بعد عشرين عاما وشهرين مكتملين وبعد محاولتين سياسيتين وتسع نساء وآنيتين مهشّمتين على شرف الأصدقاء ، وستين نافذة في كتاب وبعد سماء من اللازورد وسبع حرائق في أوبرا الروح ، بعد المدى كله ، والندى كله ، وحدائق بابل ، والكوكبين ، ورمسيس يونان والمتنبي ، وزرياب ، والنفّريّ ، وأمي . آه … بعد دمي ، والحليب ونهر النبيذ ، ونهر العسل آه .. بعد الجرار التي انكسرت والجرار التي – بعد- لم تنكسر لم يعد لي سوى ألف شيء وشيء، ساعدوني على حملها واتبعوني . وحين أصير على بعد قوسين منّي دعوني . أنا سأرتّب أشياء نفسي بنفسي نعم … سأرتبها كيف شئت على أيّ نحو أشاء وأجعل منها قصائد أو تحفا، أو رياشا فثمّ ثلاثون عاما آخر وثم بلاد ، وثم نساء ، وثم عروش وثمّ قمر ، وسأقرأ طاغور ثانية وسأعشق أفكار بعض البشر وسأكتب عن أنبياء قدامى وعن نظريات اندثرت وعلوم ستأتي وألهو على رقعة الشطرنج بهاتين ، ثمّ فراش كثير وثم زلازل ، ثمّ أغان ، وثم رياح وليس من العقل أن لا يموت الملوك وأن لا يسير على قدميه الحجر لم يعد لي سوى ألف شيء وشيء … ان ذلك كاف لأن أبدأ الآن من وردتين لأن أستعيد صداقة روحي لأن أتأمل فارس والهند والقيروان … وأكتشف العدد الذهبي الذي يستطيع اختصار حواريّة الكون في ذرّة أو وتر وسألقى " براهما" وأصغي الى كلمات " زرادشت " عند الغروب وآكل في طبق واحد مع أصحاب " بوذا" وأرقص في مهرجان الغجر وسأولم للشهداء وليمة عرس قديم وأدعو الرباعية الوترية أدعو حديقة " آينشتين" وسحابة " جويا" وأدعو الحصاد ، وأدعو الرحى وأسوّي ملائكة قائمين على باب مملكة من مطر ، لم يعد لي سوى ألف شيء وشيء، ساعدوني على حملها واتبعوني ، أنا سوف أنفخ من روح ربّك في ميّتات الرسوم وفي جامدات الصّور … !!
مشى كالحقول طويلاً
طوى كالكواكبِ اثنىْ وعشرين عاماً
رمى شصّه فى البحار جميعا
وأصغى,
وذاق ,وشمّ,ولامسَ
لم يقترب منه هذا السّراب الذى برهنَ الأصدقاء عليهِ
رأى الأغنيات شظايا
وحبر الطفولة أقنعةً والمودّةَ نصلاً
رآهم يدورون كالنّرد فوق الموائدِ موتى تماماً
ولكنّهم يزعمون له أنّهم يخلقون الحياةَ
على هيئة الطّير
ياللسّكارى الذين أرادوا له أن يجنّ
وياللسّكارى الذين انتشوا
عندما كاد يقرضهم نجمةً
لم تزل تتدحرج فى روحه
كلّ هذى الحماقات من حوله
كلّ هذى الرّحى
كلّ هذى الدّسائس والأحجيات؟!
ويندهشونَ لأنّ الفتى لم يزل عاقلاً
يتحدّى الفراغ العميق
ويدفع عنه غبار الجنونِ
"يَمُرُّونَ خِفافاً.. ولا يَحْصُدُهُم البَرق"
يمرُّون مرّ السحاب خفاقاً ولا يمكثون سوى لحظة ثم يمضون خارج أحلامنا يتركون فقط فوق أهدابنا أثراً عابراً : قطرة أو رفيفاً من الوجدِ أو عبقاً ذابلاً لا نكاد نرى وقع أقدامه فى دهاليز أيامنا
لم ينل منهم البرق لكنهم كلما يعبرون المجرة تطوى سنابك أفراسهم صفحة البرقِ ثم يغيبون فى خلسة من عيون الكواكب لا يستجيبون للشوق فى دمنا
لا.. ولا للحرائق فى قلبنا .............. وإلى عتبات المواعيد نمشى نظل نتابع طيف الخيال ونسقط مثل الفراشاتِ فى نور أو نار أوهامنا
ويظل ملائكة العطفِ يكتنفون الخميلةَ والغيمَ والسلسبيلَ ويعتصرون من الكرم خمرة أوقاتهم يسكبون لنا قدحاً قدحاً من عتاب الحبيبِ لنشرب حسرتنا ثم نبكى على ما تبقَّى لنا من قصاصات أرواحنا من محار رؤانا ومن سوسن الدرب فى مزهريات آلامنا
كم لياقوتة أن تشفَّ لو أن المدى قد أعاد من البدء دورته كم للؤلؤةٍ أن تشى برقائق أسرارها للفؤاد وكم لزبرجدةٍ أن تشف إلى نشوة الكروان بمسِّ الغصونِ .................... ولا أتذكر كيف تساقط عنى الرحيقُ ولا أين فر الصدى من دمى والحروف ..متى وقفت هكذا؟ لم تَسِل من قناة المِدادِ ولم تختلج روحها فى أسنّةِ أقلامنا ربما جفّت الأبحر السبعة الجارياتُ ولم تلد المزنُ بحراً جديداً لأوتارنا ربما خلت المَلِكاتُ من الشهد أو ربما دمدمت هذه الريح فى هيكلى المتداعى
فصار هباءً مع الذرِّ يجرى به عدمٌ قد محا دهر أسقامنا ويمرون مرّ السحاب خفاقاً فأصبو إلى لمسةٍ منهمو وإلى نأمةٍ وإلى سريان العبير الذى جُنًّ قلبى به فى مسام الهواءِ الذى ساقنى كالشراعِ أنا أتوسلُ مثل الأسيرِ إلى طيفهم أن يلبّى صبابة روحى ولكنهم لا يقولون شيئاً يشيرون نحوى ويبتسمون كأنهمو يهمسون: تعالَ وأبكى وقد غاب ما نمّ للتوِّ من سحرهم أتفكر فيما شعرت به عندما مرقوا كالبراق من الحُلْمِ لم ينل البرق منهم ونال همو منه فاغتنم الحسُّ لحظته الأبدية فى الفيضِ واصل فيه المدار تغلغله: ثم لا شىء يصدر عن خفقه كلُّ شىءٍ ومن خلفه جلس الله مدًّ أصابعه فإذا شجرٌ ونساءٌ وطيرٌ وأنهارُ ماءٍ
وناسٌ كثيرون منه له عنه قد شهدوا أنه ربهم ثم غرتهم الغفلة الآنَ فانفرطوا فى حظيرةِ نسيانهم وانفرطت من العشق فى صدفاتى التى انكَسَرَتْ فوق شاطئهِ كى تُلَمْلِمَ أشجان أرحامنا ويمرُّون مرَّ السحاب خفاقاً فلا يقفون على طلَلٍ وأظل أتابع طيف الخيالِ أظل أناجى أناشيد قيثارهم ثم أعلو وأعلو لتدخلنى كشعاعٍ من الومض أسرابهم .................... لا أنا أحتوينى ولا أحتوى لذة الجمر فى غيب روحى التى ليس تدركهم لوحت لى يداهم ولكننى إذ دنوت قليلاً من السدرة ابتعدوا وانحنى الفَىءُ مثل العجوز ليَجبُرَ لى خاطرى ويغمغم: إن شئتهم فاختلسْ سِرَّ نفسك منكَ.. وأنصتُ أنصتُ للمنتهى فسمعت لصوت الندى غصةً تتقطَّرُ كى يغسل الحزنُ بالحزنِ رِعْشَةَ أنفاسنا
أفسحوا لي / أنا خارج من عيون المها / داخل في عيون القتيل
أفسحوا لي / أنا عابر من جنازة قلبي / إلى عرس أخطائكم
فلا زمني عبرة للمرايا / ولا حجرٌ في مكاني دليل
حجر
حجر على الشطآن يرسم صورة للموجة الأولى التي حملته، يغفو في سلام كي يقول لنا: الحياة هي انتقال الحلم من هدب إلى هدب، ويحمل صوته العاري، يلون جلده بالفطر الأعشاب، يفتح للسحابة قلبه فترف فيه، وينحني كالطفل كي يلهو بأسماك وأصداف. فياليت الفتى حجرٌ ليعرف أي موج كانه يوماً، وأي حبيبة فرت كرمز شارد أبداً أمام خطاه. هذي الكائنات الحية اتخذت دمي سكنا فمن يحتال من أجلي على وترٍ ليختلس الزمان، ويجعل الأيام موسيقى، فيطفو مركب العشاق في عيني؟
جلجامش
شيئاً فشيئاً يرتخي عصب الأغاني. لا مناص من الفرار الآن. لن يبقى سوى قمر يشد القيد في رسغي أو غصن به تلهو على قلبي الرياح. ولكن السؤال يظل: هل بعد انتشاري هكذا في الأرض هل بعد اشتعالي في المواكبِ وانقسامي في المعاني أرتدي كفني، وأسند هامتي للرمل، أغفو في دهاليز الأبد؟
صيد
دمٌ وزَبَدْ تفجّر منهما اللون الذي غمسَ المصور فيه ريشته، ودار مع الفراغ ككوكب ليعيد رسم الكون ثانية: هنا شجر كثيف تهبط الأطيار فوق يديه، عشاقٌ يناجون السماء، محارةٌ تبكي. هناك غمامة، وشعاب مرجان، وعرش الله فوق الماء. قال : اختر لنفسك موقعاً فاخترت بين الظل والضوء مكاناً ما. وقلت له : سألعب دور صياد عجوزٍ ثم ألقيت الشباك إلى مدار العمقْ. سألت جميع ما حولي : أتبتلغ النجوم الطعم؟. عاد صداي كالطفل اليتيم، ومر عطرٌ داكنٌ في آخر اللوحة ولملمت الشباك فكانت الأيام خالية.
أصدر وليد منير المولود بالقاهرة عام 1957 حتى الآن 10 دواوين شعرية هى بالترتيب "الرعوى الذى فاجأ السهل، النيل أخضر فى العيون، قصائد البعيد البعيد، بعض الوقت لدهشة صغيرة، قيثارة واحدة وأكثر من عازف، هذا دمى وهذا قرنفلى، سيرة اليد، طعم قديم للحلم، كمشكاة فيها مصباح، وآخرها الروح تعزف الموسيقى". بالإضافة لمسرحه الشعرى "حفل لتتويج الدهشة" و"شهر زاد تدعو العاشق للرقص"، وغيرها من المتابعات النقدية والكتابات حول العديد من أحبائه الشعراء عن محمود درويش وأدونيس وسعدى يوسف
عدل سابقا من قبل hassanbalam في 2020-09-06, 8:36 am عدل 2 مرات
hassanbalam يعجبه هذا الموضوع
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
رسالة sms :
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر :
2020-09-06, 8:23 am
يقول وليد فى قصيدته "موعد":
فى الرهان الأخير على الموهبةْ، سوف يقفز فوق السدود حصانى ليهبط فى الغوطة الطيبةْ، سوف تكتب عن عبقرية روحى السحابة/ والأقحوانة سوف تقوم بشرح العلاقة بين القصيدة والتجربةْ/ وغداً عندما يسقط الكتبة، عندما تستعيد الكتابة أنفاسها ويروق المجاز لصاحبه/ سوف آخذكم لقليل من الوقت فى رحلة حول قوس قزح/ وأبصركم بالكلام الذى سكبته يدى فى ضمير القدح/ وأقود لكم نحو أبعد نجم وراء الصدى مركبة..
ويقول عن ما يمثل له الشعر: أما أنا فأقول إن هوى القصيدة من هواى/ وإننى أجد القصيدة فى وميض الهمس/ فى أرق البنفسج/ فى سحابات الكمان/ وقد أراها باليدين/ وقد أشم عبيرها مثل البياض بمقلتى..
أصدر وليد منير المولود بالقاهرة عام 1957 حتى الآن 10 دواوين شعرية هى بالترتيب "الرعوى الذى فاجأ السهل، النيل أخضر فى العيون، قصائد البعيد البعيد، بعض الوقت لدهشة صغيرة، قيثارة واحدة وأكثر من عازف، هذا دمى وهذا قرنفلى، سيرة اليد، طعم قديم للحلم، كمشكاة فيها مصباح، وآخرها الروح تعزف الموسيقى". بالإضافة لمسرحه الشعرى "حفل لتتويج الدهشة" و"شهر زاد تدعو العاشق للرقص"، وغيرها من المتابعات النقدية والكتابات حول العديد من أحبائه الشعراء عن محمود درويش وأدونيس وسعدى يوسف.
سعيد الكفراوى: أنقذوا وليد منير وليد أحد الشعراء المؤثرين فى تجربة شعر السبعينيات، وأحد المشاركين فى تطوير القصيدة العربية الحديثة، كما يقول صديقه القاص سعيد الكفراوى، وأحد المثقفين الذين كونوا معرفتهم بأنفسهم، بالإضافة لكونه أحد الأشخاص الذين يتميزون بدماثة الخلق والإنسانية ومحبة الآخرين، وعاش، كما يقول الكفراوى، فى الوسط الأدبى لا يحمل ضغينة لأحد بل ويحمل لكل كاتب موهوب، المحبة والتقدير، فوليد على كل ما قدمه للشعر المصرى والثقافة المصرية يمر الآن بمحنة المرض، وانتقد الكفراوى الجهات الحكومية لتأخرها فى تقديم العون المادى للشاعر المريض، كما طالب المثقفين المصريين ووزارة الصحة ومؤسسة الرئاسة ورجال الأعمال المصريين "الذين يقيمون الأفراح والليالى الملاح بـ 9 ملايين دولار"، بالتدخل لإنقاذ هذا الشاعر.
سأكتب عن أنبياء قدامى يهرب وليد منير دائماً بالشعر يفر إلى أصدقائه الشعراء القدامى والمتصوفة والفلاسفة وإلى الحضارات القديمة ليستظل بظلها بعيداً عن العالم الجديد بصلفه وخشونته، فـ "العالم القديم فهو جنة الشاعر الخاصة"، كما يقول الناقد د.محمد عبد المطلب، كما أن هذه الاقتباسات "تلقى بعداً تأصيلياً لتجربته ويخلق شكلا من التواصل المستمر مع كافة أشكال التعبير الإنسانى" كما يقول الشاعر شعبان يوسف فى مقاله عن ديوان "الروح تعزف الموسيقى"، فكثيراً ما يفتتح دواوينه وقصائده بأقوالهم وحكمهم وأشعارهم، فنجد الحلاج وأبو يزيد البسطامى، وطاغور ولوركا والنفرى، ونجده يستدعيهم فى محتوى قصائده كما يقول فى قصيدة "تفاصيل موعد آخر":
سأقرأ طاغور ثانية/ وسأعشق أفكار بعض البشر/ وسأكتب عن أنبياء قدامى وعن نظريات اندثرت وعلوم ستأتى.. إن ذلك كافٍ لأن أبدأ الآن من وردتين/لأن أستعيد صداقة روحى/ لأن أتأمل فارس والهند والقيروان/ وأكتشف العدد الذهبى الذى يستطيع اختصار حواريّة الكون فى ذرّة أو وتر/ وسألقى "براهما" وأصغى إلى كلمات "زرادشت" عند الغروب/ وآكل فى طبق واحد مع أصحاب "بوذا"..
لا يقتصر الأمر على ذلك، إنما يضع العالمين فى مواجهة واحدة، مواجهة بين العالمين القديم والجديد، يظهر هذا فى قصيدته "القارة الأخرى" المنشورة فى مجلة إبداع بتاريخ فبراير 1993، والتى كتبها وليد فى الذكرى الخمسمائة لاكتشاف كولومبس، أمريكا، يقول عن الغزاة الأوربيين الذين اغتصبوا الأحلام البسيطة للهنود:
لكن صهيلا ودما كانا على مقربة من موكب الغيم/ وكانا يستبيحان أساطير رجال بسطاء واسعى الخطى/ وأحلام نساء طيبات الروح يجمعن البهارات أو السكر/ لم يعلم بنو آدم أن النار تأتى ذات يوم فى يد الفاتح/ كى تشعل فى آلهة الأسلاف الأحزان/ وتلقى ببقاياهم إلى شاطئ أسبانيا عبيداً وعرايا/ إنه رب جديد يرث الدنيا ويختار رعاياه من التجار والعسكر والبحارة المنتقمين..
الحياة بلا أنامل عازف هل تستحق الحب؟! تلعب الموسيقى دوراً مهماً فى شعر وليد، كما أكد د.محمد عبد المطلب، فهو أحد القلائل من الشعراء الذين صنعوا مرحلة وسطى بين شعر التفعيلة وقصيدة النثر، فنجد فى شعره خواص شعر التفعيلة من إيقاع اللغة والاهتمام بالموسيقى الخليلية، ومن خواص قصيدة النثر الاهتمام بالإيقاع الداخلى والعناية بالمجاز. كما يقول د.صلاح فضل فى مقاله عن ديوانه "طعم قديم للحلم" "وليد منير أحد المقدرين على معاقرة الشعر بكل أوزانه الخليلية والتفعيلية". لا تقتصر علاقة وليد بالموسيقى عند هذا الحد بل تمتم لتشمل موسيقى الروح وغناء الكمان، تشمل أغنية الرغبة والشهوة والحياة، يتضح ذلك من أسماء دواوينه وقصائده منها: "قيثارة واحدة وأكثر من عازف" و"الروح تعزف الموسيقى"، "عزف منفرد فى حديقة" وقصيدة "عمر لبكاء الموسيقى"، فالحياة لا تستحق أن تعاش بدون موسيقى، موسيقى تجمع بين حبيبين منهكين، يجمعها الحب والرغبة:
سألت "نرمين": الحياة بلا أنامل عازف هل تستحق الحب/قالت: لا أظن وأسندت يدها على شجن البيانو، فاعترانى الوجد، وجد رفيف موسيقى البيانو، وانحنى شجر النخيل لطائر الكروان/ وانحل السديم..
ها هى المسبحة تنفرط التصوف أحد الملامح المميزة فى شعر وليد منير كما يؤكد الدكتور محمد عبد المطلب، "فوليد تأثر بالصوفية مثل جميع أفراد جيله أحمد الشهاوى وحسن طلب، واعتنائه بإيثار المعنى على اللفظ، وهو فى ذلك يقترب من صلاح عبد الصبور الذى يتميز شعره بمضامينه الصوفية والفلسفية، يقول وليد فى قصيدته "صوت الكمان": وهل رأيت كمثله يا قيروانة شاعراً متصوفاً أو فيلسوفاً حول الماضى إلى ذهب ..
كل الحانات مغلقة ولا أجد غير عينيك "المرأة وتجلياتها" هو المشترك الأساسى فى أغلب ما كتب وليد منير، إنها ليست المرأة بالمعنى العادى، ولكنها الأنثى بالمعنى العام، فتارة يسميها وتارة تأتى مبهمة، فهى مريم وهى نرمين وهى تارة أخرى الغيمة والموجة، يقول فى قصيدته "جنة العارف" وهى آخر ما نشر له:
اشهدى أننى أحببتك حتى آخر موجة فى ساحل ولا يهمنى بعد ذلك أن تطيرى عن أهدابى ولا يهمنى بعد ذلك أن أموت.. ...
ارفعى ساقيك يا بيضاء الكروم يا آنية الشهد يا نور النور سأولد الغيمة تفاحاً كثيراً يفيض عن حاجة السلال..
فهل يتغلب وليد منير على المرض ليواصل رحلة بحثه وتصوفه يصل لمرحلة الحكمة، هل يصادق مرضه ويتخذه خديناً فى رحلة عبر بساتينه، رحلة مرهقة غير آثمة، كم نحتاجك أيها الشاعر الكبير، كم أنت جميل وهادئ، كم نحتاج جنتك، جنة العارف، كم تطهرنا حين تغنى، كم يمتعنا صوتك صوت الكمان ويجعلنا نهتف "لا أيها الموت لن تأخذه منا، لا تكون حدأة أيها الموت تخطف عصافيرنا"..
أقف على الأرصفة أرصفة المحطة الحزينة لا شهوة عندى للوصول أركب القصار القطار البعيد كالسهم وأنزل فى منتصف الطريق سعيدا سعيدا سعيدا أسير فى حقول لا أعرفها وأسهر فى قباب لا عهد لى بها وأكلم الأحجار والسواقى..
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
رسالة sms :
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر :
2020-09-06, 8:25 am
الشعر في الدراما.. من الموضوع إلى الحالة، ومن المعنى إلى الإيحاء وليـد منير ومسرحه الشعري
لا يزال عصب القضية المسرحية هو الكلمة، ولا تزال الأزمة الحقيقية التي يعاني منها المسرح المصري عامة، والعربي خاصة، هي النص المسرحي. وفي ظني أن طريق المسرح ليس ممهدا بالزهور. ففي الوقت الذي يحاول فيه المسرحيون المصريون الجادون أن يتحرروا من الحصار الذي يلتف حولهم جميعا، حصار السطحية والفجاجة، والثرثرة، التي تَسِمُ النصوصَ المسرحية من ناحية، والكم الضخم من مسرحيات القطاع الخاص بسلبياته كافة من ناحية ثانية، نشاهد محاولاتٍ متواضعة لمسرحيين آخرين؛ صوتهم خافت؛ وهو يتهم المسرحية ليست واضحة المعالم، مشتتين، ضائعين في مواجهة القيم الرديئة التي صارت تهدد الفن الجاد باستجداء الرخيص، واستفزاز النفوس، وإضافة الخبرات المريضة إلى ذوق المتفرج. وإذا كان ثمة مسرح يحاول الابتعاد عن تراكمات التأرجح بين نكات فاحشة، وأفكار برجوازية رخيصة، فهو يضع في اعتباره كذلك «الوصفة التجارية» التي يستجيب لها المتلقي المسرحي.
والقضية المطروحة هي أننا لا نزال حتى اليوم واهمين بأن ميراثنا المسرحي الوحيد هو مسرح الستينيات مما يدفع المحللين والنقاد ومؤرخي المسرح إلى إقامة نظرية نقدية ترى أن المسرح المصري رهن انجازاتِ مسرح الستينيات، واستمرارية قوالبه وأهدافه. ولا يزال أبناء الجيل الأول من رواد المخرجين والكتاب المسرحيين يصرون – أحيانا – على أحادية الرؤية، ويرون في إنجازاتهم نهاية الطريق، وليس مفترقه. بل يؤكدون دوما أن مصر لم تعرفْ فترة ذهبية للمسرح المصري كما عرفتْ في الستينيات، ووفقا لما تم تأسيسه في هذه الفترة من قواعد ومنطلقات. فهل هذه المقولة صحيحة على إطلاقها؟ والسؤال هو: ألم يُخلف هذا المسرحُ مسرحًا آخرَ على مستوى النص الدرامي، والإطار المشهدي المسرحي، يعبر عن الدراما الآنية بشكلها العام، وبما تحمله من رسالة معاصرة؟ كانت الأعمال المسرحية في مقارنة الستينيات لـ» كتاب دراما» كعلي أحمد باكثير وفتحي رضوان وتوفيق الحكيم ونعمان عاشور وسعد الدين وهبة ورشاد رشدي وميخائيل رومان ولطفي الخولى وألفريد فرج وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب سرور (شاعرا مسرحيا) وصلاح عبد الصبور (شاعرا مسرحيا) ومحمود دياب.. هي القاعدة النصية في خلق الدراما المصرية آنذاك، وكانت الرؤى الإخراجية عند فتوح نشاطي وسعد أردش وعبد الرحيم الزرقاني وحمدي غيث وكرم مطاوع وجلال الشرقاوي ونجيب سرور (مخرجا) وأحمد زكي وأحمد عبد الحليم وكمال عيد ومحمد عبد العزيز ومحمد مرجان وغيرهم.. هي الإطار التقني/ الإخراجي الذي كان يُشكل البناءَ الموضوعَ فوق القاعدة النصية ويشيده. كان تقديرنا التاريخي والفني لعمل هؤلاء الرواد كبيرا ولا يزال، سواء كان على مستوى الفكر الدرامي المسرحي أو التأويلاتِ الجديدةِ لنصوصٍ مسرحيةٍ تـُـفَسَرُ تفسيراتٍ تتسم باكتشافاتها المبدعة، وتربط المسرح برباط قومي بالأمة، وتضع نصب عينيها مختلف القضايا الاجتماعية والاقتصادية؛ وهموم المجتمع المصري بتنوع فئاته وتطرحها فوق الخشبة، وتربط المسرحَ بالسياسة، مؤكدةً أن للمسرح رسالة أقرب إلى الشعار السياسي، الباعثِ على التفكير والاستفزاز، وربما التأمل ثم التغيير. بيد أن هذا المسرح ذاته قد طرح على المبدعين المسرحيين في الساحة الثقافية نفوذا ضاغطا، وقيدا من القيود التي حاصرت الإبداع المسرحي المصري وأوثقته – عن وعي – بالأدوار الفكرية والأخلاقية والوطنية التي تربط المسرح برباطها المقدس الذي لا تنفصمُ عُراه: رباط الكلمة التي تنوب عن الفعل الدرامي الحي، ووضعتها بوصفها مفردة جوهرية يبدأ من عندها العرض المسرحي لينتهي في دائرتها، وذلك على حساب مفردات العرض الأخرى من فضاء (فراغ مسرحي)، وتشكيل هذا الفراغ باللون والإضاءة وإيقاع التشكيل للوحة المسرحية. والسؤال الجوهري المطروح : – أئمة تواصل بين هذه الأجيال؟ ولأطرح سؤالي بصيغة أخرى: ما حجم الدور الذي أفاد به جيلي والأجيال التالية من هؤلاء الرواد؟ في ظني أن الخطأ الجسيم الذي وقعنا ضحية له يكمن في كون المسرح الذي ورثناه عمن سبقنا مسرحا ثرثارًا. فالنصوص تتكلم أكثر مما تفعل – كما قلتُ سالفا – هذا من جانب، ومن الجانب الآخر يتحول هذا الشعار الأخلاقي إلى تذييل للعمل المسرحي، ويغدو العمل المسرحي برمته وعبر هذا المفهوم ـ مدرسيًا، تعليميًا، مفتقدًا قيمته الفنية النابعة من المحتوى المشهدي؛ فتفقد الكلمة مسارها وحركتها الدرامية، ويذهب المعنى سدىً أو ينحصرُ في محدودية محتواه اللفظي التضميني، بل يتوقف العمل المسرحي عن أن يمنح المتفرج فرصة التعامل والتواصل الحى مع المادة المطروحة فوق الخشبة. في هذه الدراسة نتوقف عند هذه اللحظة، لحظة لقاء العرض المسرحي بالنص الدرامي من منطلق كونه الجوهر، ونقطة البداية. وسؤال المسرح المطروح: لماذا افتقد المسرح سحرَ الكلمة، بعد أن كان مصدرَ العرض المسرحي وإلهامَه؟! والسؤال الآخر: ما دور الشعر في المسرح؟ مالذي جعله غائبًا عن مسرحنا في هذه المرحلة التاريخية؟ وقد كانت المسرحيات الشعرية تمثل فيما مضى قدرًا ليس بالضئيل من نسبة العروض المسرحية؟! لعلنى أستعيد، هنا، مقولة شهيرة لـ»ميشيل بورتور»: إن الشعر هو الشيء الذي تتمكن الحقيقة بواسطته من أن تعيَ ذاتَها لتنتقدَ نفسَهَا بنفسِها وتتبدل. تدل هذه المقولة على كون الشعر ضرورة في كل العصور. لقد كان شعراء المسرح يتسابقون في تقديم إنجازاتهم الشعرية، سواء كانوا من الكلاسيكيين مثل: أحمد شوقي، وعزيز أباظة، أو من المحدثين مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور ومحمد إبراهيم أبو سنة. والظاهرة المتفردةُ في تاريخ المسرح المصري أن مسرحيات عبد الرحمن الشرقاوي قد حذفتْ من الكلمة بعض ثرثرتها، لتدخل في بنيتها شحناتٍ درامية، تضيف المعنى للكلمة، وتكشف توهج اللحظة التاريخية، واللحظة الآنية التي كانت تعبـر عن مصر في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات: بداية بثورة 52 ومرورا بما بعدها. كان الشرقاوي آنذاك يقدم (مأساة جميلة)، (والفتى مهران)، و(ثأر الله)(1) و(النسر الأحمر) وغيرها. كان النص المسرحي الشعري يرتقي، ويحدث في المتفرج حالة من اليقظة والتساؤل والوهج، بحيث يضاف إلى زاده اليومى، ويشعل فيه الرغبة والدهشة والرغبة في إعادة اكتشاف الأشياء. والسؤال الآن: هل كان مسرحنا في حاجة إلى الشعر؟ هل كان المسرح الشعري زادا يتزود به المتفرج المصري ليلقي مصيره وقدره، ويشكل رؤيته المتسمة بطابعها الشمولي، ويكتسبُ بذلك مستوى» معنويا أكثر عمقا وارتباطا بالنفس؟ بينا كان المسرح النثري يعرض الإنسان فوق الخشبة؛ ويعبر عن طبيعية الأشياء وواقعية الحياة اليومية على المستوى الخارجي فقط؟! في ظني أن المسرح الشعري كان إنقاذا للمسرح النثري. لقد كان المسرح الشعري عند الشرقاوي بمثابة الجسر الواعي لكل ما خلـَّفه لنا مسرح الستينيات من مباشرة الخطاب السياسي، لتضعنا التجربة الشعرية في المسرح داخل أتون عالم صافٍ من القيم؛ وفي أدبيات جديدة تنطوي على المشاعر القومية المؤصلة للنزعة الوطنية، والراصدة للحظة التاريخية الموسومة بالبعث القومي ونهضة المشروع التنويري. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان الخطأ النقدي لهذه العروض الشعرية، أنها اعتمدت في تحليلها النقدى مبدأ الرسالةِ النصيةِ الحرفية؛ الحاويةِ خطابها «الشعاري» المباشر؛ وأنابتْ الأحداثُ الكلماتِ للتعبير عنها دون تطور في الحدث الدرامي أو في حركتها الدرامية، دون سعي حقيقي إلى تصوير الرؤية المشهدية المستندةِ إلى مفردات لغة العرض المسرحي، غير المعتمدة على الكلمات، وهي لغة تتوازى في مسيرتها المسرحية واللغة الشعرية الدرامية؛ ويتزامن إيقاعها وإيقاع الكلمات التي تفرضها أوزانُ الشعر الجديد داخل خبايا كلماته. وكانتْ هذه سقطتَها الدرامية الجوهرية! في ظني أن قيمة مسرح الشرقاوي الشعري أنه لم يكنْ يدعي لنفسه دورًا أكبر من دوره الذي تمثل في ارتفاع مستوى الخطاب الشعري في المسرح المصري والعربي، واعتماد مسرحه الموضوعاتِ التاريخية في تراثنا العربي، واستلهامه الأحداث السياسية الجارية، واعتبارها خبزنا الفكري اليومي – إن جاز لي استخدام هذا التعبير. لقد أدت هذه المسرحيات الشعرية إلى ارتفاع درجة ذوق الجماهير الثقافي والفكري، وأعادتْ اكتشافَ لغتنا الجميلة وطواعيتها في أن تكون لغة مسرح. هذا هو الدور الجوهري الذي أتى به المسرح الشعري آنذاك. لذلك، كان صلاح عبد الصبور المنقذ المنتظر؛ ففي محاولاته المسرحية كانت دراماته الشعرية تعتمد على التزاوج ما بين دراما الكلمة، ومفردات العرض المسرحي، بين مختلف الموضوعات التراثية والتاريخية (مأساة الحلاج) و(الأميرة تنتظر) وصولاً إلى أحداث الواقع اليومى (مسافر ليل) و(ليلى والمجنون)، وغيرها. كان صلاح عبد الصبور البذرة الحقيقية لربط المسرح بجذوره داخل وعي المتلقي المسرحي، وتثـبيت صُروح استقباله المسرحي. غدا هذا المسرح بفضله تكثيفا للتجربة الشعرية؛ وتوظيفًا للكلمة الشعرية، وولوجها داخل اللغة الدرامية والمسرحية؛ بل محاولة تالية للبحث عن الحالة المسرحية التي تختار الموضوع المناسب، وظروفه الملائمة، وتحاول بشعر الكلمة وليس بالكلمة الشعرية أن تخلق وتعلي من مكانة الشخوص المسرحية، التي تتشكل وفقًا لأبعاد درامية بعينها؛ تكسبها لحمًا ودمًا وحياة؛ فلا تغدو مجرد كلمات جميلة متقنعة. وعلى الرغم من أن عبد الصبور كان البداية الناضجة للمسرح الشعري المعاصر المعتمدِ على دراما الحدث؛ وتكوين الشخصية المسرحية؛ والصراع وحبكته؛ والرسالة المطروحة المعلنة؛ فإن كاتبنا الشاعر يتخطى حدود هذه القوانين و»اللوائح الأرسطية»(2)، وينتزعنا منها انتزاعا؛ ليضعنا في قلب عالم شعرى أقرب ما يكون إلى عالم «ميترلنك»(3)، ومناخ «شيكسبيري» فاجع، وجروتسكية «إليوتية»(4) ساخرة. لذلك، فمسرح عبدالصبور يحتل موقعًا مسرحيًا له خصوصيته داخل خريطة المسرح الشعري المصري والعربي؛ ينبغي دراسته دراسة متأنية، تحتفي به تحليلاً ونقدا وتقييما ، ينبع من تقديمه تقديمًا صحيحًا فوق الخشبة، بفضل أداء ممثلين موهوبين، وتأويل مسرحي جديد، وإطار مشهدي متألق. لقد حفر صلاح عبد الصبور بمسرحياته الشعرية المعاصرة حفرياتٍ مسرحية تضيف الكثير إلى تراث اللغة المسرحية الحديثة، والرؤيةِ المشهديةِ الإخراجية، وتمنحنا زادًا يدفعنا دفعا للحفاظ على مسرحنا؛ واستعادةِ وجودِه الفاعل! في هذا المناخ الشعري يبدو لنا جيل من الشعراء المسرحيين المحدثين: وليد منير – محمود نسيم – محمد سليمان وغيرهم، يقدمون لنا مسرحا شعريا يمثـل الجيل الثالث من كتاب المسرح الشعري. تلقي هذه الدراسة ضوءا على أعمال الكاتب المسرحي الشاعر وليد منير، من منظور رؤية نقدية همها الأكبر الاهتمامُ بمفردات عروضه المسرحية على المستوى المشهدي. يشغلنى فيها – بوصفي مخرجًا وناقدًا وباحثا مسرحيًا – ما تخاطبني به على مستوى القاعدة النصية، وما تستلهمه على مستوى صياغتها لفضاءاتها المسرحية. إن مسرح وليد منير مسرح رمزي في الأساس ولذلك، فإن العلاقة بين النص والعرض هنا لن تكون علاقة إستاتيكية جامدة؛ فالعرض الواقعي أو العرض المعتمد على الإيهام يٌحدُّ – كما يقول «كير إيلام»(5) – من مرونة الصلة المتبادلة بين العلامات(4). بيد أن الأمر ليس كذلك في الدراما الشعرية الرمزية، لأن اختراق جداري الزمان والمكان المألوفيـن يتيح لأفق العلامات المفتوح أن يتمدّد ويمور ويجرب شتى التفاعلات الممكنة. وهذا هو ما نراه عند «ميترلنك» مثلا. واهتمامى بـ«مسرح وليد منير» كذلك ينبع من أنني أعتبر وجوده الشعري – خاصة بعد موته المفاجئ – مرحلة تالية لمسرح صلاح عبد الصبور، رغم تأثرات الكاتب الناقد وليد منير بمسرح هذا الرائد، وقد كتب دراسة مهمة عن مسرحه، حيث نكتشف رؤية منير لمسرح عبد الصبور القائمة على الفرضية القائلة بأن الخصيصة الجوهرية في شعر عبد الصبور خصيصة درامية في الأساس، أي «أن الوظيفة الدرامية هي المهيمنة (La dominate) التي تكفل بروز أحد أنساق التركيب، وهيمنتها على بقية الأنساق الأخرى في الأثر الأدبي للفنان»(6). ويحاول الناقد وليد منير عبر دراسته أن يجيب عن السؤال التالي: إلى أي مدى يكون النص الشعري (الدرامي) موسومًا بالشعرية Poetics مادامت الشعرية هي تمايز الفن اللغوي واختلافه عن غيره من الفنون الأخرى، فيما يقول «ياكوبسون»؟. وإلى أي مدى يجوز لنا أن نسم النص الشعري (الغنائى) بالدرامية Dramatic، مادام الاستثناء والتكثيف هما جوهر الدراما – فيما يقول داوش؟(7). إن شعر صلاح عبد الصبور كله – فيما يرى أدونيس( – «مكان لمسرحة الكآبة»(9) أي أنه مسطح درامي زاخر بالموقف والحركة والتوتر والأشخاص من خلال اللغة. فهو يمثل آخر حلقات النضج الفني في المسرح الشعري حتى الآن. ذلك لأن عبد الصبور كان يملك رؤية نقدية على قدر من الوضوح والتكامل للمسرح والشعر معا. كان صاحب وجهة نظر في كليهما، وفي ارتباط كل منهما بالآخر. ولم يكتفِ عبد الصبور بإعلان وجهة نظره تلك حديثا أو كتابة، ولكنه سعى سعيا دائبًا إلى تطبيقها إبداعًا ، وجمالاً، وإثباتِ صحتِها وصوابها. ونخلص إلى أن مسرحيات عبد الصبور في جُلِّها – متفقين في هذا مع الناقد وليد منير – قد وجدتْ بُذورَها الجنينية الأولى، وتردداتِها تشكيلا، ورؤية في قصائد غنائية عديدة من شعره، مما يتيح لنا رصد أساس القيم الخلافية بين الشكلين التعبيريين، والوصول إلى أبرز المحددات الفارقة بين نظاميْ التشكيل اللغويين فيهما، عن طريق استقراء التجاوبات والتبادلات الإرجاعية فيما بين القصيدة والمسرحية؛ والقيام بشرحها وتحليلها. لذا، كان صلاح عبد الصبور مرحلة متفوقة من اكتشافات المسرح الشعري المعتمد على أدوات اللغة الشعرية الحديثة، ولقد أثر بدوره في الجيل التالي لكتاب المسرح الشعري، وعلى رأسهم شاعرنا المسرحي وليد منير. بيد أن هذا الكاتب المسرحي يقتحم عوالم أخرى، ويبحث عن موضوعات تهمه، وتستثيره. في مسرحه يخلق وليد منير دراما الكلمات التي تفجر الفعل المسرحي، بل ترسم الفضاءات المسرحية، وتخلق الصورة المشهدية التي تتوافق مع شعر الكلمة، لتصوغ شعر المشهد. وكأن أبيات الشعر في مسرحه ليست مجرد عوالم من الكلمات المغلقة على ذاتها، بل كيانات منفتحة على الرؤية البشرية، تشكلها الشخوص عندما تتحاور، وتسعى إلى اكتشاف أسرارها عندما تقع في دائرة الأحداث. لذا، تبدو أهمية مسرح وليد منير الشعري في كونه محاولة جيدة تسعى سعيا حثيثا إلى ربط الكلمة الشعرية بدراما الحدث وإشكال الرؤية المشهدية. إن عوالم مسرح وليد منير شديدة الثراء، تقع على حافة العالم الواقعى الممتزج بطابعه الميتافيزيقي/ الخيالي، الباحث عن الحقيقة من منطوقها الفلسفي، عبر منظومة من المفارقة والتجريد والعبثية . تقف تلك الخصائص فوق أرض مسرحية، لأن «دراماته» الشعرية لا تبعث الكلماتُ فيها الحياةَ فقط، بل تكون محاورُها الرئيسية فضاءاتِ المسرح وهي تحتضن شعرَهُ المسرحيَّ الحديث وتُدْخِله في علاقة جدلية مركبة. 1- بيت النجوم في المسرحية الشعرية الأولى لوليد منير نشاهد عالما مختارًا له خصوصيته التراثية، حيث تدورُ أحداثُ مسرحيتِنا في أواخر القرن الحادي عشر. يحاول وليد منير أن يُوحِّد بين أبطاله، والطبيعة، كأنها تمثلُ له فضاءً مسرحيًا يحتوى كل شيء: البشر، الهم الإنساني، الحب، الضعف الإنساني. يقول بطله عمر الخيام واصفا «مالك شاه»؛ ذلك الملك الذي تم اغتياله في بدايات القرن الحادي عشر، وأحرق أعوانُ الملكِ الجديد مَرْصَدَ «الخيام»: عمر: مالك شاه كم كان جميلا هذا المَـلِكُ الغاربُ مثلَ الشمس كم كان يرى كم كان يحب كم كان يطيل الإصغاءَ إلى الملكوتِ ليفهم كان أبوه صديقي ورأيت كأني ألمسُ فيه جبينَ أبيه وأحسُ بماءِ الحكمةِ تحتَ لحاءِ الشجرة وينتقي الشاعر من صوره ما تكون قابلة للتشكيل في خيال المتلقي، حيث يُسقِط الصورةَ الشاعرية على الطبيعة، ويُلبسها شعورَها الانفعالىَّ وموقفَه من درامية اللحظة المشحونةِ بالألم. بل إن الشاعر يسعى سعيا حثيثا إلى خلق صور وتشبيهات واستعارات تقـرِّب المتلقي من أسى اللحظة، وعظمةِ أثرها. يقول عمر الخيام واصفًا ما حدث لصديقه الأثير: «مالك شاه»: عمر……………………. لمَّا حدقتُ به عريانا مقتولاً كالطائر في التيه لكنى لما أمعنت تأكدتُ من الطعنة كانت أعمقَ من شُبَّاك مفتوح إن شخوص مسرحية « بيت النجوم»: «رحيم» و»ياسمين» و»مالك شاه»؛ شخصياتٌ واقعية في حياة عمر الخيام، لكنَّ تناولها الشعري يجعلنا نشعر كما لو كانتْ شخصياتٍ من بناتِ أفكار الشاعر عمر الخيام؛ فهي شخصيات أقربُ ما تكون إلى الأبواق، أو الظلال، أو حتى رجع الصدى، لصوتٍ متفردٍ يعبرُ بألمِه وحزنِه عن ما بداخله . فالصوتُ يقوم في هذا العمل بدور الجوقة التي تعلّق أحيانا، وتروى أحيانا أخرى، وتربط ما بين أطراف الأحداث في مكان تالٍ. أما «عابر السبيل» – وهو الشخصية الثانية – فهو كاسمه، مجردُ عابر للأحداث، مذكِّر بها، يربط الماضي بالحاضر، ويرهص بالمستقبل عبر الحاضر؛ بل ويشير إلى الكارثة التي حدثت: كارثة الموت، والدمار، والضياع، ولتلك الآتية لا محالة .. فلا يبقى إلا الرحيل، الكل يرحل، وهو الوحيد المحاصر الباقي. فالشخوص العابرة المعلقة، إنما تقوم بتأكيد فاجعة المأساة، وتساند الشعور بالوحدة التي يختارها الخيام عن وعي وقصد. لذا، يصبح الخيام شخصية درامية يعتمد أداؤها بشكل جوهري على طبيعة المسرح «المونودرامي» أو الصوت الواحد. كأنه يتحدث إلى نفسه دوما، في نغمة رئيسية تتقاطع معها النغمات الفرعية، فتزيد من عمق اللحظة المشحونة/ الدرامية. وتنهض رواية الشاعر المسرحي في اختياره لحظة «الوحدة» التي يضيع فيها بطله الخيام، بحيث يبدو واقعًا في شراكها؛ فبنية «الوحدة» تطالب بصيغة أقرب ما تكون إلى صيغة المناجاة. لقد أتاحتْ هذه الصيغة أن يُشكل الكاتبُ صُوَرَهُ الشعرية، عاكسة للمد الدرامي – أيْ الطابع الخصوصي في مجال التعبير عن الذات. لم يعد الشعر هنا مجرد غناءٍ أو قصائدَ طويلةٍ تـغنى، بقدر ما هو محاولة لتلبيس الحالة المسرحية المختارة المؤثرة ثوبها الشعري الدرامي. ليس ثمة مكان تقليدي في هذه المسرحية الشعرية؛ الكل يلتقي عند «عمر الخيام»، أو يلتف المريدون/ الشباب حول عالمه، كما تلتف الفراشة حول الضوء. يمثل الخيام هنا ضوءَ المعرفة، بحثا عن الحقيقة التي يتسابق الشباب للعثور عليها. لذلك، تقترب الفراشات/ (الشباب) حول ضوئها/ (الخيام). فلا معنى للبحث عن المكان/ المنطقي، بقدر ما هو بحث عن الجوهر داخل أطلال المرصد. وهذا هو المنطق الفني الوحيد لتبرير وحدة الخيام المختارة؛ فالخيام يمثل داخل المرصد إطلالة من معالم أطلاله. ويدخل الشباب/ المريدون معلقين على الأحداث، وعلى كل ما عاناه أستاذهم، ويعانيه الشعب من مليكهم: – وبحبس الشمس التي تضىء في قفص لكى يكون المجد للظلام في هذا الركام من بقايا المرصد، يكتشف الطلبة مكان أستاذهم الخيام. ويتساءلون: التلاميذ : أستاذنا عمر! أنت هنا ؟ ويربط الشاعر الرؤية المادية بالرؤية الشمولية، شمولية المعرفة بكل ما تحمله من دلالات. وهنا يخدم الشعر درامية اللحظة المختارة، فتساعد بدورها في كثافة الشعر المطروح، وعلى إنتاج معان رمزية شديدة الدلالة والإيحاء. يسأل التلميذ الثاني: الثانى: فكيف لم نرك؟ ويجيب الخيام: وما لزوم الرؤية ؟ الشمس سوف تدخل القفص والليل سيد على القلوب بيد أن الشعر في مسرح وليد منير لا يهتم بالتفاصيل، ويغفل آلية الأحداث بمنطقها الفني الدرامي المتعارف عليه، ويكون جل اهتمامه أن تكون درامية اللحظة نابعة من شعرية الحدث، والصورة، وتراكيب الجمل نابعة من الموقف ذاته. وعندما تشمل الظلمة خلفية المسرح ليبزغ شيئا فشيئا قمرٌ مدورٌ كبير؛ فإن عمر يُلقي بكتابه إلى يديه، ويرفعهما إلى أعلى.. إلى تقويمه الأول.. إلى القمر: الخيام: هاأنذا أهرب من داخلي لكي أعود ضارعا إليك يا قمر المدينة المغلوبة أرصدُ تقويمك من جديد وأحسب الأزل هذا أوانُ الملك كل الرياضيات والأشعار والفلك علم بلا جدوى بلا جدوى عندما يدخل عمر الخيام لجنة المرصد المتهالك الضائع وسط البقايا المتناثرة، يقول سيد الجند: يا عمر الخيام ادخلْ ما شئتَ الحانه واكتبْ ما شئتَ الشعر وتأملْ واجعلْ أيامَكَ تورق بالخمر وبالحوريات لكنْ لا تتفلسف لا تشرحْ نظرياتِكَ للفتيان ولا تمكثْ بينهمو كي يستفتوك وإذا أغوتكَ الأسفار فسافـرْ …………… أو تدخلْ أنتَ وقرصُ الشمس إلى قفص واحد …………… وهكذا، يخرج قرصُ الشمس من بُعْدِه المادي، ليكتسب بعدًا دراميا، يتأكد رويدا رويدا عند كاتبنا الشاعر/ المسرحي على مدار أحداث العمل المسرحي. ونقتحم بوصفنا متلقين أيضا – تقويم الخيام، ونتناول كلماته عبر لغة تتعامل مع هذا التقويم، بما هو أداة للزمن، للوجود، للأسرار، للشعور بالأبدية، لذلك يقتحم «التقويم» عالمًا متميزًا ببعده الدرامي الجديد، ويتخذ معنى أكثرَ رحابة. إنه يضعنا في جوهر الزمن، يدخلنا في أعماق الشعور بالألم الإنساني، الذي نستشعر شعريته في بلاغة ورقة عند وليد منير، حيث يحاور بطلنا عمر أحدَ مريديه المتبقين بعد حادثِ اعتقال الآخرين: عمر: لك أن تختار الثالث: أختارُكَ يا أستاذي عمر: لا… أعني بين الماضي لا تخترنى فأنا شيء آخر الثالث: لا أفهم عمر : ما أن تخرج من تقويم الشمس أي تخرج من تقويمي أو تدخل في تقويم الدم أي تدخل في تقويمك وينتقل كاتبنا المسرحي الشاعر إلى مرحلة جديدة أطلق عليها «مرحلة الانكشاف»، وهي لحظة درامية تنويرية، تعني بانكشاف الحدث، وتعرية الداخل، والبحث عن الذات. وتتخلَّق لحظة درامية نادرة لا يقوم بمهمتها إلا الشعر الحديث: بتلغرافيته أحيانا، وبإجاباته عن تساؤلات تكشف، وإجابات تستجيب لما تكتشفه النفس أحيانا أخرى. لا يحدث هذا التحاور القائم على التساؤلات إلا في المواقف الدرامية المكثفة شعرا، أو المواقف النثرية التي تخلق بتواصلها وإفرازاتها أبعادًا شعرية تثرى الموقف الدرامي وتغنيه. في حوار لبطلنا عمر الخيام – في مسرحيتنا الأولى (بيت النجوم) التي نعرض لها في هذه الدراسة – مع أحد مريديه، وهو موضع شكوكه وريبته الدائمين في قدرته على قول الصدق. نشعر كأننا في لحظة درامية انكشافية، تربط استبصار الخيام ووعيه بالزمن الآني والماضي، وإرهاصه بما سيأتي، باستبصار داخلي يعى باطن الأحداث، ويحفر في نفوس ذويه: كأننا مع المسيح الذي يكشف من داخله بواطن حوارييه. فيرى «يهوذا» الخائن يشحذ مخالبه استعدادا للخيانة. ليس بإمكان لغة أخرى غير لغة الشعر التعبير عن مواقف درامية كتلك: الثالث : أستاذي لا أفهم عمر: في الحالين أنت بعيد عنى الثالث : ما خنتُ أحدا عمر : بل خنتَ حياة العالم الثالث : أرجوك سكينُ شكوكك توجعني عمر : كنتُ أحس وهنا نستشعر التساؤلاتِ المرتابة على لسان شخصية «الثالث»: الثالث : بماذا؟ عمر : بك وتتخذ إجابات الخيام طابعا تلغرافيا قصيرًا: الثالث : بعيونى؟ يشير المؤلف في هذا المكان إلى مسألة تقويم النفس بالمعرفة بها: عمر: بمدى شوفِ عيونك الثالث : صدقنى. لا أدرى لم لم يَرْتَبْ فيَّ الجند لعلهمو لم يكثرثوا بى ويجيبه عمر إجابته القاطعة: عمر: أو لم يبصرك سواي الإجابة القاطعة الثالث: نعم لاحظ الوقوع في شِبَاكِ الكلمات المتسائلة: الثالث: محتمل عمر: أو لم تبصرْ نفسك في نفسك؟! هنا تتزايد الأزمة الدرامية اشتباكا: الثالث : أرجوك هنا تصل لحظة التنوير – لحظة السقوط الدرامي التي تصل إلى ذروتها. ويتمكن الكاتب المسرحي الشاعر – إذن – من القبض على ذروة الحدث بعد عملية الحصار الدائمة للضحية (الثالث)، حتى يسقط سقوطا كاملا: عمر: اسمعني قل لهمو إني لن أرحل فهنا حزني وطريقي وسماواتي وهنا قبر «رحيم» هنا ذاكرتي وبقاياي هنا « بيت نجومي» …………….. هنا الشمس المقتولة بين يديْ «مالك شاه» وهنا الحانة والأسطورة اذهب أنت مع الأيام إلى آخر أحجار الأرض. وتصل هذه اللحظة إلى ذروتها، عندما يرسم الخيام ضحيته؛ ويتنبأ بالمصير الفاجع قبل وقوعه: عمر: يا جاسوس القمر الخادع لكنك لن تذهب ستموت هنا لن يثقوا فيك كثيرا …………….. أدْخُلْ في تقويمك يا زَبَدَ الماضي يا أسيانٌ بروحك ادخل في تقويمك في تقويم الدم ومع أن المسرحية يمكن تقسيمها إلى مشاهد متعددة؛ فإن الكاتب يرفض تقسيما كهذا، بل يضع مشاهدها متتالية، غير منفصلة. كأنها تمثل بمجموعها قصيدة طويلة واحدة. إن كل وحدة في المسرحية تمثل مشهدا من المشاهد؛ يطرح شخصية من الشخصيات؛ ضوءًا يسطع فيكشف لنا الكثير من تقويم «الخيام»، ويضعنا أكثر اقترابا منه، كأن هذه المشاهد جميعها ترددات لصدى شخصيته. وينتقل الشاعر وليد منير بنا في أرجاء مسرحيته من جانب إلى جانب آخر، يعبر عن بطله، ويقترب بنا أكثر فأكثر من أدق تفاصيل حياته ومشاعره، وروحه المثخنة بجراح لا تندمل. يأتى المشهد التالى فيرينا فيه ياسمين/ معشوقة الخيام، وكأنها تعبُـرُ حدودَ الزمن وتتخطاه، لتعيد تكوين تقويمه وفقا لزمنها الدرامي الخاص: عمر: ياسمين أكذب عيني أم لا طفولة روحي وخيمة ذاكرتي وشراع السفينة في بحر أسطورتي؟ وفي تأويل جديد للشعور بدرامية الزمن – وهو البعد الجوهري الذي تقوم عليه مسرحية (بيت النجوم) ـ يسعى وليد منير من جانب إلى إحداث رابطة عضوية بين أزمان شخوصه، ويقيم من جانب آخر تحاورا فيما بينها لا يعتمد على الكلمة الشعرية المكثفة، بل يستند إلى روابط درامية تصل ما بين شخوصه وتوجه مساراتها نحو «الفعل» المسرحي: عمر : كم أحست مواقيت قلبي إيابك! ياسمين: كما قد أحست عبور الفتى حين خان إلى ضفة الموت عمر: قلتُ له إنه ميت حين خان وحذرتُه لم يصدق وها هو مات ياسمين : نعم…………… مات………………… شاهدتُ صرخته تتدحرج نحوى ولكننى مت أيضًا ولأنها ذكرياتنا، فإن الذاكرة تولد من بطن الذاكرة، وينسلخ النهار من الليل، يرهص الماضي بالحاضر. وتأسيسا على ذلك، فإن وليد منير يشيد عالم شخوصه، ومعماره من معمار الذكرى، والرؤية الاسترجاعية (رؤية الماضي)، ورجع الصدى المردد أصداء الصوت، والنفس، بما يلج من الشخوص والأفعال ومشاهد الحياة والموت. لذلك، تشيد هذه الشخوص من سجايا الزمن، وتتسجَّى في مقبرته. ويعود وليد منير عبر هذا التأويل الدرامي إلى عنصر الزمن الذي يشغله كثيرا، لأنه زمن ممزق بعرضيته – كما يقول الوجوديون، يعود إلى خلق شخوصه الواحدة تلو الأخرى: ياسمين، ورحيم، وبراءة الأحلام، وقيمة الفعل المتناقض: الحياة/ الموت، الظلمة/ النور، الشمس/ الليل: سيد الجُند: كيف هَرَّبتُمْ الشمس من قفصي؟ أين خبأتم الليل ……………. وفي مكان آخر: سيد الجُند: أين خبأتَ ليلَ الملك أعطنا ليلنا ولتقم أنتَ وحدك والشمسُ في بلدٍ غير هذا عمر: أنا لن أقيم سوى هاهنا وأنا لست أكذب ولم أرَ ليلَ المَلِك لم أخبىءْ سوى زمني ونبيذى فماذا يريدون من زمني ونبيذي إن المدلول القياسي للكلمة المستعملة- وفقا لـ«ميشيل لوجورن»(10) – يعمل عادة كأنه دال لمدلول ثان. ويصبح هذا المدلول الثاني لاحقا لشيء رمزي. هنا، يمارس التمثيل الرمزي فاعليته الأصيلة بوصفه رَحِمًا للعلاقات الشعرية المتنوعة. وتغدو نهاية العمل المسرحي «بيت النجوم» – عند وليد منير – للقارىء غير المتأمل، والمخرج المسرحي غير المتبصر؛ نوعًا من المباشرة، وبداهة المقصد، لو أخذها مأخذ قرائنها الأولى/ الحرفية. فالكاتب المسرحي يقيم حوارا رمزيًا، زاخرا بدلالاته، وقيمته المعنويين (بالمعنى الشعوري): سيد الجند: سوف أتركها (الشمس) بين عينيك مقتولة كالغزال سينفجر الدمُ من دفء أعضائها قانيا لزجا وستشرب حتى الثمالة يا أيها الجند فلتقتلوها اغرزوا في مفاتنها كل ما تحملونه لها من حراب المودة هيا.. وفي هامش من الهوامش الإخراجية ، يشير الكاتب المسرحي/ الشاعر إلى الجنود الأربعة الذين عليهم الانتشار في أرجاء الفضاء، حاملين في أيديهم حرابا طويلة، ليطعنوا قرص الشمس – «فلينفجر» اللون الأحمر من القرص، ويتناثرُ في خلفية المشهد. ومع ما يبدو على هذه الملاحظة الهامشية من قدر من الدلالة الأدبية (يطعنون الشمس/ يتناثر اللون الأحمر/ ينفجر اللون)(11)، فإنها تمثل للمخرج مادة يسهل عليه، أن يخلق منها لوحة ضوئية تضيء سينوغرافية خشبته المسرحية، وتثريها بألوانها المتعددة ودرجاتها المتباينة، بانكسارتها وتكويناتها، التي تخلق بدورها عالما شعريا؛ يتوازى في جماله مع عالم كلمات الشاعر المسرحي. 2 ـ «الفأر» ـ مصيدة للشعر والنثر معا في عمله الدرامي الشعري (الفأر) يحاول المؤلف/ الشاعر التقاط خيط جديد لموضوع يقع تناوله في صراع ما بين الروح الشعرية والحوار النثرى. يقيم المؤلف سينوغرافية عرضه المسرحي بعد أن يضع لنا حدودا لمكان أحداثه التي نشاهدها كمتلقين/ متفرجين. ففي صالة منزل قديم متواضع الأثاث بها نافذة ومساند دائرية ومذياع وساعة حائط مصباح معلق في السقف بواسطة سلك طويل ورفيع. من بين هذه التفاصيل الواقعية في تكوين «الديكورات» والرؤية المشهدية نشاهد عالما ميتافيزيقيا، يخلقه المؤلف؛ فيضع فوق أرضية الخشبة «زجاجة كوكا كولا» يبدو حجمها مضروبا في عدة أضعاف. بداخل الزجاجة رجل قزم يلبس قناع فأر ، وله ذيل طويل يثب بين لحظة وأخرى في محاولة يائسة للخروج من الفوهة. و»الفأر» القابع داخل الزجاجة، يشيد – مع الأوراق المهملة وأعقاب السجائر الملقاة فوق الأرض، وبقايا الأشياء – عالم بطلنا «الرجل»، الذي يحيا حياة فوضوية لا تعرف الانتظام أو السياق اليومي المرتب. ويؤكد وجوده داخل هذا المكان الوحدة القاتلة الفاتكة بروح بطلنا من جهة؛ وتؤكد من الجهة الأخرى خواء المكان من كل حياة. المونودراما الآثرة يعود الشاعر المسرحي إلى موضوعه الأثير، ألا وهو «استعادة الذاكرة»، فيجعلها شريكة له في الحدث، ويجبرها على التشكل فوق الخشبة، والتجسيد، والتأثير في مدار الأحداث وصياغتها. والمسرحية بأكملها – ذات الفصل الواحد – تكاد أن تكون مونودراما تعبر عن شريط ذكريات بطلنا وطموحاته وأحلامه وإحباطاته، ماضيه وحاضره. إن صيغة المونودراما أقرب في « تقنية» الكتابة لأبجديات ومفردات لغة الكتابة عند الشاعر وليد منير. فهي – في ظني – تمثل اقترابا وتواصلا مع الروح الشعرية الذي يتفرد به صوته الغالب المسيطر، وهي كذلك تنقذ الشاعر في الخوض داخل التجربة الدرامية الساعية إلى التعبير عن بطلها عبر صوت «منفرد مونودرامي». هذا الصوت يمنح الشاعر رحابة في التعبير وفسحة في التأويل، يدخله في تضاديات الأحداث، ولا معقولية تسلسل أزمانها، ويضعه أخيرا في قلب الأماكن المألوفة منها وغير المألوفة. لذلك، يغدو البطل الحقيقي في هذا العمل – كما ذكرت آنفا – هو الذاكرة، العودة إلى الماضي بكل أثرته؛ ونفوذه، وقهره الإنسان، لتشكيل حاضره الآني، وتشييد عالمه المستقبلي. و»الفأر» في هذه المسرحية القصيرة يعطي بوجوده قدرًا من التنوع، كتنويعات نغمات ثانوية لنغمة رئيسية. ووظيفة «الفأر» هي التعليق المتداخل، إنه يقتحم الأحداث اقتحاما، يعلق عليها بضمير المتكلم، الساعي لفضح ما لا يمكن الإفصاح عنه عند بطلنا «الرجل» ـ أي رجل! وتتلبس «الفأرَ» حالة من التقمص الإنساني، فيغدو في بعض مناطق العمل المسرحي أكثر إنسانية من إنسانة البطل، حيث يتبادل الأخير معه الأدوار، ويكون حيوانا آبقا ضالعا في الصغائر والضعف أكثر من «الفأر» ذاته. و»الفأر» برمزه الخارجي هو حالة من الجبن والضعة والترهل، المعنىُّ بها تحقير الإنسان البشرى عند المقارنة، وإحداث التبادل الدرامي؛ والرمز الداخلي لكل من الشخصيتين هو السجنُ المشترك، رمزُ الارتباط والتواجد الثنائي. فالفأر في زجاجة، والبطل (الرجل) في فضاء مغلق، ويبدو لنا – كمتلقين – أن الاثنين راضيان عن سجنهما ، ويبدو كذلك أنه ليس بمقدور أيٍّ منهما تحريرَ الآخر. وفي سياق «يونيسكوي»(12) عبثي، يحدث توحدٌ من نوع فريد للشخصيتين: الرجل والفأر، بل عندما يحررُ «الرجلُ» فأرَه – أعنى عندما يتحرر من قيوده بإطلاق الفأر من زجاجته من غير قصد؛ ينطلق الفأر من القمقم، ويلهثُ «الرجل» بحثا عنه للإمساك به، فلا يجده، ويجد نفسه وقد تلبسته حالة من «الفأرية»(13) فيتلمس وجهه، ويكتشف أنه نفسه قد استحال «فأرا»، كصاحبه ، فيلقي «الرجل» بنفسه من النافذة بحثا عن الفأر الهارب ليعثر على وجهه المسروق. إذن فالموضوع الأثير – عند وليد منير – يتكرر وهو البحثُ عن الذات عبرَ ذوات الآخرين، وإن شئنا الدقة النقدية – عبر رؤية الآخرين هذه الذات، واكتشاف النفس بتلمس الآخر، وتأويل الذكريات بعد استعادتها واستجلابها. إنه إعادة كشف حساب النفس، نوع من المواجهة؛ والتقابل؛ ثم التوغلُ في البحث عن الحقيقة داخل النفس الإنسانية. ومن أهم ما يضفي على هذا العمل أهمية ؛ قدرتـُهُ على صياغة الواقع المادي داخل نسيج واقع فانتازي يشكل بدوره الواقع الفني. «فقيمة العمل الجميل يخرج حقا من صياغته وشكله قبلها – كما يقول الشاعر «بول فاليرى». والشكل هنا لا ينفصل عن سياق الأحداث، ولا عن محتوى المسرحية الشعرية، بل يمثلُ الحوارُ «التلغرافيُّ» جزءا جوهريا في تكوين بنائها، وأساسًا مهمًا في مَتنِه. يتميز أحيانا بالسرعة في إيقاعه، وبالصدمة في سياقه؛ ويمثل ضربًا من العبثية في محتواه: الرجل : عجبا هل تتكلم؟ الفأر: أتكلم الرجل: من أنت؟ (في عصبية لافتة) الفأر: فأر الرجل: والله؟ الفأر: وحياتِك الرجل: (وقد ازدادت عصبيته) أعرف أعني لغتي ليست لغتَـك الفأر: بالعكس الفأر الإنسان والإنسانُ الفأر لهما لغة واحدة الرجل : كيف الفأر: أو لم تعرفْ معنى الحبس؟ الرجل: لم أكُ فأرًا الفأر: أو لم تقرضْ أوراقا؟ الرجل: لا الفأر: كذاب! الرجل: أنت تسيءُ معي أدبَك الفأر: تقرضُ شعرا لا يقرضُ شعرا من لا يقرضُ أوراقا ……………….. وفي مكان آخر نلاحظ هذا الحوار التلغرافي: الرجل: عجبا من أنت؟ «الفأر»: أنت وأنا إنسانان وفأران ………….. (الرجل يتجه إلى المرآة وينظر) الرجل: إنسانان وفأران ما معنى هذا؟ إن الفكاهة والسخرية، والتناقض هنا، تقنياتٌ تدفعُ الدراما – على حد تعبير «هوارس جريجوري»–(…) إلى إعمال طاقتها بحيث تتحول الكناية من رواية إلى شعر». وتتسم أعمال وليد منير المسرحية بكون شعريتها لا تنشأ من ظلال الكلمات و»توناتها» المتعددة. فلا يسعى الكاتب إلى بناء سطور شعرية تفسح تراكيبها عن جماليات لغة منظومة فحسب، بل يهدف- وربما قبل كل شيء – إلى أن يُحيل كلماتِ سطوره إلى شحناتٍ دراميةٍ يمتزج فيها الحدثُ الدراميُّ بالموقف الدراميِّ المنتقي لكثافته الشعرية، كما نرى في مسرحيته «الفأر». نكتشف في هذه المسرحية مواجهة لـ»رجل» كان ينبغي أن تحدث، لاستخراج أعمق ما فيها من مشاعر مستترة، وطموحاتٍ ضائعة، وآمال خائبة. لذلك يبحث الكاتب المسرحي عن نوع من المفارقة بين كائنِهِ الذي يقبع داخله «الرجل/ الإنسان»، وبين رءوس تمردِه النزفة التي يسقطها إسقاطا دراميا بينا على «الفأر/ الحيوان»: الرجل: إنسانان وفأران إنسانان وفأران ما معنى هذا ؟ ………….. الفأر: من لا يرغبْ في أن يعرفَ نفسَه يخسَرُ نفسَه ……………. الرجل: أنت اثنان وأنا اثنان! هذا ما تعنيه وفي مكان آخر: الفأر: أوَ لم تتأملْ وجهَك؟ الرجل: أعرفُ وجهي (يحدق في المرآة) ماذا عن وجهي الفأر: كم وجها لك؟ فالهاجس المميتُ الذي يدفع «الرجل» للتفكر في كلمات «الفأر» المنذرة، وتعددية الوجه، والمرآة العاكسة، وضمير «الرجل» المعذب في بحثه الدؤوب عن نفسه الضائعة، كلها دلالات ومؤشرات وصور مسرحية لا تستكمل أطرها أو تستوى؛ والحالة النفسية لشخوصها دون شعر الكلمات. فالشعر، هنا، لا يمنحها فقط إيقاعها الحي، بل يصنع رتابتها المتكررة في إلقاء التساؤلات المصيرية(14). أوَ لمْ تتأملْ وجهك؟.. ماذا في وجهي؟… كم وجها لك؟!» وغيرها من التساؤلات التي لم تكن لتصاغ دون نفحات الشعر وروحه. فالشعر والدراما في مسرح وليد منير ينبعان من روح الفلسفة، فلسفة البحث عن أسئلة الوجود، وجدوى الواقع وعبثيته، وفساد القيم. ليس النثر بقادر على صياغة الأسئلة ذاتها، لأن روح الشعر تبحث عن أخص دقائق النفس البشرية، عن ما يؤلمها، ويصور ما بداخلها في بوتقة الصراع الإنساني الخالد. وهذا ما يذكرنا بأعمال الشعراء المسرحيين الإغريق الكبار (أيسخولوس وسوفوكليس ويوربيدز) الذين كانوا يقومون بإلقاء الأسئلة نفسها، ويُحيلون أساطير القتل والاغتصاب والانتقام الزاخرة بها «إلياذتهم» و «أوديسيتهم» إلى شعر مسرحيٍّ يتغنى به ، ويؤدى مسرحيا، ويناقش قضايا إنسانية عميقة المغزى؛ فيحيلون سطحية المشاكل الحياتية، ويخلعون عنها عاديتها، لتغدو قضايا إنسانية خالدة. فالشعر – إذن – يسعى إلى إضفاء طابع النبل الدرامي لشخوصه، ويحيلها إلى أبطال ملحميين وليس مجرد بشر عاديين . هنا تكمنُ أهمية مسرح وليد منير ، فشخوصُهُ المسرحية «الخيام» – الفأر – الرجل – الملك – الفتى – الفتاة… وغيرُها من شخوص مسرحياته؛ تخرج من ثيابها «العادية» لترتدى أثوابا درامية، وتتنكر في أقنعة متباينة، كل له قتاعه، يحملها إلى آفاق الفكر الإنساني الشمولي، والدلالات الفلسفية العميقة: الفأر: كل المخلوقات لها أكثر من وجه الوجه قناع والعالم مرآة تطفو فيها أقنعة المخلوقات الرجل: هذا لغو فارغ الفأر: هذا لغو فلان الرجل: أنت منافق الفأر: بل أنت أنا الرجل: لستُ بفأر الفأر: من ليس بفأر.. ليس بإنسان وتقترب بنا الأحداث الدرامية داخل مسرحية «الفأر» نحو الكارثة المحققة؛ فتسلسل الأحداث يضعنا أمام حقائق نعرفها عن الرجل/ الفأر، والفأر/ الرجل، نتعرف داخلها على الضياع الذي يقطع أوصاله، من جراء هروبه المستمر من نفسه، وتواجده في بقعة الأحداث السياسية والاجتماعية المحيطة به، وتضعه داخل سجن نفسي جديد بعد أن غادر سجنه الذي قضى فيه سبع سنوات بتهمة تلفيقية – على حد قوله. وتتراكم الأحداث الدرامية وتزداد تركيبا، وتتواصل مع بعضها بعضا؛ إلى أن تنتهي بالذروة، عندما يهرب الفأر من عنق الزجاجة، ويسرق في هروبه وجه الإنسان؛ فيقفز الإنسان من نافذته باحثا عن وجهه الإنساني بعد أن أصبح وجها فأريًا. وللوصول إلى هذه النهاية الدرامية/ الرمزية يضعنا الشاعر/ المسرحي في مواجهة تساؤلات عدة يخلق لها بـِنْياتٍ صياغية درامية قصيرة: الرجل: أين الزلزال ؟ الفأر: الحرية؟ الرجل: لا أبصرُ إلا الظلمة الفأر: في الظلمة ينداح الزلزالُ عن الوردة وعن الضوء . الرجل: كيف؟ (يتقدم نحو الفأر) الفأر: الوقت هو اللغم الرجل: أين اللغم؟ (يبحث الرجل في قلق) أين؟ الفأر: في الروح الرجل: أين الروح؟ (مستمرا في البحث) الفأر: في الفكره الرجل: أين الفكره؟ (مواصلاً البحث) الفأر: تحت الجلد ……………… فتش عن جلدك جلدِ الفأر جلدِ الإنسان هذا الموقف المسرحي المركب، هذا التعامل الدرامي الفانتازي، هذه المواجهة الساخرة مابين الرجل والفأر، لا يمكن أن تتخلق جميع هذه المواجهات دون الاستعانة بدرامية الشعر؛ وإلا غدا العمل المسرحي – إن كان نثرا – مسرحية للأطفال؛ تحكى عن رجل يتحاور مع فأر!! فالقيمة الشعرية منحتْ هذا العمل بُعْدًا دراميًا شكـَّل الأرضَ التي تقف فوقها بقوة الأفكارُ والدلالاتُ الزاخرةُ بها مسرحية (الفأر)، وتمنحها حضورا للمتلقين لا ينتهي نفوذه أو تأثيره على النفوس بانتهاء المسرحية الشعرية. 3 – «العائد بالكلمات» في «عائد» وليد منير ، نكتشف خصيصة جديدة تضاف إلى شعره، ألا وهي براعة استهلال عمله المسرحي. إن المؤلف عندما يستخدم الراوى/ الحكواتي في هذه المسرحية، إنما يضفي على كتاباته تواصلها مع فكرة التراث المسرحي والإفادة من تظاهراتِها. ولا نعني أن إفادة وليد منير من الراوى/ الحاكي/ الحكواتي، تضعه في مصاف الكتاب المسرحيين المستفيدين من تراثهم الأدبي/ المسرحي فحسب، بل إنه يحاول فضلاً عن ذلك البحث بجدية عن مختلف الأطروحات الفنية التي تسانده في صياغة فكرته، وتؤازرُهُ في تشييدها، لعرضها في أفضل الأشكال والصور الدرامية مسرحيا: الراوي : وكان ياما كان مملكة ضعيفة وملك جبان يظن أن الشجر العالي وأن الكلمات العالية تنقِصُ من سلطانه فقـَطـَعَ الأشجار وسَكَبَ المحابر وكوَّرَ السماء في قبضته ثم رَمَىَ بها من المقصورة لا ريحٌ لا طيار يمر كل عابر فتخطفُ الهاوية خُطـَاهُ أو ترسمُهُ كصورة على مياهِ البحر ………….. ذاتَ يوم أَمَرَ الملك أن يُقتـَلَ الشاعر وأن يكونَ عِبرة ، فتأكلُ النيران جثته المذعورة لكنَّ بنتا من بنات المملكة انتزعت مُهْجَتَه وهربت فوُلِدَتْ أسطورة ورغم أن الأسطورة معروفة، فإن الشاعر المسرحي خلعها من مثاليتها؛ وحاول عن طريق تفكيكها إلى عناصرها الأولى، أن يعثر على جوهر بـِنْيتِها، ليضع لها المعنى، ويخلقَ لها المغزى. فمن البداية تكون رؤية الكاتب للمكان واضحة، وللزمان «الآني» المعبِّر ِعن أحداثِ المسرحية جليا غيرَ مستتر. أما المكان، فيرسم الكاتبُ/ الشاعر سينوغرافية له تتسم بطابعها الشعري الرامز لكل ما هو مقلق، غير مستقر. فضلا عن أنه يحيل المكان بكل ما فيه إلى دلالات تعبر بوضوح عن حالة القلق هذه، المنذرةِ بالسوء، وبالبشاعة والقبح: «[..] أشجار مقطوعة لم تبق معها سوى جذوع قصيرة ضخمة تنبثق من باطن الأرض. بعض الطيور الميتة. هدير مياه البحر المتقطع يأتى من بعيد». حتى شخوص المسرحية تتلبسها حالة من الفزع والرعب، وتعكس ما حدث لها. تتوالى هذه الشخوص ظاهرة أمام أعيننا وهي: «إما تقف وترفع ذراعيها مصورة مشهد الصليب» – كما نرى في شخصية الفتى عابر السبيل، أو الفتاة التي تدخل مسربلة في البياض. «ونشعر بجو الحلم الليلي يهبط وئيدا»؛ وإما في «الطيور التي تتقافز على الأرض ثم تعلو مرفرفة فوق رأس الفتى». يسيطر هذا الطابع الشاعري في مسرحية (العائد) بقوة على المشهد المسرحي، ويتغلغل بنفاذه مؤثرا في صياغة الكاتب المسرحي/ الشاعر لملاحظاته وهوامشه: « يندمج صوت الريح وصوت هدير البحر متصلين في معزوفة واحدة هذه المرة. ترقص الفتاة أمامه على إيقاع الطبيعة رقصة تشى بالحزن والرغبة في آن». تؤكد هذه الملاحظات والهوامش وتوصيف الشخصيات أن الشاعر لا يزال في كتابته؛ ينظر نظرة شعرية للمشهد المسرحي الذي سيقوم فوق الخشبة عبر محسوسات الآلية المسرحية. وهي محسوسات تقف أحيانا بالمرصاد ضد شعرية الشاعر، وتحيل شخوصه وعوالمه إلى تقنيات لغة تقوم على التجسيد الواقعي للشخوص والقيم الشاعرية، ولا تسعى إلى تحقيق أبعاد شعرية تبدو في الكلمات مجرد عوالم قرينة عاكسة لما يكمن في قلب الكاتب وروحه الشاعرة. فضلا عن أن «الرؤية المسرحية» هي رؤية مادية تتجسم وفقا لرؤية أخرى للمخرج قد تختلف ورؤية الكاتب المسرحي أو تتحاور معها. إن تقنية الكاتب في عمله هنا أقرب ما تكون إلى التقنية السينمائية، فضلا عن آليات المسرح الشعري؛ حيث يسعى كاتبنا إلى خلق تناص ٍ بين فَـنين من الفنون البصرية. فكتابة وليد منير في بعض مقاطع مسرحه وهوامشه الإخراجية، يمكن أن تكون مؤشرات للمخرج لمعرفة أدواته المسرحية ومنهج إخراجه. إنها كتابة شاعر يرى في المسرح أداة تترجم «درامية» أشعاره وتسعى لانكشاف أفكاره بروح الشعر. لذا، تغدو مسرحية (العائد) دراما فيلمية، وتصويرا سينمائيا يتضافر مع كونها عملا مسرحيا، وعلينا أن نتذكر دوما أن الكاميرا آلة ذات وظيفة مرنة، وأنها، كما كتب «إلين استون، وجورج سافونا» في (المسرح والعلامات): «(…) تفسح مجالا للمتفرج ليدخل، ومن ثم يكمل العمل بنفسه وتأملاته»: مركب الوقت يغرق لا تتبقي سوى لحظة الخوف والحزن والندم المتقد أيها المركب المتأرجح تحت جناح المغيب أنئذٍ إننا نرتعد إننا نرتعد
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
رسالة sms :
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر :
2020-09-06, 8:26 am
عندما يصور الكاتب المسرحي جبروت الملك يضعه مع كلبه الصديق/ الأمين في مفارقة حوارية نستقي منها رؤيته للحياة والبشر: الملك : نعم يا صديقي الدمى طيبه الدمى قانعه الدمى لا تخون بيد أننا سنلاحظ الإفادة المُحْكَمَة من مسرح الدُمَى، حيث الحركية المقيدة التي تنهض بها خيوط العرائس المعلقة في الهواء وفقا لإرادة خارجة عنها. سنلاحظ كذلك التأثر الشائق بـ«كرستيان أندرسن»، حيث تكون الكتابة موجهة إلى الطفل الصغير والرجل الكبير معا؛ على الرغم من انطلاقها أساسًا من روح تجربة الطفولة السحرية. «إنها الطفولة المستعادة قصدًا – كما يقول «بودلير» معلم الرمزية الكبير. لكن رؤية وليد منير المشهدية تستحيل انعكاسا بادها لأفكاره. فعندما يتحدث عن «الدمى»، تهبط من أعلى وتأخذ أشكالا مختلفة، تقف في الهواء متأرجحة، لتبدأ في الرقص على ارتفاعات متراوحة؛ نكتشف عندئذ صراعات شخوصه المسرحية. لكنَّ الصراعَ ما بين الملك/ الشاعر يصبح صراع كاتبنا الأثير، إنه الصراع الداخلي. ويمكنُ لنا أن نستشف من مسرحيات وليد منير أنها أعمال وليدة للصراعات الداخلية، فكل منها رؤية من رؤى هذا الصراع المنقب داخل النفس البشرية عن الحقيقة: حقيقة الأشياء، جوهر الإنسان، الألم النبيل في مواجهة صغائر النفوس. ففي حوار للملك مع شبح الشاعر الذي قتله: الملك : يا شبح الموتى يا جاسوس الأحرف يا جاسوس الأشجار أرجوك مملكتي لا تحتاج إلى أغصان أو كتب مملكتي تحتاج إلى بنائين وتجار وجنود لا لا أتحمل شوكة ثأرك يا هذا – كيف أنام؟ وكابوسُ دمائك يدخل عيني أنا لا أتحمل أرجوك أنا….. ……….. وتستمر التداعيات، وتتواصل الصور المجسدة لروح الشاعر/ الكلمة ، فتستدعيه الفتاة العاشقة، وكأن المسرحية – بمعونة شِعْريةِ الكلمات – قادرة على استجلاب الرؤية الفكرية ذات القيمة الدرامية، التي تقوم عليها عودة الشاعر/ «العائد» صاحب الكلمة والدعوة. في المشهد الثامن نشاهد تتويجًا لهذه الفكرة، وهي تنبت ما بين الأشجار، وتعلو بعد ذبول، «مورقة الغصون» بينما «يأتى هدير مياه البحر من بعيد»: الفتى: أشجارنا عالية الفتاة: كأنها قصيدة (الفتى يعطي الفتاة كتابا) الفتى: والكلمات دانية الفتاة: كأنها تسقط من غصون أشجارنا الفتى: والريح والطيور الفتاة: لحنان في السماء الفتى: وذلك الكتاب الفتاة: زنبقة تضمها عيوني الفتى: ما آخر الأغنية؟ الفتاة: يا توأمَ الأقمار لا آخِرَ للأغنية وكلمات شخوص مسرحية «العائد» ومناخها الرومانتيكي، وطبيعتِها التي تحيط بالكلمات والأشخاص، كل ذلك يخلق منها مسرحية غنائية؛ أقرب في حركتها إلى التعبير الحركي الخالص منها إلى التجسيد الحركى المباشر. «فالعائد» – في ظني – مادة ينبغي النظرُ إليها بهذا المنظور، ففيها من الخصائص الكثيرُ لتحقيق رؤية إخراجية؛ تتضمن عملا ملحميًا في تناول الأحداث المؤكدة على الطابَع الأسطوري لمشاهد المسرحية. فضلا عن أن الكاتب/ الشاعر يعود في نهاية المسرحية إلى توكيد المعنى الدرامي للسرد/ الحكاياتي، فيضعها في مصافِ الأعمال المسرحية الأسطورية: الراوى : كان ياما كان سيدة جميلة وعاشق جميل شجر عال وموسيقى من الهديل وريشة ومحبرة وعبقٌ يفتح بابَ الحلم على سماءِ الحلم لتولدَ الأسطورة وتدخلَ المقبرة أغنية الفردوس
4 – «سور» الأغنية الحبيسة في المونودراما الشعرية (السور) تتكرر «ثيمة» البحر، حيث نوافذ قلعة قديمة وشرفاتها تطل على البحر. وكأن البحر حضنٌ أسيانٌ يحتضن بطلتنا المرأة التي جاوزت الأربعين بقليل في مياهها. والبحر «ثيمة» رئيسية في إبداعات الشاعر المسرحي وليد منير. ففي عملين من أعمال المؤلف الخمسة يتكرر ظهور البحر بوصفه يشرف على المكان والإطار الخارجي، لندخل بعد ذلك في المكان الأقرب: ألا وهو «القلعة» بأسوارها القديمة. والقلعة هي السجن والمأوى لامرأة تتحدث عن نفسها لنفسها أي لنا، وكأنها تخلع رداء الحياة قطعة قطعة لتتعرى أمامنا، ونكتشفَ معها عُرْيَنَا الداخلي. هنا تقتحم الموسيقي والأغنيات وإيقاعُ كلمات الدراما.. وتستحيلُ مشاهدةُ دراما «السيدة» الوحيدة دون غناء، فالغناء يمثلُ هذا الجانبَ الذي لا يتحاور فيه المرءُ حيثُ تتبعثرُ الكلماتُ في الفضاء الخارجي تشكلُ بمقاطعِها بحورًا شعرية كبحر «المتدارك» (فاعلن) وبحر «الرجز» (مستفعلن)، وهما بحران يقتربان من الروح الغنائية. وتتشكل هذه الكلمات في فضاءات أخرى تلتقي مع أمواج البحر، وهديره، لتترددَ في الهواء، وترجع ثانية «كامنة» في القلعة؛ مخترقة أسوارها العنيدة، فتتغنىّ المرأة غِناء مفعمًا بالشجن ممسكة بسيف حبيبها؛ وكأنه قيثارة لتبدأ في العزف على مقبضه – كما يكتب المؤلف في هوامش الإخراج (ص107). المرأة : الوردة الأسيرة أحزانها ضفيرة تجدلها الأقدار وشمسها جزيرة يُدْعَى بها الصبَّار تقترب نغمات هذه الأغنية من أغنيات الأطفال الشعبية، ويستخدمها الكاتب بوعي بليغ، عندما يعبر عن بطلته التي تصفُ نفسها وما يعتمل بداخلها، وكأنها تعود إلى الوراء أي إلى مرحلة الطفولة؛ مدفوعة بحكم الوضع القائم المركب. وكأنها تعود في طفولتها لنوع من «المداواة النفسية»، وهي – في حقيقة الأمر- تعود إلى الذاكرة كنوع من «السيكودراما»: المرأة : المطر المطر سوف يغسل ذاكرتي من شوائبِ أيامها ويعيد إلى غوطة الروح أشجارها العالية والمرأة في أسوارها تجتر الأحزان، وتغزل الانتظار، تشبه «بنيلونى» – بطلة ملحمة الأوديسا – وهي تنتظر حبيبها وزوجَها الذي طال انتظارُه عشر سنواتٍ في حرب شعواء ضاربة هي حرب طروادة. وامرأة «السور» قرينة بنيلوبي» طروادة»، يتلبس حزنَها إستيحاءٌ دائم لشخوص تتراقصُ أمام أعين ذاكرتِها، وتتخلقُ «دراما المونودراما» وتتشكل قوة ودفعا، عندما تولد شخوصُ المسرحية من جفون السهد وألم الحاضر وقسوة الوحدة، تولد الشخصية تلو الأخرى؛ فهي مرةً عرَّافة، ومرةً أخرى ملكة منتظرة، وثالثة «توشوش» المحار وتقربه إلى أذنيها ليشيَّ لها بالحقيقة، ومرةً رابعة تقوم بخلع القناع المُزَيـَّن، ورداء الحداد الأسود ليكشف عن المرأة الثانية بها. ويستخدم الشاعر المسرحي وليد منير إكسسواراته (مهماته المسرحية) بمهارة وحذق بليغين؛ ففي مسرحية «السور» يصوغ الكاتب السيفَ باعتباره أهمَ قطعةِ «إكسسوار» في هذه المونودراما المسرحية القصيرة ليضفي عليها أبعادا درامية تشكل الأحداث المسرحية برمتها، فضلا عن أنه يوجهها لمساراتها الدرامية المتطورة، فالسيف قيثارة تارة؛ وهو جسدُ الحبيبِ الرامزُ له تارةً أخرى. (تتجه المرأة إلى سيف معلق على أحد الأبواب؛ وتتحسسه؛ ثم تتناوله وتضمه إلى صدرها في لوعة): المرأة : يا سيف حبيبي يا وترا في قيثار الدم أين بداية صوتي ؟ أين بقايا مملكتي ، ووجوه مراياي؟ والسيف أيضا أداة للقتل، فالبطلة تنحني وتلتقط السيف الملقي على الأرض: هذا السيف ظل على باب من أبواب القلعة ألف سنه سيفُ حبيبي المغموسُ قليلا في دمه وكثيرًا في دمهم وعندما تخلع ثوب الحداد الأسود؛ فهو لا يليق بها*؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؛ وتكشف عما تحته شيئا فشيئا فتتجلى ثياب شفافة زاهية اللون، تكشف له عن مفاتن المرأة، وتصعد درجات سلالم القلعة حتى تصل إلى الدرجة الأخيرة، وتضم السيف إلى صدرها في حنان بالغ، وكأنها تؤدى طقوس عُرْس ٍ يقودها إلى لقاء حبيبها في مثواه الأخير بموتها، وبأداة القتل: بسيفه . المرأة: السيف القيثار السيف المرأة من يدري ؟ فلعلى لو جربت السيف – السيف أن أتبْعَ طيفَ حبيبي وأطيرَ بعيدا العرافة قالتْ لي إن حياتي ستكونُ هناك خلف القلعة خلف العمر المغلول بأصفاد الذكرى خلف السور …………….. فلأبسط الجناحَ في المَدَى (تبسط ذراعيها إلى الأمام) أغنيتي سماء ووردتي صدى وعندما تجذب السيف إلى صدرها في قوة، تهوي دفعة واحدة فتنطفيء الأضواء الخافتة التي تومِضُ بها بيوت المدينة البعيدة، وكأن الطبيعة احتوتْ حزنَ البطلة وتلاشى نورها حزنًا على بطلته. وبعد السيف هنا باعتباره «قطعة إكسسوار»/ (مهمة من المهمات المسرحية) بالغة التركيب لها دلالتها الدرامية التي تتعدى حدود المعنى المادى لها. ويلعب السيف والخنجر محاور أساسية في تكوين أهم «مونولوجات» الدرامات الإنسانية في تاريخ المسرح، وعلى رأس قائمتها درامات شيكسبير. تذكرني إمرأة (السور) بـ»الليدى ماكبث» عندما تتحدث مع أشباحها بعد جريمة قتل «الملك دانكان» التي اشتركت مع زوجها «ماكبث» في ارتكابها. ورغم اختلاف العرضين، فإن المناخ الشيكسبيري يمثل ذات المناخ في مسرحية وليد منير: ذات الأسوار، درجات السلالم المتصاعدة نفسها، جفاف المعمار وخشونته، ظلام المكان، وأخيرا السيف.. السيف القاتل، وهو معادل موضوعي يعادل خنجر «ماكبث» الباحث عن مقبضه السابح في الهواء، الباعث على القلق، المثير للفزع؛ الناتج عن اتخاذ القرار: قرار الموت أو السقوط في هوة عذابات الضمير، ورؤوس التعذيب النزقة، المتخللة قلب «البطل» في «ماكبث»، وعذابات الانتظار، والوله، وضياعُ النفس عند البطلة «المرأة» في مسرحية «السور». ومع أن هذا العمل المسرحي تطوى صفحاته، رغبة في تقديم شخصية درامية تضاف إلى رصيد مونودرامات المسرح العربي، إلا أنه عملٌ يفتح أمام كاتبه عالما رحبا من مفردات لغة مسرحية؛ ينضج فيها قلم الكاتب كشاعر مسرحي متميز، فيدخلنا – بوصفنا قارئين لسطور كلماته، ومتلقين لعمله المسرحي – في عالم ثري من الدلالات والرموز الدالة؛ والاستعارات الأدبية / الدرامية / المسرحية. وفي ظني أن (السور) مسرحية تضع القارىء والمتلقي معا مفاتيح لفتح مغاليق السر المسرحي القابع وراء الكلمات. من هنا يصبح الشعر صنوا للأحداث المسرحية، يشكلها ويبعث في متنها القوة السحرية لخلق الدراما/ الشعرية المتأصلة.
5 – حفل لتتويج العشق والموت والدهشة «غرابة الوجود، ووجود الغرابة» في هذه المسرحية نشاهد خطوة هامة تالية، للتعامل مع العمل المسرحي ليس باعتباره مادة درامية / نصية فحسب، بل نكتشف ولوجًا في عالم المسرح بكل مفرداته وتقنياته. فهذه المسرحية ليست تتويجا للعشق والدهشة فحسب، بل هو تتويجٌ للعمل المسرحي الذي تتزاوجُ فيه الدراما بالمسرح، والكلمة بالحركة الداخلية المجسدة لها، فتتداخل فيها الصور؛ والصورة المشهدية بالرؤية الشعرية. نكتشف فيها وعيا بالتعرض للقضايا الإنسانية المتسمة بطابعها الشمولي الإنساني العام، لكننا في الوقت نفسه نتعرف فيها على نسيج تقني جديد يستخدمه الكاتب الشاعر في مسرحه، ولا تقوم آلية العرض المسرحي على استخدام أدوات جديدة بقدر ما تعتمد على مفردات وأدوات أعيد اكتشافـُها: – الأحداث التي تتم في عالم أقرب إلى الحلم. – التحقيق البوليسي الواقعي الذي يقرب العمل المسرحي إلى «أدب الجريمة». – الواقع بكل ملابساته، واقتحام العالم الميتافيزيقي له، وكأننا نقف في مواجهة عالمين، لا نعرف أيَّهما واقِعٌ وأيَّهما خيال. – الشخوص الدرامية المتطورة تطورا متناميا غير تقليدي، بمعنى أنها شخصيات تنمو نموا مطردًا يقوم حسب مقتضى حال الباعث الدرامي «الأنى»، وليس حسب نموذج «أرسطى»(من اسم أرسطوطاليس) تـُرَاعى فيه مساحة العمل الدرامي ككل وفق قواعد ولوائح ثابتة تتنامى تناميا أفقيا، لها بداية ووسط ونهاية وأزمة وتعقيد وذروة ثم انفراج. فالتعامل مع التجربة المسرحية عند وليد منير باعتبارها عملا مفتوحا غير نهائي؛ يتيح للمتلقي إمكان افتراض نهاية من نهايات عدة محتملة لتكون له مشاركته الخاصة. فهذه المسرحية «تتويج الدهشة» قريبة من القصيدة في كونهما عملين غير جاهزين، وغير نهائيين. لذلك، تضعنا هذه المسرحية في إشكال فني جديد، هو أنها تطرح على المتفرج حالة، وليس حكاية سردية، تستثير نفسه عبر الشعر، لاجتناب الوقوع في براثن الواقع اليوميِّ الفج. مع أن هذا العمل المسرحي الأخير يقوم على حادثة عادية Banal امرأة تقود سيارتها فتصطدم بعامود نور وتموت، حادث من مئات الأحداث اليومية التي نقرأها في الصحف اليومية ولا نعيرها انتباهنا. غير أن موقع الفكرة وثبوته في حالةٍ تستدعي انتباه المتلقي عن جزئية صغيرة قد لا تذكرها الصحيفة لها؛ ولا تقف عندها كثيرا. هذه الجزئية هي ما نصفها – بلغة حرفتنا كمسرحيين – «بالتفصيلة»، هذه «التفصيلة» أو تلك التفاصيل هي المستفزة للغة المسرحية، وهي التي تستدعي الوقوف عندها، والغوصَ في أعماقها، واستبطانَ ما بداخلها. من هنا تكتسب صلاحيتها في أن تكون فنا. فالفن اكتشافٌ و«قبضٌ» لحظاتٍ تجعلنا نعيدُ النظر في معنى الحياة، وسر وجودنا اليومي. وهذا ما فعله وليد منير عندما قبض بكلتا يديه على «الجزئية» أو «التفصيلة» لحادثٍ يومي عابر: الصحفي : لغزٌ عميق في الأربعين تموت سيدة بدون اسم ولا عنوان فالشعر في هذه المسرحية ليس مجرد كلام عادي يقال؛ كحادثته التي تقومُ عليها، بل هو أساسٌ في إحالةٍ عادية الموقف إلى دراما متوهجة في اللحظة الراهنة، في نزع القناع عن الخبر العادي؛ والبحثِ فيه عن ما هو غيرُ عادي. في هذه المسرحية الشعرية تُـنْزَعُ من الكلماتِ إخباريتـُها، وتحالُ إلى تفجر درامي لا يتوقف؛ فالشعرُ يدخُلُ في تشكيل الحركة، وتصميم البناءِ الدراميِّ للعمل المسرحي برمته، بل يقودُ صياغتُه وديناميكيتُـه . ونلاحظ في بناء المشاهد الأربعة التي تتكون منها المسرحية من أن كلا منها – على الرغم من كونه جزءًا من الأجزاء – فإن كل جزء يكمل بعضه الآخر، ويتنامى الحدث في سلسلة من الأحداث الصغيرة المنظورة؛ التي تطور من الحدث الرئيسي في العمل المسرحي؛ فكل مشهد منها؛ يعد قصيدة مسرحية قائمة بذاتها لها حادثها الواقعي، وتطورها الدرامي الخيالي. وسطورُ نهايتها تقوم مقام التذيـيل أو الحكمة أو النهاية. ولكنَّ كلَّ هذا لا يُكتب بشكل تقليدى، إنما يدخل في نطاق اللعبة المسرحية العبثية.
المشهد الأول فيه لا يتم إعلانُ الحدث المسرحي وهو «الحادثة» بسرد الحكاية، بشكل إخباري عادي على لسان الصحفي، والضابط، وعابري الطريق؛ لكنَّ الحادث يُرْوَى من خلالهم عبر روايات عدة؛ لها نهايات متباينة. وكأن الحادث له هاجسه الخاص عند كل فرد من أفراده، له تصوره الخاص، وله نسبيته. فما أراهُ قد يختلف عن ما تراهُ أنت، وعن ما يراهُ الآخرُ فيك! وكأن كلا منه؛ له حقيقتُـهُ الخاصة، ووهمُهُ الخاص. وعلى الرغم من أن تأثيرات الكاتب الإيطالي «بيرانديللو» – وهو في رأيي من رواد الطليعة المسرحية – تهيمن على فكرة هذه المسرحية، فإن شاعرنا الكاتب وليد منير يضع مفردات تقنيات الوهم بحذق وبلاغة، فيجعلنا نشعر أن شخوصه ما هي إلا مرايا عاكسة لأوهام أصحابها وهواجسهم. ولا تقوم صدقية هذه الشخوص على ما تراه هي فقط فينا، وإنما في ما نسقطه نحن عليها، بهذا تصبح هذه الشخوص جزءا منا. وتبقي الصياغة الشعرية بمثابة مفتاح يفتح مغاليق النفس أمام الرؤية المُـشَاهَدة، دون حاجز يمنعها من النفاذ من فوق خشبة المسرح، إلى صالة المتفرجين المظلمة؛ حيث يجلس فيها مئات المتلقين، ترى فقط عيونُهم التي تمتص ما تريد أن تراه، وتتلقف ما تحبُ أن تضيفه إلى زادِها اليومي وخبراتها الحياتية. رجل: لم تعرفوا من هي حتى هذه اللحظة؟! الآخر: قد تكون سائحة! الرجل: تمزح ؟ الآخر: لا … الرجل: لكنها مصرية الملامح بالرغم من بشرتها البيضاء. وانعقاصِ شعرها الأصفر فوق الرأس هذا الاختلاف في رؤية الآخر، يدور دومًا على لسان شخوص المسرحية في مشاهدها الأربعة. والمؤلف بهذا يؤكد الوهم القابعَ فينا من تفهمنا لرؤية الحقيقة، ومحاولة التخلص من تأكدنا من أن لها وجهًا واحدا، أو أنها الحقيقة النهائية، بينما هي نسبية ومتغيرة، وقابلة للتأويلات المتعددة. وما يلبث أن ينتهي المشهد الأول، إلا ويذيله الكاتب الشاعر بالمعنى العام لما يود قوله: السيدة : كلهم مخطئون لأنهم يرونني ميتة لكني أعذرهم الموتُ ساعة من التأمل العميق في حركات الكون الموت وثبة إلى الأمام الموت حلم الموت حانة بلا رفيق يَشْربُ فيها المرء أمانة الضائع الميتون وحدهم على صواب الميتون وحدهم أسطورة لأنهم لا يعرفون الشك لأنهم لا يعرفون الأسئلة من أجل هذا فأنا أعذرهم، أعذركم جميعا. وأفتح الأقواس للدهشة والسؤال فهذه طبيعة الأحياء
المشهد الثانى : يتفكك في هذا المشهد الحدث الرئيسي ليشمل أربع بؤر ضوئية داخل «بار»، والبار الصغير اختيارُه مقصود، فهو المكانُ الذي يقع بين منطقتين: منطقة الوعى بما نراه يحدث أمامنا، واللاوعي بما لا نراه يحدث، أي البحثُ عن التضاد: الحقيقة والخيال، الحقيقة والوهم، الحقيقة ونسبيتها. هذه البؤر أو البقع الأربع تمثل موائد أربع، لرؤية حقيقة المرأة؛ ونسبية صحة وجودها؛ وعلاقتها بالآخرين من عدمه: الثاني: فهناك واحد يقول إنه أبوها آخر يزعم أنها زوجته ثالثهم أغربهم، يُصِرُ في التحقيق أنها سلطانة مخلوعة وأنه خادمها ومع أن شخوص المسرحية في معظم أجزائها أبواق مرددِة لهذه الحقيقة ذاتِ الوجوه المتعددة المتباينة؛ إلا أن إيقاع كلماتها يزيد من الشحنة الدرامية داخل تركيبة الحدث الرئيسى، وهو البحث عن هُويِّةِ المرأة، ويمثل الفتى داخل هذا المشهد وجها آخر من وجوه الحقيقة وتباينها، بل إنه نقطة ارتكاز أساسية تؤكد البُعْدَ الدرامي لمسألة البحث عن الحقيقة أو البحث عن الذات: الفتى : رأيتها أين؟ ………. كأنني أعرفها ذاكرتي تسقط، كيف ماتت؟ كم انتظرتُ أن تحبني، وأنْ تقولَ لي: حبيبي. هل أنا الموهومُ وحدى؟! هل أنا النائمُ في اليقظة واليقظانُ في المنام؟ فالمرأة هي ردود الأفعال العاكسة لكل شخص منهم، هي التعبير الداخلي عما يعتملُ في صدورهم وعما يدور في عقولهم.
المشهد الثالث: يزداد الإيقاع على مستوى الصياغة الدرامية، وعلى مستوى الأداء الحركي للمثلين في مشهد يمثل آلية التحقيق، فيتجاوز كونُهُ مشهدًا دراميًا عاديًا، إلى مشهد يطرح المحقق فيها تدريجيا أسئلته؛ وتزداد شحنة هذه الأسئلة ارتفاعا، مع التزايد المتدرج لإجابات أولئك الذين يسألون! وما يزال السؤال الجوهري مطروحًا: من هذه المرأة؟ ما الذي ترمز إليه؟ ما الدلالة التي تمثلها؟ فضلاً عن أن المشهد الثالث يمثل «ثيمة» التحقيق الطاغية على بنائه. إنه كذلك محاولة من الكاتب المسرحي/ الشاعر كشفَ النظرات التي ينظرُ بها الآخرون إلى المرأة: سواءٌ أكان الشابُ أم الفتى أم الرجلُ أم غيرُهم. ويُنْهي المؤلفُ/ الشاعر «المشهدَ الثالث» بحوار المحقق والشاب، ملخصًا درامية جوهر الحقيـقة التي نود – كمتلقين ومشاهدين – اكتشافها، ومدى ذوبانها وإيغالها في نفوسنا: المحقق: لم يبق أي شيء بعد رحيل وجهها يا أيها الولهان ؟ يا أيها المجنون؟ لم يبقَ أيُّ شيء حتى ولو إطارُ صورةٍ مُعَفَّرَة؟! الشاب: نعم إطار صورة معفرة هذا الذي تبقيَّ المحقق: هاته الشاب: (واقفًا) هاأنذا وكأن المرأة بموتها الماديِّ لا تموت، بل تبقي، لأنها تحيا بوجود حي داخل وجداننا، تعيش بنا، وتحيا بنا، تستمد تواصلها الوجودى من تغلغلها في وجودنا الآني.
المشهد الرابع: ويعد المشهد الرابع ذروة العمل المسرحي «حفل تتويج للدهشة» ويذكرنا (بحفل كوكتيل) للشاعر الإنجليزى «ت.س.إليوت»، فتتجمع الشخوصُ كلها على مائدة واحدة، أقرب إلى مائدة العشاء الأخير، عندما يجتمع حول المائدة الشباب والنساء والرجال من علية القوم؛ يأكلون ويشربون ويرقصون، حيث تعزفُ الشخصياتُ كلها في تنويعاتٍ على اللحن الرئيسي، نتعرف معهم على المرأة التي تحيا بينهم، وتمثل لكل رجل منهم مكنونه الإنساني، ضعفه، فحولته، قدرته على البقاء أو الموت. بل يساعدنا المؤلف في التعرف على هذه المرأة وبما تراه هي في الآخرين، وما يمثلونه لها. وبقدر ما شعرت من أن وجود المرأة مع زمرة الشخوص الأخرى؛ يمثلون تواصلا لوجودها، بقدر ما أدركتُ أن وجودها الحواري في هذا المشهد مُضْعِفٌ للصورة المثالثة التي نتخيلها – نحن كمتفرجين وقارئين- ونراها في هذه المرأة، فحوارها الحي يحدد من عمق هذه الشخصية ورمزيتها؛ بوجودها الدلالي فوق الخشبة، ما بين الوجود الواقعي/ الفانتازي؛ والمادي/ الخيالي، حتى في جملتها الحوارية الأخيرة؛ يتأكد رأيي عندما يحيلها المؤلف إلى صوت يعلق به عن نفسه، وعن رأيه في كل ما يحدث! وكأنه صوتٌ خارجُ الزمن، وخارجُ حدودِ المكان: المرأة : الموت ساعة من التأمل العميق في حركات الكون الموت وثبة إلى الأمام الموت حلم. الموت حانة بلا رفيق يشرب فيها المرء زمانه الضائع الميتون وحدهم على صواب الميتون وحدهم أسطورة لأنهم لا يعرفون الشك لأنهم لا يعرفون الأسئلة إن هذا العمل المسرحي «تتويج الدهشة» هو تتويجٌ للعشق والموت والدهشة، هو تمثيل لغرابة الوجود، ووجودِ الغرابة: الشعور الإنساني الممتزج بالوجود الآخر، أيْ بالوجود الذاتي. وفي ظني أن هذا العمل المسرحي يمثل نضجًا كبيرا في ظهور التفاعل مع ما يفكر فيه الكاتب الشاعر وليد منير من جانب، وما تخلقه الصورةُ المشهدية من رؤية سينوغرافية تشملُ الكلمة والصورة، وتحتضن الأداء التمثيلي للكلمة بالحركي، والجسدي معا، مع الإضاءة، بشريط الصوت. يجمع كل ذلك فضاءٌ مسرحي بالغُ الدلالة؛ يجمع كل هذه العناصر معا في توحد لغة فنية شعرية، وكأن هذا الفضاء عِقْدٌ لا تنفرط حباتُه. يحققُ هذا العملُ المسرحي شاعرية الصمت، وصمتَ الموتِ القابع داخلنا، فيمنحنا قدرة على فهم الحياة من أجل إدراك جوهرها.
الخلاصة: لا يمثل الشاعر وليد منير – من وجهة نظرى – كاتبًا مسرحيًا عاديًا، بل أؤكد أنه كاتبُ مسرح شعرى نابغ، في هذا المسرح يتفهم لغة المسرح، ويملك بوعى قدرات لغوية؛ لصياغة كلمات المسرحية الشعرية، حسب ما يُمْليه الموقفُ الدرامي. من هنا تتضافرُ الكلمة مع مفردات العرض المسرحي في كل لا يتجزأ، ولا تصبح غريبة عن البناء المسرحي، بل جزءٌ من كيان هذا البناء وجوهره. فوليد منير لا ينظر إلى الشعر بمنطق الكلمات الغنائية التي تخلق إيقاعا يعتمد على الكلمات فقط، بل تشكل هذه الكلمات فضاءات مسرحية متغيرة دافقة، تتخلق منها حركة مسرحية غير ساكنة. لا يسحرنا في مسرح وليد منير كلماتُـه ولا صياغة جُمَلِهِ الشعرية فحسب، بقدر ما يثيرُنا في مسرحِهِ عوالمُه، فهو يخلق لكل عمل من أعماله المسرحية عالمَهُ الخاصَ المختلفَ فيها عن عالم الآخر. وهو يفيد إفادة ثرية بما يسميه «إريك بنتلى» تراجيديا الإيحاء بمرتكزاتها النفسية والفلسفية والجمالية كافة. لذلك يعد الشاعر المسرحي وليد منير مرحلة تالية في المسرح الشعري؛ مرحلة تالية عن كل من سبقوه؛ فلا ينبغي أن ننسى أن معالجة القضايا التي يتناولها كاتبنا المسرحي الشاعر؛ لا تتوقف عن كونها مجرد كلماتِ شاعر، بقدر ما هي موضوعات حية تتسم بالطزاجة في اختياره لموضوعات بعينها: من التاريخ التراثي؛ مرورًا بالعالم الفانتازي؛ وصولا إلى الأحداث العابرة التي لا نتوقف كثيرا عندها، وينبغي النظر إليها بعين الاعتبار، فضلا عن تناوله هذه الموضوعات بصيغ غير معقدة، تحيل الشعر المسرحي لديه إلى حوار يومي مفهوم، مع حفاظه على بنيته اللغوية الشعرية فالتركيب الفني لمسرحياته بسيط ولكنه ذكي فطن بستثير القارئ والمشاهد وهو يريد منهم أن يفكروا ويتذوقوا الكلمات التي طالما تعطشت نفوسنا لسماعها. وإذا كانت كلمات الشاعر تعتمد في صياغتها على الاختيار والتصنيف والتركيب، فإن وليد منير يستند في مسرحه بشكل خاص على خلق عوالم كلماته التي تشيد من فضاءات الرؤى المشهدية. وكأن المنظر/ المشهدى جزءٌ لا يتجزأ من تركيب عالم كلماته وصناعته. وتتخذ هذه العلاقة طابعا «ديالكتيكيا» يخلق لمسرحه مناخا له خصوصيته، الذي يميزه عن أي مسرح شعرى آخر. فهو ليس مسرحا متقعرًا، ولا يقومُ في أساسِه على الحفاظ على وزن القصيدة الخارجي، ولا هو معنىٌّ بالتجنيس الصوتي، ولا بالقافية على المستوى التقليدي. ولا يعتمد شعرُهُ المسرحيُّ الحديث على كسر شعرية الكلمة، وموقعِها في القصيدة؛ بل تتمركز دائرة اهتمام الشاعر المسرحي/ وليد منير في البحث عن دلالات، تنشأ في مسرح من الإشاراتِ والضمائر الشخصية: مثل أنا وأنت، وتدل على الإنسان الذي يتكلم أثناء الحديث.(13) وهي جلية في أعماله المسرحية؛ وعلى رأسها (السور) و(الفأر)، حيث تستند هذه المسرحيات على هذا النوع من الإشارات والضمائر. وتظهر هذه الدلالاتُ في تعددِ مرجع الضمير على المستوى النحوي، والتكرار، والتوازي: كم سنة مرتْ منذ انفرطتْ تحت شراع الغائب أغنيتى منذ انحرف (الاسكندر) شرقا وفي مكان آخر: ……….. ………………. ………………. لكنَّ الفاتح كان هو الفاتح هذه الخاصياتُ كلها تؤكد الكيفيات المتعددة التي تنداح عبرها التقنياتُ اللغوية عن تقينياتٍ درامية، ودلالاتٍ ذاتِ أفق مفتوح. وإذا حللنا هذه المسرحيات الشعرية المتناولة، سنجد أنها تبحث لها طوال الوقت عن دلالات ليست مجرد لفظية؛ بل علاقات حسية للمعانى، وترادفات، وتجانسات، وتضاديات إلى آخر ما يطرحُهُ عِلمُ الدلالة، مما يُثري المحتوى الحركي؛ والإيقاع الداخلي للغتها داخل هذه المسرحيات؛ ويحيل ألفاظها الساكنة على الأوراق إلى جسد حي في حاجة إلى ممثل، وصياغة مسرحية متكاملة؛ تدفع الحدث الدرامي برمته إلى الوجود الفني. المسرح الشعري عند وليد منير، يمنح المسرح عالما جديدا يضيفه إلى حركة المسرح المصري خاصة والعربي عامة – قدرات إبداعية جديدة. فمسرح هذا الشاعر ينظر إلى الشعر باعتباره فنا دراميا، يعيد بذاكرتنا ثانية إلى أعظم فترات المسرح الشعري المصري: عزيز أباظة – أحمد شوقي – علي أحمد باكثير وغيرهم من رواد المسرح الرومانتيكي (مجازا) والكلاسيكي (تصنيفا)، ومسرح: عبد الرحمن الشرقاوي – صلاح عبد الصبور – مجمد إبراهيم أبو سنة – محمد مهران السيد – فاروق جويدة وغيرهم من الشعراء المسرحيين المصريين المعاصرين. مما يؤكد أنه حان الوقت لنستعيد النغمة الضائعة من مسرحنا، ونسترجع بعدا جوهريا قد افتقدناه فيه: ألا وهو شعر الكلمة؛ فهو المرادف والصنو والقرين الذي يخلق شعرا آخر؛ لا يقل أهمية ورسوخا؛ إنه «شعر المسرح» الصافي.. ذلك المسرح الذي يرهص – بعد أن توقفت منابعه – إلى قيام نهضة مسرحية حقيقية، يتمكن فيها المخرجون المسرحيون الإصلاحيون من خلق نهضة مسرحية حقيقية؛ نحن في حالة انتظار طويل لها!!
الحواشي
1 – «ثأر الله» مسرحية شعرية مكونة من جزأين: الحسين ثائرا» و«الحسين شهيدا». من إنتاج المسرح القومي في ستينيات القرن المنصرم من إخراج كرم مطاوع. أثارت هذه المسرحية زوبعة كبيرة؛ حيث وقفت ضدها المؤسسات الحكومية والدينية. وكانت سببا في إيقافها عن العرض بعد إعدادها شهورا طويلة. كانت الحجة آنذاك حسب قرار المؤسسات الدينية هو أن المسرحية يقوم فيها الممثلون بتمثيل الشخصيات الإسلامية؛ والتي لها طابع القداسة. ومن بينها: الحسين وزينب وغيرهما، لكن السبب الحقيقي هي أن المسرحية كانت تطرح قضية سياسية مهمة وهي الديمقراطية وحرية الرأي وفي ظني هذا سبب المنع الحقيقي. 2 – «الأرسطية» نسبة إلى الفيلسوف الإغريقي «أرسطوطاليس» (……….) الذي كتب كتابه «فن الشعر» في القرن الرابع قبل الميلاد. وكان ناموسا لكتابة الدراما المسرحية. 3 – الكاتب المسرحي النرويجي «ميتيرلنك» – انظر مسرحيته « العصفور الأزرق». 4 – نسبة إلى الشاعر المسرحي الإنجليزي «ت.س. إليوت». 5 – «كير إيلام»: «العلامات في المسرح» – ت. سيزا قاسم – مدخل إلى السيميوطيقا» إشراف: سيزا قاسم، ونصر حامد أبو زيد- دار إلياس العصرية، القاهرة 1986 6 – وليد منير – «فضاء الصوت الدرامي»- دراسة عن مسرح صلاح عبد الصبور – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1992. 7 – وليد منير – المصدر السابق – صفحات 7 – 8 8 – أدونيس – «سياسة الشعر» – دار الأداب – بيروت 1985 ص. 126 9 – وليد منير – المصدر نفسه – ص. 8 10 – ميشيل لوجورن – «الاستعارة والمجال المرسل» – ت. صلاح صليبا، منشورات عويدات، بيروت/ باريس 1988. 11 – وليد منير – «حفل لتتويج الدهشة ومسرحيات شعرية أخرى» – انظر مسرحية «بيت النجوم» ص.35، سلسلة المسرح العربي – الهيئة المصرية العامة للكتاب. 12 – نسبة إلى «يونيسكو» – فرنسي روماني الجنسية، كاتب مسرحي. يعد أحد رواد «مسرح العبث». 13 نسبة إلى «الفأر». 14- «علم الدلالة»- ترجمة مازن الوعر – «علامات في النقد»
طعم قديم للحلم,شعر وقصائد وليد منير,ديوان وليد منير pdf