ولأني أمام البحر: رأيتُ الطائرَ الذي يعبر العالمَ في لمحِ البصر
تتلاطم الأمواجُ على سور الأزل وتتناسل
كأنما ألعابُ صِبيةٍ يعبثون.
“لا شيءَ يستطيع تفريقنا، لا أحد…
لأنّ البحرَ في داخلنا”
هذه الأوقات حيثُ صيف الجزيرة
وهياج القائلة
ابتعد البحرُ كثيرًا
اختفى الأفقُ والمغيب
الطيور على إفريز النوافذ، تفتح مناقيرَها نحو السماء
فيما يُشبه نداء استغاثة
الظهيرة افترست الملامحَ والوجوه
كما تفترس البيداءُ الفصول
شعوبٌ تُساقُ كما يُساق القطيعُ إلى المرْعَى
راضيةً ضاحكةً إلى الهوانِ والمذبَحة
ذلك النداءُ الذي انفجر من حناجر موتى
غابةُ أجراسٍ ونواح
أخَذ ما تبقّى من حياةٍ
جَرَفها إلى كهفهِ الرَّهيب
وهَا نحنُ نرقُب الظِّلال الشَّاحِبة
على الجُدران تعبرُ الآزالَ والمَتَاهات
أيّتها المرأةُ القادمةُ من تضاريسِ الأعماق
جسدُك الحُرّ يَطير مع الرّيح
شفتاك موجٌ مُزبدٌ بالرَّغبة
سرّتك تَصلُ الغيمَ بالأفق
في مُنتصف الأبديّة
استلّوا هُنيْهةً من بين أطياف الراحلين المتكاثرة
في هذه البُرهةِ من الزّمان.
ذهبوا مع أطفالِهم لمشاهدة الشِّعاب والأودية
تتدفق من الجبال، لألأةً نحو أعماقِ الأخاديدِ والبَحْر
محدّقين في الأبدِ الجّارف.
في كباشِ المياه المتدافعةِ كأنها في سَرْحِ الصباح الغارب.
يَقرؤونَ الأملَ المفقودَ في دوَّامات المِياه وسديم الغيوم.
تقرع الخطوبُ والرّزايا
قلبَ صخرةِ الوَادي منذ بِداية الدّهر
تلك التي قرعت قلب أبي صخْر الهذليّ والبشرَ القاطنين في حواضر اللحظة والقرى المعلقة في الفراغ.
تعصف بهم رياحُ الموت المباغت والغياب.
لأول مرّة منذُ زمنٍ بعيد
شاهد الشمس تنبلج من مشرقها النائي
نبع الحكمة والنور المنطفئ منذ قرون
… هكذا
سفينة طافية بين تضاريسِ جبالٍ وهضاب
نخلة وحيدة في صحراء
على مُنْحدَرِ رمالٍ وشاحنات
بثمارِها القليلةِ مطلعَ الصيف
كأنّما تحلمُ بالهروبِ من ليلِ وحْدتِها الجاثم
بماذا يحلمُ هذا الطفل
وهو يرفس أطرافَ السرير والجدران على منحدرات الكون.
أيّ كابوسٍ كان يسري في ليل أعضائِه الغضِّ مطلعَ العمر.
في السطر الأول من جبال السطور والكلمات؟
امنْحُه يا ربّ خيطًا من مجدِ نورك السّرمديّ
لا تتركْه وحيدًا في بيداء القَتلةِ والوحوش
بكبسةِ زرٍّ من خادمك المطيع
يتغيّر المشهدُ إلى نقيضه
وينعمُ أطفال نكبة العالم
بالدَعةِ والحَنان.
انْتَحِبي يا يمامة الروح
اسفحي مراثيكِ على أرضٍ
أنْهَكَها الوباءُ وجذام الروح
اللعنة تحلّق كلَّ صباحٍ مع أطفال المخيّمات
واللجوء الوحشيّ لتستقرّ في قلب العالم
قبل انهيارِه الأخير
على ضفافِ نهر (كيوتو) ليس بعيدًا عن جسرِ الفلاسفة، يتقدّمهم “نيشيدا” بلحيتهِ التي بلون بياض الثلجِ المحيط.
سأل تلميذ (الزن) معلمه عن الحياة،
أخذ المعلّم حفنةً من التُّراب ليذْروهَا في الرّيح.
قال له: هَذهِ هِيَ الحياة
أردف التلميذُ سؤالًا آخرَ عن الموت؟
قام المعلّمُ بفعلِ المرّة السابقة نَاثرًا تُرَابَه في الفضاء الطلق.
شَكَرَ التلميذُ أستاذه؛ لكن الأخير استعجله قائلًا، إنَّ هذه الإشارات والأفعال ليْست إلا أسئلة؛ بينما الأجوبة المنتظرة ما زالت معلقة في جناحِ نسرٍ تائهٍ بينَ المجرّات والنّجُوم.
أخبارٌ قليلة وسطَ زوبعةٍ من رطوبةٍ وغبار
تقول: بأنّ المنخفضَ القادم في موكب الضباب من (كالكوت) في المحيط الهندي سيصل (صلالة) على مشارف المساء.
وتتوزع طلائع منه مترحّلة في السماء العمانيّة الفسيحة، وربما تصل (مسقط)على خليجِ عُمان، وربما لا تصل؛ تائهة في الدوّامات العاصفة بسماوات الرّمل والجفاف، حتى تضيعَ وتتلاشى لتُعاودَ هذه الحكايةُ الأزليّةُ مَسْراهَا في فواصلِ الزّمن والانتظارِ الحارِق.
الطائرُ القتيلُ مقذوفًا بدَمِه أمامَ الباب
الممثلتان الأكثر فتنةً من البحر،
يتبادلان سحرَ النظرات المذعُورَة
إذ تقول إحداهما (لا بدّ أضاع طريقَه في الظّلام الدَّامِس)
ترد الأخرى: أيُّ ظلامٍ والقمر يتوسّط السماء بدرًا يُنير التّلال والقرى والهضاب؟
الطائرُ الجريحُ أمام الباب على مقربةٍ من البَحر نذيرًا بمقدم الكارثة.
شمسٌ أخرى تسقط في بئر السبع ويافا
مجزرة شموسٍ ونجوم تسّاقطُ في ليل الطائرات والضباع.
السماء غير راضية، وهي هكذا طوالَ الصيف، يتصاعد زَبَدُ غَضَبِها مُزمجرةً بوجهِ البشر والحيوان
متى سيمحقُ الله أرضَه وبَشرِه
في صعْقةٍ واحدةٍ
وإلى أبد الآبدين
من غيرِ أملٍ عودة ولا سَراب.
تجرفُ الأوبئةُ والفيضانات
القارّاتِ والكواكبَ
وفي طريقها تأخُذ الزمانَ والأبديّة.
أصواتُ عصافير قادمة من الجحيم:
تلك إشارةٌ إلى عيون الأرقى
والقلوب العطشى التي أضناها الحنينُ
إلى الأحبّة الغائبين
أترك الشاشة
وأنظر إلى المروحة في السقف، لأرى شعوبًا تطحنها مروحةُ المجازر البشريّة والإلهيّة.
تلك الظّهيرة التي تُجلجل في الخارج
تكثّف وحشة السجين في زنزانته، حتى لَيبدو الانتحار محضَ أمنيةٍ سَعيدة.
دومًا يتراءى للتّائهِ في سراب الصحراء، أنّ هناك نبعًا يتجدّد لألاؤه حتى يصلَ حتميّة النهاية، من غيرِ نبع ولا أرض.
يمامة الفجر يتهادى صوتها من نافذة يعلوها قمرٌ في طورِ أفولِهِ
صوت اليمامة مع الخيوط الأولى لفَجرِ المِحنةِ، كما الهديّة الأخيرة جادت بها الجرداء والزمان.
ذلك الوجْه الذي ينقضّ عليكَ من غابة الوجوهِ التي طوتْهَا المسافةُ والغياب؛
وجه المسوخ الأقصى للرّذيلة والغدْرِ وانْحطاط الغرائز، الخلاصةُ الأخيرةُ لصوغِ الأساطير وجوه أبالِسَة الجحيم وهُم يتمرّغون في رَغدِ العيش وسطَ صراخ الضحايا والتنكيل والأنين. الوجْه الذي لا يتركُك تنامُ على أيّ مُنقلبٍ أو سرير.
أزمنة المِحَن والأزمات، تعلّم صاحبها، كيف يستطيع اقتناصَ لحظة جمالٍ ومسرّة حتى تلك الصغيرة المُختَبِئة خلف حُجُب القسوة، مثل ذلك الطائرِ الذي يحطّ على أسلاك الكهرباء، منشداً في ضوء قمرٍ منطفئ، ومادًّا عُنقه الصغيرَ برعشةٍ نحو النور والفراغ.
طوبى لأولئك الذين عاشوا حيواتٍ كثيفةً متعدّدة في حياة واحدة، طالت أم قصُرتْ فهي سريعةٌ عاصفة، حتى عانقوا المنتهى والغياب.
لا يفصل بين الحياة والموت، إلا تلك النبرة الأخيرة للعصفور فوق أسلاك الإنارة، حين يبلعُ ريقه الجافّ، مصعوقاً يعانق الحقل في خيالِه والمروج.
ولأنّني أمامَ البحرِ
أرى الطائرَ الذي يعبُر العالمَ في لمحِ البصرِ، وينامُ في حضن عُشّه الأوّل
ينام سكان القرى المتدلّية في خواصرِ الجبالِ المطلّة على أوديتها الجوراسية، على الحوافّ دائمًا. ذلك يجعلُ نومَهم هادئًا من غير كوابيس وأرق؛ لأنّهم ينامون في أحشاء الخطرِ والأبديّة.
كان ينبغي على الكائنِ البشريّ أن يزهو بعظمة زواله، لا بخلوده السطحي الواهن بقلب هذا الهباء الذي تذروهُ الرياح في جهاتها الألف… كما ينبغي على أيْلِ الرنّة أن يَقِفزَ من صحوِ جِبَاله قبل قدوم الإعصار والفيضان، إلى عالم الصقيعِ والضباب.
ينثرون الورود على موتاهم في أماكن كثيرة من العالم، يقفون خاشعينَ أمامَ سطوعِ النهايةِ وغُموضِ الحياة.
صلبانٌ مُنتصبةٌ وأهلّةٌ وفاكهة بوذيّة.
ينثرون الأزهارَ والأدعيَة على أرواحِ الراحلين ثم يعودون إلى روتين حياتهم:
الأفعالُ المُضجرةُ والرَّتيبة وسطوةُ المجهولِ المتربِّص في الزوايا والحيطان.
وردةٌ تطيّرها الرّيحُ في الفضاء تتبعها قُبلة، يذوبان في صُفرةِ المغيب.
قطيعُ الغَنم الذي كان يرعى في نومِهِ، تشاهدُه الآنَ، بحرًا من الحيواناتِ يتحرّك موجُهُ الخفيف بين الجبالِ والسُّفُوح.
قطعانُ الماعزِ يزحُفُ في خَيالهِ مثل تلك التي شاهدها في الزمن الغارب سارحاتٍ بين الضواحي والتّلال. بينما النخيل المهتزّ بفعلِ ريحٍ خفيفةٍ.
تجري جداولُه في مجاريها نحو الوديان الصديقة.
نهداك أيتها المرأة، يُنزلان المطرَ من غيمهِ بشَبقٍ إلى الأرض البوار.
جسدك الإله وقد تجلّى بكامل قدرتِه الجماليّة في الخصر والردفين وفي مشيةِ القدم الحالمة.
العبارة التي تحرّر الجسد من أعباء التاريخ، مُلقاةٌ خلفَ عشبة أو صخرة في الوادي العتيق.
لقد عثر عليها حطّابٌ أو شاعرٌ ذاتَ دهرٍ، وأوْدعَها في ذاكرة الظبي السّارح في السيوح..
ليكن هذا البهاء الممطر إشراقًا، بهاء الكائن المحشور في سجنه برهةَ راوده خيالُ حريّة الموجِ والآفاق.
في المنتجع الجنائزي الذي تختنقُ فيه أصوات الموسيقى مثل حيتانٍ تحتظر.
يتهادى صوت (إيرين باباس) من خرائب ذاكرةٍ جريحة.
في رحاب الإغريق
كهنة الفكر الأوائل
(أولئك الذين أبدعوا الأنساقَ الكبرى)
حين كانت الفسلفةُ العزاءَ والإله
الجُمل تتطاير في الليلِ كشظايا شُهُبٍ
في المُدن والمقاهي والوجوه التي عبرتْهَا
في نومك المأهول بأشباحِ موتى يعبرون البرزخَ إلى مُسْتقرِّهم الأخير.
وجوهٌ شمعيّة قادمةٌ من ثقوبِ الأيّام،
تتشكّلُ وتذوب كتلُ الظّلام الغاشمِ:
هي وجوهُ الأصدقاء الراحلينَ والذين على أهْبَة الرّحيل.
سيّدة الصالون
تعزفُ لحنًا لموتسارت
بينما الحربُ تسْتعرُ في الخارج،
وفي قلبِ السُفنَ الغَارِقَة في المحيط.
مهاجرونَ فارّون من أرجاءِ البِلاد
وحّدهمُ الخطرُ وسط الموج المدلهمّ
في ظلام المضائقِ والمحيطات.
أين تلك النعمة التي كان يسْتَشْعِرُها المُترحّل
من غير غاية ولا هدف.
حينَ تُداهِمُه بُرهةُ الوجودِ مُحتدمةً
بالهواجسِ والفَنَاء، يتنزّه بينَ ضفافِ الكُتبِ والأزمنة
لا يُفكّر في حرْقها، فهو ليس (التوحيدي) ولا (الجاحظ) يقيناً… في نثرهما الباذخ.
لكنه ضجرٌ وزائغ في قلب المتاهة والقائلة..
بالأمس في بغداد حطّم الغوغاءُ
تمثالَ أبي جعفر المنصور باني المدينة ومجدها التَّليد.
كمَا حطّموا قبلَه تمثالَ أبي نواس وغيره.
تهاوت أركان اللغة والذاكرة والأسماء
تحت حوافر خيل الرّعاع القادمةِ من داخل الحدود هذه المرّة.
مرّ حدثُ التّدمير سريعاً كغيره؛
تراكم أنقاض وحطام على أديم الأرض
الثكلى وفي غور الجروح
غفوةُ الحمارِ الوحْشيّ
قوس قزح يتدلى من السماء
قوس قزح ينامُ على أرض الأجداد.
يسْتسقون الأملَ من ضرعِ سحابةٍ جافَّة
حين يفقدُ الإنسانُ القدرةَ على البُكاء.
على سَفح الدّموع
كما يهطلُ المطرُ على سفوحٍ ووِهاد
أمام المُلمّات والمآسي
يموتُ الكائن على الفور
أو يدخل فصلًا آخر أكثر قسوة
من فصول جهنّمه الخاص.
(هيتشكوك) يمسك بشفتيه
سيجاره الطويل كمنقار.
على المنقار يحطّ غرابُ (إدغار آلان بو)؛
ناعقًا بصمتٍ مُحتشدٍ، في وجه الخليقة..
صورة سياحيّةٌ متداولة لسيّد أفلام الرعب كما نُعت.
تسويقُ الرّعبِ والفزعِ أضحى مظهرًا من مظاهرِ التّرفيه والسّياحةِ إلا لدى أولئك الذين صعقهم الرّعب الحقيقيّ، الفزعُ المريع، الجوع والعطش
والظلام الدمويّ بكافة أشكاله ومناحيه.
نظَرَ إلى السّرير فارغًا
بعد عُبور العاصفة
فكّرَ في الشّاطئ المُظلمِ والشّجَر
وتلكَ الصّخرةُ مُستوحِشة في أعماق الوادي
قبل أن يسْقُطَ في فراغ العدم والهاوية.
الشمعة في زاوية الغرفة تُنير الأكوانَ والبِحار.
في هذه اللحظة
أتذكر وجهك يا (عناية جابر)
ضحكتك وأنتِ تمشينَ على كورنيش المنارَة
ضحكتكِ التي تحفّز الكناري
في نشيدٍ يسترسِلُ صخبُه
في سواحلِ المتوسّط والقِفار
“لا أحدَ يَضيعُ في بيروت”
لكنكِ كنت ضائعة وحزينة.
من زمن الحربِ التي ما زالت قائمة
يجلس زكريا الإبراهيم على دكّةٍ في شارع الحمرا أمام بهاء مقهى المودكا الآفل
من بابٍ شرقيٍّ بدمشق هاربًا
خالي الوفاض إلا من زجاجة عرق الريّان التي أهداها له العم شوقي بغدادي
ها هو يعانق أشباح المارّة واللعنات
والكوابيس تُحلّق حوله مثل عصافير الغوطة التي جفّت منها المياه حين غادر بردى إلى كوكب آخر.
كان يقرأ لمتصوّف:
إذا رأيتَ النّار فاقذفْ نفسكَ في أتونِها؛ لأنّك إذا هربت لاحقتك ألسنتُها.
فكّر أنّه رَمَى نفْسَه جَسدًا وروحًا في الأهوال المُلتهِبَةِ، لكن الألسنُ والأذرعُ والشرور، ظلّت تلاحقُه
أنّى حلّ وترحّل في البُلدان والأصْقاع.
سلامًا على روح طائرٍ جريحٍ في مِحبسه
وهي تُعانق فضاءَ الجُزر والمُحيط
سلامًا على نجمة ميْتٍ في مجرّاتها البعيدة
وهي بضيائها تُنيرُ الأكوان والمسافات.
كلبٌ يعوي في ليل كوفيد السّاجي كمقبرة
يعوي بإلحاحٍ وحنين
حين كفّت الكلابُ البشريّة
عن النباح والافتراس
الجبل العالي في الأحلام والخرافات
جنّة الضواري، عرين الطيور والفراشات..
أحاله المحْلُ هذا العام
إلى هشيمٍ وموات
أشجارٌ عاريةٌ هرِمَة
تعْولُ الريح في جنباتها حيث ينتحبُ
ذئبٌ وحيد على حافة الانقراض
يغبطون الموتى
على حياتهم في الغياب
أولئك الأحياء في حضورهم المنطفئ
في أبدية الضجر وهول الانسحاق
يتمشّى في الصالة
وفي حدائقِ الخَيال
الرجل الوحيد
في ليلهِ البهيج
يتمشّى ويقفز أحيانًا
ليتأكّد أنّه ما زالَ حيًّا
وأنّ الزمنَ لم يتجمد بعد
على الأبواب والردهات.
كان يحاولُ أن ينام
مرّات عديدة يبذل جهدَ المحاولة
في ليلٍ بالغ الهدوء، والاضطراب.
أوجاعٌ خفيّة تستيقظُ لتوقدَ الروح والمكان.
أشرقت كعبة الله في روحِهِ
قبل المكان المسوّر بالجبال
رآها رأي العين والبصيرة
في أحاديث أبيه
وفتوحات الشيخِ الأكبر النبيل.
في نظراتِ أولاده الذّاهبة نحو مستقبلِ الغابة والبحر.
في صَخَبِ المياه المتدفّقة في ذاكرة العقائق والصيف.
في النظرات الحائرة في المحطات والقطارات
رأى دوْحةَ الله الوارفة على البشر والحيوات.
كان يربي الفصولَ كما يربي أشجارَ حديقتِهِ.
يرسلُ صورًا من البلاد البعيدة التي لجأ إليها بعد أن نجا بأعجوبة من مقتله.. بلاده التي توارت خلف المقابر والأجداث.
ها هو الربيع يقتربُ بغيمةٍ مُشرقةٍ
من بهاء وورود، تاركًا خلفه شتاءً من أوبئة وصقيع.
كان يربي الفصولَ والأمل
كما يربّي أولاده العالقين في تلك البلاد.
من (أكدال) إلى مقهى (باليما)
أمشي بخفّة طائر.
مقدمًا أوراقي للريح القادمة من الأطلسي
النُدامى يتحلقون في (الشاربان) المجاور.
أدريس الخوري، الصالحي، جبوش، بن داوود المنتحر و…إلخ.
بينما روح محمد شكري تحلّق من مقبرة في طنجة.
وتجلس على الكرسي تهذي مع النيازك
الأحاديث تصل نهر أبي رقراق بموج المحيط.
والنُدامى يتسامرون حتى الصباح
(خوري) تعب من (لامارن)
في بلاص (بيتري) حيث كان يحلم بشاهدة وقبر.
صار يتوزع في المدينة التي لا تبخل بالأصدقاء والحانات.
هو المتصوّف الأكبر
في الزوايا والظلال
يسبقه صليل الضحكات والكؤوس (خمس قراعي مدفوعة سلفاً لا ننسى هذا المساء)
كان الصيف في أوّله، والشمال المغربيّ مقصد الحالمين والسابحين في الآفاق.
وخوري يسبح في أعماق بحره الخاصّ في (الرّباط) أينما شاء
على شاطئه يسترخي.
ميمماً شطر الأقاصي والأعماق.
أقول لحيواتي السّارحة
في الزمان والمكان
سأتعاملُ مع سيرتكنّ بمنطقِ
الإعْصار المترحّل أو العاصفة
لا خطّ سير واضحٌ في الجبال
والمنحدرات أو في الصحراء التي تسرج المُدن والقارّات.
لا طرقَ بمعالمَ وإشارات.
ذلك الإعصارُ الغامضُ بين التّضاريس والأرجاء.
هو مرآة تلك الروح المتشظّية في الأكوان.
يا حيواتي وطائريَ الجريح
يا جبالًا ووهادًا
يا قرايَ المعلّقة وتلك الغارقةَ في الضباب
يا أحلامَ ذئبٍ عجوزٍ
يُوغل نهبًا في الفلوات
يا غموض أسلافي الأكثر سطوعًا من الحقيقة والتاريخ
يا أطفالًا، وأنتم تمرحون في ملاعب الغيب
يا نجومَ الظهيرةِ المحمولةِ على عاصفةٍ من جُموح
يا نيازك الارتطام والرماد
يا أوهامي
ما زالت كتائبكِ تخوضُ معركتها الخاسِرة.
يا أحلامي تتألقينَ هذا الصباح بحثًا عن
عبارةٍ أو ملاذ.
تكتكات المروحةِ في صيف عُمان،
ذكرتني بذلك الساعاتي الأرميني في سوق العتبة بالقاهرة.
قابعاً في محلّهِ بين الساعات، كصوفي مستغرقٍ بين الموانئ والأحشاء، لا يكاد يرفع رأسه لقادمٍ بشريٍّ أو حمارٍ فرّ من صاحبه في الأزقة والدروب.
(لا أستطيع أن أنام وثمّة ساعة خربانة)
يقول:
في الضوء المُعتم نراه بين الرّدهات،
لا يُفكّر في شيءٍ عدا الساعات.
لا يتساءلُ عن ماهيّة الزمن وعبوره السّاحق
وهل خُلِقَ العالم قبلهُ أم هو البدءُ والعلامةُ الأخيرة على انتهاء الملحمة؟!
لا يفكّر في شيءٍ عدا أنّ طيفَ أسلافٍ راوده ذات مرّة هاربًا من مذبحة التاريخ.
في مرايا الأفق البحريّ
تتراءى الملاحم والطفولات
راكضة وسط أشلاء المغيب
نخلة وحيدة تحنو على الموج
القادم مُنْهكًا
من أغوارِ المُحيط
رجالٌ وحيدون
يُطلّون من الشرفات
بروؤس مقطوعة
وتلك النّيران الطّالعة من أطيافِ السّفن
ليست إلا غلايين قراصنةٍ يمخرون العباب.
تلك البومة التي رسمها (عزان)
مساء الأمس
ليست بومة منيرفا
لا رمزًا للحكمة ولا للجنون
لا للحظ الخصيب
ولا لشؤم الخراب
ليست بومة القريّة الساحلية
ولا بومة الغابة بعينيها تخترق حُجب الغيب والظلام
بومة الجمال تلك تفتّحت روحها
من أنسام البدءِ وساقها الخيال الحر
إلى ضفافٍ مجهولة.
تُهمهمُ الرعودُ في سماءٍ بعيدةٍ
كما هي في أعماقي
رويدًا رويدًا
تقتربُ الغيوم من ذُرى الأشجارِ والجبالِ التي تاهت في شِغافِها الطفولاتُ والوعول.
ولا شيء يفصلُنا عن السديم الكاسر للأبد
حيثُ المياهُ تغمرُ الضواحي العطشى
والقلوب.
البرقُ، سنا البرقِ
حين تتعالى طلائعهُ من خلف
جبال (وادي العق)
وتنضحُ الدِيمُ ساحاتِ
القُرى والهِضاب
يتعالى صراخ الأطفال والرجال
برحابة الفضاء المخضب
بالندى والحنين..
سيف الرحبي