آخر المساهمات
2024-10-12, 12:21 am
2024-10-12, 12:19 am
2024-10-12, 12:14 am
2024-10-12, 12:14 am
2024-10-12, 12:13 am
2024-09-21, 5:25 pm
2024-07-21, 2:12 am
أحدث الصور
تصفح آخر الإعلانات
إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر إعلانات مجانية على نوسا البحر مشدات تخسيس إعلانات مجانية على نوسا البحر

مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر

hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر 15781612
مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر Icon_minitime 2016-01-04, 2:09 pm
صباح الخير يا ست نجاة

بلال فضل

يعني، لا أريد أن أطيل عليكِ أكثر، لكنني أمس رأيتك في حفلة قديمة وأنتِ تغنين: “يا حبيبي لا انا ولا انت ولا حد تاني في النار رماني، يا حبيبي الحب عذاب وحبك حياتي، طال ليلي وسواده شاب في دموعي وآهاتي”. وكنتِ توصلين تلك المعلومات المؤسفة، وأنتِ متمسكة بضحكتك الفاتنة التي ما إن تصبح عريضة أكثر من اللازم، حتى تبادرين إلى قطمها بإغماضة سريعةٍ لعينيكِ الساحرتين، ففكّرت أن هذه والله طريقة مثالية، يمكن أن يستخدمها الواحد منا، لمواجهة أحبابه بحقائق الحياة الأليمة، أو تذكيرهم بمسؤولياتهم عما وصلت إليه الأوضاع البائسة، يعني، لماذا تفعل ذلك شاخطاً أو زاعقاً أو حزنان أسِفا، حين يمكن أن تقوله مصحوباً بضحكة عريضة مقطومة بإغماضة سريعة لعينيك، وما ضير أن يجلب لك ذلك شتيمة، كنت ستنالها على أي حال.


تركت نفسي بعدها فترة، مع ما أحتفظ به من أغانيكِ في ذاكرتي، فهالني كم الحقائق المأسوية التي كنتِ دوماً بارعة في إيصالها، بأقل قدر من الإيلام والضجيج، ولعلي لا أعرف أحداً فعل ذلك مثلما فعلتِه، إلا أستاذك محمد عبد الوهاب، مع فارق مهم، أنني أصدقك دائماً، في حين أعرف أنه يشتغلني دائماً، يعني لم أصدق، ولا مرة، أنه اصطلى بنار الحب الحارقة، التي يشكو دائماً منها، وحين أسمعه، مثلاً، يغني “أصبح عندي الآن بندقية، إلى فلسطين خذوني معكم”، أضحك من قلبي، حين أتخيل كيف سيطلع عين الذين سيأخذون عبد الوهاب إلى فلسطين معهم، من فرط شكاويه التي لا تنقطع، لكنني على العكس تماماً، حين أسمع أم كلثوم تغنيها، أشعر أن حقيبة سفرها الكاكي تقبع جوار باب الأستديو في انتظار الذهاب إلى فلسطين بعد التسجيل، وليس عندي أدنى شك أن أم كلثوم كانت تصدّق، فعلا، أن عبد الناصر سيدمر تل أبيب، ويرمي مستوطنيها في البحر، أما عبد الوهاب فكان يعرف طول الوقت، أن الموضوع كله “كسكسي على حمصي”. ولذلك، ستجدين موسيقى أغانيه الوطنية كلها مناسبة، لكي ترقص عليها نجوى فؤاد، في احتفالات الربيع.

يعني، لا أريد أن أحرجكِ بمقارنة مع الست أم كلثوم، لكنني تذكّرت حين جاءت سيرتها الآن، أنني حين أسمعها في دخلتها الرهيبة على الكون، وهي تعلن أنه “وضاع الحب ضاع”، أشعر بأسىً خانق، لأن طريقتها في إعلان الخبر تعني أنه لم يعد بمقدور أحد أن يتصرف ويلحق الموضوع، إلى درجة أنني أتساءل عن جدوى فتح سيرة “عِند قلبي وقلبك”، وما إلى ذلك من كلامٍ لا يودي ولا يجيب، وأقول لنفسي، الآن، إن الست نجاة والله، لو غنت ذات الكلمات والألحان، ستترك مساحة من البراح، يترجم كلمات الخبر المؤلم إلى: “وضاع الحب ضاع، فما يجراش حاجة يعني، بكره تحبك ست ستها”، وفكّرت أن ذلك ربما كان السبب الذي جعلني أقلل، أخيراً، من الاستماع إلى سنباطيات أم كلثوم، لأن طريقتهما في “بَروزة” حقائق الحياة أصبحت أقسى من احتمالي، في حين أنني لا أتوقف أبداً عن سماع بيرميات الست، لأن بيرم ليس معنياً أبداً بشيء غير اللعب مع الحياة. ولذلك، لم يجسد أحد أغانيه مثلما فعلت الست، لأن جديتها كانت تضفي على عبثه سحراً مدهشاً في تفرده، لكن هذا ليس موضوعنا على أي حال، وأنا لا أريد أن أطيل عليكِ أكثر من ذلك.



صحيح، بالأمس تذكرت عبارة تقول إن عمر المغني قصير، حتى وإن عاش طويلا، وإن عمر أغانيه طويل، حتى وإن لم تعش في حياته طويلاً. وبصراحة، لا أعرف إن كنت قد قرأت العبارة، أم أن عقلي الباطن يختلقها الآن. لكن، ما أعرفه أنني متأكد من صحة هذا المعنى، الذي خطر على بالي من يومين، حين كنت أفكر كم هم المغنون محظوظون، لأن أحداً لا يمل من الاستماع إلى أغانيهم مراراً وتكراراً، بل إن تكرار الاستماع إلى أغنيةٍ ما، يمنحها مجداً خاصاً، في حين يُطلب منا، معشر الكتاب، أن نعبر عن المعاني نفسها، دائما بأشكال جديدة، لكي لا نتهم بالتكرار والإفلاس.

في الأسبوع الماضي وحده، وقعت عدة أحداث شغلت الناس كثيراً، فتذكّرت أن ثلاثة منها على

“كم هم المغنون محظوظون، لأن أحداً لا يمل من الاستماع إلى أغانيهم مراراً وتكراراً، بل إن تكرار الاستماع إلى أغنيةٍ ما، يمنحها مجداً خاصاً، في حين يُطلب منا، معشر الكتاب، أن نعبر عن المعاني نفسها، دائما بأشكال جديدة”
الأقل سبق أن وقعت بحذافيرها من قبل في حياة عيني، وأنني كتبت عنها قبل عشرين عاماً، أو عشرة أعوام، وأنه لن يكون من السهل أن أتخلص من وطأة ذلك على نفسي، وأنا أبحث عن كتابة جديدة، تعلق على حدث قديم يواصل التجدّد، ثم قلت لنفسي إن الأغاني التي نقبل على الاستماع إليها دائماً ليست كثيرة على الإطلاق، وقبل أن أنشغل بتذكر أمثلة لها، أو أطمع في حصرها، فكّرت أنه من تمام البلاهة، أصلاً، عقد مقارنات بين الكتابة والغناء، وأنه لا يوجد شيء يمكن أن يجبر الكاتب على تكرار كلامه، إلا إذا اختار بنفسه أن يكون لديه “شويتين” يرددهما كل حين ومين، ليضمن رِجل القارئ على ما يكتبه، وقلت لنفسي إن أرض الله واسعة جداً، لكن بعضنا يحب أن يجيء إلى طيز القرد ويشم، كما يقول المثل القبيح الحكيم، وأن هناك أشياء أهم يمكن أن ينشغل الكاتب بتعلمها من الأغاني، غير الحقد على قابليتها للتكرار الأزلي، ثم قلت إنه من الأجدى أن أشغل نفسي بالاستماع للمرة المليون بعد المائة، إلى (دوارين)، وأنا أفكر أنه ربما لو كان أحد غيرك قد غناها، لما تساوت في السحر عبارة مبتذلة، مثل “إزيكم يا أهل الهوى..ياللي سبتونا في الهوى”، مع عبارة فريدة المعنى والمبنى، مثل “يا شباكهم ياللي ضايع من عينيا سلامات”، وتذكّرت أن جمالك الأخاذ هو الذي جعلني أحب أمين الهنيدي مرة وحيدة، وعلى آخر الأغنية، فكرت أن الإنسان منا وهو ضعيف بطبعه، لا يمكن أن يسمع عبارة عصيبة مثل: “وعمري في حبك عدّى وفات”، فتنزل عليه برداً وسلاماً، إلا لأنه يسمعها منكِ بالذات، لأن ضحكتك العريضة المقطومة تلحق بمعناها المقبض معنى مطمئنا يقول: “بس برضه الأيام جاية كتير وعشان كده لازم تاخد بالك من صحتك”.

….

باختصار، ولكي أدخل في الموضوع، لا أدري إذا كان تيقنكِ من محبتي الأكيدة سيجعلك تقبلين مني اعترافاً صادماً، هو أنني كنت أكرهكِ جداً حين كنت طالباً في الجامعة، لأسباب لها علاقة بالكاتب الكبير كامل الشناوي، الذي استهوت أبناء جيلي قصة حبه الجارف لكِ، والتي قيل لنا إنها انتهت بمأساة عاصفة، حين رآكِ واقعة في هوى غيره، فكتب أغنيته الخالدة “لا تكذبي”، والتي سمعنا قصتها في كل مرة، مرتبطة بأشخاص اختلفت أسماؤهم، وجمع بينهم الوسامة والإبداع والتوهج.

المهم أن تلك الأغنية كانت، في البدء، تستثير سخريتي الحافلة، أنا وزملائي من هواة التحفيل، لكنها فجأة، وبعد أول صدمة عاطفية، تحولت إلى لسان حال لخيبتي الثقيلة. وقتها، لم أكن بنفس ضخامة كامل الشناوي، التي رأيناها في الصور، ولم يكن لدي عينان جاحظتان ولا ملامح قاسية مثله، لكنني، وتحت تأثير الأسطورة المتداولة المرتبطة بأغنيتكما، بدأت أكتب مثله شعراً شديد التعاسة، محاولاً الوصول عبثاً إلى “level” (عدت يا يوم مولدي، عدت أيها الشقي)، لأشعر، بعد فترة من المعايشة المَرَضية، أن كامل الشناوي بُعث من جديد بداخلي، مع فوارق مهمة، أبرزها أن شعري كان شديد الرداءة، وأنني أصلا لم أر حبيبتي في أحضان أحد، لأنها كانت على الرغم من جمالها الشديد (أو بسببه) تعاني من اضطرابات عصبية حادة، تصعب من حدوث أي تلامس بينها وبين أحد، كما أنني، ولن أكذب عليكِ، كنت أسكن وقتها في شقة صغيرة يقطنها تسعة أفراد، فلم يكن لدي أبداً رفاهية تقليد طقوس كامل الشناوي، فأطلب مثلاً من رفاق شقتي أن يظلوا بصحبتي، حتى أروح في النوم، لأنني أخاف من أن يستفرد بي الحزن، فقد كان كل ما أتمناه وقتها أن يغوروا في ستين داهية، لأنفرد بغرفتي، حتى ولو كنت وحيداً شريداً مهدم الخطوات.

أيامها، كان هناك إذاعة متخصصة في الأغاني، يسمونها إذاعة أم كلثوم، مع أنها لم تكن قاصرة على أغاني الست وحدها، كانت تبدأ إرسالها في الخامسة من عصر كل يوم بأغنية لأم كلثوم، وتنهيه في العاشرة مساء بأغنية لها أيضاً، وكانوا يذيعون لكِ بعد عبد الحليم وقبل شادية، وأحيانا أنا آسف بعد محرم فؤاد، أغنيتين أو ثلاثة، ولا أريد أن أصدّعكِ بتذكّر وقع كل أغنية من أغانيكِ علينا. سأحكي لك فقط كيف كان الوجوم الرهيب يخيم على الشقة التي كانت صاخبة على الدوام، فقط حين تغنين: “وبعتنا مع الطير المسافر جواب وعتاب”، لأنك كنت تذكّريننا بها، بطبيخ أمهاتنا وصخب إخوتنا، وونس البيوت التي كنا نظنها طابقة على صدورنا إلى الأبد، وكنت كلما سمعتها أهرب من زحام الشقة، وأنزل إلى محل الحجر الأسود للألبان الذي كان تليفونه يمتاز دوناً عن غيره بخدمة الترنك وإظهار الرقم، لأسمع دعوتين حلوين من أمي، التي أحب بالمناسبة أن أسمع منها “عاليادي اليادي” أكثر من حبي لسماعها منكِ، ولا أظن أن ذلك سيغضبكِ.

المهم أن علاقتي ظلت رائعة بمعظم أغانيكِ، حتى جرى ما جرى، وأصبحت أرى في ذكرى

“حكاية الإنسان منا مع الحب بسيطة ومؤلمة، ومختصرها المبتذل المفيد أن الحب رزق، والرزق دائماً للموعودين، وليس للحسّابين”
حبي المفشوخ انعكاساً لما قيل إنك فعلتِه بكامل الشناوي، فآخذ كلما استمعت إليكِ، أدير بداخلي حواراً معكِ، أذكّركِ فيه بعواقب “الافترا على الغلابة”، خصوصاً أنكِ، وأنا آسف يعني، لم تولدي جميلة وفاتنة، بل كانت ملامحك شاحبة، كمن يعاني من أنيميا حادّة، وكان يمكن أن تطلبي من كامل الشناوي أن يفقد كثيرا من وزنه، أو أن يهتم بمظهره أكثر، بدلاً من أن تعبثي بعواطفه بكل قسوة، ولعلي كنت حينها بذلك الحوار أبرّر لنفسي، لماذا قرّرت، فجأة، أن أخبط، كل أسبوع، مشوارا إلى دوران شبرا، لأتردد على عيادة دكتور تخسيس كان شهيراً وقتها، اسمه ماهر القبلاوي، كان له عيادة قريبة من الجامعة، لكن سعر الكشف فيها كان ضعف سعر الكشف في عيادة شبرا. لذلك، كنت أذهب إليه لآخذ منه نظاماً غذائياً، والأهم لكي يوصلني بجهاز غامض، تحدث أسلاكه ذبذباتٍ، زعم أن في مفعولها الخسسان الأكيد، وحين بدا لي أنها غير فعالة، كنت أخرج من عيادته إلى كشري الدوران، المجاور لأسماك الدوران، لأستمتع بشم رائحة البوري المشوي، وأنا أجهز على طبق الكشري خالي العدس ورد زيادة، وأجهز نفسي لطلب الكمالة، وحين تصادف، مرة، أن غنى عبد الحليم من أشعار كامل الشناوي: “حبيبها لست وحدك حبيبها بل أنا حبيبها قبلك وربما كنت بعدك”، عدت لمحاورتكِ معاتباً على دورك في إيصال إنسانٍ، كان بكامل عقله، إلى تلك الحالة المزرية.



وبعد أن كبرت وتخرجت، توقفت عن التفكير فيكِ بتلك العدائية الساذجة، لأن دماغي أصبحت مشغولة أكثر، بكيفية البقاء على قيد الحياة، من دون أن تهرسني المدينة، لكنني كنت كلما مررت بأغنية لكِ، أتذكر عم كامل الذي أحببته أكثر، بعد أن عرفت عم محمود السعدني، وحكى لي عنه ما زادني محبة له، لكن موقفي تغير تماماً بعد ذلك، حين اختبرت، أول مرة، الحب الحقيقي، أو ما أصبحت أسميه الحب أبو روحين، تمييزاً له عن الحب من طرف واحد تعيس، وأدركت، بعد ذلك، أن الحكاية وما فيها، جاب آخرها شاعر آخر، نسبوا إليه قصة حب عابرة معك، حين قال: “هي لا تحبك أنت، أنت شاعرها وهذا كل ما في الأمر”، وأدركت أن المسألة لا علاقة لها بكرش عم كامل، ولا بجحوظ عينيه، وإلا لما تعرّض لها محمود درويش برشاقته وزرقة عينيه أو خضرتهما، لا أذكر الآن، لأن ما يهمني أن حكاية الإنسان منا مع الحب بسيطة ومؤلمة، ومختصرها المبتذل المفيد أن الحب رزق، والرزق دائماً للموعودين، وليس للحسّابين.

للعلم يعني، لم يكن حبي “أبو روحين” سهلاً، حاولت الدنيا بشراسة إزهاق أحد روحيه، أو لنقل إنها نجحت في ذلك فترة، ولا أريد أن أصدّعكِ بتفاصيل شخصية، فأطيل عليكِ، فما يهمني ذكره أنكِ كنت، في تلك الفترة العصيبة، رفيقة درب مخلصة بأكثر مما كنت أتوقع، يعني، هل أقول لك مثلا، إن الحال بي وصل ذات يوم، لأن أسير في شوارع مصر الجديدة، وأنا أنظر إلى الشبابيك باحثاً عن وجهها، مستعيناً على عناء ذلك بـ “دوارين”، و”استناني”، و”عيش معايا”، و”ماكانش عالبال”، وهل سأنزل من نظركِ، لو عرفتِ أنني أخذتُ الموضوع بجد أكثر من اللازم، فقضيت ذات مرة، ساعتين أو ربما ثلاثاً، ملطوعاً على محطة أتوبيس “في وسط الطريق”، لعلها تطل من الشباك وهي عائدة من شغلها، فأنطلق فور وقوع عينها عليّ مغنياً: “ما استغناش عنك بالدنيا”، فيبكي من في الأتوبيس، حتى تخضلّ لحاهم، وتوافق هي على خوض الحرب مع أهلها حتى النهاية، لكنها لم تأتِ ولم تخض الحرب، وليأتي عليّ حين من الدهر، رفعت فيه الشعار الذي كتبه لك مرسي جميل عزيز من قبل: “أنا خالي يا ليالي.. لا بافكر ولا باسهر ولا حدّش على بالي”، لكنني كنت أكذب بالطبع، فقد كانت هي دائماً على بالي، تماما كما كان لكل صديق من أصدقائي، من هي دائما على باله. للعلم، ظللنا، فترة طويلة، نجد مكانا يجمعنا لليالٍ كثيرة، بعد أن ينهي كل منا شغله، لنستعيد حواديت الروايات والشهوات والأفلام والفذلكات والأساتذة وخيبات الأمل، ونغني لبعضنا ما نحبه من الأغاني، كأننا نغنيها لمن نحب، وكنتِ كالعادة حاضرة على الدوام، بالذات مع الأبنودي والموجي في (عيون القلب)، التي لعلك لا تصدقين أنني غنيتها عدداً من المرات، أكبر من عدد مرات غنائكِ لها.

كنت حسن الحظ، لأنني استعدت حبي “أبو روحين”، بعد طول عناء، وكنت سيئ الحظ أو ربما حسن الحظ، لأنني فقدت كثيراً من أصدقاء تلك الأيام، لم تتفرّق بنا السبل، تفرّقنا نحن عامدين، بعد أن اختار كل منا سبيله، ربما لأن بقاءنا معا لم يعد يليق أبداً بما اجتمعنا عليه. تعرفين؟ حين استمعت إليكِ زمان، وأنت تغنين مع عبد الرحيم منصور وهاني شنودة: “وضاع فيه الصديق، أنا باعشق الطريق”، لم أكن أيامها أدرك كم هو قاسٍ ومهم ذلك المعنى، لأنني لم أكن أتخيّل أن ضياع الصديق، ربما كان حتمياً أحياناً، للاستمرار في عشق الطريق، ولاحتمال وعثاء السفر الطويل فيه، ولم أكن أتخيل أن بداخلنا قوة فطرها الله فينا، تمكننا من احتمال أغلب أنواع الفقد، ولم أكن أتخيل، أيضاً، أن الأهمية الاستثنائية التي كنت أعطيها للحب، وأنا في مقتبل عمري، اتضح لي، في منتصف عمري، أنها صحيحة تماما، وليس فيها أدنى مبالغة، لكن شرح ذلك يطول، بأكثر مما يمكن لكِ احتماله، فمن يدري، ربما جرفنا الموج إلى حديث خَطِر، عن كمائن الدهر، وعن رهانات الحياة الخاسرة و”تريبّاتها” اللئيمة، وعن سعاد، فتغيب حينها عن وجهكِ، تلك الضحكة الفاتنة، التي ما إن تصبح عريضة أكثر من اللازم، حتى تبادرين إلى قطمها، بإغماضة سريعة لعينيكِ الساحرتين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر 15781612
مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر Icon_minitime 2016-01-05, 2:43 pm
بلال فضل

خرافة قصف المخابرات المصرية إثيوبيا

لا يؤمن المسؤولون عن إدارة صفحات الإنترنت التابعة للأجهزة الأمنية بنظرية “كدب مساوي ولا صدق مجعرف”، لأنهم يعرفون أن أغلب زبائن صفحاتهم المخلصين ليسوا مهتمين، من الأساس، بعرض ما فيها على ميزان العقل، لبحث ما إذا كان صدقاً أم كذباً، فهم فقط محتاجون إلى أي كلام مطبوع على أي ورق، أو على أي شاشة، يؤكد لهم، بأي شكل، أنهم لم يخطئوا حين اختاروا عبد الفتاح السيسي رئيساً، وحتى حين يثبت لهم الواقع خطأ اختيار السيسي رئيساً، سيصدقون أي كلام تردده تلك الصفحات أو غيرها، طالما كان يؤكد لهم صحة اختيار الجنرال الذي يليه، وهكذا دواليك، حتى يأتي جنرال الأحلام بالنسبة لهم، وهو الرجل الذي سينجح في شكم البلد، وإخراس كل صوت معارض، مهما كان حجمه وتأثيره، ليعيد إليهم أيام حسني مبارك الجميلة، حيث كانت الغرغرينا تسري في جسد الدولة في هدوء جميل.

منذ أسابيع، سرى كالنار في هشيم الإنترنت، “بوست” مجهول المصدر، يتحدث عن بطولات المخابرات المصرية في عهد الرئيس أنور السادات، وإحباطها، بشكل سري للغاية، أول محاولة إثيوبية لبناء سد على نهر النيل، بعد أن كانت إثيوبيا قد أنكرت أنها تبني سدوداً على النيل، فأرسل السادات طائرات تابعة للمخابرات العامة لقصف السد الإثيوبي، وحين احتجت إثيوبيا، قال لها السادات: ومن قال إن هناك سداً لكي نقصفه أصلاً. ومن دون أن يشرح البوست كيف تمكنت الطائرات المصرية، محدودة المدى وقتها، من قطع كل هذه المسافة للوصول إلى عمق إثيوبيا، يركز على ختم القصة بعبارة (خليك واثق في مخابراتك وأسود جيشك)، التي فبركت القصة خصيصاً من أجلها، لكي يصم المواطن “الصالح” أذنيه عن كل “الخونة” الذين يكشفون مخازي الإدارة المصرية ومهازلها للمفاوضات مع إثيوبيا، والتي لم يعد بعض مؤيدي النظام من الخبراء والمطبلاتية قادرين على كتم رأيهم فيها.

“إثيوبيا لم يكن لديها سدود في السبعينيات، ولم يقم السادات بأي أعمال عسكرية خارج الحدود المصرية في تلك الفترة”
ولأن العقلية الأمنية بطبعها قصيرة النظر عديمة الخيال، ولا تفكر إلا في تأمين اللحظة الحالية، من دون النظر إلى ما هو أبعد من ذلك، لم يدرك الضابط المسؤول الذي فبرك قصةً كهذه، أو بارك فبركتها، أنها يمكن حقاً أن تكون فعالة في الغلوشة على مهازل ما يجري في المفاوضات مع إثيوبيا والسودان، لكنها، في الوقت نفسه، ستحيي في داخل المواطن المصري، القلق على مستقبله، آمالاً عريضة في أن أجهزته السيادية، المليئة بالوحوش الضارية، ستتدخل لقصف السد في لحظةٍ ما، بغض النظر عن أي تفاصيل مقلقة، وأنها، كما أكلت الإثيوبيين على قفاهم في عهد الرئيس المؤمن، ستفعل ذلك ثانية في عهد الرئيس المخاوي، لأن ما نملكه الآن من طائراتٍ، أنفقنا عليها المليارات، أقوى وأشد فتكاً مما كان لدى السادات. وحين تمر الأيام، ويتأخر ذلك القصف، ويكتمل إنشاء السد الإثيوبي، ويرى المواطن مسؤولي دولته، وقد تغيّرت لهجتهم من التهديد إلى الاستعطاف، أو من تصوير السد بوصفه كارثة مبينة إلى تصويره كشيء لطيف، يعم بالخير على الكل، سيكون البيه الضابط حينها بحاجة إلى بذل مجهود أكبر في الكذبة القادمة التي يمكن أن تكون مقاديرها غير مضبوطة، فتتسبب في أزمات أكبر، فضلاً عن أنها ستفقده قدراً لا بأس به من جمهوره، الذي حتى، وإن لم ينتقل إلى معسكر المعارضة والرفض، سيختار معسكر الطناش المبين، بعد أن كان من أخلص الجنود في معسكر التأييد والثقة العمياء.

كيف بدأت مأساتنا مع إثيوبيا؟

بعد أن تعاظم انتشار خزعبلة قصف المخابرات إثيوبيا في عهد السادات، لجأت إلى أصدقاء مطلعين على ملف العلاقات الإثيوبية المصرية، لأسألهم عمّا إذا كان قد سبق لإثيوبيا التفكير في بناء سد على النيل، قبل سد النهضة، فلم أجد لديهم، ولا على شبكة الإنترنت، ما يؤكد هذا الكلام من قريب أو من بعيد. لجأت بعدها إلى الدكتور نائل الشافعي، مؤسس موسوعة المعرفة، والذي كتب كثيراً من قبل في موضوع سد النهضة، وكنت قد نشرت له عام 2012، في مجلة المعصرة التي كنت أحرّرها أسبوعياً داخل صحيفة الشروق، مقالاً شديد الخطورة حول كوارث التعامل المصري مع ملف النيل، لأكتشف أن لديه كلاماً مهماً عن علاقة السادات بإثيوبيا، والتي شهدت لحظات توتر عديدة، يقودنا استرجاعها إلى التأكيد على ضرورة الجدية في فتح ملف العلاقات المصرية الإثيوبية، والتي تدهورت بشدة خلال سنين حكم حسني مبارك، ليس فقط لتحديد المسؤوليات، أو للبكاء على النيل المسلوب، بل لتذكير المصريين بخطورة التهاون المستمر في تدعيم العلاقات مع الدول الأفريقية، وخصوصا دول حوض نهر النيل، لعلنا ننقذ، في المستقبل القريب، ما ضيعه حكامنا السابقون، وما يواصل نظام السيسي تضييعه الآن بطرق كثيرة، من بينها نشر الخرافات والأكاذيب التي تساهم في تزييف وعي الناس، وإلهائهم عن خطورة ما يحدث لنهر النيل.

“بعد إطاحة هيلاسلاسي، بدأت تتراجع قوة العلاقات المصرية الإثيوبية، إلى أن وصلت إلى مرحلة العلاقات الرسمية الشكلية”
أترككم، الآن، مع هذا المقال البديع الذي أرسله لي الدكتور نائل الشافعي عن علاقة السادات بإثيوبيا، وهو جزء من ملف أوسع وأشمل يعمل عليه، عن قضية سد النهضة وعلاقتنا بإثيوبيا:

“منذ تولي أنور السادات رئاسة مصر في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 1970، انكفأ على توطيد حكمه والإعداد لحرب أكتوبر. نتيجة ذلك، فقد استحوذت الجبهة الداخلية على معظم جهده وانتباهه في أول ثلاث سنوات من حكمه. ولم يولِ السادات اهتماماً بالسياسة الخارجية حتى وقـّع اتفاقية فض الاشتباك الثانية في 1 سبتمبر/ أيلول 1975، التي حققت استقراراً سياسياً لحكمه، كما وطدت علاقته بالولايات المتحدة. بعدها، شعر بحرية في التعبير عن اتجاهاته في السياسة الخارجية.

لكن، لم يمنع ذلك الانكفاء الداخلي من التعامل مع الأزمات الطارئة في السودان الشقيق؛ إذ تعرض الرئيس جعفر نميري لتمرديْن من الصادق المهدي: انقلاب هاشم العطا (1971)، انقلاب حسن حسين (1975). وفي تلك الفترة (1971-1973)، شجعت مصر نظام نميري في الخرطوم على الاقتراب من الولايات المتحدة، ونشأ تحالف استخباراتي وثيق بين السودان وأميركا، سرعان ما استقل عن مصر، كان أحد نتائجه الدور المحوري الذي قامت به المخابرات السودانية في ترحيل يهود الفلاشا إلى إسرائيل في 1984، وكان لرجلي المخابرات السودانية، عثمان السيد وعمر الطيب، دوراً محورياً في ثورة الإنقاذ الوطني في السودان عام 1989، التي أتت بالرئيس عمر البشير. كان تنفيذ عملية تهجير الفلاشا يتطلب تجنيد بعض المنظمات المعارضة (الماركسية بالمصادفة) في الشمال الجبلي بإثيوبيا، من قبائل التقراي والتقرينيا. وفي 1995، انفصلت الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا عن إثيوبيا بتراضي أبناء عمومتهم الجبهة الشعبية لتحرير التقراي الذين استولوا على الحكم في أديس أبابا، في نفس الوقت. لذلك، فإن النظم الثلاث الحاكمة اليوم في أديس أبابا وأسمرة والخرطوم ترتبط بوشائج وثيقة، على الرغم مما نقرأ عن خلافات إريترية مع البلدين الآخرين.

السادات وإثيوبيا

وفي الجانب الإثيوبي، مع وصول السادات إلى سدة الحكم في مصر، كان الإمبراطور هيلاسلاسي (مواليد 1892) قد أصبح شيخاً طاعناً، يطحن بلده الفقر والمجاعات، وأهمها مجاعات وولو (1966 و1972 و1973) التي راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى، وازداد تكلّس النظام الحاكم في أديس أبابا، وانعزاله عن الواقع، حتى أن رجال البلاط، من أقلية الأمهرة الحاكمة، كانوا يخفون تلك الحقائق المزعجة عن الإمبراطور الإله (حسب الديانة الرستفارية). وقد استغلت الدعاية الشيوعية تخلّف الحكم في إثيوبيا، وطفقت تقارنه بالحكم التقدمي في الصومال واليمن الجنوبي وريف شمال إثيوبيا الواقع تحت السيطرة الفعلية لمنظمات شيوعية لتحرير إريتريا وتقراي.

تلخصت العلاقات بين مصر وإثيوبيا منذ 1967 وحتى 1974 في علاقات صورية بين الكنيستين الشقيقتين، الأرثوذكسية القبطية في مصر و”التوحيد الأرثوذكسية” في إثيوبيا، برعاية الدولتين. وكان لدعوة جمال عبد الناصر الإمبراطور هيلاسلاسي لحضور افتتاح الكاتدرائية المرقسية في القاهرة عام 1968 أثر كبير في التدليل على خصوصية العلاقة بين الشعبين.

أطاح المد اليساري الإمبراطور هيلاسلاسي في سبتمبر/ أيلول 1974، ليحل محله مجلس عسكري، يُسمىَ “دِرگ”. وكان على رأس المجلس اللواء أمان عندوم، الإريتري الذي تخرج من الكلية الحربية المصرية في 1954. لكن الطبقة الحاكمة المخلوعة في إثيوبيا، وهي من الأمهرة، تنظر بتعالٍ شديد إلى الأقليات الأخرى، ومنها إريتريا المطالبة بالاستقلال. وعلى الفور، بدأ أمان عندوم في الإعلان عن نياته التقارب مع إقليم إريتريا لثنيه عن المطالبة بالانفصال. كما أعلن عن نياته التقارب مع مصر. والتحركان أضرما الشكوك في قلب الأمهرة الذين اتهموا مصر بأن لها يداً في الإتيان بهذا الجنرال الإريتري على رأس الحكم. إلا أن الدرگ ما لبث أن قتل رأسه الصوري أمان عندوم بعد شهرين، ليظهر الرأس الحقيقي للثورة، منغستو هايله مريم، ويكشف عن توجه شيوعي متشدد. ومنذ ذلك الحين، لا يكف الإثيوبيون عن تشبيه أمان عندوم باللواء محمد نجيب في مصر، بسبب الدور الصوري لكليهما، ولقبولهما ترأس ثورة من دون أن يعرفا ميولها الحقيقية، ومن دون أن يكون لهما أي سلطات، وخير من يعبّر عن تلك المقارنة رئيس الوزراء اللاحق فكرى سلاسي.

بعد إطاحة هيلاسلاسي، بدأت تتراجع قوة العلاقات المصرية الإثيوبية، إلى أن وصلت إلى مرحلة العلاقات الرسمية الشكلية، وكان من نتيجة ذلك أن استقلت كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوپية عن الكنيسة الأم في مصر، والتي ظلت، منذ دخول المسيحية إلى إثيوبيا، تابعة للكنيسة المصرية حتى عام 1959، حين أصبح لها بابا إثيوبي خاص بها، وانفصلت قيادتها عن مصر.

نادي سفاري

ما أن وقّعت مصر اتفاقية فض الاشتباك الثانية في سيناء عام 1975، حتى أحس السادات بالحرية في التعبير على الملأ عن قناعاته في السياسة الخارجية، وعلى رأسها أن يصبح أكثر قرباً من الولايات المتحدة، وأن يُقرن مصر بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في المنطقة، الأمر الذي يجعل منه لاعباً إقليمياً حليفاً لأميركا، فاقترب من فرنسا التي اقترح رئيس مخابراتها على السادات تشكيل تعاون إقليمي لمكافحة المد الشيوعي في أفريقيا، فتكوّن نادي سفاري في عام 1975 من فرنسا ومصر السادات والمغرب والسعودية وإيران الشاه. وكان من أول أنشطة النادي مجابهة المد الشيوعي في إثيوبيا وزائير. ساند نادي سفاري الصومال في حرب الأوغادين (1977–1978) ضد إثيوبيا، بعد أن انضمت كل من كوبا والاتحاد السوفييتي إلى جانب إثيوبيا. وقد نشب النزاع، حين حاول الصومال استعادة إقليم أوغادين، ذي الأغلبية من العرق الصومالي، من إثيوبيا.

قبل الحرب، كان الاتحاد السوفييتي يساند البلدين عسكرياً. بعد الفشل في التفاوض لوقف إطلاق النار، تدخل الاتحاد السوفييتي للدفاع عن إثيوبيا. والقوات الإثيوبية المدعومة سوفييتياً والتي يؤازرها أكثر من عشرة آلاف جندي كوبي، وأكثر من ألف مستشار عسكري، ونحو بليون دولار من العتاد السوفييتي، هزمت الجيش الصومالي، وهدّدت بهجوم مضاد، ليتصل الرئيس السادات بالزعيم الصومالي سياد بري، وعرض عليه السلاح في مقابل التخلي عن الاتحاد السوفييتي. وافق بري، ودفعت السعودية لمصر 75 مليون دولار لأسلحتها السوفييتية القديمة. وأمدّت إيران الصومال بأسلحة قديمة (قيل إنها ضمت دبابات إم-48) من الولايات المتحدة. واعتبر منغستو هايله مريام الدعم المصري مؤامرة ضد إثيوبيا. وفي خطبة له عام 1979، حطم زجاجات مملوءة دماً على اسمي مصر والسعوديةhttp://www.alaraby.co.uk/TWAgoraInArticle.html?id=6113113

زمزم الجديدة: ترعة السلام

شهد نادي سفاري إرهاصات عملية السلام بين مصر وإسرائيل، بتشجيع من شاه إيران وألكساندر دو مارانش رئيس المخابرات الخارجية الفرنسية. وفي المفاوضات المصرية الإسرائيلية التالية لمبادرة السادات إلى القدس عام 1977، تقدم الباحث الإسرائيلي، شاؤل أرلوزوروڤ، نائب مدير هيئة مياه إسرائيل، بـ”مشروع يؤر” إلى الرئيس السادات لنقل مياه النيل إلى إسرائيل، عبر شق ست قنوات تحت قناة السويس. وبإمكان هذا المشروع نقل مليار متر مكعب من المياه سنوياً، لري صحراء النقب، ومنها 150 مليون متر مكعب لقطاع غزة. وانتقل شاؤل أرلوزوروڤ من مصلحة المياه الإسرائيلية، ليعمل مديراً لمشاريع المياه في البنك الدولي من 1980-1993.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 1977، عرض الرئيس المصري أنور السادات إمداد صحراء النقب الإسرائيلية بالماء عبر ترعة السلام التي سيقوم ببنائها عبر قناة السويس وسيناء. وأثار عرض السادات مد مياه النيل إلى إسرائيل حفيظة الرئيس الإثيوبي منغستو هايله مريم، الذي قال إن هناك مناطق فقيرة في حوض النيل الأزرق أكثر حاجة من إسرائيل لمياه النيل، بالإضافة إلى أن لها أولوية على إسرائيل في مد مياه النيل إليها. ولكن، حتى ذلك الوقت لم يكن لدى إثيوبيا أي خطط محددة لإنشاء أي سدود أو ترع على أي من أنهارها.

“في 5 سبتمبر/ أيلول 1979، في أثناء زيارة السادات مدينة حيفا، طلب من المختصين عمل دراسة عملية كاملة لتوصيل مياه نهر النيل إلى مدينة القدس، لتكون في متناول المترددين على المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق”
ومع استمرار تحرّش مصر بإثيوبيا بدعم الصومال، واستئناف دعم جبهة التحرير الإريترية (عثمان صالح سبي)، خرج الرئيس الإثيوبي منغستو هايله مريم، في 16 فبراير/ شباط 1978، بتصريح يتحدى حق مصر التاريخي في مياه النيل، ومعظم تلك المياه تأتي من النيل الأزرق في إثيوبيا، ما حدا بأنور السادات، في 1 مايو/ أيار 1978، أن يرد على تهديد منغستو، بأن مصر ستشن حرباً إذا تعرضت حقوقها المائية للخطر، قائلاً: “نحن لا نحتاج إذناً من إثيوبيا أو الاتحاد السوفييتي لتحويل مياه نيلنا (إلى إسرائيل)… إذا اتخذت إثيوبيا أي فعل ضد حقنا في مياه النيل، فلن يكون أمامنا بديل عن استخدام القوة. التلاعب بحق أمة في الماء هو تلاعب بحقها في الحياة، والقرار بالذهاب للحرب من أجل ذلك لن يكون موضع جدل في المجتمع الدولي”.

وفي 16 يناير/ كانون الثاني 1979، نشرت مجلة أكتوبر الأسبوعية نص خطاب أرسله السادات إلى مناحيم بيغن، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، قال فيه: “حيث أننا شرعنا في حل شامل للمشكلة الفلسطينية، فسوف نجعل مياه النيل مساهمة من الشعب المصري باسم ملايين المسلمين كرمز خالد وباق على اتفاق السلام، وسوف تصبح هذه المياه بمثابة مياه زمزم لكل المؤمنين، أصحاب الرسالات السماوية في القدس، ودليلاً على أنّنا رعاة سلام ورخاء لكافة البشر”. وكتبت المجلة أن السادات أعطى، بالفعل، إشارة البدء لحفر ترعة السلام بين فارسكور (على فرع دمياط) والتينة (على قناة السويس شمال الإسماعيلية)، حيث تقطع مياه الترعة بعد ذلك قناة السويس خلال ثلاثة أنفاق، لتروي نصف مليون فدان، وأن السادات طلب عمل دراسة جدوى دولية، لتوصيل المياه إلى القدس. لكن السادات تراجع عن الفكرة من دون تصريح رسمي بذلك، وأعلن إشارة بدء العمل في تنفيذ حفر قناة السلام من فرع دمياط في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه.

وفي 5 سبتمبر/ أيلول 1979، في أثناء زيارة السادات مدينة حيفا، طلب من المختصين عمل دراسة عملية كاملة لتوصيل مياه نهر النيل إلى مدينة القدس، لتكون في متناول المترددين على المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط البراق، في مشروع سمّاه “زمزم الجديد”. وتواصلت أعمال مد ترعة السلام شرقاً، فتم إنشاء سحارة، مكونة من أربعة أنفاق القطر الداخلي لكل منها 5.10 أمتار، تحت قناة السويس، لتصل الترعة إلى سيناء في عام 2001. ويجري العمل في مد ترعة الشيخ جابر، التي هي الجزء السينائي من ترعة السلام، بطول 175 كيلومتراً، كان من المفترض اكتمالها في صيف 2015.

خرافات شاعت

في العامين الأخيرين 2014-2015، وفي ظل التطور المضطرد في بناء إثيوبيا سد النهضة، من دون أن تعير أي اهتمام لمخاوف الشعب المصري، ومع غياب كامل لأي معارضة من الدولة المصرية، ظهرت مجموعة خرافات حضرية، شاعت بين الشعب المصري في عام 2014 -2015 حول بطولات عسكرية مزعومة من الرئيس السادات، بقصفه سدوداً إثيوبية في السبعينيات. ببساطة، إثيوبيا لم يكن لديها سدود في السبعينيات، ولم يقم السادات بأي أعمال عسكرية خارج الحدود المصرية في تلك الفترة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر 15781612
مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر Icon_minitime 2016-01-06, 1:48 pm
إنهم يكتبونني

صلاح جاهين: مقهور أنا وماشي..أصل القمر قال جاي وماجاشي
صلاح جاهين: مقهور أنا وماشي..أصل القمر قال جاي وماجاشي

بلال فضل

ـ “سئل فلكي عما سيأتي به المستقبل، فقال دونما تردد: “سيهلك الكبار، سيهلك الصغار، ستهلك القطط والطيور والأزهار، ستحرق البيوت والكتب والرايات، ستُحرق مقاعد المدارس والصور التذكارية، سيمحو النابالم الضحكات واللغة العربية والسنابل، ستُهدم المستشفيات، ستُهدم المصانع، ستُهدم الحدائق، ستسير النساء في الشوارع دون ملاءات”. ولما نُشرت تلك النبوءة مفصلة في كتاب، اتفق المخلصون للوطن على استنكار ما سيحل بالمرأة، وتنادوا إلى التضحية بالنفس والنفيس لدرء ذلك الخطر البشع”
الكاتب السوري زكريا تامر من مجموعته القصصية “النمور في اليوم العاشر”، صدرت سنة 1978.

ـ “الفشل الأخلاقي الأكبر في الأمة هو فشلها أن تكتسب وضوح الرؤية التاريخية غير العادية، وأن ترى، بوضوح كامل، أن الأمم المهانة والمُستذلّة، تنقاد حتماً إما إلى تحلل قاتل، أي ذبول أخلاقي وروحي، أو إلى رغبة عارمة في الانتقام، ينتج عنها سفك الدماء والانقلابات”

المثقف اليوناني جورج منجاكيس

ـ “أحب هذا القناع المعلق على الحائط، لأن لا وجه خلفه”.

الشاعر السوري فراس سليمان من “نهايات معطلة”.

ـ “وفكّرت أنّي قد عشت حياة عادلة في الجحيم. وتأملت ما أسعدني، فوجدته سبباً لشقائي. وتذكرت أيام لهوي، فوجدتها طريق بؤسي. وأدركتُ أن كل ساعة فرحٍ قادتني لأيام من الأسى. ونظرتُ إلى صلاتي وصيامي وضحكتُ، فلا صلاة هنا ولا صيام، ولا تخفيف للعذاب أبداً أبداً. وكل ما أملك الصبر، وكل ما أخشى الأمل”

الروائي المصري محمد ربيع من روايته الجميلة “عطارد”.

ـ “المذبحة في الشرق هي نتاج التقاء الأوهام. ليأمر الله جيوشه. لينتصر الإيمان على الضحايا”

الروائي المكسيكي خورخي فولبي من “الحديقة الخربة”، ترجمة إسكندر حبش

ـ “إن كلمات تخدم كل القضايا تكف بذلك عن خدمة أية قضية. ويجب التقدم، من الآن فصاعدا، والكلمة عارية كنصل قاطع”.

الكاتب المصري جورج حنين

ــ “تحوّل التلفاز إلى ما هو أسوأ مما استطعت تخيله، لم أمتلك تلفازاً قط، وكان غير مألوف بالنسبة إليّ… ظهر شخص يرتدي قبعة طاهٍ، لا أعلم أي جحيم قصد، كما ظهرت عجوز فظيعة، لها وجه يشبه الضفدع، لم أستطع تصديق قبحها، ولم أستطع أيضاً تصديق أن هؤلاء الناس لم يعرفوا كم تبدو وجوههم قبيحة وعارية وموفورة ومقرفة، مثل اغتصاب كل شيء محترم”.

الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي من مجموعته القصصية “جنوب بلا شمال”، ترجمة أماني لازار

ـ “الأدب يجعل المرء يرغب في حياة أخرى، حياة بديلة عن الحياة الفعلية الواقعية التي لا تمنح الشعور بالكمال، إن الأدب ينمّي الروح النقدية والعقلية المولعة بالمثل العليا، في حين أن الآليات السمعية البصرية الرائعة تبقى حاضرة من أجل تسليتنا وخلق مواضيع سلبية وامتثالية، إن العالم من دون أدب هو بمثابة عالم خالٍ من النقد المُتحدّي، عالم الإنسان الآلي”.

الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا

“تراودني كثيراً فكرة أنني قد أكون ما يُسمى شخصية منقسمة، قُرئت كفي مؤخراً عدة مرات، وكانوا يكتشفون دوماً أن خطي القلب والرأس يمتدان معاً، والمفترض أن هذا غير طبيعي، ماذا يعني؟ لست أدري. ظننت أولاً أنه يعني صراعاً. لكن، يمكن القول إنه مثل التفكير والشعور، فالحياة ملهاة لمن يفكر برأسه، والحياة مأساة لمن يفكّرون بمشاعرهم، أو يعملون عبر مشاعرهم، وأعتقد أن فيّ الكثير من هذا، لديّ دائماً ذلك الشعور بأنني منقسم. وغالباً ما أرى أمامي سبيلين، لست مفكراً منطقياً، فمشاعري هي التي تملي تفكيري إلى حد كبير. وحين أعبر عن الأمر بالكتابة، أحاول، عادةً، أن أتحاشى كوني متفائلاً أو متشائماً. أريد أن أؤمن بأن ثمة شيئاً أبعد من الأضداد، وأظنها وجهة النظر الحقيقية. تُستعمل كلمة “العالم” عادة على سبيل المقارنة مع شيء آخر، أتعرّف ما أعنيه حين أقول إن رجلاً هو من العالم، أو في العالم، أو ليس منه؟ بهذا المعنى، يمثل العالم شيئاً يناضله الإنسان ويصارعه، إنه يريد أن يكون فيه لا منه، يريد أن يكون فوقه. لكني أعتقد أن السبيل الوحيد الذي تستطيع عبره أن تبرهن أنك لست منه، هو في أن تلجه كاملاً، أنت لا تستطيع تجنب أي شيء من هذا العالم. عليك أن تتقبل كل ما يعود إلى هذا العالم، ثم تبيّن أن ثمة شيئا آخر. لا يعني هذا أن عليك ألا تمتلك مقاييس للتقبل أو الرفض، يجب ألا تقع فريسة، يجب ألا تقع في الفخ الذي يمثله العالم، عليك أن تكون قادراً على الدخول فيه، والمشاركة فيه، وتفهمه، وفي الوقت نفسه، عليك أن تفهم أن ما يحركك أو يوجهك ويقودك عبر الحياة. لم يأت كله من العالم الذي يعيش فيه المرء، وأن هناك أشياء أخرى، لا تُرى ولا تُلمح ولا تُمسك، وهي أشياء لا يتضمنها مفهوم العالم”

الكاتب الأميركي هنري ميلر، من حوار مع برادلي سميث، ترجمة سعدي يوسف

ـــ “لقيت في جيبي قلم.. قلم رصاص، طول عقلة الصابع، معرفش مَدّيت إيدي عايز إيه.. راح طالع، أصفر، ضعيف، ضايع، وما بين تراب دُخّان، وقشر سوداني، كان مدفون، وكنت ماشي لوحدي في الشارع، معرفش رايح فين. لكن ماشي، والليل عليا وع البلد غاشي، ليل، إنما ليل إسود الأخلاق.. ليل، إنما عملاق، إسود سواد خنَاق، إسود، كمليون عسكري، بِسُترة خُفّاشي، وجزمة ضبّاشي، بينظّموا السهرة. والخلق يا حسرة، الخلق مالهاش خُلق للسهرة.. الخلق عاملين زي عُشّاق كلهم مهاجير، ومروّحين مقاهير، يستنظروا بكره.

مقهور أنا وماشي .. أصل القمر قال جاي وماجاشي، ع النيل ماجاشي.. وماجاش كمان ع الهرم.. لفّيت عليه القلعة لفّيت بولاق، قمري لقيته عدم. لفّيت عليه امبابة والوراق، قمري لقيته محاق. وعنيّا وقعوا م السما ع الأرض، الأرض برضُه محاق. قهاوي، سوده من الهباب والهَذَر، والراديوهات تنعب نعيب الجنون.

يا ليله من غير قمر… يا كحل من غير عيون. ولقيت في جيبي قلم، كأنه واد مقروض ومتجادع، قُزعه لكين ملعون، مَبري قوي ومسنون، تقولش ح يخطط نظام الكون؟! وأعمل بيه إيه وأنا ماشي فى الشارع، أنا كمان قُزعه وكمان ضايع، وكمان عليّا تلول تراب دخان.

… كان القمر أيامها طفلي أنا، وعليه زغب ناعم كمثل الطير، واخضر كأنه لمونه م البنزهير، وكنت أشيله، وأفرجه لكل حي، اتفرجوا، شوفوا غلاوة الضنا، والناس يقولوا اسم الله خير والله خير، يا رب خلّيه لك.. الرب خلّاه.. بس مش ليّا، ضاع القمر مني وانا غفلان، وصبحت يا إخوان، لا بُدّ ما يتشحتفوا عنيا.. علشان أطول منه شعاع من ضيّ .. وآديني ماشي لوحدي فى الشارع.. معرفش رايح فين، لكين ماشي، والليل عليّا وع البلد غاشي، ولقيت في جيبي قلم، كتبت به غنوة عذاب”.

أبونا صلاح جاهين من قصيدته العظيمة “تراب دخان”.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر 15781612
مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر Icon_minitime 2016-01-07, 4:27 pm
حين فشا الزور في جنبات مصر (1)


“فشا الزورُ في مصرٍ وفي جنباتها

ولِمْ لا وعبد البَرِّ قاضي قضاتها

أيُنكر في الأحكام زورٌ وباطلٌ

وأحكامهُ فيها بمُختلفاتِها

إذا جاءهُ الدينار من وجه رشوةٍ

يرى أنه حِلٌ على شُبُهاتها”

حين كتب الشاعر المصري، جمال الدين السلموني، هذه الأبيات في عام 613 هجرية، ليفش غله ويشكو همه من فساد القضاء المصري في أيامه، لم يكن يدرك أنها، كما يروي مؤرخ زمانه ابن إياس، “ستدور بين الناس”، وتصبح لسان حال المصريين في وقت قياسي، بصورة أزعجت القضاة الفاسدين الذين هجاهم، من دون أن يسميهم، فقرّروا الحكم عليه بأن يُجلد بالسياط علناً، ويتم تجريسه في شوارع القاهرة، لأنه أهان هيبة القضاء. وكان ذلك الحكم على وشك أن يُنفّذ عليه، لولا أن “جماعاتٍ كثيرة من العوام تعصبوا للشاعر، وقصدوا يرجمون دار قاضي القضاة”، ليفلت الشاعر من عقوبة الجلد بأعجوبة، بفضل تضامن الناس الذين فاض بهم الكيل مما يحيط بهم من فساد، لكنه لم ينج من عقوبة السجن الذي قبع فيه مدة طويلة.


كان ابن إياس يدرك خطورة القصيدة. ولذلك، حرص، وهو ينشر بعض أبياتها، على أن يبرئ نفسه، بوصفها بأنها “قصيدة مطولة فيها ألفاظ فاحشة إلى الغاية وإساءة مفرطة”، لكن أهل مصر لم يوافقوا ابن إياس في رأيه، بل وجدوا القصيدة معبرة عنهم، إلى درجة دفعتهم إلى التمرد على الحكومة من أجله، وهو ما يتوقف عنده المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم في دراسته البديعة عن “عصر سلاطين المماليك”، ليعتبر تلك الواقعة جانباً مهماً من جوانب انهيار الجهاز العصبي للدولة المملوكية، والتي وصل تخلخل بنائها السياسي، وتفكك نظامها الاقتصادي والإقطاعي، إلى حد جعل قانصوه الغوري، آخر سلاطين المماليك البرجية، يبكي خوفاً من تبعات المنصب السلطاني الذي اختاره له الأمراء، ويحاول مراراً رفض الجلوس على عرش السلطنة، لكن تدهور دولة سلاطين المماليك لم يكن وليد حكم سلطان أو اثنين، بل كان وليد عقود من التدهور والانحطاط والفساد والظلم، تركت آثارها الخطيرة على شكل الحياة في المجتمع المصري، وجعلت تلك الدولة التي كانت، في بدايتها، قوية عفيّة، تتحول، في عيون المصريين، مع مرور الوقت، من مصدر للحماية والأمان إلى عدو شرس يتمنى الناس زواله، ولا يستحق أن يبادروا إلى إنقاذه، حين يصبح مهدداً بالسقوط.

أمراء الطبل خانه

“ليس فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب”. هكذا وصف المؤرخ المصري، تقي الدين المقريزي، أمراء وكبراء زمانه من المماليك، وهو يجسد دناءتهم وطمعهم ونهبهم مال الدولة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، مع أنهم لم يكونوا يشكون أبداً من الفقر والفاقة، فقد مكّنتهم مناصبهم من الانفراد بأموال الدولة، وسمحت لهم أن يتصرفوا فيها كما شاءوا من دون رقيب ولا حسيب، فاحتكروا مثلاً بعض التوابل النادرة، ليبيعوها للأجانب، بعد أن حظروا بيعها على التجار المصريين، لتمكّنهم قرارات كهذه من جمع ثروات طائلة، أفاضت كتب التاريخ في وصفها، من ذلك، مثلاً، ما يقوله أبو المحاسن بن تغرى بردي في كتابه “النجوم الزاهرة”، أن السلطان برقوق ترك، في الخزانة عند وفاته، ما يزيد عن ألف ألف دينار من الذهب، ومن الفراء ما قيمته أيضاً ألف ألف دينار، وقد كان ذلك بالطبع قبل أن تفتح سويسرا خدماتها البنكية، ليستولي على ثروته من تلاه.

كان فائض الأموال لدى سلاطين المماليك وعظمائهم أكبر من أن

يتم اختزانه. لذلك، فقد تنافس

“كان فائض الأموال لدى سلاطين المماليك وعظمائهم أكبر من أن يتم اختزانه”
كبارات الدولة في تشييد القصور والتفنن في زخرفتها والتأنق في تأثيثها. ولذلك، كما يقول الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه “المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك”، أصبحت مصر مضرب الأمثال، بعد أن اشتهرت بثرواتها الطائلة، فقصدها كثيرون من أهالي بلاد المشرق والمغرب، لمّا بلغهم عن أحوال مصر التي تنعم في الترف والغنى، كان من هؤلاء، مثلاً، الرحالة الغربي فرسكو بالدي، الذي جاء إلى مصر سنة 1348 ميلادية، وأفاض في وصف ضخامة الثروة التي يتمتع بها أمراء المماليك، ومظاهر الترف والنعيم التي تعم قصورهم، ولعلي لا أجد مثلاً على ذلك أبلغ مما ذكره المقريزي، حين أرّخ وقائع نهب قصر الأمير قوصون سنة 742 هجرية، فقال إن سعر الذهب هبط في الديار المصرية بعده، “لكثرة ما وصل من الأنهاب الذهبية إلى أيدي الناس”.

حين يتحدث المقريزي عن أميرٍ مثل شمس الدين بيسري يقول إن “عليق خيله وخيل مماليكه، بلغ في اليوم الواحد ثلاثة آلاف عليقة، وأن راتب كل واحد من مماليكه بلغ في اليوم مائة رطل لحم، وأنه اعتاد أن ينعم بالألف دينار مرة واحدة”، ولم يكن ذلك غريباً، حين تعلم أن متوسط ما كان يتم إقطاعه للأمير من قرى، كان يتراوح بين زمام قرية وعشر قرى، أما المملوك السلطاني “سيئ الحظ” فكان إقطاعه يتراوح بين زمام قرية ونصف قرية، أما إقطاع جندي الحلقة فلم يكن يقل عن نصف زمام قرية. ولترجمة تلك الامتيازات إلى أرقام، ينقل الدكتور عاشور عن المؤرخ المصري القلقشندي أن إقطاع الأمير الكبير الممنوح له من الدولة كان يقدر بمائتي ألف دينار، أما أمير الطبل خانه، والذي يصنف أميراً من الدرجة الثانية، حيث يقع تحت إمرته أربعون فارساً، ومع ذلك، تدق الطبول على بابه، ومن هنا، حمل اسم (أمير الطبل خانه)، فيتراوح إقطاعه الممنوح له من الدولة بين ثلاثة ألف دينار وثلاثة وعشرين أل

ف دينار.

وكما يقول الدكتور قاسم عبده قاسم، أثبتت سياسة منح الإقطاعات، على المدى الطويل، أنها كارثة على الاقتصاد المصري، لأن الأمير أو الجندي، صاحب الإقطاع، كان يعلم مسبقاً أنه لن يستقر بذلك المكان الذي تم إقطاعه له. ولذلك، لم يكن يولي الأرض الزراعية أي اهتمام أو رعاية حقيقية، ولذلك، تم إهمال وسائل الري والصرف، وكثرت حوادث انقطاع الجسور وعطش الأراضي الزراعية، نتيجة إهمال المماليك وسائل ضبط النهر، لكن ذلك لم يكن يهم المماليك، لأنهم في حين قل اعتمادهم على عائد الأرض الزراعية، زاد معدل اعتمادهم على الرواتب النقدية التي كان السلاطين يصرفونها لهم، ليدفع أهالي تلك الإقطاعيات من الفلاحين ثمن عدم اهتمام كبراء الدولة بأداء واجباتها.

لم يكن المماليك يصبرون أبداً، حين تتأخر مخصصاتهم المالية، حتى حين تكون الدولة في أسوأ

“لم يكن المماليك يصبرون أبداً، حين تتأخر مخصصاتهم المالية، حتى حين تكون الدولة في أسوأ ظروفها المالية”
ظروفها المالية، فحين شكا السلطان قانصوه الغوري، مثلاً، أن خزانة الدولة خاوية في حين كثر العسكر من

سائر الطوائف، ما بين “ظاهرية وأشرفية وإينالية وخشقدمية وقايتبايهية وناصرية، ومماليك الظاهر قانصوه ومماليك الأشرف جانبلاط، ومماليك العادل طومانباي، ومماليك النواب والأمراء الذين قتلوا، فمن أين أسد هؤلاء المماليك”، ولم يستقبل كل هؤلاء المماليك شكوى السلطان بتفهم ظروف الدولة الصعبة، بل هدّدوا بالتمرد، لو لم تتم الاستجابة لمطالبهم المالية. وفي العام التالي، حين تأخرت مرتباتهم ثلاثة أشهر، كرّروا تهديدهم بشكل أكثر قسوة، فأخذ السلطان يستولي على أموال المصريين قسراً، وطالب أصحاب الأملاك من السكان بأن يدفعوا أجرة مساكنهم ودكاكينهم عشرة شهور مقدماً، وهو ما يعلق عليه ابن إياس قائلا “فحصل لهم ـ أي لأصحاب الأملاك ـ بسبب ذلك الضرر الشامل، وتعطلت الأسواق من البيع والشراء، وغلقت غالب دكاكين القاهرة، ووقع الاضطراب للغني والفقير، وصار الناس بين جمرتين”.

وحين عجز قانصوه الغوري، بعد ذلك بسنوات، عن دفع مرتبات المماليك، لم ينتظروه هذه المرة، بل نزلت جموعهم إلى شوارع القاهرة، فنهبوا سوق جامع ابن طولون وسوق الصليبة وسوق تحت الربع وسوق البسطيين، وأغلقت باقي الأسواق، “حتى كادت مصر أن تخرب عن آخرها في هذا اليوم”، على حد تعبير ابن إياس الذي يقول إن عدد الحوانيت التي تم نهبها في ذلك اليوم كان خمس مائة وسبعين حانوتاً، وحين تكرّرت تلك الحوادث، واستمر عجز الدولة في منعها، اضطر بعض الأهالي إلى التصدي للمماليك الذين زاد بطشهم، فسيّروا المنادين في القاهرة لينادوا بأنه “..لا سوقي ولا تاجر يبهدل مماليك السلطان، ولا يمسك لأحد منهم فرس، ومن فعل ذلك قطعت يده”، ليتخذوا من ذلك التهديد ذريعة لزيادة عمليات نهب الدكاكين، من دون أن يتعرّض لهم أحد، لكيلا يتعرض لقطع يده.

صناعة نهب البضاعة

لم تكن الإقطاعات والمخصصات المالية الممنوحة من الدولة المصدر الوحيد لثروة أمراء المماليك، فقد كان كل سلطان يصرف لأمرائه، أيضاً، مقادير ثابتة من اللحم والخبز والتوابل والزيت والشمع، بالإضافة إلى الكسوة السنوية. وبالطبع، كانت تلك المقادير تتفاوت بحسب المراتب، وبحسب رضا السلطان أيضا، كما أنها لم تكن العطايا الوحيدة الممنوحة من السلطان، فكلما ولد لأحد الأمراء ولد، كان السلطان يخصص له زيادة في المال واللحم والخبز، حتى يكبر ابنه، وعندها يدخل ضمن ميزانية الدولة، فيمنح إقطاعاً مستقلا له، وهكذا دواليك. كانت عطايا السلطان تشمل ال

زيجات، وما يرتبط بها من جهاز ومصاريف، خذ عندك، مثلًا، الأمير محمد بن قلاوون (السلطان فيما بعد) الذي بلغ جهاز زواجه المخصص من الدولة له، حمولة ثمانمائة جمل وستة وثلاثين قنطاراً من البغال، كما بلغ وزن الذهب في المصاغ والملابس الزركش ثمانين قنطاراً. وعلى الرغم من ذلك، استصغر والده السلطان الناصر هذا الجهاز عندما رآه، وقال له إنه رأى شوار بنت الأمير سلار أحسن منه وأكثر، ووصلت مظاهر الأبهة والرفاهية إلى أبعد مدى، كما يروي لنا القلقشندي، حيث بلغ الأمر ببعض السلاطين إلى جلب قطع ضخمة من الثلج من جبال الشام، لتبريد الماء زمن الحر صيفاً، مع الحرص على تخصيص سفن تحمل الثلج في البحر، وهُجُناً تحمله في البر، ليصل إلى القلعة، ويحفظ في أماكن مخصصة له في “الشراب خانه”، وكان ثمّة عرف سائد بين سلاطين المماليك، يقضي بتبديل ملابسهم ثلاث مرات في اليوم الواحد، وكان الرداء الذي يخلعه السلطان، لا يلبسه مرة ثانية مطلقا، بل يأخذه خاصته.

لكن كل مظاهر الرفاهية التي لا يتسع المقام لذكرها لم تصب المماليك بالشبع والرضا، بل كانوا يتمردون دائما مطالبين المزيد، وكان الأمر يصل أحيانا إلى تمردات عنيفة، كالتمرد الشرس الذي وقع في سنة 855 هجرية، وكان مألوفاً أن يقوم بعضهم بقتل رئيسه من أجل السيطرة على إقطاعاته ومخصصاته، وكما يقول الدكتور عاشور فإن اشتراك كبراء المماليك في المصالح، لم يمنعهم أبدا من الانقسام إلى شيع وطوائف، تتجسس على الأخرى، وتسعى لنهب امتيازات بعضها البعض. وكما يقول أبو المحاسن في (حوادث الدهور)”كان إذا مرض مملوك من غير طائفته أو انقطع في بيته، أسرع مملوك آخر لأخذ إقطاعه، حياً كان أو ميتاً”، في الوقت الذي “أكثروا فيه من التعرّض لحريم الأهالي وأولادهم”، فأصبحوا رمزاً للسلب والنهب والإجرام، وعنوانا للفوضى وعدم الاستقرار في البلاد، على حد تعبير الدكتور عاشور، الذي يرى أنهم بأفعالهم تلك استحقوا وصف المقريزي لهم في خططه، بأنهم “

ليس فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فأرة وأفسد من ذئب”.

وعلى الرغم من أن المؤرخ ابن تغرى بردي، وهو من أبناء أمراء المماليك، يحاول أن يرسم صورة حسنة للمماليك في أول عهدهم، حيث يقول إنهم كانوا “على حظ وافر من الأدب والحشمة، والتواضع مع الأكابر وإظهار الناموس وعدم الازدراء بمن هو دونهم”، لكنه يعترف بأن ذلك تبدل تماما، بعد أن جرت الأموال في أيديهم بلا حساب، فغدوا “ليس لهم صناعة إلا نهب البضاعة، يتقوون على الضعيف، ويشرهون حتى في الرغيف، جهادهم الإخراق بالرئيس وغزوهم في التبن والدريس”، مشيراً إلى إمعانهم في حياة المجون واللهو، حيث كان بعضهم يتفنن في ابتكار أنواع من الخمور لتعرف باسمه، مثل الأمير تمربغا الذي اخترع نوعاً من الخمور حمل اسم “التمربغاوي”، وكان بعضهم يمعن في استعراض نزواته أمام الناس، مثل السلطان إسماعيل بن الناصر الذي اعتاد عند ركوبه إلى سرياقوس للرياضة أن يصحب معه في ركابه مائتي امرأة للاستمتاع بهن، والملفت أن كثيراً من الملتصقين بطبقات الأكابر والأعيان، في ذلك الزمان، ظهرت عليهم أعراض السلوك المملوكي من دون أن يكونوا مماليك. ولذلك، أخذوا يفضلون أكل المطاعم على أكل البيوت، رغبة في التباهي والفشخرة، وكانوا يحبون التفاخر بالحفلات والأفراح، اقتداء بأمراء المماليك، إلى درجة أن “بعض الناس كان يبيع منهم الواحد ثيابه، ويقترض الأموال بالربا، ليتباهى أمام الناس، ويقال طعام فلان أكثر من طعام فلان”.

عصر البراطيل

“امتلأ المجتمع بكثير من الأمراض الاجتماعية الخبيثة التي انتشرت بين جميع الطبقات، حكاماً ومحكومين، من أهل الدنيا والدين، كان ذلك العصر يمتاز بمسحة براقة من الصلاح والتقوى والحرص على إقامة المنشآت الدينية الفخمة والرغبة في المبالغة في إحياء شعائر الدين، لكن هذه المسحة الخارجية لا تلبس أن تتضح حقيقتها لمن يتعمّق في البحث، فتبدو طلاءً خادعاً يخفي وراءه انحلالاً خلقيا بعيد الغور وأمرا

ضاً متوطنة خبيثة، تثير الاشمئزاز والنفور”.

هكذا يصف المؤرخ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور أحوال المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، كما درسها في أهم المصادر التاريخية، وفي مقدمتها تأريخ المقريزي تلك الفترة، الذي تحدث فيه بأسى شديد عن تفشي الرشوة التي كان يطلق عليها وقتها تعبير “البراطيل”، فيقول إنها صارت شائعة بين الحكام والمحكومين، وإنها تحكمت في ولاية المناصب كافة، “بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل”، وصار التعامل بالبراطيل أو بالرشاوي “عرفاً غير منكر ألبتة، وفشت فشوا كبيراً في القضاء والاحتساب وبين الولاة، “وهكذا اختل إقليم مصر خللاً شنيعاً” على حد تعبير المقريزي، الذي يكرّر رصده ظاهرة الرشوة العلنية في موضع آخر، قائلا “تجاهر الناس بالبراطيل، فلا يكاد أن يلي أحد وظيفةً، ولا عملا إلا بمال، فترقى للأعمال الجليلة والرتب السنية الأراذل وفسد بذلك كثير من الأحوال”.

لم يقتصر جمع الرشاوي على الأمراء والموظفين العموميين، بل امتد إلى أخطر جهاز في الدولة، وهو جهاز القضاء، ليشتهر قضاة زمن المماليك بالتفنن في جمع الثروات “والتشبه بأهل الدولة” على حد تعبير المقريزي، حتى كان القاضي الذي يركب حماراً يُضرب به المثل في التواضع الجم، وتعليقاً على لوم ابن تغري بردي قضاة عصر المماليك، لأنهم أهملوا في شؤون الأوقاف، وفرّطوا في تأدية واجباتهم. يقول الدكتور سعيد عاشور “يبدو أن هذا التراخي جاء نتيجة طبيعية للجاه الذي أصبح فيه القضاة، وحياة الدعة والترف التي انتقلوا إليها، بعد أن غلبت شئون الدنيا على الدين، فساد التنافس والتحاسد بينهم، حتى أن المجالس السلطانية نفسها لم تخل من منازعات بين القضاة، تصل إلى درجة السباب والفحش في القول”.

كانت أوضاع القضاء فاسدة للغاية، حتى كان القضاة الصالحون يتهربون من قبول منصب القضاء، بل وكان بعضهم يهرب حرفياً، ليختفي في مكان مجهول، حين يتم تكليفه بالمنصب، لكيلا يضطر لقبول ضغوط المماليك عليه، حين يطلبون إصدار الأحكام لصالحهم، خصوصاً أن الضغوط كانت لا تقتصر فقط على الأمراء من المماليك، ولا على مساعديهم وجنودهم فقط، بل وامتدت إلى زوجاتهم وأمهاتهم، خصوصاً بعد أن شاع تفرغ بعض السلاطين لشهواتهم، وتسليمهم مقاليد الحكم لزوجاتهم، ليس من باب تمكين المرأة، بل من باب تكبير الدماغ والتفرغ لملذات الحياة. يصف لنا

ابن تغري بردي، مثلاً، دور سيدة حديدية، مثل خوند زينب زوجة السلطان إينال، التي قال إنها “صار لها نصيب وافر مع السلطان في كل هدية ورشوة، … وصارت تدبر أمور المملكة من ولاية وعزل”، وهو ما سنجده أيضاً في أوصافٍ أخرياتٍ، مثل أم السلطان شعبان وزوجة السلطان برسابي وغيرهن، ممن أصبحن، على حد تعبير السخاوي، على جانب كبير من “نفوذ الكلمة وطواعية السلطان لأوامرهن، فيصبح السلطان لا اختيار له معهن”، حتى كان أصحاب الحاجات لا يتجهون، أحياناً كثيرة، إلى رشوة السلاطين والأمراء، بل يبحثون عن طريقٍ يوصلهم إلى حريم السلطان، لإيصال رشاويهم وقضاء حوائجهم.

نكمل غداً بإذن الله.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر 15781612
مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر Icon_minitime 2016-01-09, 1:26 pm
بلال فضل

جيبوا لنا الأعرج

على الرغم من قوتها الظاهرة، وضخامة بنيانها الإداري، والمبالغ الطائلة التي تنفقها على قادتها وجنودها ودركها وعسسها، كانت دولة المماليك تعاني، فترة طويلة، من تفسخ اجتماعي شديد، ومن انتشار مريع في نسبة الجريمة، وهو ما اعتاد فقهاء السلطان في ذلك الزمان على رده إلى ضعف الإيمان، وليس إلى ضعف الأمن، فحين كثرت حوادث خطف النساء، تروي لنا كتب التاريخ أن الفقهاء المعاصرين كانوا يأخذون على النساء عنايتهن بالزينة عند الخروج من المنازل، وإهمال أنفسهن داخلها أمام الأزواج. وفي حين كانت قوات الشرطة تهتم بحراسة الكبراء والأمراء، كانت تهمل في تأدية واجباتها في حفظ الأمن لعموم الناس، وخصوصاً للأقلية المخالفة في الدين، من ذلك، مثلاً، ما ترويه كتب التاريخ عما حدث سنة 708 في قوص، حين صاح شخص فجأة من على مئذنة أحد مساجد قوص “يا أصحابنا الصلاة في هدم الكنائس”، فلم يأت ظهر اليوم نفسه، حتى هدمت ثلاث عشرة كنيسة، من دون أن تتدخل الشرطة. لكن دولة المماليك، في الوقت نفسه، لم تكن تتسامح أبداً مع من يحاول الخروج على طاعتها، حيث كان يتعرّض من يقبض عليه بتهمة التمرد لتعذيبٍ بشع، تحتفظ لنا كتب التاريخ ببعض طقوسه، ومن بينها “قلع أضراس المذنب ودفنها في رأسه، وغرس خازوق بالأرض لرفعه عليه، وتسخين طاسة من المعدن، وإلباسها للمذنب في رأسه، أو إجباره على الجلوس فوق قعر دست ساخن، وقطع بعض أجزاء من جسده، أو تكحيل عينيه بالنار، أو تعليقه من يديه، وربط أثقال في قدميه، حتى تنخّلت أعضاؤه”.


لذلك، لم يكن غريباً أن يلجأ أغلب المصريين إلى الاستسلام التام لسطوة المماليك، مكتفين بالفرجة على صراعاتهم السلطوية العنيفة، على أمل ألا تؤثر تلك الصراعات في حياتهم. لذلك، وصف المقريزي أهل مصر في وقته، بأن “من أخلاقهم الانهماك في الشهوات، والإمعان في الملاذ، وكثرة الاستهتار، وعدم المبالاة”، وهو ما توقف عنده أيضا المؤرخ والمفكر الكبير، عبد الرحمن ابن خلدون، والذي نزح إلى مصر في عهد الظاهر برقوق، وعاش فيها حوالي ربع قرن (من 784 إلى 808 هجرية)، حيث استوقفته روح اللامبالاة التي ظلت تسود أهل مصر، الذين وصفهم بأنهم “كأنما فرغوا من الحساب”، ولم يتغير ذلك الحال كثيراً، حين اجتاح البلاد في سنة 853 وباءٌ قاتل، كان يحصد من أهل القاهرة في اليوم الواحد عشرة آلاف شخص. ومع ذلك، كما يروي المقريزي “شوهد الناس في شوارع القاهرة وهم يضحكون ويهزلون، ومبدأهم في ذلك هو حمد الله الذي جعل في المزاح سلوة الهم والإرتواح”، حاكيا أن ذلك حدث من قبل في عام 709، حين انتشر وباء شديد، وتوقفت زيادة النيل وغلت الأسعار، فكان العامة يغنون في شوارع القاهرة: “سلطاننا ركين، ونائبنا دقين يجينا الماء منين، جيبوا لنا الأعرج (أي السلطان الناصر محمد) يجي الماء ويتدحرج”.

لم يكن غريباً، في ظل ظروفٍ كهذه، أن تشيع الخرافات بين الناس، لينقل لنا المؤرخون

“دولة المماليك، في الوقت نفسه، لم تكن تتسامح أبداً مع من يحاول الخروج على طاعتها، حيث كان يتعرّض من يقبض عليه بتهمة التمرد لتعذيبٍ بشع”
حكاياتٍ لا آخر لها، عن الولي الذي ذاع أمره في البلدة الفلانية، لأنه يضع التراب على الرصاص، فيصبح ذهباً، والولي الذي سطع نجمه في القرية العلانية، لأنه يسخر التماسيح في عبور النيل، والثالث الذي يطير في الهواء من غير أجنحة. وحين ينتشر أمثال هؤلاء بين الناس، لا يكون الاعتقاد بالجن والشعوذة والسحر والأعمال السفلية أمراً عجيباً أبداً، ولا يمكن أن تستغرب، حين تقرأ عن اشتغال الناس بالكيميا، والتي لم تكن وقتها مرادفاً لعلم الكيمياء الشهير، بقدر ما كانت تعني انشغال الناس بأعمال السحر التي تزعم تحويل المعادن إلى ذهب، وفي ذلك يصف المؤرخ الجوبري “أهل الكيميا” في ذلك العصر بأنهم “طائفة من أعظم الطوائف تسلطاً على أكل أموال الناس بالباطل”، ومع أن حوادث نصب هؤلاء على الناس كانت منتشرة للغاية، وكان من يقبض عليه منهم يتم معاقبته علناً أمام الناس، إلا أن ذلك لم يوقف استمرار هؤلاء في النصب على المصريين، خصوصاً أن كثيرين من هؤلاء كان يتخفى تحت ستار التصوف، الذي أقبل كثيرون عليه هرباً من حياة الفقر، كما يقول الدكتور زكي مبارك، حيث ضمت الزوايا “كثيرا من الدخلاء الذين لم يقبلوا على حياة التصوف رغبة في الانقطاع للدين، وإنما فراراً من قسوة الحياة، ورغبة في الهناء دون عناء”.

قل للذي ترك الحشيشة جاهلاً

كانت ظاهرة تجاهل المصريين ما يجري في حياتهم من مآس، قد شغلت مؤرخين ورحالة كثيرين، فقال بيلوتي الكريتي إن من خصائص ماء النيل أن يجعل الناس دائماً مرحين فرحين بعيدين عن الهموم والأحزان، وهو ما لا ينطبق على مصر وحدها، في حين قال ابن بطوطة الذي زار مصر في عهد الناصر بن قلاوون إن للأمر علاقة بطبائع المصريين الذين وصفهم أنهم “أهل طرب وسرور ولهو”، ينقل الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه “عصر سلاطين المماليك” عن الرحالة الأندلسي علي بن سعيد قوله بعد زيارة مصر: “وهي مستحسنة للفقير الذي لا يخاف على طلب زكاة، ولا ترسيماً وعذاباً عليها، ولا يُطلب برفيق له إذا مات، فيقال له ترك عندك مالاً، فربما سجن في شأنه أو ضرب وعصر، والفقير المُجرّد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته، ووجود السماعات والفُرَج في ظواهرها ودواخلها، وقلة الاعتراض عليه فيما ذهب إليه، له نفسه يحكم فيها كيف شاء من رقص في وسط السوق، أو تجريد أو سكر من حشيشة، أو صحبة المردان، وما أشبه ذلك بخلاف غيرها من بلاد المغرب”.

سيتوقف مؤرخون كثيرون عند ظاهرة تساهل السلطات الحاكمة مع الحياة الشخصية

“ظاهرة تجاهل المصريين ما يجري في حياتهم من مآس، قد شغلت مؤرخين ورحالة كثيرين”
للمصريين، في الوقت الذي كان الحكام يرفعون فيه شعارات الدين، وينصبون أنفسهم ظلاً لله على الأرض، وحراساً على الفضيلة والأخلاق. يشير المقريزي، مثلاً، إلى تفشي الحشيش بين المصريين، قائلا “فشت هذه الشجرة الخبيثة في وقتنا هذا فشواً كبيراً، وولع بها أهل الخلاعة والسخف ولوعاً كثيراً وتظاهروا بها من غير احتشام”، كانت الدولة قد فرضت ضريبة على الحشيش، في أوائل عصر المماليك، وانتشرت زراعتها في أماكن متعددة، من بينها مثلا أرض الطبالة وباب اللوق. وتروي لنا كتب التاريخ أن كثيرا من العلماء والقضاة شغفوا بالحشيش، حتى أفتى بعضهم بإباحة أكله، وقال بعضهم في تفضيلها على الخمور “قل للذي ترك الحشيشة جاهلاً .. وله بكاسات المدام ولوع”.

كانت الخمور وقتها أيضاً متوفرة في أنحاء مصر، حتى بيع منها في سنة واحدة اثنين وثلاثين ألف جرة، وقد روي أن بعض ما استهلكه أحد الأمراء من الخمور خلال يوم واحد خمسين رطلا من الخمور، وقد حدث كثيراً أن يأتي إلى الحكم سلطان، فيقوم بالتشديد على تحريم تعاطي الخمور، لكن ذلك لا يستمر إلا مدة قصيرة، يعود بعدها كل شيء إلى حاله، وهو ما كان يحدث أيضاً مع مهنة البغاء، التي اعترفت الدولة بها في أحيان كثيرة، وفرضت عليها ضرائب مقرّرة، وعلى حد تعبير المقريزي “جمعت من هذه الضرائب جملة مستكثرة”، وقد حاول بعض السلاطين، مثل بيبرس، إلغاء هذه الضريبة، لكن ذلك لم يستمر، وقد كان للدعارة (كما يروي ابن حجر) حارات مخصصة في بعض أنحاء الريف، وكان من يمر بها خطأً يتم إجباره على الممارسة الجنسية، فإن لم يفعل فدى نفسه بشيء لكي يسمح له بالانصراف إلى حال سبيله.

بالطبع، لم يكن في أي من هذه المظاهر دليل على وجود انفتاح عام في المجتمع، أو احترام للحريات الشخصية، فقد كانت سلطات دولة المماليك تشجع على ذلك كله، من باب أنه يلهي الناس، ويعينهم على تزجية أوقات فراغهم، بحيث يتركون السلطة وكل شؤونها لها من دون منازع، وتترك لهم حياتهم الخاصة، شريطة التزامهم الحذر، والحرص على أن يفعلوا ذلك بأقل قدر من العلانية، لتجنب إحراج الدولة التي تدّعي تطبيق شرع الله، مع لجوئها، من حين إلى آخر، إلى إظهار غيرتها على الدين، حين يتعلق الأمر بمرتكبي الخطايا من الفقراء وقليلي الحيلة، في حين يحتفظ الأمراء والكبراء بحصانتهم، مهما فعلوا، خصوصاً أن غالبيتهم العظمى، كما يقول الدكتور سعيد عاشور، قد أدركوا أن ما يعينهم على البقاء في مناصبهم، هو إظهار أكبر قدر ممكن من التقوى والورع في حياتهم العامة، حتى لو كانوا يرتكبون في حياتهم الخاصة أشد الموبقات.

ثلاثة أثلاث

“أما الناس فصاروا ثلاثة أثلاث، الغني افتقر، والمُكتسِب ما يفي بنفقته، والفقير فبعد أن كان يسأل في الرغيف صار يطلب لقمة أو لُبابة”، هكذا يلخص ابن الصيرفي أحوال المصريين في سنة 875 التي انتشرت فيها المجاعات والأوبئة والأزمات. وكان من الطبيعي أن يكون لهذه الأوبئة والأزمات أثرها على أخلاقيات الناس، وعلى شكل حياتهم اليومية، فقد كانت الأزمة تدفع كثيرين إلى الحرص على ما لديهم من الأطعمة، وتشحّ النفوس، حتى يروى أن الأمراء والأعيان والأثرياء كانوا لا يستقبلون أحداً في وقت تناول الطعام، وفي الشوارع يتصارع عامة الناس في سبيل الحصول على القوت، فيتزاحمون على الأفران وحوانيت بيع الخبز والدقيق،

“كان الفلاحون هم السواد الأعظم من أهالي مصر، لكنهم لم يحصلوا من دولة المماليك إلا على الاحتقار والإهمال”
وربما يقتتلون، في سبيل الحصول على أي شيء يسد جوعهم. ولذلك، كان بديهياً أن يفضل أصحاب المحلات غلقها، فتتوقف مظاهر الحياة اليومية، وتركد الأسواق، ويتوجه بعض الناس إلى الأفران من منتصف الليل، ليقفوا أمامها في انتظار فتحها في الصباح الباكر، في حين يتوجه الآخرون إلى ساحل النيل عند بولاق، في محاولة للحصول على بعض القمح، فمنهم من يجد بعض شيء، ومنهم من يرجع خائباً، وفي أثناء التزاحم على الأفران، كان الناس ينهبون الخبز جهراً، بل كان الجوع يدفع بعضهم إلى اختطاف العجين إذا أرسله أصحابه إلى الفرن، وهو ما جعل ناساً يرسلون العجين إلى الفرن، في حراسة أفراد مسلحين بالعصي، لحمايته من محترفي نهبه، ولكن الجوع كان يدفع ببعض الناس إلى إلقاء أنفسهم على الخبز أو العجين، من دون أن يبالي الواحد منهم بما ينال رأسه وبدنه من الضرب، لشدة ما نزل به من الجوع. وفي مثل هذه الأحوال، كان المحتسب، أو الوالي، يضطر لتعيين الحراسات على أبواب الأفران وحوانيت الخبز، ومعهم العصي الغليظة لدفع الجياع إذا ما حاولوا نهب الخبز.

وواجه المصريون ذلك، كعادتهم، بالسخرية، فقال أحد شعراء العصر في سخرية مريرة: يا طالباً للموت قم واغتنم.. هذا أوان الموت ما فاتا

قد رَخُصُ الموت على أهله.. ومات من لا عمره ماتا

لكن الأمر لم يقتصر دائماً على السخرية، بل كان يسفر أحيانا عن هبات قصيرة الأجل، ينهب فيها فقراء المصريين كل ما تصل إليه أيديهم من قصور المماليك والأغنياء، قبل أن يتم قمعهم وإخماد تمردهم، وإن كانت بعض تلك التمردات تنجح، أحياناً، في الوصول إلى بعض الرؤوس الكبيرة، كما حدث مثلا في دمياط عام 820 هجرية، حين قام العوام بثورةٍ أسفرت عن القبض على الوالي، وحلق لحيته وتجريسه على جمل، والمغاني تزفه ثم قتله، أو ما حدث في المحلة سنة 854، حين قام الأهالي الذين لم يحتملوا ظلم الوالي، بالهجوم على قصر الوالي فنهبوه، وأخرجوا منه الوالي “بلبوصا”، وصحبوه إلى الجامع، وأخذوا ينهالون عليه بالضرب، حتى مات، أو ما حدث في سنة 850، حين تم نسيان المساجين ثلاثة أيام كاملة في أحد السجون، من دون أن يذوقوا شيئاً، ما دفعهم إلى قتل سجانيهم وهروبهم من السجن.

معاش المستضعفين

ينقل الدكتور سعيد عاشور ملاحظات رحالة أجانب، زاروا القاهرة في تلك الفترة، والتي كانت تعج بالقصور الفاخرة، فأدهشهم “وجود عدد كبير من العوام بلا مأوى في النهار والليل، يهيمون في الطرقات، وأجسادهم شبه عارية”. يقول الرحالة برنارد دي بريدنباخ إنه اندهش بشدة من كثرة عدد الشحاذين في القاهرة، “والذين أحاطوا به من كل جانب طالبين منه الإحسان”، بل وتم تقدير متسولي القاهرة في بعض السنين بمائة ألف شخص، لاحظ أن هؤلاء الرحالة لم يكونوا قادمين من دول تسعى للإساءة إلى سمعة مصر، لأن دولهم كانت تعاني بدورها من أزماتٍ عصيبةٍ، تشغلها عن التفكير في مصر وسمعتها.

كان الفلاحون هم السواد الأعظم من أهالي مصر، لكنهم لم يحصلوا من دولة المماليك إلا على الاحتقار والإهمال، حتى أن ابن خلدون وصف الفلاحة في مصر بأنها “معاش المُستضعفين ويختص أهلها بالذلة”، وهو ما جعل الفلاحين يصابون، في ذلك العصر، بعقدة نقصٍ بسبب المعاملة القاسية التي يتعرّضون لها. هنا يستشهد الدكتور عاشور بقصة مثيرة للأسى، أوردها مؤرخ قديم، عن أحد علماء الازهر في القرن العاشر الهجري، الذي تزوج قاهرية، فلما قدمت أمه من الريف لزيارته، تنكّر لها لئلا تعرف زوجته أن أمه فلاحة، وهدد أمه بالضرب، إن علم أحد أنها أمه، ولكي يخرج الأمر من كونه مرتبطاً بحالة فردية لولد عاق، يستشهد بالمقريزي الذي يضع الظاهرة بذكاءٍ شديد في سياقها الاقتصادي الأشمل، قائلا “لا عجب، فإن الغلال معظمها لأهل الدولة أولي الجاه وأرباب السيوف الذين تزايدت في اللذات رغباتهم، فخرب ذلك معظم القرى، لموت أكثر الفلاحين وتشردهم في البلاد”.

لذلك، لم يكن غريباً أن يحصي السلطان برسباي قرى مصر في سنة 837 هجرية، فيجد عددها ألفين ومائة وسبعين قرية فقط، بعد أن كان عددها في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) عشرة آلاف قرية، بل إن المقريزي يقول إن عدد القرى واصل التناقص بعد سنة 837 “بخراب ما خرب منها من الظلم وخراب الأرض”، كما أنه، في لفتة ذكية، يدلل على تدهور الأحوال، بانخفاض عدد صناع القماش في الإسكندرية، الذين كان عددهم في سنة 837 هجرية حوالي ثمانمائة، في حين كان عددهم أكثر من أربعة عشر ألفاً في عام 790 هجرية، ليفسر المقريزي كل تلك الظواهر بعبارة مرعبةٍ، تقول: “ففشا فيهم الظلم من الحكام وكثرة الجور وشؤم السيرة، فتشتتوا شذر مذر”، وهو ما يعلق عليه الدكتور قاسم عبده قاسم بقوله “كان هذا الضمور في المجتمعات السكانية والخراب الريفي والحضري يحملان دلالات عن أن الدولة كانت في منحنى هبوطها وفي طور غروبها”.

لكن صمت غالبية المصريين على جور دولة المماليك وفسادها، وعلى ما أحدثته من خرابٍ في البلاد، لم يجلب لهم أياماً أسعد، ولا أحوالاً أفضل في مستقبل الأيام، بل قادهم إلى تعاسة أجدّ وأشدّ في ظل الحكم العثماني، الذي جعل بعض الغافلين منهم، يترحمون على أيام المماليك، من دون أن يدركوا أن ما قادهم إلى عسف العثمانيين وجورهم هو صمت أغلبيتهم على فساد المماليك وظلمهم.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر 15781612
مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر Icon_minitime 2016-01-14, 1:07 pm
في محبة المكترث الأكبر


بلال فضل

أحدثكم، اليوم، عن الشرف والنزاهة والإخلاص والتعفف عن المكاسب الرخيصة. أحدثكم عن الاكتراث بهموم البلاد والناس، إلى حد المرارة والأسى. أحدثكم عن المثقف الحقيقي الزاهد في ما عند السلطان، الراضي بالقليل، القافل على نفسه وأهله وكتبه وكتابته. أحدثكم عن الكاتب الذي لا يحنجر الشعارات، ليخفي سوأة أفكاره ومواقفه، ولا تشغله الأضواء، ولا يضيع وقته في الهذر، ولا يكتب إلا الكتابة المشغولة بعناية وعناء، الكتابة التي تنفع الناس، ولا تخدعهم بآمال زائفة، الكتابة التي لا تخطف الأبصار، بل تُعمّر العقول وتؤنس القلوب وتعصف بالوجدان.


أحدثكم عن المكترث الأكبر، الأستاذ علاء الديب. لا تحتاج الكتابة عن علاء الديب إلى مناسبة، وعلى الرغم من ذلك، قلما يكتب أحد عن علاء الديب، ربما لأنه، حتى ونحن نحبه، يذكرنا دائما بأسوأ ما فينا، يذكّرنا بأننا لن نستطيع أبداً أن نمتلك قدرته الجبارة على التعالي عن الصغائر والترفع عن النقائص. أعترف أنني حاولت أن أكتب كثيراً عن علاء الديب وفشلت، وأظنني سأفشل هنا أيضا في تقديم كتابةٍ تليق به، وبمحبتي له. كنت قد وقعت في غرام العم علاء، بفضل بابه التاريخي “عصير الكتب” الذي ظل يحرره سنين طويلة في مجلة “صباح الخير” التي ظلت متوهجة حتى نهاية ثمانينات القرن الماضي، ثم تعرفت حين دخلت الجامعة على رواياته القصيرة، وبعدها تشرّفت بمعرفته شخصياً، عن طريق أخي حمدي عبد الرحيم، ليكون لي، منذ ذاك، أباً وصديقاً وشريك كتب وأنيس سهرات و”ضليلة” من صهد الحياة وسنداً وأستاذاً. ربما لم يغيرني حبه إلى الأفضل الذي تمناه لي، لكنني دائماً، وأنا أحاسب نفسي على ما جنت يداي، أتذكّر أنني كنت محظوظاً بحمد الله، لأنني حظيت بمحبة وصحبة أستاذ وأب ومثلٍ، لم يتلوث كما تلوث كثيرون غيره. رجل مبهج دافئ حكيم حنون، يستمع أكثر مما يتكلم، يقرأ أكثر مما يكتب، يفضل صحبة الأشجار على قعدات نافخي الكير، لا يدّعي العلم عمّال على بطال، بل يبحث بشغف عن كل كتاب جميل فاته، ليس لديه أي ادعاء بامتلاك عبقرية تميّزه عن غيره. متواضع وعازف عن المديح والثناء و”الدوشة”، وأظنه سيقاطعني فترة بعد أن يقرأ ما أكتبه، ليس لأنه لا يعلم صدق محبتي، بل لأنني ربما سأذكّر به أناساً ثقلاء الظل والروح، لم يكن يريد أن يسمع أصواتهم، لكنه أيضاً لن يكسر قلوبهم، فيصدّهم عنه تماماً، لأنه لم يعتد أن يمنع خير نفسه عن أحد.

للأسف الشديد، لم يحتفِ زماننا الرديء كما يجب بقيمة كبيرةٍ مثل علاء الديب. سنوات طويلة،

“علاء الديب رجل مبهج دافئ حكيم حنون، يستمع أكثر مما يتكلم، يقرأ أكثر مما يكتب، يفضل صحبة الأشجار على قعدات نافخي الكير”
لم يهتم مسؤولو أجهزة الثقافة بطبع كتبه ورواياته ونشرها وتقديمها للناس كما يليق، ولا بجمع المجهود المذهل الذي بذله أربعة عقود في كتابة باب “عصير الكتب”، والذي لو تم جمع كل ما جاء فيه، لقدّم بانوراما مذهلة لأهم ما أنتجه العقل البشري، وصدر مترجما إلى العربية طوال الأربعين عاماً الماضية، (صدر عن دار الشروق كتاب وحيد في عام 2010 ضم بعض هذه المقالات المهمة، وقد تشرفت بدعوة أستاذي لأن أشارك في تقديم الكتاب مع الكاتب الكبير الراحل إبراهيم أصلان). للأسف، لا أذكر أنني رأيت عن عم علاء برنامجاً في التلفزيون المصري بقنواته كافة، يقدّم أفكاره للناس الذين عاش حياته مكترثاً بهم، وحتى عندما أصابته أزمة مرضية قاسية أول مرة نحو عام 2000، كان بحاجة إلى أن تتم كتابة نداءات ملحة في صحف ومجلات عديدة، لكي يتم علاجه على نفقة الدولة، وقد تعست والله الدولة التي يحتاج علاء الديب فيها إلى أكثر من ساعات، لكي تتخذ قراراً بعلاجه وحل أزماته، وشيله في حبابي عينيها، وتعست وخابت الدولة التي قام أحد مسؤوليها الثقافيين البلداء، بعد ذلك، بالاستغناء عن خدمات عم علاء مستشاراً أدبياً لجريدة القاهرة، الصادرة عن وزارة الثقافة، ما اضطره، في سنه المتقدمة، وفي ظروفه الصحية المضطربة، لأن يبذل مجهودا كبيراً كل أسبوع، ليكتب ويكسب رزقه، من دون أن يشكو لأحد، مواصلاً، باجتهاد، عمله النبيل الدؤوب في تعريف القراء بأهم ما يصدر من كتب وأجملها، وفي إبداء ملاحظاته الثاقبة للأجيال المختلفة من الكتّاب الذين ظلوا يعتبرون كتابته عن أعمالهم جائزة كبيرة تبهجهم، لأنهم يعلمون أن علاء الديب لا يكتب إلا عن الكتاب الذي يستحق تعريف القراء به.

يحسن إلى نفسه كثيراً من يقرأ أو يعيد قراءة قصص علاء الديب ورواياته (زهر الليمون ـ قمر على المستنقع ـ أطفال بلا دموع ـ عيون البنفسج ـ زهر الليمون ـ الشيخة ـ الحصان الأجوف ـ القاهرة ـ أيام وردية ـ المسافر الأبدي)، ولن أتحدث هنا عن أدب علاء الديب، فهو أكثر جمالاً وتركيباً من أن يكتب عنه فقط بمحبة وحماس، فقط سأخصص هذه السطور لاستعادة ذكر كتاب جميل، قرأته له فور صدوره عام 1995، كان من الكتب التي شكلت وعيي، ولم أستطع أبداً أن أنساها، لأنها كانت حافزاً دائماً لي، ولكثيرين ممن عرفت، على التمرد والحرص على الاستقلال والحرية، أتحدث عن كتاب (وقفة قبل المنحدر: من أوراق مثقف مصري)، والذي أراد له عمنا علاء الديب أن يكون “شهادة مثقفٍ كان يحمل على أكتافه مسؤولية تغيير العالم، ويعتبر أن ذاكرته حياته، ومن أجلها يحارب آخر معاركه، ولا يقبل فيها الهزيمة”. (ألسنا بحاجة إلى أن ندرك هذا المعنى المهم، ونحن نعيش في أزهى عصور التزييف والتزوير ومسخ الذاكرة).

من أبرز ما يحكيه العم علاء، في شهادته المهمة على أحوال بلادنا المحمية بالحرامية، ما قاله له صديق ذات يوم ممتدحاً: “أنت واحد من القلائل الذين يشعرون بنبض الحياة الثقافية في أوروبا”، يعلق العم علاء على ذلك بأنه ابتسم، لأن صديقه لم يدر أنه لمس جرحه العميق، فقد كان دائماً يشعر بأنه لم يحصل على أجر عمّا يكتبه لأن “الأجر الوحيد الذي يحصل عليه الكاتب هو أن يفرح، وهو يرى كلماته وقد تحولت مخلوقاتٍ على الورق، وكثيراً ما رأيت كلماتي تتحول إلى مخلوقات مشوهة، تسقط كأجنة ناقصة النمو”. وبشجاعةٍ، يعترف عمنا علاء الديب بأنه لم يعد يعتبر العمل عطاء حقيقيا بسبب ذلك، ومنذ تلك اللحظة “كف الوجود عن أن يكون بالنسبة له فرحا ونعمة”.

كان يمكن للأستاذ علاء الديب أن يقنع بلعب دوره الثقافي، ويشعر بالرضا الكامل عما قام بتقديمه، كما فعل كثيرون من أبناء جيله، قدموا للثقافة أقل بكثير مما قدمه، لكنه كان صادقاً مع نفسه ومع قارئه، بحيث اعترف أنه منذ هزيمة 67 وهو ميت لم يعش يوماً حقيقياً كاملاً، محاسباً نفسه عياناً بياناً على تجربة السفر إلى الخليج، وناقداً دور المثقف منذ ما بعد ثورة يوليو، ليقدم في كتابه تقييم جرّاح أمين لديه ضمير يقظ، لكنه أيضاً لا يستعين بطبيب تخدير، ليصل إلى عصب المرض الذي أصاب البلاد منذ قيام ثورة يوليو، والذي يصفه في قوله: “عندما تحول البطل الكبير إلى مؤسسة، وتحولت الثورة إلى نظام مشغولٍ بحماية نفسه، وتركت قضاياها الكبرى في أيدي وجوه صغيرة، لا أدري من أين تخرج، كأنها الأفاعي تلتف حول ساق شجرة الثورة الكبيرة… سنة بعد سنة، أراقب كيف يخلو المجتمع من حولي، من القنوات الطبيعية التي تشبه الشرايين التي تبقي المجتمع كائناً حياً، تصل بين البشر فيه، قيماً وممارسات وسلوكاً، تنتزع وتوضع بدلاً منها شرايين صناعية تصنعها أجهزة غامضة، يصنعها العجز عن التطبيق والانتهازية، وكل صور الفساد فيستحيل أن تصل المعاني الجديدة إلى قلوب الناس، ويستحيل أن يتحوّلوا إلى بشر متحرر حقاً من الجهل والفقر والمرض”، أو حين يقول، في موضع آخر، ملخصاً مأساة المثقف المصري في ظل دولة يوليو: “.. الازدواج قضيتي الشخصية. إنها ليست مسؤولية الدولة أو النظام، إنها قدري ومصيري، لقد كُبتت الحريات أوقاتاً طويلة، كذلك يفعل أي نظام وأي ثورة وأي دولة، ولكن التشوه الذي حدث كان مسؤولية المثقف، إنه يكمن في نكوصه وعجزه عن أداء دوره، لقد أمسكوا المثقف من يده التي تؤلمه، من انتهازيته وطموحه المريض”.

انظر أيضا إلى ما يقوله في تذييله روايته البديعة “أيام وردية”، كاشفاً عن روحه الشفافة التي تكترث بآلام بسطاء الناس: “يحصل الواحد منا، نحن أبناء الطبقة المتوسطة، على أكثر من حقه، أنظر إلى الكادحين العارقين حولك، هل تعرف كم يقبضون في آخر النهار، وكيف ينامون، وكيف تنام أنت، فكّر في المزايا المجانية الجسيمة التي تحصل عليها بجهد قليل، أو بلا جهد على الإطلاق، شعور ساذج بالذنب مستمر، لكنه يكفي لكي يثير دائماً نقاشاً نظرياً، لم يحسم عن دور الطبقة المتوسطة في بلادنا، وماذا أخذت، وماذا أعطت، وعن مصيرها الذي انتهت إليه… وكيف تكون هي الوحيدة التي تملك القدرة على التواصل والتعبير، لكنها هي نفسها مضطربة متناقضة، تعطي إشارات متباينة، لا تزيد حياة الناس إلا ارتباكاً. على من يبحث عن هوية لمصر أو عن فن لمصر أن يبحث عنه خارج نطاق الطبقة المتوسطة، بكل الأشكال التي أخذتها سابقا وحتى الآن”. ولا أعتقد أن أي قراءة لأحوال مصر الآن، بعد ثورة يناير، يمكن أن تتغافل عن خطورة دور الطبقة الوسطى، وعن أهمية تجاوز هيمنتها على المجتمع، إذا أراد هذا المجتمع أن يعيش، وهو ما شخّصه عم علاء، في روايته الصادرة عام 2002.

مرّة قلت ممازحاً لعم علاء: لو كنت ناشراً لأقلقت منامك كل ليلة، حتى تكتب جزءاً ثانياً من كتابك البديع، بشرط أن تسميه “وقفة تحت المنحدر”، صمت مكتفياً بابتسامة مريرة، ولمت نفسي بقوة، لأنني هزلت في موضع الجرح، ولم أكن أعلم يومها أن كتابه سيكتسب أهمية استثنائية، في هذه الأيام التي أصبحنا فيها في قاع منحدر، لم تكن وعورته وعبثيته وحقارته، تخطر لأحد على بال، جعله الله آخر المنحدرات، أو دعنا على الأقل نتمنى ذلك، قبل أن نصل إلى منحدر جديد.

(كتبت هذه السطور على فترات متفرقة، ضمن محاولاتٍ متعثرةٍ لتسجيل محبتي وامتناني وتقديري، للأستاذ الكبير علاء الديب، الذي يعاني الآن من أزمة صحية حرجة، أسألكم الدعاء له بالشفاء العاجل، ليعود سالماً معافى إلى أسرته ومحبيه وكتبه وقرائه).
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
hassanbalam
® مدير المنتدى ®
hassanbalam
رسالة sms : سيرى ببطئ ياحياة
لكى أراك بكامل النقصان حولى
كم نسيتك فى خضمك
باحثا عنى وعنك
وكلما أدركت سرا منك
قلت بقسوة
مأجهلك!!!!
ذكر
عدد المساهمات : 11575
الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى
العمل : مهندس
نوسا البحر : مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر 15781612
مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر Icon_minitime 2016-01-16, 7:00 am
قصص نحيلة

بلال فضل

شكل آخر للحنان

ذهبت يومها مع خالي إلى المستشفى، لنزور أعز أصدقائه، الذي كان يمتلك محل خردوات قريباً من بيتنا، كان اسمه سيد، وكنت أحبه جداً، لأسبابٍ كثيرةٍ من بينها ضحكته المميزة، المذيّلة بشخرة سكندرية متفردة عما سواها، وعصية على التقليد، كما أدركت بعد ذلك. بعد التحيات والسلامات، قال خالي للعم سيد، الممدد أمامنا على فراش المرض: “هو انت بميتين أمك يا سيد هتشحططنا كل يوم وراك في المستشفيات؟ ده إيه القرف ده يا أخي”، وسيد نظر له بإرهاق شديد، وهزّ رأسه هزة خفيفة، من دون أن يتكلم، مكتفياً بنظرةٍ سريعة إلي، قبل أن يحدّق ثانية في فضاء الغرفة. كان واضحاً أن صحته لم تكن تحتمل حتى إصدار شخرة خفيفة، كأبسط أشكال الرد المتاحة على ما قاله خالي. للحظات، ساد الغرفة صمت، قطعه خالي حين قال بود شديد: “تحب أنزل أجيب لك حاجة من تحت يا سيّد.. ناقصك أيّتُها حاجة ..ما تتكسفش يا أخي احنا اخوات وأن عينيّا ليك”، وسيّد هز رأسه نافياً، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وبدا عليه التأثر الشديد، لتسود لحظة صمت أخرى، حين طالت أكثر مما ينبغي، قطعها خالي قائلا بحماس: “بس وحياة أمك لو عييت تاني، مانا معتب لك مستشفى يا سي خرا”، وقد كانت تلك أول مرة أتعرّف فيها على النظرة المركّبة للحياة.


المسألة أبسط بكثير

كان يجلس في الجهة المقابلة لنا في السيرك، ملامحه شديدة التجهم، لفتت انتباهي إليه، واستمرارها كما هي، برغم تنوع فقرات العرض شغل بالي بشدة، فأخذت ألقي عليه النظر من حين لآخر، لأجده كما رأيته أول مرة، يجلس متابعا مختلف الفقرات بتجهم شديد، إلى جواره يجلس طفلان، كان يبدو أنه جدّهما، وعلى يمينهما تجلس سيدة في عمره، لم تكن فيما بدا لي مشغولة به، بقدر انشغالها بالنظر بسعادةٍ بالغة، إلى الطفلين الذين لا يكفان عن الضحك والتصفيق، تماماً كأبنائي وسائر الأطفال الحاضرين للعرض. تحولت متابعته إلى تسليةٍ بديلة لي، خصوصاً حين كنت أهرب بنظري من بعض فقرات العرض التي تثير توتري الشديد، أخذت أتخيل قصصاً تفسر تجهمه في محفل مبهج كهذا. وبالطبع، كانت كلها قصصاً مأساوية تفترض ابتلاءه بكرب عظيم، من عينة أن ابنه مات، هو وزوجته، في حادث طائرة، فترك لأبويه طفليه لتربيتهما. ولذلك، ذكّره ضحك الطفلين بنجله الراحل، ولعله يعاني الآن من محاولة منع دموعه من الانهمار، حزناً على فلذة كبده، لكن كل قصصي المفسرة تلاشت، بمجرد أن بدأت فقرة البلياتشو، التي حوّلت ذلك الجد المتجهم، إلى طفلٍ صاخب الضحك، ينظر إليه حفيداه باستغراب، وهو ينشال وينحط في مقعده من فرط الضحك، لأن الموضوع في رأيهما لطيف، لكنه لا يستحق الضحك إلى هذه الدرجة.

تحت سطح الوقار

خُلوّ فرع الصيدلية الكبيرة من الرواد، أغرى عمالها بالتباسط الشديد مع بعضهم، قال عامل الكاشير إفريقي الأصل، ساخراً من عامل النظافة الآسيوي الأصل، بعد أن رآه يقف جوار الكاشير الآخر: “بلاش سرقة، المكان متراقب بالكاميرات، ولو هتشتري حاجة ادفع تمنها”، ليرد عليه العامل الآسيوي الأصل متحدياً: “عايز اشتري كوندوم عشان لما نقضي ليلتنا سوا تبقى متطمن”، والعامل إفريقي الأصل رد على الطاير: “وده هتلبسه في بُقّك أكيد”، انبعثت مني ضحكة مدوية، زادت في إحراج العامل آسيوي الأصل. وفي حين حيّاني العامل إفريقي الأصل بضحكة عريضة، كان العامل آسيوي الأصل على وشك أن يرد، لأمني نفسي بمباراة حامية الوطيس بين ذوقين مختلفين في “الأباحة” التي وحّدت مزاجينا في تلك اللحظة، لكن رجلاً عجوزاً وامرأته دخلا إلى الصيدلية، ودخلت بعدهما بلحظات أم وثلاثة بنات صغيرات، ليعاود المكان من جديد جو الوقار الشديد، الذي كنت وحدي أعرف أنه زائف.

كارما الزبادي!

طبعاً لن تصدق لو قلت لك إنني مدين بكل ما أنا فيه من ثراء وعز وأبّهة، لعلبة زبادي صغيرة الحجم. شوف، يا سيدي، كان ذلك قبل خمس سنوات، كنت ليلتها قد ذهبت متأخراً إلى السوبر ماركت، حين وقفت أمام ثلاجة منتجات الألبان، كنت أشعر بمزيج من الضجر والكسل والتعب، ما جعلني أمد يدي لآخذ عدة علب زبادي بيد واحدة، سقطت إحدى العلب من يدي، واندلق ما فيها على الأرض، نظرت حولي فلم أجد أحداً، فقمت بدفع العلبة التالفة بقدمي أسفل الثلاجة، وأخذت علبة بديلة، وأكملت جولتي، وحين توجهت للدفع، فكّرت أن أطلب من عامل الكاشير محاسبتي على علبة الزبادي، لكني لم أفعل، فكّرت أن الأمر لا يستحق، وحين عدت إلى البيت، بدأت في رص مشترياتي في الثلاجة، سقطت على الأرض علبة زبادي، ولوثت أرض المطبخ، ذهبت إلى الحمام، وأنا عازم بعد الخروج منه على غسل أرضية المطبخ، وأنا بداخل الحمام أعزّك الله، سمعت صوت ارتطام قوي، أعقبه صوت صراخ زوجتي وتأوهها، خرجت مسرعاً، فتكعبلت في طرف دواسة الحمام، فانفتحت رأسي، وحين واصلت طريقي إلى المطبخ، رأيت زوجتي ملقاة على أرضية المطبخ، بعد أن زحلقها الزبادي اللعين. للأسف، المسألة قلبت بغم شديد، يعني، تكلفة علاج زوجتي من كسر الحوض، وعلاجي من فتح الدماغ، كان يمكن أن تشتري حمولة شاحنة زبادي، صدّقني كنت قبل ذلك أستهين بكل من يحدثني عن الكارما أو العقاب العاجل. لكن، بعد أن حدث ما حدث، بدأت أقرأ في موضوع الكارما كثيرا، وعنها يا سيدي، ندهتني نداهة التنمية الذاتية، لأصبح متبحراً فيها، وأكتب عن شؤونها في الصحف بانتظام، ونجاح المقالات جعلني بعد فترة وجيزة، محاضراً ناجحاً يتهافت اليائسون والمحبطون على الاستماع إليه، ما جلب لي، فيما بعد، فرصة عمل برنامج عن التنمية الذاتية، كسّر الدنيا كما تعلم، وها أنا أجلس معك، لتسألني عن رحلة نجاحي، ولأنك طلبت مني أن أكون صادقاً في كل ما أقول، قرّرت أخيراً أن أقر بفضل علبة الزبادي.

رجل الكابينة

كان يتحدث في الموبايل بتلقائية شديدة، كأنه يجلس مرتاحاً على كنبة بيته، وليس على ناصية ذلك الشارع التعيس، حيث وقف مستنداً إلى كابينة التليفون التي أناخ عليها الدهر، منذ أن فصلوا عنها الخط قبل سنين، بدا أنه لا يبالي إطلاقاً، إن أسمع صوته الجهير المارة من حوله وهو يقول بأداء مثير للدهشة: “بقى أنا ما باغيرش عليكي يا روح قلبي.. إخص عليكي.. تصدقي جرحتيني.. ده أنا باغير عليكي من الهوا الطاير.. من كوباية المية اللي بتشربي منها.. من ملاية سريرك.. من كيس مخدتك.. من معالقك وشوكك.. من كرسي السفرة اللي بتقعدي عليه.. من ملازمك وكشاكيلك واقلامك وغطيانها”. كان لا بد مع تشكيلة عجائبية كهذه، أن أتلكأ في مشيي، متصنعاً الحديث في الموبايل، لأعرف أصل القصة وفصلها. حين تأملته من بعيد لبعيد، وجدت هندامه مقبولاً، وشكله لطيفاً وخالياً من أمارات اللسعان، ولم يبدُ لي أنه راغب في الاستعراض، ولفت الإنتباه. بالعكس، كان متوحداً تماماً مع ما يقوله لمحبوبته، وهو يعدّد كل ما يخطر على بالك من أشياء قريبة منها، أو لصيقة بها. وقبل أن يعرّج على الأشياء الأكثر حميمية، علا صوته فجأة أكثر، قائلا: “يعني عايزاني أعمل إيه يعني عشان أثبت لك غيرتي.. أتخانق مع طوب الأرض، واحنا ماشيين في الشارع.. تتهان كرامتي كل يوم عشان تنبسطي”، قبل أن يضيف بعصبيةٍ شديدة: “طيب خلاص خلاص.. استني معايا من فضلك عشان جالي تليفون تاني.. يعني إيه مش سامعاه بيرن.. باقولك ثواني هارد على تليفون المكتب وأكلمك”، فجأة أبعد الموبايل عن أذنه، ومد يده لترفع سماعة الكابينة المهجورة الموحلة، وبدأ يخاطب الفراغ بجدية شديدة: “أيوه يا محمد بيه.. يارب تكون انت والأسرة بخير.. طيب ممكن أطلبك على الأرضي بعد شوية.. أصل المدام معايا على الخط التاني”، ثم رزع سماعة الكابينة بشدة عدة مرات، وعاد لوضع الموبايل على أذنه قائلا: “أيوه يا روحي معلهش اتأخرت عليكي”، وأنا مشيت لحال سبيلي محوقلاً، وطالباً الله السلامة من غوائل الدهر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مقالات بلال فضل فى موقع العربى الجديد بعدما تم حجبه فى مصر

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

صفحة 1 من اصل 1
نوسا البحر :: منتديات عامة :: قهوة المنتدى

حفظ البيانات | نسيت كلمة السر؟

حسن بلم | دليل نوسا | برامج نوسا | هوانم نوسا | مكتبة نوسا البحر | سوق نوسا | قصائد ملتهبة | إيروتيكا | ألعاب نوسا