بعدما نظرتْ طويلاً بأسىً فادحٍ فى الأنحاء الخَرِبة التى كانت سابقاً منزلها العامر، همستْ «أمُّ السعد وجيدة بنت خلف الوزّان» لنفسها، بأنه لا فائدة تُرجى من البقاء وحدها وسط هذه الأطلال، خصوصاً بعد بيعها صباح اليوم بوابتىْ البيت: الأمامية الكبيرة، والخلفية الصغيرة.. مسحتْ خدَّيها وزَفَرتْ كمصدورٍ ثم قامت ببطء الثكالى فجمعتْ ما تبقى فى الغرف من مُهلهل ثيابها، وعقدتْ عليها أطراف ملاءة السرير فصارت مثل زكيبةٍ رخوةٍ دّسَّتْ فيها بين الطيّات، سنوات عمرها التى نيّفت على الستين. ولمّا لم تجد المزيد لتفعله، جلست بحوش البيت قرب الباب المخلوعة ضلفته وبجوارها الزكيبة الصغيرة، انتظاراً لاقتراب الغروب. كى تستتر بظلال المساء التى سوف تمتد، حين ترحل عن هنا للسكنى مع قريبتها «أم الخير محفوظة بنت عسران بن السكر والليمون» فتبقى مقيمة عندها، حتى توافيها الوفاةُ وترحمها من الذكريات.
■ ■ ■
أيام البهجات الأولى وميعة الصبا كانوا يدلّلونها فى بيت أبيها الفقير المستور، بأن ينادوها أحياناً باسم «وجد» وأحياناً بكنية «أم السعد». ولمّا تزوّجها جارهم بمصر العتيقة «جندل القصّاب» ظنتْ أن هذه الكُنية ستكون صفةً دائمة لحياتها، وأمعنت الأمانى فى خداعها بعدما أنجبتْ لزوجها ابنهما «سعد الدين» فصارت فعلا أمُّ السعد، ثم ابنتهما «قَرَنْفُلة» التى جاءت ومعها سعةُ العيش، إذ استطاع زوجها فى الشهر الذى وُلدت فيه البنت، استئجار دكان فى شارع «الصنادقية» المؤدى من جهة العسكر والقطائع إلى الجامع الأزهر، وهو الشارع المعروف بازدحامه ووفرة رزقه حتى مع توقُّف إقامة الصلاة فى الأزهر بأمر السلطان الناصر. ومن يوم استئجاره الدكان، كفَّ «جندل» عن المرور على البيوت بالذبيحة التى يبيع لزبائنه منها، وما عاد يُلبّى استدعاء الراغبين فى ذبح الخراف ببيوتهم. وصار المشترون يأتون إليه وهو مستقرٌ فى دكانه المحفوظة فيه قطع اللحم برسم البيع، وأمامه الخراف التى يتاجر فيها حيةً.. وشيئاً فشيئاً، راجت تجارته وجرت الدراهم بين أصابعه، وهدأ البال من هموم نقص المال.
ما كان يخطر على خيال أحد أن الفكرة البسيطة التى وردت فجأةً على ذهن «جندل» وهو جالسٌ على عتبة دكانه، سيكون لها هذا الأثر الكبير عليه وعلى الذين من حوله.. كان ذلك فى مطلع شهر ذى القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة للهجرة النبوية، وكانت الأخبار قد وردت بأن عسكر الإسلام من مماليك الملك الصالح، غلبوا التتر فى موقعة «عين جالوت» بقيادة كتبغُا المغولى، فى غيبة ملك التتر «هولاكو خان» المسمى عند العامة من الناس «هولان». وأن المماليك غدروا ببعضهم البعض كالمعتاد منهم، وبعد الوقعة والنصر تربًّص الأميرُ بيبرس البندقدارى وجماعةٌ معه بالملك المظفر «سيف الدين قطز» فقتلوه غيلةً وجعلوا قاتله «بيبرس» مكانه، عملاً بالمبدأ الذى وضعه الملك المغدور به كشرعةٍ للماليك ومنهاجا: الحكم لمن غلب. وأن المماليك وعساكرهم فى طريقهم إلى مصر لتنصيب «بيبرس» ملكاً وحاكماً عليهم وعلى البلاد، وموكبهم سوف يصل بسلامة الله ساعة العصر، بعد غدٍ.
هنا خطرت الفكرة على رأس «جندل» فتحدَّث لمن حوله، مقترحاً خروجهم لاستقبال الملك الجديد خارج السور، للترحيب به وإنشاد أغنيات الولاء له.. وافق على الفكرة كثيرون، وكثيرون رفضوها مفضّلين الابتعاد عن دائرة السُّلطة السليطة، وكان من معارضى «جندل» عمه الشيخ الزاهد المنقطع للعبادة فى الجامع العتيق بناحية الفسطاط، وقال لجندل ما فحواه إننا فى حلٍّ عن التأييد والاعتراض، معاً، ولا شأن لنا بمن يغلب فيحكم لأننا فى خاتمة المطاف المحكومون وليس بيدنا من الأمر شىء. حاججه «جندل» بأن البلاد والعباد فى احتياجٍ لرجلٍ عسكرىٍّ قوىّ الشوكة مثل «بيبرس» ليحفظ الأمن ويدفع الأخطار، فقال له عمُّه: أنت وشأنك، لكننى غير موافق على تأييدك لهذا القاتل الذى غدر بالملك المعظم «توران شاه»، ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، واغتاله، ثم غدر بالملك «المظفر قطز» الذى جعله وزيراً له، فكان جزاؤه أن اغتاله «بيبرس» فى أول فرصةٍ سنحت له، فلم يهنأ الملك المغدور به بالانتصار وانقطع أجله وهو لم يمضِ فى الحكم غير سنةٍ واحدة..
يوم وصول عسكر المماليك وعلى رأسهم «بيبرس» كان الجمع الذى جنّده «جندل» فى انتظارهم خارج الأسوار حيث اصطفُّوا فى طابور طويل، صاخبين مرحِّبين مهلِّلين، ثم ساروا خلف موكب العسكر حتى دخلوا بالملك الجديد قلعة الجبل. وقد أُعجب بيبرس بهذا الاستقبال غير المتوقع، وطرب للأغنيات والأهازيج المرحّبة به، فسأل عن صاحب هذه الفكرة ومنفِّذها فأخبره صاحب العسس السلطانى بأنه رجلٌ من عوام المصريين المحكومين يعمل قصّاباً، اسمه «جندل».. فهز بيبرس رأسه الأحمر الضخم، راضياً.
فى نهاية هذا الشهر، ذى القعدة، كان المماليك قد أعلن معظمهم الولاء للملك الجديد الذى اختار لنفسه لقب «القاهر» لكن أصحابه نصحوه بتغييره لأن هذا اللقب كان نذير شؤمٍ على الذين اختاروه سابقاً، فتوجّس واختار لنفسه اسم «الملك الظاهر بيبرس» وقرّر الخروج من القلعة فى موكب الملوك، ليفرح به عوامُّ المصريين المملوكين للمماليك. وطلب من رئيس العسس أن يتصل بالرجل الذى اسمه «جندل» ليفعل يوم خروج موكب التنصيب، ما فعله سابقاً من الحشد والتهليل والترحيب.
أرسل رئيس العسس إلى الدكان رجلاً نحيلاً من العاملين معه، فهمس فى أذن «جندل» بأنه مطلوبٌ على وجه السرعة للقاء شخصٍ مهم، عند المدخل الخلفى للقرافة الكبرى.. فرح «جندل» بهذا الاستدعاء الرسمى وأسرع بإغلاق دكانه نهاراً مدعياً لجيرانه حجةً ساذجة، وسار خلف الرجل النحيل حتى التقى بالرجل الخطير فى المكان المذكور.. وفرح حين عرف بأن الملك أعجبه حشد العوام يوم العودة من «عين جالوت» وأنه يريد حشداً أكبر يوم خروج موكبه من القلعة بعد غد، فأبدى «جندل» حماسةً لتنفيذ هذا الأمر، مؤكداً أنه سيبذل أقصى جهده ليكون عند حسن ظن رئيس العسس، وعند حسن طاعة الملك الجديد.. وفرح حين أعطاه رئيس العسس صرةَ كِتَّانٍ فيها عشرون ديناراً، ليستعين بها على تكاليف الحشد ودفع دراهم معدودات للعوام الذين لا يتحمّسون سياسياً إلا بمقابل مالى. وحذَّره من البوح بأى شىء جرى فى هذا اللقاء السرى، وأكّد عليه أن يقنع العوام بأن الترحيب بالحاكم الجديد هو عملٌ وطنىٌّ، لا دافع له إلا الحرص على المصالح العامة والحبُّ العميق للملك الجديد. ووعده بالرضا والخيرٍ الكثير، إذا نجح فى حشد الشرفاء والرقعاء من العوام بعددٍ وفير يناسب جلال المناسبة، وألمح له بأنه قام سراً باستمالة بعض فقهاء السلطان وسوف يزخرفون الحشد فيبدو يومها معبِّراً عن طوائف الشعب السعيد بالحاكم الجديد.
كان رئيس العسس صادق الوعد، فبعد نجاح الاحتفالية أرسل واحداً من أعوانه لإبلاغ «جندل» بأن الملك الظاهر راضياً عنه، وسوف يقابله فى المساء بقلعة الجبل.. فى الموعد المحدّد ارتدى «جندل» أفضل ثيابه، واكترى بغلةً حملته إلى مكان اللقاء الذى توقّع أن يكون فى القصر، لكنه قابل «بيبرس» فى غرفةٍ فسيحة بالقرب من بوابة القلعة. فى بداية اللقاء راح قلب «جندل» يرتجف خوفاً، وارتعدت فرائصه من هول المقابلة خصوصاً مع ضخامة بدن الملك وحمرة وجهه المتجهّم وشعره الملتف كالخواتم الذهبية القديمة، وزاد من رعبه نظرة الملك وملامحه القاسية والبياض الذى بإحدى عينيه. لكنه اطمأن حين دعاه «بيبرس» للجلوس، وابتسم له، ثم جرى بينهما عبر المترجم الحوار التالى:
- قيل لى إنك تعمل قصّاباً، يعنى لا يفزعك الدم واللحم إذا تقطّع، يعنى قلبك قوى. فهل هذا صحيح؟
- صحيح يا مولاى.
- وهل تعلم أن لى أعداءً يتربّصون بى وبالبلاد، ولابد من قطع شأفتهم، والذين يميلون إليهم لابد من تأديبهم؟
- لابد يا مولاى.
- أما القتل وقطع الشأفة فسوف أتولاه بنفسى ولا شأن لك به، لأنك لن تقدر عليه، لكننى أريدك لتأديب العوام الذين يميلون إلى أعدائى. فهل تحب أن تعمل فى وظيفة الجلاد.
- أحب يا مولاى.
- جيد، سوف يخبرك رئيس العسس بمهام وظيفتك.
- السمع والطاعة يا مولاى.
■ ■ ■
أخبره رئيسُ العسس بأنه سيكون رئيسه المباشر، وبأنه قبل استلام مهام منصبه الجديد كجلادٍ يجب عليه أن يبقى فترة وسط الناس، عليه خلالها أن يتسمّع ما يتهامس به العوامُ، لتمييز الطيب المؤيد من الخبيث المعارض. وعليه أثناء هذه الفترة أن يقترب من عامة الناس كى يتتبّع أخبار الممتعضين من مقتل قطز، حتى يتسنّى تشتيت قواهم قبل اجتماعهم على رأى واحد. وعليه أيضاً خلال هذه الفترة أن يستكشف المؤيدين للداعى الفاطمى، الرافضى، المدعو «الكورانى» الحالم بعودة دولة الخلفاء الغابرة، ومعاونوه من رؤوس الفتنة الذين ينظمون المظاهرات الليلية ضد الملك الظاهر.. وافق «جندل» من فوره على المهام المطلوبة، جميعها. ووعد ببذل أقصى طاقته لتحقيق المطلوب منه، وحصل من رئيس العسس على منحةٍ مالية فى صُرة كالسابقة، ليستعين بها على النفقات.
تحسَّس صرة الدنانير وهو ينحدر على ظهر البغلة من ناحية القلعة إلى منزله، فامتلأ صدر «جندل» بأحاسيس قوية لم يعهدها من قبل، وقال فى نفسه ما معناه أن الفرصة جاءت إليه تسعى وتحمل الرزق الوفير، وعليه فقط أن يجتهد فيما طُلب منه حتى يرضى عنه الكبراءُ ويقرِّبونه منهم، فيطلب العوام رضاه ويتقرَّبون إليه، فيتهنّى فى مقبل الأيام بما قسمته له المقادير.
لم يُضع «جندل» وقتاً.. فى الصباح التالى استأجر دكاناً فى حارة «بَرْجَوَان» ليحصل من خلاله على أخبار أزقّة القاهرة ويعرف أسرار التظاهرات المعارضة التى تخرج منها، وبعد أسبوعين استأجر دكاناً ثالثاً قرب بوابة الجامع العتيق ليحصل من خلاله على أخبار الفسطاط، ويعرف رؤوس المعارضين للحكم. وجعل له ثلاثة معاونين من أقاربه، فكان يدور عليهم يومياً بانتظام فيجلس فى كل دكانٍ من الثلاثة حيناً، ليعتاد الناس رؤيته ويبذلون له ثقتهم ثم يحدّثونه بأسرارهم. وخلال ذلك كان يتودّد إلى الجيران ويُحسن إلى فقراء الحى المحيط بكل دكان، كما صار يُرخص أسعار بيع اللحم ويبيع الرطل بثلثى ثمنه.
ونجحت خطته فأحبَّه الناس وهوت إليه قلوبهم وبطونهم، فتحقّق له ما أراد وحصل ممن حوله على كثير من دقائق الأخبار التى أسهمت مع جهود بقية العسس، فى إلقاء القبض على «الكورانى» الفاطمى الرافضى المارق، فقتله الملك الظاهر وعلّق جثمانه على باب زويلة ليكون عبرةً لمن شاء أن يعتبر، واعتقل كثيرون من أتباعه فأُلقى بهم فى غيابة الحبوس. كما أسهمت جهود «جندل» فى القضاء على فتنة المتباكين على مصير الملك السابق «سيف الدين قطز»، وأبلغ رئيس العسس سراً بأسمائهم، فتمَّ قتل رؤوسهم واعتقال كثيرين منهم جرى زجّهم مع قرنائهم فى غيابة الحبوس. وكذلك كانت لجهود «جندل» أثرها فى معرفة أعوان المعارض العتيد «علم الدين سنجر» الذين كانوا يتلقُّون منه الأموال المشبوهة المسربة إليهم سراً من خارج البلاد، لإثارة القلاقل والفتن فى الأنحاء، فتم بحمد الله قتل بعضهم واعتقال كثيرين منهم بالحبوس تمهيداً لتأديبهم.. وكان الشىء الوحيد الذى نغّص صدر «جندل» أيامها، أن عمّه الزاهد كان فى جملة المعتقلين، وعبثاً حاول التوسُّط له والاعتذار عنه بأنه شيخٌ خَرِفٌ لا يدرى ما يهرف به، لكن وساطته لم تنجح ولم يُقبل اعتذاره. فخشى أن يؤدّى ذلك إلى انعدام الثقة به وإثارة الشك فيه، فلم يعد للوساطة والاعتذار، واعتذر عنهما بأنه أخطأ فى الحكم وكان حسن النية، وأكّد أن الرجل ليس عمّه بالفعل لكنه قريب من بعيد للمرحوم أبيه، فكان يناديه تأدُّباً عمَّى! لكنه الآن عرف خطأه وتبرَّأ من تلك القرابة البعيدة.
فى مطلع العام الأول بعد الستين وستمائة من هجرة الرسول، كانت أحوال «جندل» المالية قد تحسّنت فكاد يلحق بالأعيان بعد ثلاثة أعوامٍ من العمل الاستخباراتى الرخيص، وكانت زوجته راضية عن رغد العيش الذى تنعم فيه أسرتها الصغيرة، واكتملت سعادتها بتزويج الولد والبنت وانتظار الأحفاد والأسباط. ومع مرور الوقت كاد «جندل» ينسى الاتفاق الأول، وتوهَّم أن عمله السرّى سيظل دوماً سرّياً. لكنه فوجئ باستدعاء رئيس العسس الذى أخبره بأن المعتقلين امتلأت بهم الحبوسُ وضاقت عنهم، ولابد من الشروع فى تأديبهم بالجلد كى يموت منهم مَنْ يموت، ويُطلق سراح الذين يتأدّبون ويدينون بالولاء الصريح للملك الظاهر. وبشّره بأن الملك لايزال يتذكَّره وسوف يقابله بعد صلاة الجمعة القادمة، ثم يوقّع له على قرار تعيينه جلاداً عقب المقابلة، ويُجرى له الرزق الذى يستحقه.
استبدَّ القلق بقلب «جندل» وعقله فحرمه النوم طيلة ليلتين، ولمّا لاحظت امرأته اضطراب أحواله واجهته بالأمر وسألته إن كان ينوى الزواج بغيرها، فأنكر، فهدأت خواطرها وتوهّمت أن ما به هو من أثر الحسد، فأطلقت فى البيت البخور.. مساء يوم الخميس عاد «جندل» إلى البيت مبكراً، أملاً فى النوم لكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلاً. سألته امرأته بلطفٍ عما يعانيه، فباح لها بأنه سيلتقى فى الغد بالملك الظاهر وسيكون ابتداءً من بعد غد واحداً من جلاديه المعتمدين.
خبطت «وجيدة» بكفّها على صدرها، وانفلتت من صدرها صرخةٌ مكتومة ومن عينيها دموعٌ، واعترضت عليه بأنهم ليسوا بحاجة إلى وظيفةٍ قبيحةٍ كهذه فاعترض على اعتراضها بأن الاختيار ليس بيده، واعترضت عليه بأن أحوالهم تحسّنت فى السنوات الأخيرة لأنهم كانوا بعيدين عن الحكام فاعترض على اعتراضها بأنه لولا تقرُّبه منهم ما كانت الأحوال قد تحسّنت، واعترضت عليه بأن هذا العمل لم يعد يناسبه بعدما تخطى الأربعين من عمره، فاعترض على اعتراضها بأنه لا يملك الرفض وإلا احتفَّت حوله الشكوك.. غلبها الهمُّ فنامت، وأمضى هو ليلته مُسهّداً.
وقت الضحى لبس أفضل ثيابه وركب بغلته فأخذته إلى القلعة، وفوّت صلاة الجمعة لأن الحرس رفضوا دخوله المسجد السلطانى للصلاة مع حاشية الملك، وأمروه بالانتظار فى الغرفة الفسيحة التى كان فيها اللقاء السابق، فجلس هناك ساكناً حتى دخل عليه الملك قبيل صلاة العصر، وجرى بينهما هذا الحوار:
- بلغنى أنك اجتهدت فى عملك السنوات الماضية، وتستحق المكافأة.
- خادمك المطيع يا مولاى.
- من الغد ستبدأ فى جلد المحكوم عليهم بالجلد، والمعارضين المعتقلين، ولا يجب أن تأخذك بهم شفقة ولا رحمة.
- خادمك المطيع يا مولاى.
- الذى يقضى من ضرب السياط لن تُلام على موته، فكن قوى الضربات، واجعل السياط تلتف من الظهور إلى البطون عساها تنفزر فنستريح من المجلودين.
- خادمك المطيع يا مولاى.
- سأحضر أحياناً جلسات الجلد، لأننى أميل إلى مشاهدة التأديب ورؤية الندم وهو يكسو الذين كانوا يعارضون، فكن دوماً مستعداً لحضورى.
- خادمك المطيع يا مولاى.
■ ■ ■
ظلّ «جندل» يجلد الناس أعواماً، ويلتذُّ حين يرى الملك يلتذُّ بوقع السياط وصراخ المعذّبين ويبتهج إذ تنفزر بسبب الضربات البطون. وصار مع الوقت يجلد بشكل قاسٍ ودون أسف، فمات تحت سياطه خلقٌ كثيرٌ وعطب آخرون فأطلق سراحهم وهم مُحطّمون لا يصلحون للعير ولا للنفير. وسارت الأيام على ذات المنوال، حتى جاء اليوم الذى اضطر فيه لجلد عمه الزاهد الذى كان معتقلاً ومنسياً فى الحبس منذ سنوات. ومع أن الملك لم يكن حاضراً يومها جلسة الجلد، إلا أن «جندل» خاف أن يخفّف فتلحق به التهمةُ الخطيرة: عدم الولاء والرفق بالأعداء.
كان المقرر أن يجلد الشيخ عشرين سوطاً، لكنه لم يحتمل لضعف بدنه الجلدة الأولى وسقط مغشياً عليه، ثم شهق شهقة عظيمة وأسلم روحه بعدما نظر فى عين «جندل» نظرةً فيها من المعانى ما تعجز اللغة عن التعبير عنه. لحظتها انهارت كل الحصون وأخذ الدوارُ برأس «جندل» فاعتذر عن استكمال عمله بسبب المرض المفاجئ وأسرع إلى منزله.. طلب من امرأته أن تدثّره بلحافٍ فاستغربت طلبه والأوان صيفٌ حار، وظنّت أنها الحمى.
فى الليل راح «جندل» يتفزّع كالمصروعين، فاستدعوا له فى الصباح طبيبٌ مبتدئ، أكّد لهم أنه لا يعانى من أى نوع معروف من أنواع الحمى.. وبعد يومين ساءت أحواله أكثر فصار يصرخ فَزِعاً طيلة الليل ويئن خلال ساعات النهار، فاستدعوا له طبيباً خبيراً أخبرهم بأن العلة نفسانية، وسببها غلبة الوجد. وبعد شهور تدهورت فيها الأمور أخبرهم الأطباء بأن «جندل» لا أمل فى شفائه لأن سبب العلة مجهول، وما دام النوم فى المرض المزمن يُحدث وجعاً، فذلك من علامات الموت. ونصحوا بإيداعه فى بيمارستان الأمراض النفسية، الشبيه بالحبوس، مع بقية الميؤوس من نجاح علاجهم.. وبعد سنوات تراكمت الديون، لاسيما بعدما نسى رئيسُ العسس والملكُ والمملوكين ذلك الجلاد الذى اجتهد حتى صار من الهالكين.
■ ■ ■
بعدما نظرتْ طويلاً بأسىً فادحٍ فى الأنحاء الخَرِبة التى كانت سابقاً منزلها العامر، همستْ «أمُّ السعد وجيدة بنت خلف الوزّان» لنفسها، بأنه لا فائدة تُرجى من البقاء وحدها وسط هذه الأطلال، خصوصاً بعد بيعها صباح اليوم بوابتىْ البيت: الأمامية الكبيرة، والخلفية الصغيرة.. مسحتْ خدَّيها وزَفَرتْ كمصدورٍ ثم قامت ببطء الثكالى فجمعتْ ما تبقى فى الغرف من مُهلهل ثيابها، وعقدتْ عليها أطراف ملاءة السرير فصارت مثل زكيبةٍ رخوةٍ دّسَّتْ فيها بين الطيّات، سنوات عمرها التى نيّفت على الستين. ولمّا لم تجد المزيد لتفعله، جلست بحوش البيت قرب الباب المخلوعة ضلفته وبجوارها الزكيبة الصغيرة، انتظاراً لاقتراب الغروب. كى تستتر بظلال المساء التى سوف تمتد، حين ترحل عن هنا للسكنى مع قريبتها «أم الخير محفوظة بنت عسران بن السكر والليمون» فتبقى مقيمة عندها، حتى توافيها الوفاةُ وترحمها من الذكريات.