مُختارات من عبدالله القصيمي
جاءت هذه المُختارات من ثلاثة كتب للقصيمي-فرعون يكتب سفر الخروج-كبرياء التاريخ في مأزق-هذا الكون ما ضميره..
..لقد عاشت عيناك لأنهما لا تُحدقان في الأشياء..لقد استطعت النظر إلى الأشياء وجرؤت على النظر إليها لأنك لا تستطيع التحديق فيها.لقد تقبلت أن تكون لك عينان بعد أن اشترطت عليهما ألا تكونا جهازي رؤية أو تحديق.
إنك لو حدقت في أي شيئ لتفجر في عينيك ...لتفجر في كل الإنسان الذي في داخلك، مُختبئاً عن عينيك متباعداً عنهما لئلا يرى بهما أو يُريا به أو يراهما أو ترياه.أنت لا تريد من عينيك فقط أن تعجزا عن الرؤية بل وأن تحميا منها، وإنهما أبداً لكما تريد منهما..
..لقد رُكبت لك عينان لكي لا ترى..لأن الرؤية موت أو جنون..إن العيون هي أقدم وأشمل جهازاحتمت به العيون لئلا ترى، وحمت به حاملها لئلا يرى.
..أنك إن كنت ترى، إذا كنت تملك موهبة الرؤية أو عذاب الرؤية فأنت تمارس كل الكون وكل الناس والأشياء.إنك حينئذ تعاني كل ذلك ، كل ما فيه من الآم وأخطاء وحماقات وهموم وعبث وسخف- تعانيه ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، تعانيه متكرراً ومتجدداً ومتغيراً وثابتاً.
..إنك إذا كنت ترى فإن كل شيئ سوف يتحول إلى تحد لك ، وإلى اصطدام بك،وإلى عدوان عليك ,وإلى مُناقضة لأخلاقك ولذكائك ولأمانيك ولحبك ولأشواقك ولكل تعاليمك ومذاهبك.أن كل شيئ سوف يتحول حينئذ إلى تحدٍ وإهانة لكل نماذجك،ولكل مستوياتك، بل لكل الهتك وأنبيائك وقيمك.
..إنك إذا رأيت فلن تقبل ولن تغفر ولن تفهم ولن تسالم، وإن الأشياء لن تتحول حينئذ لتكون على مقاس عينيك وعلى مقاس نموذجك ، رحمة بك أو خوفاً عليك،أو بحثاً عن مصلحتك وراحتك، وإنك أنت لن تستطيع تحويلها لتكون كذلك..
..إنه لمحتوم عليك حينئذٍ أن تتحول إلى خصم لكل الأشياء، وأن تتحول كل الأشياء إلى خصوم لك ، أن تتحول كل الأشياء إلى وحوش تفترسك -إلى وحوش تهاجمك عن طريق عينيك، تهاجم كل مستوياتك ونماذجك وأمانيك وتعاليمك لأنها تهاجم عينيك.
..لقد وجد الأنبياء والشعراء والوعاظ والمعلمون في الشمس كل المنطق والجمال والحكمة والرحمة والفنون لأنهم لم يروها.إنهم لم يروها قط، إنهم لم يروها إلا بقدر ما راها البرغوث والقراد والجمل.
..إنك لو رأيت الشمس لفدحتك فظاعة الرؤية وقباحة المنظر وسفاهة السخاء والتوزيع..
إنك لو رأيت الشمس لرأيت كل الجزاف وكل الدمامة ،وكل السخف، ولرأيت ضخامة العبث، وسفه التوزيع والأسلوب والصيعة والحركة والمكان وفقدان التخطيط والمنطق والغاية والنموذج وبلادة الموازنة بين العمل والنتيجة، أو بين الغرض والعمل، أو بين الذات وعملها ، أو بين عملها ونفعه.
إنك لو رأيت الشمس لرأيت ضلال البداية والنهاية، وضلال المدبر والمفكر، وضلال المبدع، وضلال المسؤول.
إنك لو رأيت الشمس لرأيت شمعة في حجم الأرض تصنع وتعلق لتضيئ وتدفئ وكر عصفور..
..إنهم حينما يقولون لك أنظر إلى الكون أو الحياة أو الناس أو الجمال أو إلى الشمس أو.....
إنهم إنما يقولوا لك:افرض على عينيك أن تنظر إلى الأشياء المشوهة والعابثة والدميمة والظالمة وإلى كل أساليب وأنواع العذاب حتى تتالف معها عيناك ، وحتى ترضاها وتعشقها، وحتى تراها كل الجمال والعدل والحب والنظافة والعبقرية والالوهية.
إن كل شيئ في الطبيعة يجيئ فقط، يجيئ لأنه يجيئ لا لأنه وظيفة أو حاجة أو منطق أو تدبير.إن الطبيعة كلها مجيئ، إنها لا تساوي ولا تعني إلا المجيئ......إنه مجيئ فقط ، إنه مجيئ لا يمكن فهه أو تفسيره أو غفرانه.
..إنه ليس لدينا قدرة من أي نوع على أن نعرف الجمال أو الدمامة.إننا لم نعرف ، وإننا لن نستطيع أن نعرف .لقد ظللنا نرى أقبح الأشياء هي أكثر الأشياء جمالاً.لقد ظلننا في كل تاريخنا نرى أبشع الدمامات هي أعلى مستويات الجمال لأننا عُلمنا أن ذلك كذلك.
...إن رؤيتنا للجمال، وإن إحساسنا به، وإن ممارستنا له تعني أننا جائعون ومتألمون وهاربون ومحتاجون وتافهون وحزانى ومحكومون بالتعب والملل وبالضيق، ,وبالبحث عن المفارقة، عن مفارقة أنفسنا ، أي عن مفارقتنا لأنفسنا، وعن مفارقتنا للأشياء .
..إيها المتحدث عن جمال وجود يبصق ذبابه على عيون أطفاله، وعلى نفوس أنبيائه، وعلى توابيت أربابه دون أن يمنع ذلك طغاته أو قضاته أو تعاليمه أو مذاهبه أو أديانه أو شموسه وأقماره-دون أن يمنع ذلك جماله، حتى جماله لا يمنع أن يتقيأ ذبابه على عيون أطفاله ، وعلى نفوس أنبيائه، وعلى توابيت أربابه. حتى جماله، حتى جماله..
.....إيها المتحدث ..إنك لتشتمني، إنك لتسحقني ذعراً واشمئزازاً وغضباً.
إن العمى الشعوري هو الجهاز العالمي المضاد الذي يستطيع أن يرى به الإنسان جمال الآلهة وجمال الطبيعة وجمال نفسه، والذي يستطيع أن يغفر به للالهة وللطبيعة ولنفسه ، أن يغفر به كل الدمامات والتفاهات والذنوب والعبث- أن يغفرها للآلهة والطبيعة، وأن يغفرها أيضاً لنفسه.إن العمى الشعوري هو الجهاز العالمي الذي يحمي الإنسان من أن يرى أية دمامة أو تفاهة أو ذنب أو عبث من هذه الدمامات والتفاهات والعبث والذنوب التي تعيشها كل الالهة والطبيعة ونفسه، والتي هي كل العلاقات والصداقات والمجاملات والأشواق بين الآلهة والطبيعة ونفسه.
..كن برغوثاً كي لا ترى في الكون شيئاً دميماً.
..إن الثوار والزعماء والمعلمين هم جهاز القيئ الذي تتقيأ به الجماهير أحزانها وعدوانها وفحشها وأحقادها وغباواتها-تتقيؤها على نفسها وعلى ما حولها وعلى ما تمارس من مذاهب ومعتقدات وآلهة وبشر.
..الثائر هو الذي يثور على الناس بحجة الثورة من أجلهم، ويسلبهم الحرية والكرامة والرخاء والأمن والفضيلة والصدق بحجة السمو بهم، بحجة إعطائهم ما يسلبهم.إنه-أي الثائر-هو الهارب من نفسه أو من طبقته أو من تاريخه أو من ظروفه أو من همومه إلى الانتقام بالمذهب أو بالنظام أو بالشعارات أو بالعقائد أو بالتفاسير الجديدة للتاريخ، أي إلى الانتقام بذلك من الناس الهاربين مثله من أنفسهم أو من همومهم أو من طبقتهم أو من تاريخهم أو من ظروفهم أو من وجودهم التافه، أو من وجودهم الذي لا يفهمون أو يجدون له تفسيراً. فالمذاهب والنظم هي الآلهة الحديثة أو الدائمة التي يعاقب الثوار باسمها مجتمعاتهم، ويسطون عليها.
..إن الثائر هو التعبير الكامل العنيف عن كل ما تجمع وتفرق في كل التاريخ من وحشية وحقد ومرارة وكذب وبذاءة وتفاهة ودمامة وغرور وضجيج وادعاء وإرهاب وإفقار وأحزان عدوانية تجيئ في وجبة واحدة متجمعة فوق مائدة واحدة لتكون الغذاء الواحد الكامل لأحد المجتمعات المنكودة-إنه هو الفقر المذل المغتصب الضارب بخوف وبلا أي قيد من التقاليد.
..أما الزعيم فهو الذي يظل يبكي في السوق ويستجدي ويطلب الرحمة ويتحدث عن حبه وإخلاصه وصدق أحزانه ودموعه حتى ترق له السوق التي يتحدث إليها ويطرح نفسه فيها، وتذهب تبحث عن الخلاص من مناشداته لها وهتافه بها وإلقائه بكل عيوبه وآلامه وأحزانه فوقها.....
وأما الاشتراكية فإنها في نيات وسلوك أقطابها ومعلميها الجدد هي البحث عن التفرد بالقوة والتملك بحجة البحث عن العدالة. إن الإشتراكية في سلوك هؤلاء الجائعين وفي نياتهم هي إسقاط جميع الأقوياء وجميع ذوي المجد لتكون كل القوة وكل المجد لفرد طاغ أو لأفراد قليلين طُغاة.
..وأما الكاتب والمعلم فهما الكائنان العدوانيان اللذان يطلقان على الناس-بحجة الموت من أجلهم -أحزانهما وتشوهاتهما وبذائتهما أو مسراتهما ومشاعرهما المتفائلة الغلامية التي لا تعني سواهما بعد أن يحولاها إلى كلمات فيها كل معاني المشاتمة والمضاربة ونياتها.إن الكاتب والمعلم هما اللذان يتعريان أمام الناس ، يتعريان في الأسواق، ويعريان الناس ويتحدثان عن أعضائهما الداخلية وعن أعضاء الناس الداخلية بحجة البحث عن الحياء والاحتشام وحب الاتزان والوقار.....
وأما العالِم فهو الذي يجعل الإنسان يعيش في العبث والتفاهة والعذاب مائة عام أو أكثر بدل ثلاثين عاماً أو أقل، ويجعل عدد الناس يتضاعف كل مائة عام أو أقل بدل أن يتضاعف كل ألف عام أو أكثر، ويجعلعهم يتقاتلون بالشموس والأقمار من فوق النجوم بدل أن يتقاتلوا بالحجارة والأكف من فوق الأرض، ويبتدع لهم أشياء عديدة ورائعة ، ويبتدع لهم مع هذه الأشياء العديدة الرائعة احتياجات وتعقيدات وهموماً هي أيضاً عديدة ورائعة، ويصنع لهم مركبات فضائية يتنقلون بها بين مساكن الكواكب ومضاجع الآلهة وعروشها ، ثم يعجز عن أن يبتكر لهم إنساناً لا يحقد أو يكره أو يخاف أو يتكبر أو يبكي من الألم والهوان والجوع والحقارة، أو إنساناً لا يقتل أو يسرق أو يستعبد باسم المذاهب والآلهة والعقائد والدفاع عن القيم الإنسانية، أو إنساناً لا يضطر إلى أن يكون صغيراً أو جباناً أو كذاباً أو ذليلاً أو ملوثاً جداً لكي يستطيع أن يعيش مثل حشرة مهزومة وأن يتلائم مع المجتمع مثل حيوان مسحوق!
وأما الأحرار فهم وقاحة تاريخ تتحول إلى وقاحة نفس، إلى وقاحة لغة، إلى وقاحة مذهب، إلى وقاحة سلوك. إن الأحرار هم الذين يتحولون إلى أسوأ الناس لغة وأسوئهم أخلاقاً وأسوئهم أهدافاً ، إنهم هم الذين يصنعون أسوأ مما يصنع الآخرون تحت دعاوى وشعارات أسوأ من دعاوى وشعارات الآخرين، إنهم أفضل من يعلمون اللغة فنون الافتضاح ، هم أسوأ أو أقدر من يعلمون اللغة التواضع البذيئ أو الكبرياء الوضيعة.
إن الحشرات لو قُسمت ألى أحرار وإلى غير أحرار، لكان الذباب هو قائد وسيد أحرارها؛ لأنه أكثرها بذائة وتلوثاً وعدواناً..
وأما الشجاعة فأن تكون جباناً جداً حتى لا تستطيع أن تجسر على عصيان تعاليمك وتاريخك وطغاتك حينما يدفعون بك إلى أن تقتل نفسك وتقتل أيضاً أبرياء مثلك، دفع بهم جبنهم إلى أن يكونوا شجعاناً على قتلك وقتل أنفسهم لأنهم ليسوا شجعاناً على عصيان تاريخهم وطغاتهم وتعاليمهم الأْمرة لهم بأن يموتوا دون أن يعرفوا لماذا أو أن يسألوا :ما الثمن. ....
وأما العبقري فهو الذي لا يعرف لماذا اختارته الطبيعة ليكون أذكى الناس أو أغباهم، ليكون أكثرهم إسعاداً للحياة أو تعذيباً لها، ثم لا يعرف هل أرادت الحياة بما صنعت به أن تحسن إليه أو أن تسيئ.العبقري هو ذلك الإنسان المحكوم عليه بألا يعرف أو يستطيع أن يكون إنساناً فقط، أي إنساناً بلا عبقرية.
وأما العبقرية فهي أن تصبح إنساناً فاقداً للتوازن الذاتي إذ يجيئ فيك معنى واحد متفوق على حساب معانيك السخيفة الضعيفة!.
وأما الأخلاق فهي أن تُطيع النبي وتعصي نبوته، وأن تتوافق مع أهواء المجتمع وأكاذيبه وتخرج على مثله وعلى نماذجه المذهبية والدينة!.
وأما رجل الدين فهو الذي يظل يشتم الناس والحياة لحسابه الخاص، ثم يذهب يطالب الله والمجتمع بثمن شتائمه!.
وأما الإله فهو الأبعاد الفراغية، أو مسافة الفراغ المُمتدة بين إرادتنا وقدرتنا!.
وأما السياسي فهو الذي يصنع المشكلة التي لم تكن موجودة من قبل ولم تكن لتوجد لولاه، أو هو الذي يحاول علاج مشكلة صنعها هو أو صنعها سياسي آخر لكي يزيدها تعقيداً واستعصاء بمحاولته علاجها-أو هو الذي يتحدث باسم مشكلة ليس في حسابه أو في قدرته أن يعالجها. فالسياسي إذن في جميع مستوياته وجبهاته لا يكون أكثر من مرض يصيب المجتمع، ولا أكثر أو أفضل من طبيب غير بارع وغير صادق يحاول أن يعالج المجتمع أو يدعي علاجه أو يتظاهر بعلاجه من مرض قد أصابه هو به!.
وأما التفكير فهو البحث عن ذنوب وأخطاء الكون والناس والأرباب للتحديق فيها والتحدث عنها بلا رحمة أو مجاملة أو صداقة-إنه الشهوة الافتراسية المصابة بحب الملامسة والرؤية لأعضاء الأشياء الكريهة لفضحها بتعريتها والتركيز عليها والشعور بها والحديث عنها بشماته وأحياناً بيقين!.
وأما الجماهير فهم الذين يذهبون يبحثون عن وسيلة غير منطقية أو أخلاقية، أو ينتظرون مثل هذه الوسيلة لكي يستفرغوا فيها تفاهاتهم وهمومهم وبذاءاتهم وحاجتهم الدائمة للاستفراغ النفسي والأخلاقي ، فيجدون هذه الوسيلة في أعلى مستوياتها لدى الثوار والزعماء والمعلمين.....
وأما الناس-كل الناس-فهم الكائنات التي تقسو عليها الطبيعة ويقسو عليها زعماؤها وأربابها فتذهب ترد على هذه القسوة التي تمارس ضدها بالقسوة على نفسها وعلى جيرانها!
وأما الطبيعة فهي ذلك (اللقيط) الضخم الذي لا يعرف من جنى عليه، بل الذي لا يمكن أن يكون أحد قد جنى عليه، فهو المجني عليه بلا جان وهو الجاني بلا جناية. إن الطبيعة هي اللقيط الذي لا يوجد والذي لا يمكن أن يوجد من يدعيه ولا يمكن أن يدعي هو الانتساب إليه ولا من يمكن أن يحنو عليه-إنها اللقيط الشاذ الرهيب الذي ليس له والدة ولا والد معروف أو مجهول، إنها اللقيط بلا والد أو والدة!
إن الطبيعة هي اللقيط الذي عاقب كل البشر والأحياء-مُتأثراً بعقدته الخاصة الأليمة-فحولهم جميعاً إلى لقطاء الروح والهدف والمصير!.
وأما أنت وأنا فمحكوم علينا بأن نقاسي-صابرين أو باكين-كل ما في الكُتاب والمعلمين والثوار والزعماء والسياسين والعباقرة والعلماء والأحرار ورجال الدين، وكل ما في أنفسنا، من ذنوب وأحزان وتشوهات وضعف وأخطاء.
فما أسعدنا أذن!
وأما المستقبل فهو الذي يعني المزيد من العلم والتقدم مع مزيد من الطغيان والتعصب، ويعني المزيد من انتصار الزعامة والحكم على الإنسان ، والمزيد من انتصار العلم على الذكاء والحرية، والمزيد من تفوق قدرة الإنسان على الإنسان، والمزيد من عجز مبدع عن التكافؤ مع مبدعاته......
وأما المَجد فهو أن تكون أكثر الحشرات المتعادية بذاءة وإلحاحاً وسقوطاً في الوحل وقذفاً للسموم وتسللاً إلى الشقوق وافتراساً للحشرات الأخرى المنافسة لك على الشقوق والأوحال والسقوط.....
..أن الرجل العظيم يجب أن يكون أكبر من المجد ومن الافتتان بغواياته والاستسلام لشروطه المهينة الباهظة في ثمنها الأخلاقي والنفسي والإنساني.....
وأما أطول مسافة بين مكانين في العالم، فهي المسافة المُمتدة بين كلمة الإنسان ونيته، بين التفسير اللغوي لما يقول والتفسير النفسي لما يريد......
وأما أكثر الناس تحقيراً لأنفسهم وفقدأً للشرف والصدق والنظافة والشجاعة، فهؤلاء هم الكتاب وكل الممارسين للكلمة ولكل أدوات التعبير في عهد الطاغية القوي المالك لكل شيئ......
وأما المُتفائل فهو الذي يحب ويحابي نفسه حتى ليذهب يرضى ويدافع عن أخطاء وشرور الطبيعة لأنه يحياها.إن دفاعه عنها دفاع عما يفعل وعما يعيش، فهو أسلوب من أساليب الأنانية، فالتفاؤل اذن أنانية وليس فضيلة أو حكمة عالية.
..وأما المُتشائم فهو الذي يعيش كل الناس وكل الكائنات الحية داخل نفسه حتى الحيوان والحشرة المُعذبة، إنه يعاني الآلام الإنسانية والحيوانية والحشرية والكونية الموجودة بكل مشاعره، ويعاني كل الآلام التي توجد أو قد توجد أو التي لن توجد إلا بكل تصوره وخياله.
المُتشائم إنسان يعيش بخياله وتصوره كل الأشياء والناس ، كما تعيش فيه كل الأشياء وكل الناس، فما أشد وأوسع اذن عذابه.إنه لا يعبش ذاته أو حياته أو فيها فقط كما يعيش الذئب والقراد، ولا يعيش الآلام الموجودة فقط بل والآلام الغائبة، إنه إمتداد ورؤية وأحاسيس شاملة ومتخطية.
وأما القارىء الرديء فهو الذي يقرأ للكتاب الرديء والكتاب الجيد لكي يكون وعاءً عاماً لكل التفاهات والغبوات والهموم والأكاذيب الجيدة والرديئة!.
وأما القارىء الجيد فهو الذي لا يقرأ شيئاً لأنه يرفض أو لا يستطيع أن يكون مكان استقبال لأي مزيد من الغباء والأكاذيب والتفاهات والآلام وشهوات العرض والتعري وشهوات السقوط على الناس وفي أيديهم ومجالسهم وفي أفواههم ومشاعرهم ....
..إن كل ما في هذا الكون من جمال لا يستطيع أن يكون غُفراناً أو إعتذاراً عن أية دمامة يعاني منها أي إنسان، لأن كل ذلك الجمال لن يستطيع أن يجعل دميماً واحداً يشفى من دمامته، أو من شعوره بها، وأن كون عزاءً أو تعويضاً له عنها.
لم يكن المنطق في حياة الإنسان إلا إسلوباً من أساليب البكاء ، كان الإنسان يحيا ويبكي، أما حياته فكانت تتحول إلى تغيير بلا منطق، بل ضد المنطق كما تتغير الحشرة...
إن فرار الإنسان ليس من القيد إلى الحرية ولا من العبث إلى الجد ولا من الكذب إلى الصدق، بل من الشيئ إلى نفس الشيئ ولكن على مستوى آخر..
إن شيئاً لن يكون بلا عبث وبلا كذب وبلا قيد، بل إن الشيئ بقدر ما يكون كبيراً وقوياً يكون عبثاً وكذباً وقيداً.
..لا وجود بلا قيد وعبث، ولا عبث وقيد بغير وجود...