عن عمران بن حصين أنه قال: (إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب) (1) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما في المعاريض ما يغنى الرجل عن الكذب) (2) .
(والمعاريض: أن يريد الرجل أن يتكلم الرجل بالكلام الذي إن صرح به كان كذبًا، فيعارضه بكلام آخر يوافق ذلك الكلام في اللفظ، ويخالفه في المعنى، فيتوهم السامع أنَّه أراد ذلك) (3) .
قال النووي: (اعلم أنَّ هذا الباب من أهم الأبواب، فإنه مما يكثر استعماله، وتعم به البلوى، فينبغي لنا أن نعتني بتحقيقه، وينبغي للواقف عليه أن يتأمله ويعمل به) (4) .
وقال أيضًا: (واعلم أن التورية والتعريض معناهما: أن تطلق لفظًا هو ظاهر في معنى، وتريد به معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ، لكنه خلاف ظاهره، وهذا ضرب من التغرير والخداع.
قال العلماء: فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حقٍّ، فيصير حينئذ حرامًا، هذا ضابط الباب) (5) .
أمثلة للمعاريض:
(لما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم، كتب إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف، فمَن أقرَّ منهم بالكفر خلَّى سبيلَه، ومَن أبَى يَقْتله، فأُتي منهم بعامر الشعبي، ومطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير وسعيد بن جُبَير؟ فأمَّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية، ولم يُصرِّحا بالكفر، فَقبِل كلامهما وعفا عنهما؟ وأمَّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك فقتل.
وكان مما عرَّض به الشعبي، فقال: أَصلح الله الأمير، نَبا المنزل، وأَحْزَن بنا الجَناب، واستَحلَسْنا الخوفَ، واكتَحلنا السهرَ، وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء، ولا فَجَرة أقوياء. قال: صدقَ والله، ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا. خَلِّيا عنه.
ثم قُدِّم إليه مُطرِّف بن عبد الله، فقال له الحجَّاج: أَتُقِرُّ على نفسِك بالكفر؟ قال: إنَّ مَن شقَّ العصا، وسَفَك الدماء، ونكث الـبَيْعة، وأخاف المسلمين لجديرٌ بالكفر. قال: خلِّيا عنه. ثمّ قُدِّم إليه سعيد بن جُبير، فقال له: أتقِرُّ على نفسك بالكُفر؟ قال: ما كفرتُ بالله مذ آمنت به؟ قال: اضربوا عُنقه) (6) .
وقال النخعي: (إذا بلغ الرجل عنك شيء قلته فقل: الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيتوهم السامع النفي، ومقصودك الله يعلم الذي قلته) (7) .
(وكان النخعي إذا طلبه رجل قال للجارية: قولي له اطلبه في المسجد.
وقال غيره: خرج أبي في وقت قبل هذا.
وكان الشعبي يخط دائرة ويقول للجارية: ضعي أصبعك فيها، وقولي: ليس هو هاهنا)