@hassanbalam#بيت_النص_الشعرى#مختارات_قصائد_النثرعَارُ «السِّيرْ إدوارد فاريل»
محمود قرني *1
السِّير “ إدوارد فاريل “ ما زال يشعرُ بالعار
يدُه المرتعشة
ووجههُ المُصْفَرُّ مِنْ أثَرِ الصدمةِ
يبدوانِ كمنديلٍ مَلْمُومْ
فَقَدِ اعتَبَرَتِ المَلِكَةُ
أنَّ الضرطةَ التي أفْلَتَتْ مِنه
، وهو ينحني ليُقَبِّلَ يدَها،
تُمَثِّلُ بالضرورة رأيَهُ في سياستِها
وهكذا.. كان منفاهُ البعيد
خَلْفَ مدار السرطان.
2
في أقصى الجنوب
شَرِبَ حتَّى ثَمِلْ
واستمتعَ بثرثرةِ جاراتٍ سمراواتٍ
كُنَّ يَقْرُصْنَ الغِلْمَانَ عَلَى الجسر الخشبي
يَنْشُرْنَ أثداءهُن تحت ضوءِ الشمس
ويكتبنَ فوقها:
تَعَالَوْا أيها العَطْشَى..
مِنْ هُنا يجري حليبُ الرُمَّان،
لكن الرجل الأبيض “ فاترَ المِزَاج “
كان يخشى عَلَى دمِه الأزرقَ مِنَ الاختلاط
فَيَقُلْنَ له:
أيها الدُبُّ الأبيض
صُب ماشئتَ مِن دمنا
في كُوبِك الذهبي
لكن عليك أنْ تَحْذَرَ خُيَلاءَكَ
وأنت تدوسُ بِنَعلِكَ في الأراضي السوداء.
3
في مصرَ رأىَ تعاريجَ لَمْ يصدقها
لعشائرَ بعيدةٍ
كانت شعاعًا أنارَ لِأُنَاسٍ آخرين
أمَّا الثورُ مستقيمُ الظَّهْرِ عظيمُ القَرْنَين
الذي يسيرُ به زنوجُ خَطِ الاستواء
إلى المِعْزَفِ الفَرعوني
فقد صنعَ العاشقُ مِنْ قُرونِه نَاياً رقيقا
وفي الأمسياتِ المُقمرة
كان يبكي مع معزوفاتِه
حتى يَتَنَاهَى صوته إلى تلك السمراء
التي لَمْ يمسسْهَا الغُزاة
لكن كاتبَ الحَمْلَةِ تَأَسَّفَ بَشِدة
عندما كان مضطرا أنْ يخبر قومَهُ
بأنه سقطَ صريعا داخلَ حافلةٍ عسكرية
بسببِ شِجَارٍ مع ممرضة إنجليزية
ثمينةٍ بعضَ الشيء
بعد أنْ التَهَمَتْ، مِنْ غَدَاء الجنود،
خَمْسَ دجاجات.
4
أمام بحيرة فيكتوريا
كان الملكُ لا يزال مشغولاً بنسجِ الأساطيرِ حَوْلَ أجداده
ويؤكدُ أن أباهُ كُلما مَرِضَ
كان “ يذبحُ مائةَ غُلامٍ
حتى تستكنَ الأرواحُ الشريرةُ
ولَمْ يَكُنْ يَخرُجُ
إلا راكبًا مَتْنَ وزيره الأول “
لكنه عندما وقعَ ميتًا
خِيطَ في جِلْدِ أسدٍ
فدَبَّتْ فيه الحياة
وهو الآن يطوفُ حارسًا
للأراضي الأفريقية.
5
رسم “ اللورد فاريل “
خَطَّينِ طُولِيينِ
للحقولِ التي ينوى انتزاعها
لكنه قَبْلَ أنْ يفعلَ ذلك
بعثَ إلى ملكِ البُحيرةِ
بمئةِ مِعْولٍ ومئةِ نِبْلَة
وقال له:
“ إذا كنتَ تريدُ السِلْمَ
فَخُذِ المعاولَ لحرثِ الحقول
وإذا كنتَ تُريدُ الحربَ
فَخُذْ هذهِ النِبَال “.
فاختارَ الملكُ المعاولَ
وأعادَ النِبَال
لكن الرجلَ الأبيضَ،
بَعْدَ أنْ ضحكَ طويلاً
مِنَ الأساطيرِ التي صاغها الملكُ
عَنْ أجدادِه،
أطلقَ مسدسَهُ في الهواء،
وكَمَا أَوْقَعَ بأولِ أسدٍ يقابله
أخذَ الملكَ في قفصٍ إلى الساحةِ العامة
لكن الملكَ الذي لَمْ يبكِ أبدا
دَمَعَتْ عيناه وهو يردِدُ:
أيها الغزاة..
الزِنْجُ يسمعون ويصمتون
لكنهم يتألمون أكثرَ مما يظنُ سادتُهم.
6
هكذا أصبحَ “اللورد فاريل”
مَلِكًا وحيدا عَلَى حقولِ الموز
لكن اللصوصَ الظُرفَاء
كانوا يسرقونَ حقولَهُ
ثُمَّ يعوضونَهُ عن ذلك
بتنقيةِ الحقولِ مِنَ الأعشابِ الضارة
ويهشُّونَ عنها القرود.
أقزامُ الشمال طيبون
وعادةً ما يتركون قِطَعًا مِنْ صيدِهِم للعابرين
وهناك بعيدا عَنْ أعينِ الحُرَّاس
كان كاتبُ البريدِ العمومي يقودُهم كلُّ ليلةٍ
إلى حانةٍ في الخَلَاء
فيرون الرجلَ ذي السِّحْنَةِ الإنجليزية
يسيرُ كنصفِ إله
فيتساءلون:
هل ثمةَ مشيئةٌ يمكنها أنْ تُعِيدَ النظام
فيردُ عليهِم كاتبُ البريد:
“ إنَّ الرب مِنَ العُلوِّ
بحيثُ لنْ يُبَالي برغباتِ الإنسان” !
7
مِئتا ألفَ زنجيٍ
وقفوا في الطوابيرِ
فاغِرِي الأفْوَاه
لِيَحْصُلَ كلَّ واحدٍ منهم عَلَى كُسْوَةٍ ناعمة
وعشرةِ شِلِنَات
ثُم تأخذُهم المركباتُ إلى الحرب.
“ اللورد فاريل “ سيقتلُ بهم ألْمَانَ أفريقيا الشرقية
دون أنْ تتحركَ له يدٌ
المهربونَ وتجارُ الحشيش
كانوا مدينين له بأنْ خَلَّصَهُم
مِنْ لصوص الغابات
والملكُ في قفصِه
يَهْذِي كطاحونَةِ الهواء
الأمهاتُ كُنَّ يبكينَه
ويسألنَ عَن مصيرِ الأبناء
لكنه لَمْ يكن يعرفُ إجابة.
كلُّ ما يعرفُه
أنَّ اللورد فاريل
تَلَقَّىَ مرسومًا ٌإمبراطوريا،
بَعْدَ أنْ كَسَبَ الحربَ،
بالعفو عَن ضرطتِهِ .
8
كاتبُ البريدِ يجلسُ أمام الحَائِكِ
لِيقيسَ سروالًا جديدا
يُغافِلُ الشرطيَ ويَجْرَعُ
كأسًا وراء كأس
ثُم يسألُ نفسَه:
كيف لِرجلٍ أبيضٍ
قصيرٍ وفاترِ المِزَاجَ أنْ يأكلَ وحده
كل حدائق الموز؟!
ومع ذلك يبدو رجلا طيبا
إذ ترك تجارةَ المِلحِ
ثمنًا لِحِرَابِ الزنوجِ وطَرَائِدِهِم
كانت النسوةُ تَتَحَمَّمْنَ
في ماء القنوات الصافي
تتشققُ أصابَعَهُن
وهُنَّ يَجْمَعْنَ المِلحَ مِنْ بين الصخور
لكن النيلَ إلهٌ ذو أهْوَاءَ
عِجْلُهُ الذهبي ليس طيبًا دائما
لكنه يَبعثُ الشمسَ
لتوزع الأرزاقَ
كما توزعُ عرباتُ الحربِ مَوْتاها
في المساءاتِ المُوغِلَة.
9
في الكنيسة قال رجلُ الدين:
“ إن الأبيضَ قد أيقظَ الأسودَ
وصوابًا مافَعَلْ” !
10
كاتبُ البريد تَعَلَّمَ التصويبَ
بمسدسِ أخيه الشرطي
كان يعملُ في وظيفتِهِ نهارا
ويعملُ بالليلِ حَمَّالًا لِسَبَائِطِ الموز
يرصها أمام روافع السفن الكبيرة
لتَملأَ الضفافَ البعيدة.
واللورد “ فاريل “ يَسْكَرُ
حتى يبدو كطيرٍ شَفَّافْ
كاتبُ البريد يُطْعِمُ الطيرَ الحَاِئَم
حَوْلَ البِركِ الآسنة
بينما تَقْرُصُهُ زوجتُه في
مكانٍ يخجلُ مِنْ ذِكْرِه
تُزَجِّجُ حاجِبَيْهَا
تخلعُ ثيابَها
وتشعلُ آخرَ شمعةٍ في البيت
وها هو يخرجُ في الصباحِ مُنتشيًا
بَعْدَ ليلةٍ ذات رائحةٍ نَفَّاذَة
عاقدًا العَزْمَ
عًلَى أنْ يغسلَ عَاَر أفريقيا
لكنه لَمْ يَقُلْ مَتَى!
هامش :
*ينقل “ ول ديورانت “ في الجزء السابع والعشرين “ ص 15 “ من كتابه “ قصة الحضارة “ عن “ أوبري “ أن “ إدوارد دي فر أرل إكسفورد “ وهو ينحني إجلالا للملكة اليزابيث ، ملكة بريطانيا العظمى ، خرجت منه ريح فخجل وشعر بالعار وغادر البلاد لمدة سبع سنين فلما عاد رحبت به الملكة وقالت له : سيدي اللورد لقد نسيت الريح !
أما الأحداث التي وردت في النص فهي فعل الأساطير والتاريخ والتخييل في آن، وهي انطباعات تركتها قراءات مختلفة لنصوص روائية وتاريخية وفلسفية حول مفهوم وشكل الاستعمار التقليدي الذي اتسع نطاقه بداية من القرن التاسع حيث تم احتلال كامل الأراضي الأفريقية وتوزيعها بين القوى العالمية التي صعدت قبل وبعد الحربين. وقد كانت أبرز الانطباعات التي قامت عليها بنية النص مأخوذة من عدة كتب منها “ تاريخ الأمة المصرية للمؤرخ الفرنسي غابرييل هانوتو، كتاب فلاحي مصر العليا تأليف مس و . س . بلاكمن ، وكتاب النيل حياة نهر لإيميل لودفيج “ ، ورواية “ قلب الظلام” لـ جوزيف كونراد .
المكان الذي يتراصّ به الغرقى
نصيف الناصري1
يقولون أن الهَدف مِن سَعْيكِ الى فَتح رِتاج الزَمن عنوة، هو انَّكِ لا ترغبينَ بالاقلاع عَن ارتداء الألبسة الحائلة.
المواظبة على تفحّص جصّ القَبر قَبل الموت، ضرورة تقتضيها عدالة مرض الانسان،
والآلهة لا تنشغل بتأمين لوازم المائدة.
رَّفراف الطائر يشبه الشهاب وليست كُلّ
أرض صالحة للنوم، وفي الطبيعة أشياء كثيرة ضارَّة وتُدمّر المأوى.
أظهَرتْ لنا السنوات الكيفية التي نتفادى
فيها التخمينات غير الصائبة، والمُستقبل يغري بالدنوّ مِن النهاية ويُحفِّزنا على أن نتمّ مراسم الرحلة الى ما
لا عودة منه. شبكة دبقة يشقّها الليل الى نصفين، نعبرها بتوجّس ونحيا أيَّامنا
بلا شهيَّة لفتنة الموت.
2
تضاعفت أعداد القبور في أرضنا، والذي لم
توافه منيَّته، يجهد ليحصل على اتصال بالرب. المُبَرَّأ مِن ضَربة الصاعقة، يستميل الأذى لزيادة صحّته،
والكثير مِن الذين عرفتهم يُسرِّعون حَركة السهم لئلا تفارق أرواحهم الأبدان.
حصدنا القمح بعد أن خرقنا الهدنة
مع الأطبّاء، ولم نتلقَّ أيّ إطراء مِن الأسياد.
لماذا التحلَّي بالصبر والشهامة، وكُلّ ما لا
نفع فيه. يُسيّجُ الهاوية القذرة لحيواتنا؟
3
تتمسَّك الروح بالغصن والمقبض القصير للأيَّام، لكنّ إنماء المرء لسخطه وتبرّمه
مِن أرتال الألم التي تعبر مِن فوقه ساعة
القيلولة. يُجرّده مِن كُلّ امكانية للظفر
بكرامته. في العالم حجارة محفورة
لذرّيّة المَيت، ولا تنفع الخبرة في تجنّب الدود حين يشرع بغزل صوف
الجيفة. للموتى كما للأحياء
شظايا الرماد التي تتساقط فوقهم،
وليس في قُدرة أحد
ما الاسهام برفع كُتَل النفاية
ومواجهة الظلمة الشاملة. تتفتَّتُ الذرَّات الفتية للزَمن، وينسبُ الينا الذين رحلوا
وتركوا مباضعهم، الرضى بالخلود.
4
ليس في مرارة الحنظل وحلاوة العسل اعجوبة،
نَهر العُمر يعاني اللدغة المُتكرّرة مِن أفعى أيَّام المرض القائظة. البعض يتَّفق مع الذين
يعودون مِن التخوم، ولا يظهرون ميولهم في النجاة مِن الغرق، الى التجديف على شِيَم الآلهة. احتوت البشرية الأعشاش الصغيرة
للسخط الدائم مِن الذين تُسمّيهم الفُضلاء،
وشرعت مِن غير عمد تقتنص الغربان وتحيا في الزمهرير. يتطلَّبُ الحفاظ
على الارث ارتياد الأرض المُتضرّرة للقبور.
5
يَتقوَّضُ لدى الزُرَّاع الأمل
أثناء نزول الأمطار، وأغلبهم، يفقدون الرغبة في الاسترداد
مِن الزمن ما ينبغي أن يُسْتَردّ. هل يجب الاستمرار في ترك الأشجار تُقصفُ ولا أحد يغادر الأبنية المُتشظّية؟
الدفء أثناء الظهيرة علامة شؤم، وروح الميت التي يضطرّها الغبار الى ملاقاة
الصقيع. موَقَّرة في كبحها لغبطة الخلاص مِن الشراك. الشعوب تركضُ في البراري
ولا تلتفت الى ما هو جدير بالبقاء، والحرص على اقتفاء آثار الذين غيَّبهم الضوء
العميق لزمردة الفناء.
يقتصرُ على الغَرقى وعلى بعض
الذين احتاجوا الى مراعاة الحركَة.
6
عَبَر السَهم وأدركتُ قيمة البُعد عَن الشيء غير
المرغوب برفقته. كان جَهْلي بما يفرضه عليّ
حلول روح الميت في بَدني، قَد أقنعني بتقبّل
نصيبي مِن حَياتي التي أمضيتها أردم الحُفَر.
مَن يصل الى أرض الآبار القاحلة، يَفوته أن
ينتسب الى الذين يمضغون الحجارة طوال
أيَّامهم بَين صدى التقرّحات اللامُتمهّلة، والآن بَعد أن تخلَّيتُ عَن كُلّ ميولي في ترصّد ما كنت أظنُّ فيه الخير.
أحاولُ الاستجابة الى نداء ما تذمَّرتُ منه على الدوام. الزَمن- الصدع، يخلو مِن الكثافة
المطلوبة للعَيش. يسارع الغَريب الى اطفاء
بذرة مرضه اللهَّابة، ويموت بلا قيمة في
أرض يتلاشى فيها الغُفران.
7
نزلتُ التلّ وفي يدي كِمادة أحاول أن أضعها على الجبهة المحمومة لأخي الانسان.
كُلّ ما يُوضَع على الأرض مِن قبل الآلهة، شرٌّ وتتعاقب عليه النفاية.
تبنَّي الخصام الدائم مَع
الثمرة المُدلاَّة فوق جثَّة الميت،
يضمن للحيّ الحفاظ على حقله وكفنه.
أكثر مِن وتد علَّقنا فيه القنديل الحرّ للوقت وأحصينا عدد مَن ماتوا مِنّا، لكنّ اختلاف
طرق الفناء في كُلّ العصور.
حَرمت الذين تشبَّثوا
بالبقاء الأغطية الضرورية
لتجنّب البَرد في العالم.
8
أزمان مُحتدمة ولا ملجأ فيها للذي يحاول أن يروّي غليله مِن أثداء الآبار. ينفجر بَين
رمل الشاطىء وبين رمل الصحراء، حقل القمح الذي يحتشد فيه أهل العرس.
لماذا تودّ القبور امتلاكنا قبل أوان نضج الثمرة؟ لا تتقدَّم الينا الشرور إلاَ ترضية
للتجمّدات الدائمة في سكون الطبيعة، أحلامنا
مُغلَّفة بمظاريف مغشوشة ولا أحد بوسعه
النوم بعيداً عَن الذين يتجافون حجارة
البركان. أثقلني العوسج العليل لحياتي
وتقدَّمتُ الى الله، أطالب باستحقاقي
مِن قسمتي في الإساءة إليّ، طوال كَدحي بَين
المعازل المتصدّعة للمجذومين.
9
واقفاً أمام المرآة أتشاور مَع الشَبح
في داخلي، والعشبة العفنة تكبر في وجهي. كمَّية لا بأس بها مِن الألم أشعر فيها وأتحمَّل الوطأة الثقيلة لِلَفح السَّموم. لو كُنتُ أمتلك ثَروة أو بعض رؤوس الماشية، لِما ارتكبتُ
الفحش في أوَّل صلاة لي الى مرضعتي.
تتضوَّعُ أكثر مِن نبتة سامَّة في الحُفرة،
ويتمّ اغرائي بعد أن أفرغت حَياتي
مِن الدموع للنزول بلا خشية
مِن الطعم الباهت لعالم ما بَعد فرو الشمس.
10
أشارت إليّ حين غطستُ في البحر، كما لو
انّني كومة ملح على الساحل. وصفتُ لها
المكان الذي يتراصّ فيه الغرقى، فتملَّكها
الاحساس بوفرة النِعَم الإلهية على كُلّ مَن
ارتضى حياة الغَرق. شَجرة مثقلة بالنجوم
أهزّها فتنقلع مِن مكانها وأهجس انّها تتبرَّمُ
مِن الذي يزدريها. بعد أن وصلتُ الى احدى
الجزر، جمعتُ الحَصْباء ورميتُ بها الأمواج
المدوّية. صَحَّ عندي أن التظاهر بالغرق أكثر
جدوى مِن الغرق نفسه. هي وأنا انطبقَ علينا
المثل، عاريان غريقان لا يخجلان مِن طريقة
غرقهما.
11
ظننتُ أنّ بامكاني عدم التدنس مِن ملاحقة الطريدة، وكانت حساباتي مغلوطة.
أعنتُ المحتضر على لملمة أغراضه وأخبرته
أن يسلمها طواعية الى ورثته.
رفض التعجيل بترك ما جناه في حياته ولم أجرؤ على مماحكته بأشياء سوقية.
يلقى الغريب حتفه مِن دون نشدان معاضدة الاخوة والأبناء.
صعدتُ الجبل في الليل ورأيت الطرائد نائمة تحت الأشجار. اعتبرتها اخوتي البشر.
12
سخرتُ مِن مصائر البَشَر ومِن ميولهم الى غَزْل الصوف، لتدفئة الأنصال التي تضربهم
بها حَياة الضنك. كُلّ هالك يختار الوضعيَّة الغريبة في رمي نفسه بالحُفرة قبل هلاكه،
وليس لهُ الحيلة للخلاص
مِن الدود الذي يدأبُ على الافتراء عليه.
تجهلُ الآلهة ما يحلّ بِنا حين تقذفنا في
فوهة البركان، والانسان لا يفلح في سعيه
الى نيل ثمرة تعبه المزدانة بالغبار.
اشاعة الأمل في نفوس الذين نصادفهم
يحتطبون في الأحراش، فعل يخلو مِن
الشهامة. اهمال شأن التمائم وطرد
الساحر والمُنجّم، عامل قوَّة ويستحيل
فيه الرجوع مِن درب الدموع المؤتلقة.
13
فاجأني السهم وكُنتُ أريد الاخلاد للراحة.
أمضيتُ النهار كلّه أحفر في ذاتي ولم
أتحمَّل رائحة التراب. تبادل المنفعة مع
الذين تأكَّدوا مِن خلودهم، يحتاج الى
مداولات والجنازات مباركة في عالم
يكتنفه الرياء. العرَّافات العجَّز استسلمنَ
للتقليد وما عاد بامكانهنَّ التكهّن تحت
الشمس اللهَّابة. خفنَ مِن الزمن وازداد
نفورهنَّ منه. تحتَّمَ عليّ الذهاب الى ما
وراء العالم، ولم أكُن أتوقَّع النكبة الفظيعة.
يتسارعُ الشرّ ويسبقُ الذين توفَّوا قبل
أوان نضج الثمرة، واقتياد الأضحية
للذبح بالقوَّة. لا ينتفعُ فيه المذبوح منذ
الأزل.
14
ردَّتني عَن الذهاب الى العَمَل صاعقة
استحوذت على كُلّ ما جنيته في حياتي،
وكُنتُ أظنُّ أنّ ما زرعته في
طريقه الى النماء.
الموت له الأسبقيَّة على الميلاد وما يتشدَّد
في مسايرته للفاني.
الشقاء المُفعم بعذوبة الزوال.
أبلغتُ إلهي بدنو أجلي فنزل مِن كوكب
وناولني شظية برق، تتيحُ لي العودة
الى منزلي بعد الموت.
ادَّعيتُ المرض على
الدوام وكُنتُ لا أريد التزلّف الى أحد،
ولا أن أتدنَّسُ في تقبّلي النصيحة السخيفة
15
يتهرَّبون مِن اذاعة أخبار سخطهم وتذمّرهم
مِن ضرب الشهب لغلتهم الفقيرة، وأرض
العالم ليست خصبة طوال العصور. الطوفان
القادم تتعالى داخله الانفجارات، والمتبع
لدى البشرية عند حدوث الزلزال. التحديق
بلا أمل في الكارثة. وثيقة مزوَّرة قدَّمتها
الى الذين عبروا النهر وسرتُ معهم أتوجَّس
مِن تباهيهم في فضائل الجرح.
16
فئات غفيرة تشمئزُّ مِن ما تتعاطاه مَعَ آلهتها، وتعجز عن فهم نوع الألم وتوءمه المرض.
كان سفري الدائم في الأرض، تميمة أتغافل
فيها عَن لحظة قدوم موتي،
وكُنتُ أبحثُ عَن
الحجارة القهَّارة التي سأدفن تحتها.
وُلِدَ معي شبيهي وتعقَّبته الطرائد.
أنا نفسي
طريدة وليست لي صلة بالغير.
كُلّ ما رغبتُ فيه لم يمكث معي
وسارع يهرول مع غبار الزمن.
فراشة في المساء الأخير
جبار ياسين *مِثلَ فَراشةٍ فيِ المساءِ الأخيرِ على الأرضِ
تَهِفُّ أجنحتَها في رقصةٍ للوداعِ
قبلَ أنْ يهبطَ اللّيلُ
ويأتي العَدَم.
أقولُ لكُم أُمنياتي على عجلٍ
وأحكي لكُم تواريخَ حياتي
ليس تِباعاً
بلا مللٍ
بل بما يكفي كي نُحِبَّ بعضَنا
اليومَ أو بعدَ غدٍ
لكن قبلَ فواتِ الأوانِ:
أَحْبَبْتُ ما يكفي مِنْ نساءِ الأرضِ
لعشرينَ حياةٍ قادمةٍ
على كواكبَ أُخرى
أو خلفَ مرايا الحياةِ.
صادقتُ مُلوكًا مُنصفينَ
وكرهتُ أباطرةً خائفينَ
قاتلتُهم بجسدي وحروفِ الأبجديةِ
والصّبرِ حينَ تخونُ التّضاريسُ.
اِنتصروا وانتصرتُ
ذُقتُ طعمَ الهزيمةِ والتّأملِ حينَ الإنتصارِ
زرعتُ وروداً وصَداقاتٍ
في كُلِّ مكانٍ خَطوتُ عليهِ
نَبَتَتْ مِثلَ أشجارٍ باسقةٍ
لكنّي أيضا زرعتُ أشجاراً
موردةً في الرّبيعِ
ذابلةً أوراقُها في الخريفِ
تسقطُ كي تُطعمُ الأرضَ
أو تَصيرُ ملاذاً للهوامِ
ولستُ فخوراً أكثرَ مما ينبغي
فـكُلُّ الشّجرِ ينمو
ويكبرُ ويهرمُ
دونَ أنْ نمدَّ أيدينا لهُ
والشّجرُ لا يطلبُ إذناً ليكبرَ
الشّجر؟ آه
مِثلَ آلهةٍ لا تُريدُ غيرَ شمسٍ وماء
والبقيةُ معجزة
في المساءِ الأخيرِ أُعلِنُ حُبّي لإمرأةٍ
فالحياةُ ليستْ غير إعلانِ حُبٍّ
وقصيدةٍ
والحياةُ ليست سوى غفوةٍ
في يقظةِ كونٍ لا حدودَ لهُ
وليستْ حياتي أكثرَ مِنْ حياةِ
زَمَنٍ يمرُّ وأمكنةٍ تتهادى
وحُبٍّ لا حدودَ لهُ
لكُلِّ مَنْ أحببت
نساءً وقِططاً وعَصافيرَ مِنْ كُلِّ لونٍ
وأشجاراً باسقةً
وبراعمَ شهرِ آذار
وغيوماً ترسمُ أشكالاً في السّماءِ
أو دهشةً أمامَ ضحكةِ طفلٍ
أو مطوّقةٍ تهدلُ أعلى صنوبرةٍ
تُنادي حَبيباً على نخلةٍ
أو على غُضنِ سِدرةٍ ظَلّلَتْ آدمَ يوماً
تلمعُ أوراقُها كُلّ مَطلعِ شَمسٍ
وتنظرُ للخليجِ
* * *
أقولُ لها ما تُريدُ
حياتي
وأحرثُ مِنْ أرضِها ما أُحِبُّ
كي أرى نحلةً تَتَطايرُ مِنْ زهرةٍ
نحوَ أُخرى،
فكُلُّ ما يأملهُ المرءُ
ليسَ غير أنْ يكونَ حَجَراً
في مهبِّ الرّيحِ
أو مهبِّ شعورِ النّساءِ
وشم عطرِ نهدٍ في صرخةِ اللّذةِ القصوى
أقولُ بلا أسفٍ
عِشتُ حياتي كما ينبغي
كُنتُ اِمبراطوراً مِنَ الصّينِ
وفي روما قيصراً
في باريسَ مَلِكاً بقُبّعةٍ موشاةٍ بتبرِ إفريقيا
يشربُ خمرتَهُ
يُصلحُ أقفالاً وساعاتٍ
ويختارُ امرأةً للّيلِ
سيدةٌ أو عَزَبَةٌ
يختارُ لها اسماً مِنْ أجلِ ليلةٍ واحدةٍ
ويمنحُها مقاماً بقيةِ عُمرِها
في جزرِ الهادي كُنتُ قُرصاناً
يفضُّ بكارةَ خُلاسيةٍ
أجملُ مِن ضوءِ القمرِ في ليلةِ صحوٍ
على رملِ ساحلٍ مِنْ تبرٍ وماءِ وردٍ
وفي بغدادَ كُنتُ خليفةً
عاقرُ الخمرِ يصحبُهُ شاعراً ماجناً
وغانيةً تغنّي لهُ: حانةُ الأقدارِ
تقولُ لهُ: سألتُ عن الحُبِّ أهلَ الهوى
فيا نخلة على شاطئ دجلة
أُذكريني حينَ أصيرُ تُراباً
وغِريناً كي تَنبُتُ أعشابَ الخلودِ
كي لا تكونَ رحلةَ جلجامش،
مرةً ثانيةً، حسرةً وهباءً
كي تصرخَ عشتار لألفِ مرّةٍ
شهقة اللّذةِ
وتهدلُ، مثلَ حمامةٍ، نذرَها للحياةِ
وما بعدها
أنا اِبنها النّغل، هذهِ العشتار
أقدسُ سحري وسحرُ التي تُحبُّني
أُقبّلُ شفاهَ الآلهةِ
وأُولجُ بينَ شفرتينِ أقدسَ ما في الحياةِ
وأصرخُ مِثلَ ثورٍ سماوي ذبيح
أقولُ لنفسي: كُنْ فأكُن
وليسَ غير الحُبِّ مِنْ كينونةٍ
يا نساءَ الأرضِ اجتمعنَ حولي
عارياتٍ بأثداءٍ مِثلَ رمّانِ بلادي
أنا الطّفلُ الذي ما زالَ يحبو
ويحلمُ أنْ يصيرَ ماءً للفراتِ
أو محضَ جِذعِ نخلةٍ
تتبرّكُ حولَ سَعفاتِهِ نساءُ الأرضِ كُلّهُنَ
عارياتٍ بأثداءٍ بلونِ الحليبِ
وأفخاذٍ كمرمرِ روما
وشعرٍ يتموجُ في رقصِهنَ في ليالي باخوس
أقولُ لعذقِ النّخيلِ
كُنْ عِشقاً
محُمّلاً بالتّمرِ الجنّي
كي أقطفَ مِنكَ بقيةَ عُمري
تمراً وعِشقاً وبراءةَ مريم
وحينَ أسقطُ مِنكَ
على إيقاعِ جاذبيةِ العِشقِ
كأنّي سَقَطّتُ في لَجةِ ماءِ الحياةِ
حيثُ الملايينَ تنتظرُ الخروجَ إلى الدّنيا
لكنّي الوحيدُ مِنْ بورك وأطلقُ صرخةً للوجودِ
أُحِبُّ نساءَ الأرضِ
أُحِبُّ نهودَهنَّ
أُحِبُّ ما بينَ أفخاذِهنَّ
أُحِبُّ خصورَهنَّ
أُحِبُّ ظهورَهُنَّ
وأصابعَ أيديهنَّ جميعاً
أُحِبُّ شهقةَ العشقِ
لحظة تموتُ أُنثى بينَ يدي
لدقائقَ أو نِصفَ ساعةٍ أو بقية ليلٍ
وأنظرُ في قسماتِ وجوهِ النّساءِ
لحظة اللّذةِ القصوى
كأنَّ الحياةَ تبدأُ وتبدأُ مِنْ جديدٍ
ثمّ تبدأُ للمرّةِ الألف في ثانيةٍ واحدةٍ
وليست حياتي سوى شهقةِ لذّةٍ
أنسى بها مساكنَ أهلي
وأنسى أنّي ابنَ أُمّي
وأنسى أنّني ميّتٌ ذاتَ يومٍ سيأتي
تقولُ الفراشةُ لي
هذا يومٌ أخيرٌ
تمتّع بما طابَ لكَ
فالبقية حُلْمٌ ليسَ فيهِ يقظة
أنتَ ليسَ إلا قطرة في حُلمي الطّويلِ
مِثلَ الكونِ وقصة الخلقِ
أنتَ مِنْ محضِ خيالي
وأنتَ لستَ أكثر مِنْ ترابٍ وماءٍ
والتّرابُ معَ الماءِ يصيرُ صِلصالاً
فيهِ بذر الحياة، ثمّ تمضي مُحلِّقةً
في السّديمِ
أُفكّرُ في آخر لحظةٍ
إنّي لصلصال يُعيدُ رسمَ صورتِهِ
مرّةً شجرةً
ومرّةً حجراً
يقولُ لنفسِهِ: ما أطيبَ
العيشَ لأنّي حجرٌ .
قصائد
أحمد الملا*عدسة مكبرة
تعجلنا الحياة
يوم كنا صغارها
وصار لكل منا عدسة مكبرة
مثلما وصفها كتاب العلوم المدرسي،
حملناها
وقسنا من خلالها الكون.
أول ما رأيت
أبي.. طويلا وشاهقا
وتأكد لي أنه قادر على فعل ما يعجز الرجال
أفعال لا يقوى غيره فعلها
كأن يمسح على رأس النخلة العجوز مثلا
ويناولني تمرها
بيسر،
ما أسمّيه الآن معجزة فيزيائية.
وأمي لم تخرج من المطبخ أبدا
كنت أراها بثوب مشجّر وشال أسود يلفّ رأسها
تحرك ملعقة في قدر ضخم، يكفي العالم اللحوح بصحنه خلفها.
كبرت قليلا
صغرت العدسة وصارت منظارا يقرّب ما أشاء
الجار الغامض يقف في حوش بيته
أطل من فوق الطين أقرّبه من زجاج العدسة حتى يكاد يغدو عملاقا محبوسا في القصص المصورة.
أجلس في الصف الرابع بمدرسة الفتح قرب النافذة
أرقب السجن ويرقبني
بعدستي أجرّه
أجرّ قصر إبراهيم
القلعة العثمانية وأرى ملامحه الواجمة من أعلى كوة في السور وجه سجين مؤبد يقضي نهاره مطلا على مدرسة أطفال
ويوم افتقدته صباحا لازمني فضول لم ينقطع إلا في عصر يوم بارد
حيث صدفة عبرت السوق
أدخلت رأسي بين أجساد متراصة عند دوار البلدية.. ولكي أختفي عنهم
وضعت العدسة فانفتح الحشد فجأة صرت في حلقة مفرغة محاطة بالرجال وفي وسطها يركع سجين القلعة بوجه شاحب يشخل بالعرق ولمعة طويلة معقوفة تقيس المسافة بين رقبته والسماء
لاحقا قيل أنه دفن بلا قبر معلوم
بلا غسل
ولاحقا أيضا عرفت وظيفة السياف.
كبرت أكثر ومع العدسة في سطح البيت تآمرنا على الشمس واتهمناها بحريق فراش الأب القطني.
العقاب نزعها من يدي المحروقة
ودفنها النسيان
كي أدوسها حافيا كلما هبّ التذكّر.
كبرت وكنت في طائرة تخترق سماء الأربعين ضاعت الحروف فجأة من الكتاب
اشتريت من المضيفة نظارة القراءة الأولى
وتعاميت عن لمعة في كفي أثارت ريبة الراكب المجاور ولم أعرف كيف أشرح له سر
عدسة الطفولة المكبرة.
تلك العدسة الخارقة التي رافقت طفولتي
لم أكن أملك ما يطابق صورتها في كتاب العلوم تماما
ابتدعت قعرا زجاجيا لقارورة كوكاكولا بعد كسرها على عتبة المسجد وسحكها في الجدار هاربا في الضحك من المؤذن العجوز.
أهذا ما يجعلني الآن عَطِشاً
وحين أرفع الماء لا أجرؤ على النظر في قاع الكأس أبدا.
مرآةُ النائم
جاري لم آخذه على محمل الجد منذ طفولتي، لسبب وحيد كدت أنساه من فرط خفته.
حين أسرّ لي أول مرة عن جسده الذي ينقص ويذوي كلما طالعَ في المرآة.. وقتها ضحكت ودمعت عيناي، ورأيت في ملامحه كيف اتّخذ قرارا سريعا بعدما اكتشف مدى فداحة قوله، فلم يعد يذكر المرايا، وألغاها من كلامه ولهذا نسينا هذا السر أو هكذا ظننت.
ورغم تجنّبه المرايا وتفادي المرور أمامها في كل مكان، وانقطاع حديثه عنها، إلا أنه أشار مرة بين أصدقاء مشتركين إلى معرفته طريقةً فريدة في الانتحار دونما ألم، يخبّئها تحت سريره منذ سنين، ولم أربطها بالمرآة لولا غمزته الخاطفة لي.
كبرنا ونسينا ثانية، مثلما عاش، وحيدا بلا مرايا، يرعى أمه بعطف وحنان متبادلين، حتى عشق أختي الصغيرة أو أحبّها بجنون حسب قوله.
لم يبح بذلك لأحد غيري، وكلما قلت له حدّثْ أمك لتفرح لك، صفن وقال إنها تشعر بذلك، أراه مطبوعا في وجهها وهي تتفادى أن أصرّح به.
هكذا بدأ حال أمه يسوء وصحتها تذوب حين جاءني قائلا: لا أستطيع أن أفقد أمي وأشهد تلاشيها أمامي، وليس باستطاعتي محو حبّي لأختك، على الرغم من محاولتي الشاقة في التظاهر بالنسيان، لكن قلب الأم مرآة.
البارحة طرقت أمّه باب بيتنا متأخّرا وقالت، مكسورة، ابحثْ عن صديقك، لم يخرج من غرفته منذ يومين. فتّشت عنه لم أجده.
عدت بها إلى غرفته. سريرُهُ مقلوب
ورأيت ثياب نومه مكوّمة على الأرض أمام مرآة كبيرة لم تكن موجودة من قبل. وكأنما لمحته فيها، ضحكتُ في سري ودمعتْ عيناي.
ننطقُ بالجملةِ في صوتٍ واحد
أنقذتني ريم عدّة مرّات..
وأظنّها اعتادت على ذلك ولم يعد الأمر يعني لها غير تمرين مهارةٍ أجادتْها مرّة بعد مرّة،
وإذا لم تكن في حال يسمح لها بذل الجهد، فهي تتفادى الوضع وتقفل عني المكتبة بالمفتاح.
في شدة غضبي، تمنعني من قراءة تلك التي في دولاب مغلق عن الفلسفة والأديان وليس مسموحا بأي كتاب فيه؛ قائلة «هذه ليست للنزهة»، فالكتب تعلّق لي مفاتيحها على الحروف وتترك الجملةَ مواربةً على معنى فسيح.. وبأثر من شعور الغليان الذي أحمله؛ أدوخ وأدخل في ثنايا الكلمات وعبر نقاطها، مثلَ بخارٍ يتكثّف على الناحية الأخرى من الزجاج ورويدا أتجمّع قطرات؛ أطلع هناك داخل الكتاب وأتلاشى هنا في البيت.
مرّات كثيرة أعادتني عنوة من مدن الملح وهي تشتم وتصيح: «ماكوندو ماركيز على الاقل».
في بداياتها معي كانت تتوه حتى تجدَني. في المرة الأولى هجمتْ عليَّ، متلبّسا أنظر بشفقةٍ «تيريزا عند وصولها محطة براغ»، باكية وضربت صدري بقبضتيها مفزوعة.. ولاحقا صارت تعرف أثري بين «أبوطالب» في داغستان و»غرنوي» المهووس بالعطر، ومطاردا طيف «باولا» على شواطئ تشيلي.
أحيانا أسمع صوتها فألبد بين مقاهي باب الليل أو في حانة «هورتنس» منتظرا سنتور زوربا.
اعتدتُ أخْذَ الشِّعرَ معي إلى بارات يرتادها بحّارة وعتالون، يومَ جاءت وبدلا من الخروج؛ اقتربتْ وسألتني نسخةً من مفتاح الرحلة، حين التفتَ النادل ضاحكا: «مفاتيحه لا تحيا في غيره»، وأسرَّ لها غامزا بطرف عين، أدّتْ بي إلى جرْع الفودكا دفعةً واحدة بيد وبالأخرى سحبتُ فتاتي، وهجرنا تلك الرواية تماما.
في ليلة الحادثة، اختفت ريم من البيت، عدتُ متأخرا من الخارج ورأيتها في شاشة التلفزيون، نائمة في سرير أليسيا في فلم « Talk to her» مددتُ يدي وأيقظتها بقوّة، فتحتْ عينيها على كنبة الصالة رفعت ببطءِ المستجدّ مفتاحها وابتسمت بتشفٍّ من هلعي وكأنها سجلت أخيرا هدف التعادل الكوني.
ها هي تعدّ الأفلام قبالة كتبي، صار كل منا يقترح رحلته على الآخر، ثم نربّي الغضب فينا، كنا نجده بيسرٍ وينمو عارما بسهولة، ثم أخذ يستعصي علينا معا ولم يعد من ضغائن كافية لتحريك الوجع، حتى أن ليالينا الأخيرة نجرّ فيها جسدينا منهزمين إلى النوم.
هكذا أصبحنا لا نفرط في قدح شرارةٍ بيننا ونتسابق إلى النفخ فيها وإشعالها، ما إن تتفتّح لنا رحلة، حتى نعدّ أنفسنا بحماس، نلهو بالحوارات ونتقافز بين المشاهد قبل إنقاذ أنفسنا من النهايات الكئيبة.
كثيرا ما تهرب ريم وتغامر عند حدود الصفحة الأخيرة، خاصة عندما تنتقي لي كتابا تبتغيه وتضعه جانبي عندما أكون متوقّدا.
وفي اتفاق غير معلن لم نذهب فرادى هي أدخلتني قبو أمير كوستاريكا وأحلام كيروساوا ووتبعتُها في حكايا مايازاكي. وأنا دليلها في أساطير سليم بركات وقصص أورهان باموق.
كم تهنا في شوارع مشتركة، فوق جبال وداخل غابات، ننطق بالجملة معا في صوت واحد، ولولا طفل لنا يلعب في البيت، لم ينضج غضبه من هذا العالم بعد، ما رجعنا.