"على قد جماهيرك مد راديكاليتك"، عبارة كنت باقولها لصديق ليا بهزار، وكان دايما بيقعد يناكف فيا، وفوجئت بيه من يومين بيقول كلام شبه ما كان يرفضه، بس بيأس مرعب، زي ما كان قبل كده بيتكلم بأمل مرعب، وبيقين مرعب إنه لمس النصر بإيديه؟.
هل في حد بعد خمس سنين قدر يدرك تعقيدات الواقع ويتعلم إن أهم درس هو إنك تنشر دايما ثقافة النفس الطويل، وإن الغنائية والملحمية أسلحة ذات حدين ولازم يتم التعامل معاها بحذر؟، في ناس اتعلمت وناس لأ، وقدرة الخطاب الراديكالي على استثارة البهجة في نفوس الناس تشبه قدرة الخطاب الإصلاحي على استثارة الأمان في نفوس الناس، والاتنين هيغلبهم إلى حين قدرة الخطاب السلطوي على تقليل الخوف في نفوس غالبية الناس، وإحساسهم إنهم مسنودين على شيء قبل ما يكتشفوا إنهم مسنودين على العدم.
للأسف أكتر حاجة احنا محتاجينها دلوقتي النقد الذاتي، بس الظروف المأساوية بتصعب الحكاية، غير إن مفهوم أغلبنا للنقد الذاتي يعني إنه ينقد ذوات الآخرين، مش ينقد ذاته هو، وعشان كده يمكن الحل إننا نبدأ بما يمكن تسميته التأمل وطرح الأسئلة، مش عشان استمرار الثورة، لإن الثورة دائما بتتجاوز الأشخاص المرتبطين بيها سواء محبيها أو كارهيها، من حيث كونها في الأساس تعبير عن لحظة فشل في إدارة الصراع في المجتمع، وده كلام قُتل بحثا، وسيظل كأي كلام بشري محل خلاف، وسيظل الإنسان مفتونا بما يهواه، الحالم يحلم بالتغيير الجذري، والحذر يبحث عن الحلول الوسط، والخائف على مكاسبه يتوهم القدرة على الحسم، ومش هيفضل قدامنا إلا إننا نتعلم ونحاول ونحلم، الحلم دايما بيبقى من غير حدود، لو في حلم بحدود ما يبقاش حلم، لكن اللي يحاول يحول حلمه لحقيقة وما يفكرش في إمكانياته المتاحة لكسر حدود الواقع ويحاول يتعامل معاها تمهيدا لكسر حدود الواقع، بيتحول حلمه ده إلى بلاهة.
عن نفسي تعاملت مع الثورة منذ البداية بوصفها مسألة شخصية، ولإني أؤمن دايما بقداسة التعبير عن الرأي، وكونه بالنسبة لي الغاية والوسيلة، كنت باحاول أعبر عن رأيي دائما حتى لو أغضب الآخرين، ما أعرفش إذا كان ده صح ولا لأ، لكن ده اللي عملته، وباحمد ربنا إني كنت محظوظ لحد دلوقتي إني أدفع أقل ثمن ممكن، وباحترم اللي دفعوا ثمن أغلى، وباقدس الشهداء وبانحني لتضحيات الجرحى والمساجين، وعشان كده لما باشوف آراء بتزعلني أو توجهات باستغربها، بافكر نفسي بإن الثورة مسألة شخصية، وإن لكل إنسان ثورته، هو اللي بيحدد نصرها وهزيمتها وانكسارها وعلاقته بيها، وعشان كده باحترم مواقف الناس، لكني برضه بافضل مندهش من عدم قدرة الناس على التواصل مع تجارب شاركوا فيها، وفتنتهم بتكرار أخطاء الماضي، لإن العقل دايما في الثورات بيتم التعامل معاه بوصفه شيء سلبي أو غير مرغوب فيه.
أي حد قرا التاريخ يعرف إن معنى عبارة (الثورات تأكل أبناءها) مالوش علاقة بالضرورة بفكرة التعرض للقمع المهلك، بقدر ما ليه علاقة بإن لحظة الانفجار اللي بتتسبب فيها الثورة، بتخلق واقع معقد سرطاني في تحولاته، وغالبا الناس اللي بتتدهس هي الناس اللي بتتخيل قدرتها على معاندة الواقع الجديد، وأحيانا ده بيكون العناد ليه علاقة باعتبار الوقوف ضد الأسئلة والتأملات شيئ نبيل ليه علاقة بالإخلاص للثورة، وده بيخليني لما باشوف بعض الخطابات الزاعقة دلوقتي واللي بتشبه خطابات زاعقة كنت باسمعها من خمس سنين، أسأل نفسي بسخرية مريرة عن اللحظة اللي هاشوف فيها صاحب الخطاب الزاعق ده وهو بينهار.
طبعا في ناس كتير بتتصور إن عندها إجابات جاهزة لأسئلة اللحظة، وعادة بيكون كلام من نوعية أصل لازم نستعيد روح الميدان، أو نعمل تنظيم ثوري، أو نمارس النقد الذاتي، وطبعا لو حد فكر إنه يدخل في تفاصيل الكلام ده بيكتشف خوازيق مستخبية ورا كل تفصيلة، ويمكن ده يخلي الناس في رأيي وهي بتخوض الرحلة الطويلة دي، لازم تستعيد فكرة العلاقة الشخصية بالثورة، لإنك حتى لما بتكون متشكك وحيران أو قرفان من الحلول الجاهزة اللي إنت مدرك إنها هتؤدي لتعقيدات جديدة أكثر ألما وأقل إمتاعا، بتفضل شايف الثورة كموقف شخصي، فده يحميك من اتخاذ مواقف مخزية ضد الإنسانية أو مع القمع، وده يخليك كمان ما تبخلش بمجهودك مثلا في القضايا اللي قد تبدو للبعض فرعية زي دعم المعتقلين أو الكتابة أو التفكير أو نشر المعرفة، وهتلاقي ده بيحول اليأس إلى الأمل الوحيد زي ما كتبت قبل كده مستعينا بسطور كازنتزاكيتس العظيمة.
كل سنة وانتو طيبين، تعيشوا وتفتكروا وتتعلموا وتُحبَطوا وتُحبِطوا وتقعوا وتقوموا.