هبَّ من نوم الظهيرة فى موعده اليومى المعتاد، يعنى فى تمام الساعة الخامسة وخمس وخمسين دقيقة، عصراً. ومثلما يحدث كل مرة، مرّت عليه هنيهةٌ لا تزيد مدتها عن ثانيةٍ واحدةٍ أو أقلّ، شعر خلالها بإنسانيته وبأنه يستحق الاحترام. لكن هذا الإحساس المفعم بالعبق السحرى، سرعان ما تبدَّد كالمعتاد مع استيقاظ ذاكرته، وبالتالى إدراكه الواقعى لحقيقة ذاته المشتركة مع بقية الذوات، المختلفين بحكم القَدَر عن أبناء الذوات.. الآن سوف يحاول خلال الدقائق الخمس التالية، المستحيل الذى يحاوله دوماً بلا جدوى، وسيبقى مستلقياً على سريره غير المريح متشبثاً بأذيال النوم، عساه يغرق ثانيةً فى النعاس ثم يستفيق مجدداً فينعُم بهذه الهنيهة المبهجة التى تبرقُ فجأةً فور صحوه، وتختفى فور انتباهه لها
حاول كثيراً، لكن هيهات، فهذه اللحظة النادرة لا تأتى إلا مرةً واحدة فى اليوم، إن أتت! ففى بعض الأيام تصحو ذاكرته قبله، فلا يشعر عند استيقاظه إلا بأحواله الفعلية التى ملخصُها وتفصيلُها أنه شخصٌ عادىٌّ كبقية العاديين المحرومين من الأحلام، يعمل موظفاً لا يعمل كبقية الملايين الثمانية الذين تشكو البلاد من وجودهم همساً، وجهراً تتمنَّى سفرهم للخارج عساهم يفلحون هناك ويحوَّلون لوطنهم الأموال، تحقيقاً للقواعد العليا فوق القانونية.. وهى «الماجنا كارتا» المحلية غير المكتوبة، التى صاغها قبل ابتداء التاريخ المعروف فرعونٌ غابرٌ، كان يتميَّز ببلاغةٍ فادحةٍ ظهرت عبر عباراتٍ مفصحةٍ غيرِ فصيحة، عبَّر بها عن تلك الأصول التليدة البليدة التى صارت ناموساً، يفتك القانون بمن يُشكِّك فى حرفٍ منه. فمن تلك الأصول الرواسخ النواسخ لما عداها، قولهم: إسعدُه وابعدُه.. اللى ييجى منه، أكيد أحسن منه.. الحل بسيط، بس المواطن عبيط.. سافر مع السلامة، بَدَل ما تقرقشك هنا الندامة.. مفيش داعى تعاند، وتفضل يا بارد فى المرّ قاعد.. وسَّع للحبايب، وبلاش تبقى رِزِل وخايب.. الرزق للغايب، والحاضر مالوش نايب.
■ ■ ■
كحيوان الكسلان، قام متثاقلاً من سريره فى تمام الساعة السادسة مساءً. واستعدَّ بغير حماسٍ للذهاب لأداء الواجب اليومى المفروض كلَّ مساء، فوقف بملابسه الداخلية أمام خزانة الملابس ليختار ما يناسب التعزية فى المتوفاة التى تموت كلَّ يومٍ فى النهار فيتبادلون عزاءها فى المساء.. عزَّى فيها مراتٍ لا حصر لها، ولم يتلق فيها العزاء من قبل، قط. وسمع عنها منذ صغره آلاف الحكايات، لكنه لم يدرك زمانها ولم يرها أثناء حياتها، قط. بل لم يتأكَّد يوماً من صحة الاسم الذى كانت المرحومة تحمله، إذ يزعم بعضهم أن اسمها كان «بهية» ولكن يزعم بعضهم الآخر أنه تصحيفٌ وتزييف، لأن اسمها الأصلى الصحيح: بهانة.
عموماً، الاسم لا يهم فى شىء وما عاد يصحّ السؤال عنه الآن، لأن أداءُ الواجب مفروضٌ. بصرف النظر عن صحة اسم الميت، وعن جدوى وجوده الذى كان ثم انطوى.. ومادام الناس يعزُّون فيها من قديم الأزل، يومياً، فلابد من أنها كانت سابقاً حيةً وتحمل اسماً كبقية الأحياء.
نبش خزانة ملابسه وهو مُتيقنٌ من أن رابطة العنق السوداء، مندسَّةٌ منذ عودته من عزاء الأمس بين طيّات الملابس والملاءات. وإلا فأين ستكون؟ اجتهد فى البحث مراتٍ متتاليات، لكن الوقت الطويل ضاع منه بلا طائل فجلس مُحبطاً على حافة سريره وراح يهدّئ من غيظه، باستجلاب الأفكار المخفِّفات من شعوره بانعدام المعنى. حدَّث نفسه بأنه لا داعى لأىِّ قلق، فلا يزال الوقت مبكراً على انتهاء موعد العزاء اليومى المملِّ، وسيبقى السرادق المسمى «الصوان» منصوباً كالمعتاد حتى تمام الساعة العاشرة.. هناك إذن فسحةٌ لالتقاط الأنفاس، ثم العودة لمزيدٍ من التفتيش الدقيق. وحتى لو فشلت محاولة البحث الأخيرة التى سيقوم بها، فسوف يذهب للعزاء بدون رابطة العنق، فهى فى الأيام الحالية ليست شرطاً واجباً لأداء واجب العزاء، والواجبُ الأساسىُّ لا يصحّ أن يحول دونه واجبٌ فرعىٌّ.
سأل نفسه هامساً: لماذا يسمون المواساة فى الوفاة «واجب»، وأما المشاركة فى الأفراح فهى عندهم: المجاملة! هل هذا تأكيدٌ لأهمية الأولى وتفاهة الأخرى، أم هو تشديدٌ على أن القيام بالتعزية أمرٌ مفروضٌ لا مفر منه، أما الأفراح فهى اختيارية ولا عقوبات على مَنْ أهملها؟.. وكما هو متوقع عند استسلام العقول للتساؤل، بدلاً من التسليم والقبول غير المشروط، وقع فى المحظور فثارت الشكوكُ بصدره وتطرّقتْ إلى نفسه الوساوسُ الإبليسية والنزغاتُ الشيطانية المؤدية حسبما يؤكِّدون، إلى المهالك. وبطبيعة الحال، توالدت عن الأسئلةِ الأسئلةُ، فخرق جدار الطاعة العمياء وتجرَّأ على طرح السؤال المحرّم: ماذا يحدث لو أهمل الليلة الذهاب للتعزية، وتعلَّل للناس بأىِّ سببٍ مانع.
عند مواجهة نفسه بهذا السؤال، ارتجف قلبه فزعاً وصاح بداخله صوتٌ مُرجفٌ لكلِّ مُرجفٍ فتردَّد الصدى بأنحاء صدره، محذِّراً له وزاعقاً فيه: لا تهرطقْ أيها الجاهل بحقائق الأمور، وعُد بسرعة إلى الحظيرة، فإن فكرة ترك الواجب خطيرة.. ارتاع، وكاد يبكى وهو يعضُّ بنان الندم، وعندئذٍ عاد عقله إلى العمل من بعد غياب، فثاب إلى الرشد وأدرك أن تلك الفكرة الإلحادية الطارئة هى بالقطع، من وحى الكتكوت الناقر الكافر المعروف عنه أنه باع روحه للشيطان، فصار يغوى الإنس والجان.
قرّر ألا يترك رأسه نهباً لنقرات الكتكوت، واستعاد حرارة الإيمان بالإرشادات التى شبَّ عليها وشاب فصاح صارخاً: لن أستسلم لوسوسة كتكوتٍ خبيث، تحالف ضدى مع إبليس وكان متحالفاً من قبل مع أهريمن ومع زبانية هادس، لا وألف لا، لن أكون يوماً لقمة سائغة للغواية، فالغايةُ من حياتى هى العودة بالنهاية إلى البداية.. وعندئذٍ، ارتاح وراح يتلو ترنيمة الخلاص من الخطايا ويستشعر حروف كلماتها الآسرة: أنا مطيع وأنت مطيع، فنحن محفوظون من الضلال الفظيع، وبمنأى عن المصير المريع. السلامة السلامة، فى الاستقامة على سبيل الطاعة، والبقاء مندسّاً وسط الجماعة، والابتعاد عن الأسئلة والنطاعة.
هدأت نفسه، فظهرت له الحقيقة الدامغة والحجة البالغة التى طالما آمن بها أهله من قبله، وحفرها القدماء على صخور الصحراء: كُن مع بقية الناس، تأمن من الحيرة والالتباس.. وأدرك أن فى مخالفة المعتاد مُخاطرةً وإبحاراً ضد التيار، فإن تخلَّف عن واجب العزاء فسوف يُلام ثم تحلُّ به الآلام، أو يُضطر إلى سَوْق الاعتذارات وإبداء الندم على فوات فرصة أداء الواجب اليومى المفروض، وربما يُرفض اعتذاره ولا يُقبل ندمُه فيُرمونه بالتهمة الخطيرة: إنكار ماهو مشهور، والاستهانة بالقواعد المرعية. فيُسجنُ ويُستهجنُ ويُهجر ويحتقره الآخرون ولا يأتونه مُعزِّين حين تدور الدائرة، وتأتى الليلة التى يقف فيها على حافة السرادق، كى يتلقّى العزاء ممن كانوا يتلقَّون منه العزاء.
لكن الكتكوت لم يرحمه وعاد ينقر رأسه بالأفكار ويزِّين له الإنكار، فأوحى إليه بأنه سوف يفلتُ بفعلته من العقاب، لأنه لم يتخلَّف يوماً عن العزاء ومشهورٌ عنه الطاعة والولاء، وحتى إن حامت حوله الشكوك فأثارت ضده النفوس فسوف يستقيم على الدرب فى مقبل الأيام ويكون بعيداً عن أى اتهام.. شعر بالقشعريرة الثورية تدغدغ قاع دماغه، والتذَّ بهذا الشعور فحدّث نفسه بأن البقاء فى البيت أفضل، فعلاً، خصوصاً أن لديه مايجب أن يقوم به هنا من أعمالٍ أهم من التعزية. منها تسليك الحوض المسدود منذ شهور، وغسيل الصحن الوحيد الذى يأكل فيه، وترتيب خزانة ملابسه.. وغير ذلك من المهام الحياتية العظام.
■ ■ ■
سمع دقات ساعته الحائطية المعلّقة فى جدار البيت، فثار فى نفسه القلق لبلوغها التاسعة مساءً، وهمَّ ليرتدى مايناسب المناسبة من الملابس السوداء، ولا بأس إن أهمل استكمال الشكل بارتداء رابطة العنق المفقودة. لكنه حين قام واقفاً، شعر بدوارٍ خفيفٍ يلف رأسه فعاود القعود وهصر رأسه بيديه كى يستفيق.. وفجأة صدمته فكرةٌ جامحة فرفع حاجبيه مندهشاً من اكتشافه أن التعزية أصلاً لا معنى لها. فهى فى حقيقة أمرها لا تكون للميت، فمعظم المعزِّين لا يعرفون الميت الذى يعزِّون فيه، وحتى إن كانوا يعرفونه فما الذى سوف يستفيده من عزائهم.
باح لنفسه بأن التعزية عارية من المعنى، وكذلك الكلمات المستعملة عادة للعزاء. وإلا فما معنى قول أحدهم لأحدهم «البقية فى حياتك» أليس هذا نوعاً من الضلال المبين، لأنه يتضمن أن الميت لم يستوفِ أجله وترك منه بقية! والأعجب، أن الرد المعتاد على تلك العبارة المضللة هو «حياتك الباقية» وهو مايناقض العبارة البديلة لها: البقاء لله.. وهى عبارةٌ ناقصةٌ المعنى، وكمالها يجب أن يكون: البقاء لله والفناء للبشر.
ومادام الناس جميعهم فانين، فما معنى قول بعضهم لبعضهم الآخر: حياتك الباقية!.. ومادام الموت نقيض الحياة، فما معنى قول بعضهم لبعضهم الآخر: تعيش وتفتكر! كأنه يرجو له العيش والحياة من أجل تذكُّر الموت والموتى. والأغرب من كل ماسبق، قولهم: الموت حق! لأنه يعنى بالتبعية أن الحياة باطل. والحق يجب أن يُتّبع، كما يجب أن يُجتنب الباطل. ولهذا يحتفى الأحياءُ بالموتى، مع أن الأموات لا يكترثون لهؤلاء الأحياء الذين يُحيون ذكرى الميت فى اليوم الأربعين، يوم إتمام عملية التحنيط. وقد نسوا أسرار التحنيط وعلومه، وحافظوا على موعد انتهائه ليحتفلوا ويحتفوا بما صاروا يجهلون. ولم يكفهم هذا، فصاروا يُحيون الذكرى السنوية للميت كل عام، مع أنهم فى دار الباطل وهو فى دار الحق.. كيف يصحُّ احتفاء الفانى الباطل بالحق الباقى!
ومن مبهمات التعبيرات الغامضات، عبارتهم المعروفة التى تقال عقب التعزيات «لا أراكم الله مكروهاً فى عزيزٍ لديكم». فكأنها أمنيةٌ صريحة بأن يموت السامع سريعاً، فيرى الذين يعرفونه مكروهاً فى عزيزٍ لديهم، بدلاً من أن يرى هو المكروه فى عزيزٍ لديه.. والأكثر من ذلك غموضاً وإبهاماً، قولهم عمّن كان يعيش إلى جوارهم فوق الأرض، ثم مات واندفن تحت التراب: انتقل إلى جوار ربه.
فإذا كان كلام التعازى لا معنى له، ولا تنضبط دلالته، فما الداعى لترديده دون فهمٍ؟ وإذا كان العزاء ذاته لا فائدة منه للميت، لأنه محض تسليةٌ وسلوان للأحياء المتشبثين بالأموات، فما الداعى لاعتباره واجباً مفروضاً؟ وإذا كانت هذه المتوفاة التى تتم التعزية فيها يومياً، لم تُعرف فى حياتها ولم يُتفق حتى على اسمها، فما الداعى لذهابه الليلة أو فى أى ليلة للسُّرادق!.. وبالتالى فإن قراره الأخير هو عدم الذهاب، والاهتمام بما يحتاجه بيته من الترتيب والإصلاح، بدلا من تضييع الوقت فيما لا فائدة من ورائه.
■ ■ ■
لم يكن قراره الأخير، أخيراً.. لأنه حين نظر إلى ساعة يده فوجدها تدل على التاسعة والنصف، عاوده القلقُ وغمره الشعور بعدم الارتياح، فراح يتلفّت حوله حيران حتى وقعت عيناه على الصورة الوحيدة المعلّقة على الجدار. تأمل وقفته فى الصورة بالصفِّ الخلفى بين زملاء الدراسة، الذين صاروا اليوم زملاء العمل، وسوف يصيرون لاحقاً زملاء المقابر. ولحظتها أحسَّ بأنهم يحدِّقون فيه ويدركون ما يدور داخل رأسه، فدهمه خوفٌ منهم ومن خطورة تساؤلاته السابقة ومن قراره الأخير، فانتصب فجأةً واقفاً ونفض عنه الأفكار كلها.. بكى بحرقة النادمين، دقيقةً واحدة، ثم مسح عن خدّيه الدمع وثاب وأناب وعاب على نفسه الاسترسال مع خواطره السابقة، الخطرة. ومثلما يفعل الجميع فى تلك المواقف، خلّص نفسه من المسؤولية بإلقائها على الكتكوت، فصار بريئاً من الذنب.
أسرع بارتداء ملابسه السوداء، وخرج مسرعاً إلى سرادق العزاء فأدركه وقد امتلأ بالمتأخرين من أمثاله، وشفع له الزحام فلم يلحظ أحدٌ أنه جاء لأداء الواجب المفروض، متأخراً. ببطء النُّسَّاك، تقدم مع الصفِّ الداخل إلى الصفِّ الواقف على حافة السرداق، حيث الصفوة والقادة الذين يتلقُّون العزاء كل يوم. وحين وصل إلى أولهم، كان قد بلغ الغاية العليا من حالة الحزن المفرط والحماسة للموت. يعنى صار مواطناً صالحاً لا يثير أى شكوك، ثم صار من صُنَّاع التاريخ ومن خاصة الخلاصة. دونما قصدٍ منه. فعندما مدَّ يده إلى يد أول متلقٍ للعزاء، لم يعبر بسرعةٍ كالآخرين مكتفياً بالغمغمة غير المفهومة، وإنما نطق بالحق المطلق حين دار بينهما هذا الحوار الذى بدأ كالمعتاد وانتهى بمفاجأة:
- البقية فى حياتك.
- حياتك الباقية.
- حياتى فانية.
- صحّ.. البقاء لله.
- وللبشر الفناء.
- الفناء لنا.
- لنا الفناء.
سمعهما المحيطون بهما، وغلب على أحدهم فوران الإيمان فردَّد بصوتٍ عال ماسمعه منهما، وصاح زاعقاً: الفناءُ لنا، ولنا الفناءُ.. اهتاجت بواطن الحاضرين وأعادوا العبارة صارخين بها، بكل ما يعمر قلوبهم من اتقاء الحياة والميل إلى الموت، فاهتزّت جوانب السرادق بأنشودة المجد الزائل: الفناءُ لنا، ولنا الفناءُ.. خاف الساكتون من الصارخين، فصرخوا معهم بأعلى صوتٍ وأصدق نبرةٍ، وسرعان ما انتظم الجميعُ فى الترتيل الحماسى وتدافعوا إلى خارج السرادق الذى ضاق عليهم، وخرجوا إلى الشوارع متظاهرين.. مؤيدين.. مردّدين: الفناءُ لنا، ولنا الفناءُ.
انضمّ إلى المسيرة السائرون فى الطرقات، والقابعون فى بيوتهم، وكلُّ الذين كانوا نائمين فأيقظهم النداء.. وعندما انتصف الليل كان الجميعُ قد خرجوا إلى الميادين والطرق الرئيسة، متحمّسين، تطرق صيحاتهم آذان السماء وهم يردّدون بصوتٍ واحد، النشيد الخالد الذى صار من يومها ترنيمةً للعجائز وتميمةً للمواطنين جميعهم، على اختلاف أعمارهم ومستوى سلطتهم فى المجتمع. ومنذ ذاك اليوم، اختفى الكفرُ والشكُّ والتفكيرُ، واجتمع الجميع على وجوب الالتفاف حول هذا الشعار الجماعى، المعلوم من الجمع بالضرورة، ولا يجوز بأى حالٍ الشكُّ فيه:
الفناءُ لنا، ولنا الفناءُ.