كان يربّى الكلمات فى فمه كما تربى أمه الكتاكيت فى باحة البيت تلك التربية التى لا تعرف كم من السنوات استغرقت ولا كم من التجاعيد لكنها تظهر فى اليدين : كان يتصرف فى حصة القرية من الكلمات كأنه وريثها الوحيد بحيث يجد لكل قلب ما يناسبه يعرف من انتصاب الحلمات أن إحداهن تريد أن ترسل خطابًا إلى زوجها المغترب
من شحوب الوجه من اللوعة من اشتياق الملامح ليد تلمسها من العين حين تلمع وتصبح سريرًا يعرف أن السيدة بحاجة لأن تكون ملاءة تتلوى وحين لا تتوفر الكلمات التى تلبى الحب يذكرها بأحزانها ربما أرادت أن ترسل خطابًا إلى أخيها الذى مات فى الحرب ولم يجدوا جثته فأرسلوا أشياءه بدلاً منه الجورب الغليظ وبقايا جرة المشّ وصورة مكرمشة لحبيبته ولأن كاتب الخطابات لا يجد عند السيدة دموعاً تكفى لمأتم يستلف من الرصيد الحىّ كلمات مؤثرة تقبّل المرسل إليه والعنوان
وعندما ينتهى تلزق السيدة الخطاب بلسانها لتطمئن على أنها أحكمت المظروف على الوحشة ،، ياما كتب عن نفسه وهو يكتب للأرامل خطابات يستنجدن فيها بالحظ كان يقول إن طرقات القرية أكثر حظاً منهن حيث تمشى فيها البغال والحمير عارية لا شىء يستر رغباتها كان يكتب أن الأرامل أولى من الطرقات بهذه التلقائية لكن لم يعرف أبداً لمن يوجه الخطابات ! : حتى القرية كان يكتب بالنيابة عنها خطابات إلى الله عن انتظارها المزمن عن البلهارسيا قبل أن تتآكل هيبتها عن الأقفال التى ملت الصدأ عن البيوت الواطئة التى لم تكن قادرة على تبرير فقرها كان يكتب أحياناً فى الهواء دون أن ينسى وضع النقاط على الحروف غير أن الله لم يكن يحفل بالرد على ولد يستخدم الدموع على أنها حبر أو كلمات ،، يا الله الأرامل ما زلن ينتظرننى وشوارع القرية أخذت منى خطواتى على سبيل الرهن لحين الوفاء بالدين فلا تحرج أصابعى أقلامى الجافة التى كتبت إليك أن تسمح لـ “أبى” بزيارة أمى حتى فى أحلامها أن يخرج من قبره ساعة كل ليلة ويترك لها ما يكفيها من المصاريف والقبلات كى تكفّ عن البكاء : أنا كاتب الخطابات يا رب كانت السطور تجرى تحت يدى كما تجرى السنوات دون أمجاد بالعكس كم من حياة ترملتْ فى صناديق البريد بسببى عاد الأزواج فوجدوا زوجاتهم فى حضن التراب وأحياناً كانت خطاباتى تذهب إلى العناوين الخطأ ومرات كثيرة لم تستطع اجتياز الحدود أنا كاتب الخطابات عشت عالقاً أتجول فى المسافة بين كل قلبين حتى تحولتُ إلى خطاب أرسل منذ زمن بعيد لكن لم يصل عليه جواب .