدون.
إن منظرك وأنت كومة معتمة من تراب، لكفيل بأن يغفر لك كل أضواء المجد التي كانت في نظرهم جريرة، لأنها كانت في عيونهم قذي.
ياللأسف! لن تشهد بعينيك تماثيل الخلود التي ستقام لك، ولا أكاليل الزهر التي ستوضع علي قبرك.
ولكنك مع ذلك تلمح طيفها يتراقص من خلال سحب المستقبل، وتري الوفود في حفلات إقامتها وهي تهتف لك. تراها كشعاع قمر مختف خلف الربي، وعما قليل يحبو ويطلع علي الوادي بوجهه الجميل.
قر عيناً بذياك الشعاع. إنه ليحمل إليك بشري الخلود، وهي بشري حقيقة بأن تعزيك في محنتك.
نعم، بهذا يحدثك فؤادك، وهو ماتخفق له جوانحك، كلما عكفت ترتل أناشيدك، فآمنت بأنه نغمها هذا الجميل، لايمكن أن يضيع هباء.
»الأغنية» هو عنوان ديوان للشاعر حسين عفيف، لم يصدر ضمن الأعمال الكاملة التي صدرت عن المجلس الأعلي للثقافة ويعود إلي عام 1940 .
في هذا البستان نستعيد الديوان كاملا، بدراسة لمكتشفه الناقد الكبير نبيل فرج، الذي يحكي قصة هذا الديوان، الذي لايوجد منه نسخة في دار المكتب المصرية إذ صدر قبل أن يتم إلزام الناشرين بايداع نسخ من مطبوعاتهم، وبالفعل لا يوجد رقم إيداع للكتاب، إنما هناك إشارة إلي أنه طبع في الأول من يونيه1940 بمطبعة حجازي بالقاهرة.
لم يصدر قانون المطبوعات في مصر إلا في سنة 1954. قبل هذا التاريخ كانت دار الكتب القومية تعتمد في تزويدها بالكتب علي إهداءات المؤلفين والناشرين، أو علي ما تقتنيه الدار من المكتبات وأسواق الكتب بميزانيتها السنوية، وهي عادة ما تكون ضئيلة بالقياس إلي ما تحتاج إليه.
ولهذا فما أكثر الكتب التي كانت تصدر في بلادنا منذ دخول المطبعة في القرن التاسع عشر، ولا يعرف أحد عنها شيئا، لأنه لم يكن هناك قانون يحتم إيداع عدد من النسخ في هذه الدار القومية.
وتعد هذه الكتب التي ليس لها وجود ضمن مقتنيات دار الكتب بمثابة مخطوطات إن عثرنا عليها اليوم فإنها تنشر كأنها طبعة أولي.
وعندما قرر المجلس الأعلي للثقافة في أوائل هذا القرن إصدار الأعمال الكاملة لحسين عفيف ضمن فعاليات الاحتفال بالذكري الخامسة والعشرين علي رحيله، قام بنشرها في ثلاثة أجزاء من القطع الكبير، تضمن الجزء الأول منها دواوين الشاعر المبكرة بما فيه ديوانه المفقود "الأغنية" الذي وضعت عنوانه علي الغلاف، كما وضعت ديوانه الآخر المفقود "مناجاة" 1934، دون أن يكونا من محتوياته!
وبحكم أني كنت عضوا في لجنة الكتاب والنشر بالمجلس لأكثر من عشر سنين، وصدر لي في المكتبة الثقافية في 1986 كتاب عن حسين عفيف، استكثرت أن يرتكب المجلس هذا الفعل، بكتابة عنوان ديوان "الأغنية" وديوان مناجاة علي غلاف هذا الجزء، مع عدم وجودهما فيه!
وتلافيا لهذا الفعل المشين قدمت إلي المجلس نسختي الوحيدة من ديوان "الأغنية" التي كان حسين عفيف أهداني إياها قبل رحيله، لكي يتدارك المجلس الموقف بنشره.
ومع هذا الديوان مقدمة من عدة صفحات تعرِّف بالمؤلف، وبديوانه، وبمنهجه في الكتابة.
وخلال خمس سنين كاملة من انتظار النشر لم أتلق حين ألح في السؤال غير الوعود.
كانت هذه الوعود تأتيني من الأمين العام نفسه، الواحد بعد الآخر، جابر عصفور، ومحمد عفيفي، وأمل الصَّبان.
وكانت أمل الصبان تؤكد لي أن الكتاب في المطبعة الأميرية، ولم يعد هناك مشكلة!
إزاء هذه الوعود غير المتحققة، اضطررت إلي سحب الكتاب خوفا من ضياعه. وهذا احتمال وارد جدا، وقائعه كثيرة، يعرفها كل من تعامل مع مؤسسات الدولة في النشر.
وقد عانيت الأمرين في سبيل استرداد الديوان، وهذه قصة أخري، ليس الآن مجال الحديث عنها.
وكان الأمل يحدوني أن أجد ناشرا جادا، سواء من القطاع العام أو الخاص، يقدر هذا الديوان، ويقدر هذا الشاعر الذي لا يملكه أحد.
فإذا تعذر وجود هذا الناشر، فلن يكون أمامي غير أن أحاول بقروشي القليلة أن أنشره ولو في طبعة خاصة القصد منها أن تحمل رقم الإيداع، حفظا لآثار شاعر رائد له مكانته في الثقافة المصرية، كتب عنه باحتفاء شديد لويس عوض وغنيمي هلال ومحمد مندور ورجاء النقاش ويوسف الشاروني، وفي ركابهم مجموعة كبيرة من الكتاب والشعراء كانوا يبعثون لحسين عفيف الرسائل تعبيرا عن تقديرهم وإعجابهم بفنه.
ولا تزال أعمال حسين عفيف التي جذبت هذه الأسماء تنبض بالقيم الفنية العالية التي صاغها في كل مراحله بأكثر الأساليب صقلا وتأنقا ودقة.
تشمل المرحلة الأولي من أعمال حسين عفيف دواوين: "مناجاة 1934، "الزنبقة" 1938، "البلبل" 1939، وآخرها "العبير" 1941 الذي أهداه إلي روح رابندرانت طاغور الذي رحل في تلك السنة.
وتشمل المرحلة الثانية التي أتت بعد انقطاع دام عشرين سنة: "الأرغن "1961" "الغدير" 1965 "الغسق" 1968، "حديقة الورد" 1974، "عصفورة الكناريا" 1977.
والفرق بين المرحلتين أنه في المرحلة الثانية كان أقل مغالاة في العناية بجمالياته، لأن انتاجه فيها كان أكثر نضجا.
ولم يكن إهداء حسين عفيف ديوانه "العبير" لروح طاغور مجرد إهداء لشاعر أعجب به أو تأثر به، كما أعجب وتأثر بشاعر فرنسا لامرتين، أو الشاعر الإنجليزي شيللي وغيرهم من شعراء الحرية والفردية، وإنما كان للوشائج القوية التي وجدها حسين عفيف في شاعر الهند العظيم، رأي فيه نفسه، وأن أشعاره التي ترجمت إلي العديد من لغات العالم تلقي الضوء علي أشعاره.
وأغلب الظن أن حسين عفيف تعلق بطاغور قبل هذا التاريخ بكثير، في 1926، أي قبلها بخمسة عشر عاما، حين زار طاغور مصر، وقابله في فندق شبرد القديم طه حسين ومصطفي عبدالرازق، وأفردا له صفحة كاملة من جريدة "السياسة الأسبوعية" في عدد 4 ديسمبر 1926، وكانت هذه المقابلة هي الوحيدة التي عقدت في الصحافة المصرية مع شاعر الهند وعنوانها: "ساعة مع طاغور"، وفيها يصفان روحه الصافية التي تفيض بالحكمة والشعر، وتسمو علي كل ماديات العالم، موحدة شتاته، وهي ذات الصفات التي تتميز بها أشعار حسين عفيف، وتتطابق كلماتها مع بعض تعابيره، نابعة، مثلما ينبع أدب طاغور، من الطبيعة والفن والحياة..
هذه الحياة التي تظلل فيها السماء كل البشر، ومن يسكن الرابية ومن يسكن السفح، وتزكو فيها النفوس بالجمال بكل أنواعه وأينما كان، لأن في هذه الحياة التي يندمج فيها الإنسان بالكون من الخير ما يجب أن يكون للجميع، لا يستأثر بها أحد وحده.
وفي تقديره أيضا أن القدر إذا نجح في إثارة النقمة بين المحبين، فلن يستطيع أن يمحو ما كان بينهم من حب وحنين، لأنها تبقي أبدا، كما يبقي في الوجود ضوء الكواكب بعد أن تغيب وتتلاشي.
وحيث إن كل علاقة لها حدود تنتهي عندها، فإن حسين عفيف يحذر في أشعاره من تقطع العلاقة بين المحبين إذا بطش بها القدر، وفات أوان استئنافها.
ذلك أنه لا رجعة لما يتداعي، ومن انتشار الشوك في المماشي بدلا من زهر الشجر وعشبه النضير.
وحسين عفيف "1902 1979" لم يكن في دواوينه ضد الوزن العروضي إذا جاء تلقائيا، بلا تعمد، ودون تقيد بضوابط النظم، أو معايير التقاليد المتوارثة.
وعلي الرغم من كل ما قدمه حسين عفيف في الشعر والنثر، فقد كان يدرك جيدا أن معاصريه مادام علي قيد الحياة لن يشهدوا أبدا له بهذا الحق، بسبب غيرة أبناء الحرفة الواحدة، ولا نجاة له من حسد الحساد إلا بالموت.وفي الموت لن يشعر بصدي ما صنع من مجد يتمثل في تماثيل الخلود التي تقام له، ولا بأكاليل الزهر التي توضع علي قبره.
غير أنه في ختام هذا الديوان، "الأغنية"، كان علي يقين أن الحفلات في المستقبل ستقام له، وقرَّبها عينا، إيمانا منه بأن نغمه الجميل لن يضيع هباءً.