رفعت سلام
هكذا قلتُ للهاوية
قَتَلُونِـي ،
فَانْفَرَطْت :
قِطَارَاتٌ تَعْوِي قَبَائِلُ مُدَجَّجَة جَرَّةٌ مَقْلُوبَة صَمْتٌ يَهْوِي عَلَى حَجَر خِنْجَرٌ مُعَلَّقٌ فِي سَمَاءِ الذَّاكِرَة لَيْلٌ قَرَوِي صَبِيٌّ يَهْرُبُ خَوْفًا مِنَ الخَمِيس طَائِرٌ يَلُوحُ فِي نَافِذَةٍ غَامِضَة قَاعِدٌ عَلَى حَافَّةِ وَقْتٍ مِن رَمَاد مَرْأةٌ تَمْضِي إلَى قَبْرٍ وَمَرأةٌ تَجِيء يَارَا غَابَةٌ مِنَ الضَّحِك طُبُولٌ تَقْرَعُهَا الرِّيحُ فِي زَمَنٍ قَدِيم تَقُولُ تِلْكَ آيَتِي آنَ أن أنَامَ الآن هَل يَأتِي أم يَمْضِي إلَى نِسْيَانٍ يَجِيء مَن يَقُول صَرْخَةٌ تَطْعَنُ النَّوْمَ فِي نَوْمِه شَايُ الصُّبْحِ جَسَدٌ أو دُعَاء الثِّيرَانُ اللَّيْلِيَّة بَابٌ يَنْفَرِجُ وَوَجْهٌ عَسِلِيٌّ فِي العَتْمَة كَأنَّ الرِّيحَ تَحْتِي تَأتِي إلَى جَسَدِي بِلاَ ثَدْيٍ وَأردَاف قَمْحٌ غَابِر غُرفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي فَضَاءٍ هَبَاء زَهْرَةُ البُسْتَانِ(9) وَقْتٌ قَتِيلٌ وَغُبَارُ كَلاَم خُيُولٌ مَسْعُورَةٌ تَمُدُّ أعنَاقَهَا فِي الحُلْم قُلْتُ: أنَا شَوْكَةٌ مَسْمُومَةٌ فِي أسَنِ القَاهِرَة رُؤُوسٌ أيْنَعَت حَتَّى فَسَدَت بِلاَ قَطَاف.
وَانفَرَطْت:
صَهِيلٌ فِي سُهُولٍ مَا عَاصِفَةُ الصَّحرَاءِ تَقْصفُ الخُزَعْبَلاَتِ الجَمِيلَة رَأسِي عَلَى طَبَقٍ مِن الفِضَّة كَيْف تَنْحَنِي فَتَرْمُقَنِي الحَلْمَتَانِ بِالسُّؤَال مَن يُدِيرُ الآنَ خَدَّه اليَسَارِي لِمَاذَا جَعَلْتَنِي مَدِينَةً حَصِينَةً وَعَمُودَ نَارٍ وَأسوَارَ نُحَاس غَيْمٌ يَهْطِلُنِي أشْلاَء مَرأةٌ تَرْعَى أُنُوثَتَهَا لِي وَتَمْنَحُهَا لأوَّلِ عَابِرِ سَبِيل شِعَارَاتٌ مُجَفَّفَةٌ فِي السُّوق ذَاكِرَةٌ أهَبُهَا لِلكِلاَبِ السَّعْرَانَة الحَنِينُ فَاكِهَةٌ عَطِنَةٌ لِلأرَامِل أرَقٌ عَلَى أرَق مِيَاهٌ تُغْرِقُ الحُلْمَ فَأطْفُو جَائِعًا شَهِيًّا هَكَذَا أنْكَسِرُ وَلاَ أنْحَنِي لَيسَ اليَأسَ بَل القُنُوط قَالَت: مَتَى تَدخُلُنِي عَوِيلٌ يَقْسِمُ اللَّيْلَ وَيَحْنُو عَلَى شِيَاهِي الشَّائِهَة مَن يَطرُقُنِي الآنَ وَأبْوَابِي مَفْتُوحَة يَمْرُقُ فِي لَيْلِي سَارِقًا ظِلِّي فَيَا سَيِّدِي النِّسيَانُ أدْرِكْنِي
وَانْفَرَطْت:
لاَ ألتَمُّ وَلاَ أتَبَدَّد.
أعْضَائِيَ أغْصَانٌ تَسْكُنُهَا العَصَافِيرُ وَيَأوِي إلَيْهَا البُومُ وَالصَّرخَاتُ وَلاَ مَن يَهُشُّهَا. وَقَلْبِي بَرْزَخٌ يَنشَقُّ لِي فِي مُنْتَصَفِ الوَيْلِ فَأهْوِي وَلاَ وُصُول .
وَحَالِي حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِي فَضَاعَ مِنِّي الصَّولَجَان .
تَلْكَ آيَتِـي
وَلاَ غُفْرَان
فَمَن يُعْطِينِي لُقْمَةَ وَقْتٍ أهبُهُ الهَبَاءَ الجَمِيل . وَمَن يَهَبُنِي الهَبَاءَ الجَمِيلَ أمنَحُه النَّحِيبَ الوَبِيل . وَمَن يَمْنَحُنِي النَّحِيبَ الوَبِيلَ أُهْدِيهِ غَابَةً مِن عَوِيل :
كُلُّ شَجَرَةٍ ثَكْلَـى
وَكُلُّ غُصْنٍ قَتِيـل
وَفَوْقَ كُلِّ غُصْنٍ طَائِرٌ نُحَاسٌ وَصَرْخَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِخَيْطِ وَهْمٍ يَنْقَطِعُ كُلَّ سَاعَةٍ فَتَنْفَجِرَ الصَّرخَاتُ إلَى غَيْمَةٍ صَخْرِيَّةٍ لاَ تَبْلَى فَتَهْطِلَ حِجَارَةً مِن سِجِّيل :
كُلُّ حَجَرٍ جُوعٌ شَبِقٌ
كُلُّ صَخْرَةٍ مِحْنَةٌ وَامتِحَان
وَلاَ غُفْرَان
تِلْكَ آيَتِـي
قَتَـــلُـونِـــي
مقطع من ديوان "هكذا قلتُ للهاوية"
غبـــار
غبار غامض يغفو على جسدي،
فيشعل ظلي المنسي
في الماء الغريب
لا تقولي.
غيمة رمت غبارها على حقولي،
فاتكأت على غبار غارب،
وظل مستعار.
هُنيهة هاربة.
وغبارٌ حامض.
ووقت مريب.
نسيان
نسيتُ فيها جسدي
وتاريخي،
وأشيائي الصغيرة،
نسيت فيها ظلي
ونجمة الظهيرة،
نسيتني،
فأهوى
- خاوياً مني-
من الأرض الحرام
إلى سماوات مريرة.
فـهل أستعيدُ أزرقي
في لحظة الصفر الأخيرة؟
خراب
لي - في كل بلدة - خراب
أسقيه في الفصول الغابرة
فينمو - في مواسم الأفول -
أشلاء، وحيات، وحمحمات سادرة.
لها دمي وليمة لئيمة،
وذاكرتي له: بيت الغياب.
وفي صباح الموت،
تزهر وردة من التراب.
أقطفها
وأمضي.
امرأة
جسدٌ نحيل
يشعلُ الفراغ بالطيور والبيارق البهيجة.
- هل أسميك خسارتي القادمة؟
تومئ البلاد والطوائف القديمة
والبحار والمدن البعيدة
والتواريخ الخفية لي.
ولي: تصبُّ القهوة في فراغي الليلي.
تحتسيني رشفة فرشفة.
لا أنتهي.
لا ترتوي.
رفعت سلام
من مواليد قرية "منية شبين"، شرق القاهرة في العام 1951.
أسس- في يوليو 1977- مجلة "إضاءة 77" الشعرية، مع مجموعة شعراء مصريين.
مُنح "جائزة كفافي الدولية في الشعر" عام 1993.
له- حتى الآن- ستة أعمال شعرية، وكتابان في الدراسات، وعشرة أعمال في الترجمة الإبداعية والدراسات الهامة في النقد الأدبي، مع مراجعة الترجمة العربية الكاملة لكتاب
"قصيدة النثر" للأكاديمية الفرنسية "سوزان برنار".
يعمل في وكالة "أنباء الشرق الأوسط" بمكتبها في القاهرة.
r_sallam@yahoo.comصدر له شعراً:
"الغربة والانتظار" (بالاشتراك مع حلمي سالم) طبعة محدودة، القاهرة 1972.
"وردة الفوضى الجميلة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1987.
"إشراقات رفعت سلاَّم" (طبعة غير كاملة، مع دراسة لإدوار الخراط)، القاهرة 1987. الطبعة الكاملة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1992.
"إنها تُومئ لي"، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1993. سلسلة "نوافذ"، القاهرة 1996.
"هكذا قُلتُ للهاوية"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993.
"إلى النَّهار الماضي"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998.
"كأنَّها نهاية الأرض"، مركز الحضارة العربية ، القاهرة 1999.
ياسر شعبان
العشـاق
عشيقة الشاعر
من أولها
يا روح الدعابة لا تفارقيني
منذ خمسة وأربعين يوماً
لو قال لي واحد سترى امرأة في محطة مصر
امرأة – ستراها لأول مرة
وقادمة من بعيد
امرأة – لا شيء فيها يلفت انتباه واحد مثلك
امرأة – ستلتزم تجاهها بشعور لا مبرر له
.. .. في مواجهته تماماً
سأسخر من رومانسيته البلهاء
من بعيد .. يا رجل
ولا أعرفها .. يا سلام
وغير ملفتة … مالي والهم
.. ..
يا ملهمتي
لا تتخف أكثر من هذا
لا تفارقي خيالي
تشكلي جسداً يعينني على شحوب روحي
يا روحي يا روحي
تشكلي دقيقة – دقيقة
تكفيني شحومي
داعبيني – عذبيني
أمتعي جسدي
دعيني ألمس كل جزء في جسدك
جسدك الذي سيتعرى
ويتمدد في هدوء أمامي
قبل أن تذيبه رغبتي
قومي
يا ملهمتي
يا رائحتي
يا جسدي
يا روحي يا روحي
.. ..
جسدي …
هذا العظم واللحم والشحم والجلد
هذه الإيماءات المقصودة والمنفلتة
هذا الظل الذي يخلفه
هذا .. ..
يالك من شائع
أين أنت
لست كما وعدتني
لست ما يخصني
جسدي .. .. .. يا أجساد الآخرين
.. ..
قالت – أنا بنت
وأصفر وجهها قليلاً
وترددت الكلمة بداخلي طويلاً ..
ولم أقل لها
أنت من صنع رغبتي ..
.. ..
علاقتي بالتليفون سيئة
فعندما أغلق باب حجرتي
أغلقه دون العالم الذين لا أكرههم
أغلقه في لحظة تؤنسني فيها وحدتي
لا أكرههم
أريدهم كما اختزنتهم ذاكرتي وحواسي
لكنه الملعون – بأسلاكه يتركهم يتسللون إلي
يتسللون .. يفسدون رائحة الهواء بعبق عرقهم
يفسدون ذاكرتي بآرائهم التافهة
يفسدون حواسي بانفعالاتهم المزيفة
التليفون
الجماد – علاقتي به سيئة –
قفزت بواسطته البنت من رغبتي
قفزت بصوتها – بجسدها
قصيرة ودقيقة – وبنتاً
برغبتي
يا روحي يا روحي
-2-
قالت للبنات : أحببت شاعر
قلن : يا حظك
هم يجيدون الكلام الساحر
يجيدون صناعة الأحلام
قالت : أحببت شاعراً
لا يكتب عن الليل والقمر ولا الحدائق والعصافير ولا يكتب: "يا حبيبتي"
شاعر – قال لي : اعشقي جسدي
اعشقي رائحتي
فأنا أرغب في عشق مناطق غير الوجه بشفتيه وعينيه
وغير اليدين وشكل الساقين في الجيبات القصيرة
إنه لا يتنهد ولا "يسبل" عينيه
لا يهمس
قلن: يا حظك
هم يجيدون الإغواء
يجيدون اكتشاف أماكن اللذة
.. ..
يا وحمة فوق السرة تماماً
يا قطرة الشهد فوق السمرة المشربة بدم العشاق
يا حلمتها يا حلمتها
يا عيني ولد تعلقتا للأبد
يا كل المناطق الغامضة
يا قمر بين ربوتين
يا قمر يا قمر
يا حضور ظلها
يا عبقها الذي لا يروح
مالنا والروح
عشيقة الشاعر
يا صغيرته .. دائماً
لو تدرين ماذا يفعل الشعراء بعشيقاتهم
لو تدرين
ما تخليت عن غفلتك
ما دبرت أن تصيري محترفة
ما أنصت للبنات الغانيات
الشعراء يا عشيقتي الصغيرة – دائماً
ترعبهم الانفعالات الزائفة ..
-3-
كتب : لما نفترق سيضعف قلبها
لن يحتمل غيابي
سيشحب جسدها – تماماً وستحلم بي كل ليلة
وتستحضرني لما تمارس الجنس
لحظتها .. لم يكن منتبهاً
عبء "سينغص" عليه حياته
عبء سيشعره بأهميته
عبء سيجعله يسخر من الرومانسية المسكينة
عبء .. وخيبة .. وذكريات
كتب : ولما أقابلها، سيكون جسدها قد تغير، ولن أنجح في تذكرته أبداً
.. ..
الأوراق التي يمزقها المراهقون لا يقدر على تمزيقها سواهم
ولا تعني لهم أكثر من ذلك .... أوراق
فأجسادهم قادرة على حفظ كل الصور .. كل الروائح
لهم : الأوراق .. أوراق
الصور .. صور
ما يحدث .. يحدث
لم يتعلموا – بعد – صناعة الذكريات
حيث ورقة صغيرة – صورة -
رائحة مطوية في منديل
كنز
كنوزنا التي نحفظها في درج لا نفتحه
كنوزنا التي نواريها في الحقائب المهملة
كل ما كان – كل ما تبقى
كل الذي يفاجئنا في مرة بعشيقاتنا
مرة – يتخلصن من أسر الصور
ويستعدن روائحهن
يتجسدن أمامنا
بطريقة تدفعنا لنعيدها كل ليلة
كل ليلة
حتى نلمح في عيونهن تلك النظرة
تلك النظرة التي تجعلنا نتمنى أن نعود مراهقين
وتجعلنا نكره أجسادنا
-4-
أحياناً.. نحتاج أن تكون لنا أحلام بسيطة
أحلام لا نقبل أن يلومنا الناس عليها
ندير وجوهنا للحائط برغبة ملحة في البكاء
لما نشعر بها لا تتحقق
هكذا – نعود رومانسيين
ولا أستطيع أن أقول حمقى
ندخل محلات الهدايا التي هجرناها من زمان
ونشعر بخدر خفيف
ونحن نشير – ثانية - إلى إكسسوارات البنات
الله - يا عنق البنت لما تحيطه سلسلة يتدلى منها جعران صغير
الله عليك يا جسدي يا جسدي
يا كل الذي يفلت من بين أصابعي
فيجبرني على الابتسام
-5-
سيظل العشاق المتخيلون يسكنون بداخلنا
يراقبوننا بشغف طفولي ونحن نعيد أفعالهم
كأنما هذا الولد ظل سيعانق بعد خطوتين ظل البنت
ويفترقان – كما افترقا
ولن تنجح الصور والكلمات
ربما - تساعدنا على استعاده لحظة
ربما – لنشم نفس الرائحة
نرى نفس العينين – النهدين
ونتوتر من حركة أصابع الكف
ربما – تتعلق بعيوننا دمعة
دمعة لها عبق خاص
لنتنهد – وبنفس نبرة الصوت وبنفس التشنج :
إلى متي سنستمر في صنع عشيقاتنا برغبتنا – بروحنا – بدمنا
نصنعهن ليشبهننا – قليلاً
رغم أننا
سنمر عليهن – والله مرغمين –
وكأننا لم نتعر ولما نمارس الجنس
.. ..
إلى متى سنستمر
إلى متى سنتحمل
أشعر بجسدي في كل مرة
يفقد من رائحته
في كل مرة لما تغيب يتلاشى – قليلاً
في كل مرة
.. .. .. يا جسدي
عشاق متخيلون
"صور ومرايا"
-1-
لشكل الوجوه في صور الأبيض والأسود سحر خاص. لو تأملتها قليلاً ستكتشف: البنات زمان كن بفيونكات وضفائر وعيونهن مرخية قليلاً، وستكتشف: الأولاد عشقوهن على هذه الصورة،
عشقوهن بطريقة غامضة دفعتهم لينحتوا وجوههن على الحيطان ويكتبوا تحتها داخل قلوب بسهام : أحباء للأبد .. أحباء حتى الموت
-2-
سنرى ولداً صغيراً يبكي ووجه للحائط، وسنتساءل ونحن نحدق فيه: لماذا يبكي الولد الصغير؟.. بحكمة واندهاش وعطف في الغالب . أتعرف – كنت أبكي لأنني الشريك الصغير في العلاقة الصغيرة بين ولد وبنت .أنا الولد السمين الشاحب الخجول، ذو العينين المغمضتين – فمن يشك فيه أو في أفعاله..، وبدأت أولى محاولاتي للتقمص، وما أفعل يعتبر عيباً، أعرف، وكانا يحذراني من انكشاف أمري. إذن يجب أن أخفي الرسائل جيداً وأسلمها سراً .. فتقمصت دور الولد الخبيث، وكنت مستمتعاً بهذه المغامرة، وكنت أظن أنني نجحت – الله – أنظر: إنه مشهد غاية في العذوبة والغفلة : يظهر فيه ولد صغير سمين وشعره طويل يتحرك ببطء نحو شاب طويل ورفيع يقف مستنداً إلى شجرة ليمون، وأمامه بالضبط يقف متطلعاً إلى وجهه في سعادة، فيمسح على شعره الناعم ويعطيه خطاباً ويهمس ببعض الكلمات .. ليظهر
عليه الارتباك ويدس الخطاب سريعاً في جيب "الشورت" وبلا التفاته يستدير، فيبدو وهو يحمل وجه السادات على صدره، وطنياً صغيراً في طريقه لأداء مهمة وطنية، وتزداد خطواته ارتباكا ويزداد العرق على جبهته .
أمام باب البيت يضع يديه في جيبي الشورت لثوان قبل أن يطرق الباب – وهنا تصل مغامرته إلي ذروتها، فهو يعلم أنهم بالداخل – كثيرون وعليه خداعهم ودائما الجدات والعمات والخالات يجلسن في الصالة. ودائما على الولد الصغير أن يخدعهم وبخجله المعتاد يدخل، وبخجله المعتاد يجلس صامتاً، ومن منظره تعرف البنت التي تكبره بخمسة أعوام .. فتتجه للحمام .. وإمعانا في الخبث يبقي للحظات قبل أن يمرر الخطاب من تحت عقب الباب . أعرفت لماذا يبكي هذا الصبي الصغير ووجهه للحائط؟ ليس بعد – طيب
ولأن كل شيء قابل للتكرار، سنراه على وقفته هذه ووجهه للحائط .. ليشعر بأحد خلفه، يلتفت
سريعاً بلا توقف عن البكاء. وإذا بها بنت في مثل عمره تقريباً، خلفه مبتسمة – لا يفصل بينهما إلا ما يسمح بمرور الضوء من كوة أعلي الجدار ليصنع ظلا من القضبان "هي في الأصل عيدان حطب على الجدار المقابل" وكأنه يراها لأول مرة - فتفاجئه بشفتيها الرخوتين
الحمراوتين وبثدييها الصغيرين وبعينها نظرة غامضة وعميقة وفجأة تختفي ظلال القضبان من على الحائط ويلمس شفتيها بشفتيه، وكان نهداها الصغيران يرتعشان بينهما، وخدر يسري في جسديهما، ولم يعد يبكي ولم يعد منشغلاً بشيء وفي المساء وهو مغمض العينين تماماً، قرر أنه سيحبها
قرأ في كتاب بلا غلاف :
العاشق الصغير
سهل من المشاعر
سماء من الشجن
وأنفاس متقطعات – من الرغبة
ليس واحداً بالتحديد
ستراه في كل مكان
لو انتبهت :
يبتسم مرة برضى ومرة بمرارة
يهز ذراعه بذراعها
أو في الهواء
ستراه –
ربما في صورة أو في سطر
أو في المرآة – لحظة شرود
وستشعر في كل مرة أنها أول مرة
وكأن كل ما مضى يداهمك – فجأة
وبغير رحمة
-4-
من أي ركن سيخرج هذا الطيف
ليحل بالجسد الطافي في أحلامه
بالتأكيد سيخرج كما خرج من قبل
سينتهز التقاءة العينين – صدفة
أو همسة مرتعشة
ويا سلام لو لمسة
من أول لمسة
سيجعل الجسدين يتوقان له
يستعدان له
ليخرج من ركنه
العميق – في الداخل
ومن بعيد
سيبدو الجسد لما يقوم
ممسوساً
سيحل في العينين بريق
وسيكون للصوت ترجيعات – غامضة
آهـ – هذا هو الغموض
من زمان
والأجساد التي تبدو لنا ممسوسة
يحيطها الغموض.
(مقتطفات من نص طويل بالعنوان نفسه)
ياسر شعبان:
من مواليد العام 1969.
حاصل على بكالوريوس طب وجراحة عامة – جامعة عين شمس.
كاتب ومترجم حر بالعديد من الصحف والدوريات العربية المتخصصة.
عضو اتحاد الكتاب المصري "شعبة ترجمة".
yasersh6@hotmail.comصدر له:
"بالقرب من جسدي"، مجموعة شعرية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1997.
"أبناء الخطأ الرومانسي"، رواية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2000.
"أبناء الديمقراطية"، رواية، دار الهلال 2005.
في مجال الترجمة:
"الجبل الخامس"، باولو كويلهو، رواية، دار ميريت للنشر، 2001.
"العين"، فلاديمير، نابوكوف، رواية دار ميريت للنشر، 2002.
"السيد ستون ورفقة الفرسان"، ف. س. نايبول، رواية، دار ميريت للنشر، 2002.
"نصوص 2000 الممنوعة"، مقالات، دار ميريت للنشر، 2002.
"المؤلف ومفسروه"، أمبرتو إيكو، 3 محاضرات، دار سندباد للنشر،2001.
"حكايات الشعوب"، قصص للأطفال، دار الهلال، 2002.
"العولمة والواقع الجديد"، محاضر محمد، دار الكتاب المصري اللبناني، 2003.
"دليل محارب النور"، باولو كويلهو، مركز الإنماء الحضاري، 2004.
جرجس شكري
لـعازر
كان مريضاً اسمه "لعازر"
مات محموماً
وحين علم المسيح
انتظر ثلاثة أيام
ربما ليعطى الأختين وقتاً كى تبكيا
وتقيما حزناً يليق بأخ وحيد.
ثم جاء صارخاً:
قم يا صديقى
فخرج الميت
ورقص كثيرون عند القبر.
وفيما بعد ذهبوا إلى البيت
إذ أقامت الأختان عرساً يليق بالحياة
ففرح الأطفال بالقصة
وناموا مؤمنين.
ثم مرت أيام
كَبِروا فيها بما يكفي لمشاهدة مرضى يموتون
وفى كل مرة
ينتظرون ثلاثة أيام ولا يأتى أحدٌ.
أخوات الميت يصنعن حزناً
يليق بالانتظار
وغالباً ما يأبى المسيح أن يهبط من أيقونته.
فصار البشر يموتون
وبعد ثلاثة أيام
ينساهم الأطفال
كقطعة حلوى.
النشيد القومي
نحن السكاكينَ
لنا شَفرات تصرخُ
ومقابضنا ميتة.
نعرف أننا نَذْبحُ ونمزق
ولا تخدعنا محبة القصَّاب
نبتسم للذبيحة وهى تتألم
فلا تكرهونا
نحن السكاكين الكافرين بكلِّ محبة
خُلقنا هكذا دون قلوب.
وضَعوا مشاعرَنا فى نصلٍ حادٍ
وأوصانا الحدادُ الخالق أن نَذْبحَ وبقوة
حتى لا نموت.
فلا تكرهونا حين نذبحكم
نحن لا نعرفُ الألم
وأيضاً لا نبكى
فقط نذبح
فيرتفع النصلُ الحادُ عالياً
دون خوف.
المطرقة
قالت المطرقة:
لماذا أدقُّ إخوتى هكذا؟
ونظرتْ إلى الحداد فى ضجرٍ
فغضِب بدوره وقال:
كي تكون سيوفاً تمزق قلب الأعداء
شفرات تذبح من يصيبُه الضجر
أشياء كثيرة.
إخْوَتُكِ أيتها الغبية دستور حياة
ثم قذفها بعيداً وذهب غاضباً.
مرت أيام والمطرقة حزينةٌ
وقد مرض إخوتُها بالصدأ
وذات مساءٍ لم يعدِ الحدادُ إلى بيته
إذ سمع المارةُ إيقاعاً ساحراً ينساب من حانوته
أشياء ترقص ثم تكرر الإيقاع أياماً
فهجر النوم المدينة واشتد البلاء
حيث امتنعت آلات الذبح عن قتل إخوتِها من الحيوانات والطيور
ورفضت الآلات الأخرى ممارسةَ أعمالِها.
وكلما غابَ حدادٌ وفتحوا حانوتَه
وجدوه ممدداً كَسَيْفٍ وإلى جواره مطرقةٌ تبتسم.
والأيدي عُطلة رسمية
- 1-
شاهدتُ بعضَهم يشيخُ
وذهبتُ مع آخرين إلى المقبرة.
بكيتُ
ومنحتُهم خالصَ أحزانى.
أيضاً
شاختِ الشوارع
وتلاشتْ بعضُ البيوت.
سترتي التي أحبُّها
ذهبتْ فى نهاية مأساوية إلى المطبخ.
تصدّعتْ جدرانُ معدتي من القلق
وتشقّقت .
ومازلتُ أسكرُ فى نفس الحانة
أنا ويدي اليمنى
التى تحملُ الكأسَ إلى فمي كلَّ مساء
منذ عشرين عاماً
وتنتظرُ أن أشيخ.
-2-
ذاتَ مرةٍ بكيتُ
فلم أجد دموعي
وخسرتُ عيوني إلى الأبد.
ذاتَ مرةٍ صرختُ
فهربَ صوتي وتركني عارياً.
ذات مرة ضحكتُ
فسقط فمى وحيداً
على الأرض.
وذات مرة
وذات مرة
هل كنتُ أنا؟
-3-
وحيداً كطاولةٍ
في بيتٍ مهجور
بعد أن دمّر الغزاةُ المدينة
في بيتٍ خائفٍ
في مدينةٍ حزينة هرب أهلها
وتركوا الطاولات بلا مقاعد
في بيوتٍ خربة
ووحيدة
كبشرٍ بلا مقاعد
هناك
كان وحيداً كطاولةٍ بلا مقاعد.
-4-
كان يصعدُ فوق طاولة
ويكلّم أصحابَهُ أن ينتشروا في الغرف
باحثين عن خطاةٍ تحتَ المقاعد يحتاجون إلى توبة
ثم …
مغفورةٌ لكم خطاياكم.
وحين لا تستطيع المقاعدُ أن تحملَ نفسَها
وتقبّل قدميه، يصفقُ أصحابُه، يخبرونه بأن السلالَ فارغةٌ
بعد أن أكلت الكلابُ آخرَ رغيفٍ،
فيدعو على هذه الأرض بالخراب
وتبكى يداه
إذ يسمع الحوائطَ تتفق فيما بينها كي تسلمه وتنجو بروحها
وهنا
تغْلِق النوافذُ نفسَها
تنشق الطاولةُ نصفين
ينقطع تيار الكهرباء.
وبعد أن تأتي أمه وتنهَرَه على هذه الفوضى
يسقط الممثلُ ضاحكاً.
-5-
في الكنيسة الفارغة
إلهُ حزين
يشكو ضجرَه للمقاعد.
شموعٌ تحترق بلا مصلين
في الكنيسة الفارغة
الوحشةُ والصلاة
يجلسان سويا
في مقعد فارغ.
-6-
لم أحلم
حملت رأسي وذهبتُ إلى النوم
هناك كان أعمى يكلّم مصباحاً
عن خيط يتنزهُ فى ثقب إبرة
وشمسٍ تجرهُ من قدميه إلى حيث لا يدرى.
حذاءٌ يطاردُ متشرداً آخر الليل ويصرخ:
أقدامي بلا تاريخ.
سكين يطعن قصَّاباً
ويعلن التوبة.
هناك كان قميصي وحيداً
يصرخ في حبل الغسيل
إلهي إلهي لماذا شنقتنى؟
لم أحلم
هرب رأسي
وثمة معرفةٌ تسد الطريق على أحلامي.
-7-
أمس كانت الجنازة
احتفظنا بالفقيد
ولم نستطع البكاء.
بعد أن تصدّعت المقبرة حزناً
صرخ المشيعون:
الطريقُ ثقيلة
والأقدام خاوية
لم نسألْ
صارت العيون أحجاراً
والأيدي عطلةً رسمية.
جرجس شكري:
من مواليد مدينة سوهاج في العام 1967.
يعمل صحافياً في مجلة "الإذاعة والتليفزيون" وعدد من الصحف المصرية الأخرى.
girgisshukry@hotmail.comصدر له:
"بلا مقابل أسقط أسفل حذائي"، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة 1996.
"رجل طيب يكلم نفسه"، دار "شرقيات" بالقاهرة 1998. "ضرورة الكلب في المسرحية"، 2000.
"والأيدي عطلة رسمية"، دار "شرقيات" بالقاهرة 2004.
محمد صالح
الخصيان
كانوا يرتدون ثياباً تكشف عوراتهم بطريقة متعمدة
وفي مفترق الطرق إلى حيث يمضون
كانوا يتبادلون عناقات حارة
وصوراً وأدوية وعوازل طبية
وكل ما يصطنعه الرجال في تجاربهم
وبعد كل ما جرى
كانوا لا يزالون
ممتلئين شهوة.
الموتى
منذ صارت المقابر أحد أحياء المدينة
وهؤلاء الموتى لا يكفون عن إثارتي
أمس خدعني أحدهم أيضاً
قال إنه رتب كل شيء
وإنه يتحدث عنهم جميعاً
وناولني صكوكاً مذيلة بتوقيعات وأختام
الصكوك الصفراء اللعينة التي يتركها الموتى عادة
وقبل أن أجد الكلمة المناسبة
كان قد تحصن في ابتسامته الراضية
ومات
مثلما يفعل عادة
هؤلاء الذين أراحوا ضمائرهم.
الغبار
كان دائماً هناك
النافذة موصدة
لكن ضوء الغرفة يلوح من بين خصاصها
ضوء الردهة أيضاً كان يتسلل من تحت الباب
ويستقر على أحذيتنا
لكن الباب ظل موصداً
مسحنا الغبار على صفحته وكتبنا أسماءنا
وفي المرات التي أعقبت
كانت رسائل أخرى قد تركت هناك
وكان ضوء الردهة يزداد سطوعاً
ينفذ من شقوق الطلاء
ويلتمع في ارتعاشات مذهبة على ستراتنا
وكنا نسمعه في الداخل يتجول وحده بين الغرف
لكن الباب ظل موصداً
والرسائل الكثيرة التي تركت هناك
يغطيها الغبار.
شروع في قتل
كان حريصاً ألا يترك شيئاً للصدفة
فعندما يجدون ملابسه على الشاطئ
سيجدون الرسالة
والسكين معها
سيقول إنه شرع في ذبح نفسه لكن قلبه لم يطاوعه
وعندما يشرعون في البحث عن الجثة
سيأتي هو من الخلف
وقد تنكر في هيئة غريبة
وملابس أخرى
يقف وحده هناك
حيث غرس السكين في الرمل
ويتابعهم وهم يقفزون في الماء
ثم يخرجون بالجثث الغريبة المنتفخة
إلا جثته هو
وعندما يمددونهم هناك
ثم يبدأون أخيراً في التعرف عليهم
سيتمنى لو أنه فعلها
ويندس بينهم.
السيدة
هذه السيدة
لا تتصور نفسها وحيدة بدونه
تموت رعباً لأنه يهمل صحته
ويسرف في التدخين
وتلاحقه بوصاياها حتى يختفى في بئر السلم
ثم تجري إلى الشرفة قبل أن يستدير هو حول البناية
لتراه في الشارع
من ظهره هذه المرة
يبدو ذاهلاً وأكثر نحولاً
وعندما يميل وتلتقي عيناهما
يرى دموعها هناك
في مكانها على قوس الخد
وهذه السيدة
لديها أسباب
وتلتقي عيناهما.
محمد صالح:
من مواليد العام 1942.
أحد شعراء جيل السبعينيات، لكنه لم يشارك في الحركة الثقافية المصرية إلا بعد صدور ديوانه الأول عام 1984.
diwan.ef@hotmail.comصدر له:
"الوطن الجمر" 1984.
"خط الزوال" 1992.
"صيد الفراشات" الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996.
"حياة عادية" 2000.
"مثل غربان سود" دار ميريت 2005.
أحمد طه
حائط الطفولة
1
لأنك كنت تتسلق سريرك
كما تتسلق سطح قطار قديم
وتتركه بقفزة واحدة
كجندي من جنود المظلات
دون حتى أن تدعك عينيك
إذن
فقد كان لك وطن حقيقي.
2
لأنك كنت تغسل وجهك وقدميك
بقبضة واحدة من المياه
وتبول فوق رؤوس الخنافس
دون أن يبتل حذاؤك
الذي يرقد بين طعامك وكتبك
إذن فقد كان لك وطن حقيقي.
3
لأنك كنت تملك قطة مليئة بالبراغيث
وصديقة يخلو شعرها من القمل
ويلمع بحبات الكيروسين
ومدرسة تحمل عصاها
رائحة أصابعك
إذن
فقد كان لك وطن حقيقي.
4
لأنك كنت تلبس مريلة من الدمور
بها بقعتان من الحبر الباهت
وعدة خطوط تتقاطع كلها في الصدر
لكنها لا تشبه تلك الخريطة
التي كنت تحفظها عن ظهر قلب
إذن
فقد كان لك وطن حقيقي.
5
لأنك كنت تجيد قذف حجارتك على الأعداء
من المدرسين وعيال المدرسة المجاورة
وكنت تتسلل إلى حديقة الرجل الغني
دون أن يصفع قفاك
سوى مرة واحدة
إذن
فقد كان لك وطن حقيقي.
6
لأنك كنت لا تحفظ سوى الفاتحة
و"قل هو الله أحد"
وتترك صلاتك
وقد بعثرتهما على سجادة الجامع
قبل أن يعرف الله أنك لم تتوضأ منذ جمعتين
إذن
فقط كان لك وطن حقيقي.
حائط التكوين
ذات صباح
استيقظ فلاح
ونظر حواليه
فلم ير دخاناً يحوم حول أسقف البيوت
ولا نيلاً يتأرجح على رؤوس البنات
ولم يسمع امرأة تغني لطفلها الصاحي من الموت
ولا رجالاً يسعلون، فتخرج من صدورهم روائح الزوجات
ولم ير تراماً له مؤخرة من العيال
ولا عفريتاً يقهقه عائداً إلى القبور
وهكذا
قرر أن تكون شبرا
تماماً كما رآها في أحلامه
فكانت شبرا.
ذات صباح آخر
استيقظ ملك
ونظر حواليه
فلم ير ستائر تحجب سريره
ولا علماً يرفرف بجوار نافذته
ولم يجد فخذاً ناعماً بين ساقيه
ولا سجادة تغطي الأعشاب بدورة المياه
ولم يسمع همهمة الحراس
ولا قعقعة سلاحهم
وهكذا
قرر أن يكون ملكاً على شبرا
تماماً كما كان في أحلامه
فكانت مملكة شبرا
وكان علمها المصنوع من لفائف الأطفال
ومحارم النساء.
ذات صباح آخر
استيقظ جنرال
ونظر حواليه
فلم يجد خندقاً حول سريره
ولا قماشاً كاكياً على جسده
ولا خنجراً تحت وسادته
ولم ير حدوداً يدافع عنها
ولا أعداء يحاربهم
ولا خريطة يشير إليها بعصاه
وهكذا
قرر أن يكون جنرالاً لشبرا
تماماً كما كان في أحلامه
فكانت جنرالية شبرا
وكانت حدودها التي تمتد من تمثال رمسيس جنوباً
إلى موقف الترام شمالاً.
ذات صباح أخير
استيقظ ديكتاتور
ونظر حواليه
فلم يجد ثورة تثقل حقائب التلاميذ
ولا حرباً وطنية تقلل رواد المقاهي
ولم ير خونة يأمر بإعدامهم
ولا مؤامرة تحبطها أجهزة الإعلام
ولم يسمع شعاراً يعبئ الجماهير
ولا أغنية تتحدث عن فحولته
وهكذا
قرر أن يكون زعيماً لشبرا
تماماً كما رأى في أحلامه
فكانت شبرا
أول عاصمة في التاريخ
للعالم الثالث.
حائط الفوت
بغير مبالاة
تدفعين شعرك الأسود إلى الخلف
وتطلقين أحلامي
بأي حق إذن
تحبسينها في الليل تحت سريرك
وأنت صاحية تنتظرين موتها
ليس عندي ما أحكيه لك عن ماضيَّ
حتى تنامي
فتنفرج الأحلام
كل ما أذكره أنني ولدت هكذا
ذئباً لا يجيد حتى العواء.
ولكنه يحلم كثيراً بالفرائس
جنرالاً، يتسول انتصاراته على أطراف المقاهي
وعلى صدره تتزاحم الأوسمة
كقطيع من النمل
ربما كنت جنرالاً عريقاً
حين أطلقت رصاصاتي على صدرك
وربما كنت لصاً محترفاً
حين فكرت بما تحت بنطلونك القصير
لكنني أريد وساماً حقيقياً
ومعارك هائلة ربما تستمر لسنوات
تكفي لموت سائر الجنرالات
وهدم سائر المدن
وهزيمة كل المتحاربين
سواي
سوى ذلك البيت المترهل
الذي تتعلق بحوائطه ملابسك الداخلية
وترقد بأركانه أحذيتك الغليظة
حينئذ
سوف أعجنه بيديّ ليصير كالسدادة
وسوف أطرقه على رصيف مهجور ليكون كالوسام
وسوف أرفع تلك الملاءة التي تغطي سريرك
لتصير علماً
وحينئذ
سوف أضع الوسام على صدري
والعلم تحت رأسي
وأنام.
أحمد طه:
من مواليد القاهرة في العام 1950.
تخرج في كلية التجارة.
شارك عدداً من شعراء السبعينيات في تأسيس جماعة "أصوات" الشعرية.
أسس مجلة "الكتابة السوداء" والتي توقفت بعد صدور عدد واحد منها.
أسس مجلة "الجراد" مع عدد من الشعراء أوائل التسعينيات، وتوقفت بعد صدور ثلاثة أعداد.
diwan.ef@hotmail.comصدر له:
"لا تفارق اسمى" 1980.
"الطاولة 48" 1992.
"امبراطورية الحوائط" 1994.
كريم عبد السلام
فى بحيرة حمراء
كنت عائداً من بيت حبيبتي
عندما قطع "إسماعيل" بائع الخضراوات عضوه
ثم جلس حافيًا فى بحيرة صغيرة حمراء
يُطوّح بالمطواة فى نصف دائرة من الهواء
والناس ملتفون حوله.
لا أذكر اللحظة التي قررت فيها أن المشي أفضل من القفز فى عربة.
تشاجرنا، ثم توصلنا إلى معادلة الأداء الجيد للحب:
أن يكون الرجل عازفاً
وأن تكون المرأة موجة
شربنا، فتوصلنا إلى الأرواح اللطيفة داخل البيرة،
وكيف يمكن التودُّد إليها، كي ترفعنا معها عن الأرض.
كنت طافيًا على الإسفلت، أرى العالم مغسولاً،
رغم النمل فى رأسي، ورغم الهواء البارد فى الشوارع
أشعر بسعادة من ظلّ مستيقظًا طوال الليل
ليستقبل فى الصباح وجوه من غلبهم النوم
فلم يروا شيئاً.
الآن، أعبر الشارع أمام "إسماعيل"
ولا أستطيع الإفلات.
أرواح البيرة، ترتفع عن الأرض بمفردها دائماً
ولا أثر للتعاويذ
النشوة من انتصار لساني على لسان حبيبتي،
كانت أداة من يريد التسلية بالسخرية منّي،
ليراني أُمثّل عارياً دور "ريتشارد" قلب الأسد
وهو يقود معركة الكلام.
الآن رأيت الخوف فى عيون الرجال الكواسر
من أن يُضطروا إلى قطع أعضائهم.
يفتحون العالم بفحولتهم
وعندما تختفي،
تختفي معها ضحكاتهم البرية
ثم يختفون تدريجياً.
رأيت "إسماعيل" يُطوّح بالمطواة
فى نصف دائرة ليمنعهم من إسعافه
رأيت ذراعه ترتخي
ورأيت الزبد على شفتيه
رأيت المرأة التي حملت عضوه فى طرحتها البيضاء
فظهرت بقعة حمراء على البياض
ورأيت يد الشاب الذي اقترب من ذراعه
فى دورتها الأخيرة،
قبض على المعصم كمن يتلقى شيئاً من الهواء
فظهر الاختلاف بين لون اليدين المتقاطعتين.
رأيت "إسماعيل" يقاوم لحظةً
ثم يلوي نصل المطواة
ويضغط عليها بين أصابعه.
اللحظة المناسبة
فى الضوء الساطع لشمس الظهيرة
فى الدفء الذي يعمُّ الجميع
هناك من لا تعرفه، يعبر الشارع
أو يتقدم من شارع جانبي
فى خط مستقيم باتجاهك
لينشب أظافره فى وجهك
البكاء على القسوة التي أصبحت عليها
أخفُّ وقعاً من تحطم ضلوعك
أو ضياع أسنانك.
الجميلة
رأيتها على الرصيف، قبل أن يحملوها مباشرة
فى ذلك الصباح الذي طلع عليّ فى الشارع.
كانت امرأة،
يثبت ذلك استدارة الساقين المكشوفتين
والردفان العريضان.
وسط المارة المتحلّقين حولها
وسط صيحات رجال الإسعاف وأمناء الشرطة،
استطعت تمييز رسغيها،
ملامحها غابت عني، إذ كان وجهها باتجاه سور المبنى
على الرصيف، فلم أر ملامحها.
اعتادت أن تنام فى هذا المكان،
واعتاد الكناسون إيقاظها فتمضى مسرعة،
كمن اقترب موعد سفره
لكنها لم تستيقظ اليوم،
رغم كل محاولات الكنَّاسين،
فغطوها بجريدتين جديدتين، وتعمدوا إخفاء وجهها
حتى لا تتعكّر الحياة الجميلة.
ثم جاءت عربة الإسعاف
وجاءت المشرحة
وجاء الحارس على مقابر الصدقة يفرك كفيه باسماً
وجاء طلاب الطب بمباضعهم المسنونة
وأنا،
رأيتها قبل أن يحملوها مباشرة.
جنودي الأعزّاء
أخطط لتأليف جيش
جيش حقيقي من ألوية وكتائب وسرايا
له أركان حربه وله أعمدة أسلحته،
جيش مفاجئ
من الشحاذين والعجزة والمجانين والمرضى اليائسين
ينال الاستهزاء بدلاً من الرهبة
الإشفاق بدلاً من الخوف
وهذا سر قوته
من أجل ذلك أحتفظ بالنقود الصغيرة فى جيبي
وفى يدي
وعلى طول طريقي من البيت وإليه
أنثر القروش وكسر الخبز
فى يد الكسيح
وفى يد الشوهاء
فى يد العجوز
وفى يد الزاعق دائماً
فى يد المرأة الباكية
وفى يد الشحاذ المتخفي
وفى أيدي الأطفال المؤجّرين
فى يد الشيخ الذي لفظه أبناؤه
وفى يد حارس المقام
وفى يد الداعرة
وفى يد المسطول
وفى يد الأعمى صاحب الكلب والقط.
جنودي الأعزاء، أؤلف بين قلوبهم
وأستعد بهم لمعركة فاصلة ما
لابد أن تقع
بين عالمين
بين حياتين
بين ليلين.
أطوف الشوارع بحثاً عنهم، أُدوّن صورهم
وأمنحهم ربتة على الظهر وابتسامة تشجيع
لا أنفر من قذارتهم
ولا أضيق بأمراضهم وحشراتهم
أُقبّل تشوهاتهم وبتراتهم بعينين مغرورتين بالدموع
وأنا أتخيل سلاماً وطنياً جديداً يُعزف
وهم ورائي، وأنا أرتدي بذلتي العسكرية المزخرفة بكافة
النياشين والأوسمة فى كل قرية جديدة أدخلها
وفى كل ميدان نحيطه بعصيّنا وسكاكيننا وجوعنا
وعلى كل كوبري نُغلقه بحواجزنا
ونفرض عليه ضرائبنا ونهمنا لكل شيء.
العدّاء
يعدو من سطح إلى سطح
بقامته الفارعة ولحيته وقدميه الحافيتين،
لا يوقفه سوى بيت عالٍ
أو سطح يشرف على فضاء.
لحظته السعيدة، عندما يتجاوز الأسوار الصغيرة للأسطح المتجاورة،
صانعاً منها مضماراً كبيراً للعدو،
لا يلتفت أثناءها للحجارة التي تلاحقه
أو للشتائم،
يدقق ويقيس المسافات، ثم يجري
من جديد في مضماره الذي اكتشفه،
متجاوزاً الحاجز بعد الحاجز ذهاباً وعودة.
إن ينهره سكان المنازل،
يعود ليلاً إلى سباقة الخاص،
يعرفون ذلك من الخيول الطليقة فوق أدمغتهم،
والصيحات المبهمة التي لا تنقطع طوال الليل.
كان منظراً مؤثراً،
حين طُليت الأسطح بالقار المغلي
ثم تركه الناس يصعد إلى سباقه
بعد أن مُنع الأطفال من تحذيره
أو متابعة ما يحدث.
كريم عبد السلام
من مواليد مدينة المنصورة في العام 1967.
نائب رئيس تحرير مجلة "سطور" التي تصدر بالقاهرة.
أصدر قبل عدة أعوام مجلة "شعر" على نفقته الخاصة، وسرعان ما توقفت بعد صدور ثلاثة أعداد فقط.
kareemzed@hotmail.comصدر له:
"استئناس الفراغ"، على نفقة الشاعر 1993.
"بين رجفة وأخرى" الهيئة المصرية للكتاب 1996.
"باتجاه ليلنا الأصلي" دار الجديد، بيروت 1997.
"فتاة وصبي في المدافن" دار الجديد، بيروت 1999.
"مريم المرحة" نشر ألكتروني على موقع جهة الشعر 2004.
تحت الطبع:
"نائم في الچوراسيك بارك" مجموعة شعرية.
"سهرة مع مدام دراكولا" مجموعة شعرية.
"يا صورتي لدى الأعمى" مجموعة شعرية.
عاطف عبد العزيز
خطورة أن يكون حذاؤك متّسخًا
لا تنتظرْ حبيبتكَ هنا يا محترمْ !
هذا المكانُ مخصّصٌ لمكافحي الشغب ،
كما أن الشمسَ ستسخنُ عما قليلٍ
فوق هذا البلاطِ الرماديِّ الذي رصفته الحكومةْ.
امشِ إلى المستطيلِ الذي ترسمه المظلّة هناك
على الرصيفِ المقابلِ
أعني .. عند مدخلِ الحانةِ،
سيمكنك على الأقلِ مراجعةُ هندامكَ في زجاجها النظيفْ ،
وأنتَ تتلقّي الهواءَ الباردَ الذي قد يتسرّبُ
من فَرجةِ الباب.
أنصحك:
لا تطالعْ ساعتك على هذا النحوِ الهستيري،
وإلا تعرضتَ للشبهةِ،
أو صرتَ مادةً للتندّرِ في أفضلِ الأحوال.
أيضًا
عليك التخلّصُ من هذا "الجورنالِ" المطويِّ في يدك،
والذي تهرّأتْ حوافهُ
استبدلْ به أيَّ شيءٍ
أيَّ شيءْ،
مثل كيسٍ بلاستيكي يحملُ علامةً تجاريةً شائعةْ،
مثل مكواةٍ منزليةٍ ذاهبةٍ إلى الصيانةْ.
لا تنسَ:
احرصْ على بقاءِ الحذاءِ لامعًا
حتى يتأكّدَ الجميعُ من كونكَ شخصًا عديمَ الفضول،
شخصًا غارقًا في أحوالهِ،
ولا تنتظرْ حبيبتكَ هنا
..
لا تنتظرْ أحدًا.
الكيت كات(10)
تحبُّ الموسيقى !
لكنكَ لستَ بالخياليِّ الذي يستبدلُ بهجتَهُ بالبيوتِ المِلْك، لهذا لا تستحقُّ دورَ الأزهريِّ الأعمى، الذي فضَّ لـ"راجح داود"(11) أسرارَ الكائناتِ في "فضل الله عثمان"(12).
تحبُّ البراءة !
غير أنكَ مصابٌ بالأرقِ المزمن، فلن تكونَ يوسفَ المعشوقَ في غفلته، ولا عاملَ الفِراشةِ الذي هدَّه التعب، ونام على صندوقِ الفضائح .
تحبُّ الحياة !
إذن لن يناسبَكَ الرجلُ المرفوعُ على عربةِ اليد، بعدما أبدلوه بالقِدْرِ في المشهدِ الشعبي .
أنتَ أقربُ ما يكونُ إلى مراكبيٍّ اعتادَ أن يأخذَ قيلولتَهُ في ظلالِ العوَّامات، بل أنتَ أقربُ ما يكونُ إلى منسِّقِ المناظر .
هي "الكيت كات" نائمة ولا أحدٌ يرانا، قامت العماراتُ والحقولُ تراجعت إلى ما وراء المجرى الملوَّث، أما الصداقةُ بين عيدانِ الذرةِ والمراهقينَ القُدامى، فإن شروطها تبدَّلتْ وانتهى الأمر.
كوِّنِ الكادرَ بما يشبهُ روحك الواقعيةَ المفرطة، هذا ما عليكَ: ابدأْ بالواجهاتِ الكالحة، ثم الأسطحِ المليئةِ بالهوائياتِ وبالجِرارِ وبالدجاج، وفي النهايةِ، ضَعِ الهدومَ التي يتنازعها الهواءُ والمشابكُ الخشب .
الجنازات(13)
سوءُ الفهمِ ضدَّ سوء الفهم.
هكذا رتَّبَ "بوجِدْرة" المشهدَ الجزائريَّ بسرعة، ثم قام إلى قهوته مرتاحَ الضمير، على مظنةِ أن العدالةَ سوف تأخذُ مجراها تلقائيًا، لكونها الأخت الصُّغرى لمبدأ الانتخاب الطبيعي، أي أن البرابرةَ سيندحرون بالوقت.
فتاةُ البحثِ الجنائيِّ فقط هي التي كان لها رأيٌ آخر، إذ أثبتتْ دون قصدٍ أنَّ اقتناءَ الأعضاءِ البشريةِ المُجَفَّفة جزءٌ أصيلٌ من الثقافةِ الغاليَّة، تلك التي كانت ولا تزال تحلمُ بتخليصِ قبرِ الربِّ من أيدي الوثنيين.
يستحقُّ الرجلُ إذن براءةَ اختراعِ الحريَّةِ عن سارة هذه، التي غافلتْهُ وأفلتتْ من النص، حين فضَّلتْ لفظةَ (النَيْك) بفضائها الصحراويِّ اللافحِ على نظيرتها الفرنسيةِ المعتبرةِ (فِعْلُ الحُب).
البنتُ بفطرتها – أو ربما بخبرتها - أيقنتْ أن الكلامَ عن الحبِّ طقسٌ شماليٌّ خالص، دائمًا ما يذكِّرها بالعاجزين عن الحب.
الغروب في إشبيلية
صديقتهُ الإسبانيةُ دارسةُ الأدب
عادت إلى الوطنْ.
ما الذي يقودهُ إذن إلى هذا الشارعِ العريضْ!
إلى تلك البنايةِ ذات الطوابقِ الخمسةْ،
والحديقةِ الضامرةْ!
لماذا يتجنَّبُ رفعَ وجهِهِ إلى الشرفةِ المطفأةْ!
الحب!!
أين سمعَ الكلمةَ من قبلْ!
سيقولُ في نفسِهِ أشياءَ عن السأمِ،
أو أشياءَ عن العادةِ ،
وهو جالسٌ على مقعدٍ حجريّ
يرسمُ بحذائِهِ الأشكالَ في الترابْ.
يمكننا أن نلقيَ في طريقهِ ورقةً مطويةً،
بها طائفةٌ من الاقتراحاتْ:
1- إصبعٌ من الروجْ،
كي يلعقَهُ كلما أدركه الليلْ.
2- زجاجةُ أورجانزا،
للإفاقةِ حين تدهمُهُ الأزمةْ.
3- لوحةٌ من الكانافاه،
تصوِّرُ مصارعًا للثيرانِ في قميصهِ الأبيضْ
أخيرًا – دميةٌ،
دميةٌ من الكاوتشوكْ ،
تكونُ كفيلةً بإعادةِ الأدرينالين إلى مستواهِ الطبيعيّ.
هل اقتربنا من الحل؟
تبقى مهامٌ أخرى:
عليهِ أن يدبِّرَ أسطوانةً للَّحْنِ المجهولْ
الذي كانت تترنَّمُ به عاريةً:
الجيتارُ في حِجْرِها،
السيجارةُ في فمِها،
اللحنِ الذي كان يتحدَّثُ عن الغروبِ في آشبيليةْ.
عليهِ أن يجدَ بدائلَ عاجلةً لارتجافتهِ
في حضنها.
عليهِ
أن ينسى التماعةَ العينِ
وهي تتبعُ الدخانَ في دوائرهِ الصاعدةْ ،
أن ينسى
الحمرةَ الخفيفةَ بين الحاجبينِ البنِّيينْ.
المسألةُ مرهونةٌ بالوقتِ ربَّما.
كم من الوقتِ يحتاجُ المرءُ للإقلاعِ عن عاداتهِ الرديئةْ؟
كم من الوقتِ يحتاجُ كي ينتَبِهَ أنَّهُ في المصعدِ يدوسُ الزِرَّ الخطأْ؟
وأن الدَوْرَ الثالثَ في البنايةِ
صارَ دورًا ثالثًا؟
دورًا ثالثًا بالمعنى الحرفيِّ للكلمةْ.
عاطف عبد العزيز
مواليد القاهرة في 17 ديسمبر 1956.
أسَّسَ مع آخرين مجلة "إيقاعات" عام 1993.
يعمل مهندساً معمارياً ومديراً للمشروعات.
atef1956@hotmail.comصدر له:
"ذاكرة الظِّل" عام 1993 عن كتاب إيقاعات.
"حيطان بيضاء" عام 1996 الهيئة العامة لقصور الثقافة.
"كائنات تتهيأ للنوم" عام 2001 دار ميريت للنشر.
"مخيال الأمكنة"، 2005 دار هوامش.
قيد النشر:
"تحديقةٌ في الفراغ"، ديوان شعر.
"الثريات والظلال"، ترجمة.
ياسر عبد اللطيف
روك آند رول
"خلِّ عينيك على الطريق ويديك على عجلة القيادة...."
هذا لحن بلوز عنيف مناسب للطرق السريعة
يصلح أيضاً لغرفتي بكتبها الكئيبة وغبارها
لتختفي تحت إيقاعاته الوحشية صرخات شبقها
ضغطة على مفتاح التشغيل
فتنطلق الموسيقى
في ضجيج قطار يتقدم من نفق نحو الهاوية
الهاوية غير منظورة
لكنها آتية لا محالة
من لوس انجيليس- كاليفورنيا .. "ذا دورز" ...
كنت أحبها
وتحب صديقي
أعرض عنها
فجاءت لي
نحتاج إلى نصف لتر من خمر الصبار
نجرعه من الزجاجة دون ملح أو ليمون
نحتاج إلى فئران لتأكل أطرافنا
نحتاج إلى أن نختفي
وهي فوقي كتركة من الديون
أخذتها سريعاً
في دفقة حب خاطفة
تركتها تمسح إخفاقنا الرائع
في جورب مهمل على الفراش
باب الغرفة لا يوصد بإحكام
لم أعد أحبها
وجهاز الستريو وإن صنع في الصين
يفي بالغرض
"خلِّ عينيك على الطريق ويديك على عجلة القيادة..."
كان موريسون شريكاً كاملاً في الجريمة
وثمة أطباق اصطبغت ببقايا حساء الطماطم
طار الجورب حتى نهاية الغرفة
بينما أبي في الخارج
يتناول غداءه هادئاً
في تلك الظهيرة الحارة
من صيف 1997.
شارع الموت المؤجل
اجتزت قبوين
بقرميدهما وأحجارهما..
قدمي تتلمس في الظلام كل بلاطة تتعرفها
كي لا تزل، فأسقط في هاوية الأوحال..
وفي الصحو كما في الحلم
السابعة صباحاً بشارع السيارات المُكفنة
أغطية كالحة من الدمّور والدَبَلان
تقي السيارات البردَ، وغبار الأيام..
الموظفون المستورون لا يستيقظون قبل الثامنة.
اشترى " اللادا" ذات الصاج الروسي المتين
ليضعها في وجه الحياة.
لا تأمل العين في ذلك الشارع أكثر من "الثمانية والعشرين"
وذات "الفيورا" وما تيسر من "الآر" و"الرمسيس"
تفضحها هياكلها تحت الأغطية الرثة..
هنالك "فولكس" خنفساء فاقع لونها
تقبع عارية تحت الندى..
وفي الصحو كما في الحلم
احتلت السيارات الهوامش الجافة للطريق
السيارات تحت أكفانها
وليعبر الأهالي وضعوا أحجاراً بعرض الشارع تبرز من المياه
السابعة صباحاً
ومديرو العموم يغطون لا زالوا في نومهم
كنت أرفع أرجل بنطلوني بينما أعبر بحذر.
ابتل نصف حذائي الذي أجهدته تلميعاً
على الرصيف الآخر طفلة صغيرة
في مريلة "تيل نادية"
مجرد طفلة صغيرة، لا أقول جميلة ولا فقيرة
ابتسمت لذهولي بحذري عما سواه
وكان السقوط رهيباً.
العجّان
بينما يهجع المخبز الإفرنجي بين ورديتين،
وتنام النار في بيتها قليلاً،
دفق بوله أصفر ساخناً،
في جوال الدقيق المنخول.
الجوع
لماذا لا أجرب أن آكل شيئاً جديداً
كخارطة السودان مثلاً
أو آكل دلتا مصر في قطاع طولي
من افتراق الفرعين حتى المصب
بالطمي المتراكم عبر ملايين الأجيال
أو آكل مكتبة هائلة
تغص بالكتب الضخمة عن الروح
أو قاموساً للغة الفرنسية
حتى تطفر الدموع أحرفاً من عيني
لماذا لا آكل امرأة رائعة الجمال
نيئة إلا من أنوثتها
لماذا لا آكل مخزناً كاملاً
لصواميل الصلب الخاصة بالمحركات الثقيلة
لماذا لا آكل حزباً شيوعياً
أو مدينة بأكملها ولتكن دمشق الشام
لماذا لا آكل شيئاً كقاعة "سيد درويش" التي بأكاديمية الفنون
لماذا لا آكل شيئاً نسيته بأحد الأحلام
وبحثت عنه سدى في حلمي التالي
قرصني الجوع ولا زلت أسافر
وأنا زاهد فيما تأكلون.
رومانس
تماثيل منمنمة
في حجم راحة اليد
من بللور ورخام ناصع
تهوي من شرفة عالية
على بلاط الحديقة
الملكة تسير وحدها في الحديقة
حافية القدمين على العشب الندي
بردائها الأبيض حد ركبتيها
والقمر يحيل ليل الحديقة نهاراً فضياً
قطة سوداء تموء كصفارة إنذار
محصورة في منور برج شاهق
جدرانه ملساء كمصير محتوم
فهل يصلح المواء أداةً
لنقب ثغرة في جدار اليأس
أحلم بالقطة بينما أحاول نقب ثغرة
في جدار نومي
أعبر منها إلى الجهة الأخرى ..
ياسر عبد اللطيف
من مواليد أسوان في العام 1969.
تخرج في قسم الفلسفة جامعة القاهرة 1994.
يعمل بالتليفزيون المصري منذ 1998 في مجال كتابة البرامج.
كتب سيناريو الفيلم التسجيلي "مواطن صالح من المعادي" إنتاج مستقل ومن إخراج نادر هلال، وقد عرض الفيلم بأكثر من مهرجان في مصر وفرنسا وبلجيكا.
كتب سيناريو الفيلم التسجيلي "طريق النسر" عن الروائي المصري إدوار الخراط من إخراج بهاء غزاوي.
Yaser.latif@hotmail.comصدر له:
"ناس وأحجار"، شعر، طبعة مستقلة 1995.
"قانون الوراثة"، رواية، دار ميريت للنشر 2002.
تحت الطبع:
مجموعة شعرية بعنوان "طريق التبغ".