صباح الخير يا ست نجاة
بلال فضل
يعني، لا أريد أن أطيل عليكِ أكثر، لكنني أمس رأيتك في حفلة قديمة وأنتِ تغنين: “يا حبيبي لا انا ولا انت ولا حد تاني في النار رماني، يا حبيبي الحب عذاب وحبك حياتي، طال ليلي وسواده شاب في دموعي وآهاتي”. وكنتِ توصلين تلك المعلومات المؤسفة، وأنتِ متمسكة بضحكتك الفاتنة التي ما إن تصبح عريضة أكثر من اللازم، حتى تبادرين إلى قطمها بإغماضة سريعةٍ لعينيكِ الساحرتين، ففكّرت أن هذه والله طريقة مثالية، يمكن أن يستخدمها الواحد منا، لمواجهة أحبابه بحقائق الحياة الأليمة، أو تذكيرهم بمسؤولياتهم عما وصلت إليه الأوضاع البائسة، يعني، لماذا تفعل ذلك شاخطاً أو زاعقاً أو حزنان أسِفا، حين يمكن أن تقوله مصحوباً بضحكة عريضة مقطومة بإغماضة سريعة لعينيك، وما ضير أن يجلب لك ذلك شتيمة، كنت ستنالها على أي حال.
تركت نفسي بعدها فترة، مع ما أحتفظ به من أغانيكِ في ذاكرتي، فهالني كم الحقائق المأسوية التي كنتِ دوماً بارعة في إيصالها، بأقل قدر من الإيلام والضجيج، ولعلي لا أعرف أحداً فعل ذلك مثلما فعلتِه، إلا أستاذك محمد عبد الوهاب، مع فارق مهم، أنني أصدقك دائماً، في حين أعرف أنه يشتغلني دائماً، يعني لم أصدق، ولا مرة، أنه اصطلى بنار الحب الحارقة، التي يشكو دائماً منها، وحين أسمعه، مثلاً، يغني “أصبح عندي الآن بندقية، إلى فلسطين خذوني معكم”، أضحك من قلبي، حين أتخيل كيف سيطلع عين الذين سيأخذون عبد الوهاب إلى فلسطين معهم، من فرط شكاويه التي لا تنقطع، لكنني على العكس تماماً، حين أسمع أم كلثوم تغنيها، أشعر أن حقيبة سفرها الكاكي تقبع جوار باب الأستديو في انتظار الذهاب إلى فلسطين بعد التسجيل، وليس عندي أدنى شك أن أم كلثوم كانت تصدّق، فعلا، أن عبد الناصر سيدمر تل أبيب، ويرمي مستوطنيها في البحر، أما عبد الوهاب فكان يعرف طول الوقت، أن الموضوع كله “كسكسي على حمصي”. ولذلك، ستجدين موسيقى أغانيه الوطنية كلها مناسبة، لكي ترقص عليها نجوى فؤاد، في احتفالات الربيع.
يعني، لا أريد أن أحرجكِ بمقارنة مع الست أم كلثوم، لكنني تذكّرت حين جاءت سيرتها الآن، أنني حين أسمعها في دخلتها الرهيبة على الكون، وهي تعلن أنه “وضاع الحب ضاع”، أشعر بأسىً خانق، لأن طريقتها في إعلان الخبر تعني أنه لم يعد بمقدور أحد أن يتصرف ويلحق الموضوع، إلى درجة أنني أتساءل عن جدوى فتح سيرة “عِند قلبي وقلبك”، وما إلى ذلك من كلامٍ لا يودي ولا يجيب، وأقول لنفسي، الآن، إن الست نجاة والله، لو غنت ذات الكلمات والألحان، ستترك مساحة من البراح، يترجم كلمات الخبر المؤلم إلى: “وضاع الحب ضاع، فما يجراش حاجة يعني، بكره تحبك ست ستها”، وفكّرت أن ذلك ربما كان السبب الذي جعلني أقلل، أخيراً، من الاستماع إلى سنباطيات أم كلثوم، لأن طريقتهما في “بَروزة” حقائق الحياة أصبحت أقسى من احتمالي، في حين أنني لا أتوقف أبداً عن سماع بيرميات الست، لأن بيرم ليس معنياً أبداً بشيء غير اللعب مع الحياة. ولذلك، لم يجسد أحد أغانيه مثلما فعلت الست، لأن جديتها كانت تضفي على عبثه سحراً مدهشاً في تفرده، لكن هذا ليس موضوعنا على أي حال، وأنا لا أريد أن أطيل عليكِ أكثر من ذلك.
…
صحيح، بالأمس تذكرت عبارة تقول إن عمر المغني قصير، حتى وإن عاش طويلا، وإن عمر أغانيه طويل، حتى وإن لم تعش في حياته طويلاً. وبصراحة، لا أعرف إن كنت قد قرأت العبارة، أم أن عقلي الباطن يختلقها الآن. لكن، ما أعرفه أنني متأكد من صحة هذا المعنى، الذي خطر على بالي من يومين، حين كنت أفكر كم هم المغنون محظوظون، لأن أحداً لا يمل من الاستماع إلى أغانيهم مراراً وتكراراً، بل إن تكرار الاستماع إلى أغنيةٍ ما، يمنحها مجداً خاصاً، في حين يُطلب منا، معشر الكتاب، أن نعبر عن المعاني نفسها، دائما بأشكال جديدة، لكي لا نتهم بالتكرار والإفلاس.
في الأسبوع الماضي وحده، وقعت عدة أحداث شغلت الناس كثيراً، فتذكّرت أن ثلاثة منها على
“كم هم المغنون محظوظون، لأن أحداً لا يمل من الاستماع إلى أغانيهم مراراً وتكراراً، بل إن تكرار الاستماع إلى أغنيةٍ ما، يمنحها مجداً خاصاً، في حين يُطلب منا، معشر الكتاب، أن نعبر عن المعاني نفسها، دائما بأشكال جديدة”
الأقل سبق أن وقعت بحذافيرها من قبل في حياة عيني، وأنني كتبت عنها قبل عشرين عاماً، أو عشرة أعوام، وأنه لن يكون من السهل أن أتخلص من وطأة ذلك على نفسي، وأنا أبحث عن كتابة جديدة، تعلق على حدث قديم يواصل التجدّد، ثم قلت لنفسي إن الأغاني التي نقبل على الاستماع إليها دائماً ليست كثيرة على الإطلاق، وقبل أن أنشغل بتذكر أمثلة لها، أو أطمع في حصرها، فكّرت أنه من تمام البلاهة، أصلاً، عقد مقارنات بين الكتابة والغناء، وأنه لا يوجد شيء يمكن أن يجبر الكاتب على تكرار كلامه، إلا إذا اختار بنفسه أن يكون لديه “شويتين” يرددهما كل حين ومين، ليضمن رِجل القارئ على ما يكتبه، وقلت لنفسي إن أرض الله واسعة جداً، لكن بعضنا يحب أن يجيء إلى طيز القرد ويشم، كما يقول المثل القبيح الحكيم، وأن هناك أشياء أهم يمكن أن ينشغل الكاتب بتعلمها من الأغاني، غير الحقد على قابليتها للتكرار الأزلي، ثم قلت إنه من الأجدى أن أشغل نفسي بالاستماع للمرة المليون بعد المائة، إلى (دوارين)، وأنا أفكر أنه ربما لو كان أحد غيرك قد غناها، لما تساوت في السحر عبارة مبتذلة، مثل “إزيكم يا أهل الهوى..ياللي سبتونا في الهوى”، مع عبارة فريدة المعنى والمبنى، مثل “يا شباكهم ياللي ضايع من عينيا سلامات”، وتذكّرت أن جمالك الأخاذ هو الذي جعلني أحب أمين الهنيدي مرة وحيدة، وعلى آخر الأغنية، فكرت أن الإنسان منا وهو ضعيف بطبعه، لا يمكن أن يسمع عبارة عصيبة مثل: “وعمري في حبك عدّى وفات”، فتنزل عليه برداً وسلاماً، إلا لأنه يسمعها منكِ بالذات، لأن ضحكتك العريضة المقطومة تلحق بمعناها المقبض معنى مطمئنا يقول: “بس برضه الأيام جاية كتير وعشان كده لازم تاخد بالك من صحتك”.
….
باختصار، ولكي أدخل في الموضوع، لا أدري إذا كان تيقنكِ من محبتي الأكيدة سيجعلك تقبلين مني اعترافاً صادماً، هو أنني كنت أكرهكِ جداً حين كنت طالباً في الجامعة، لأسباب لها علاقة بالكاتب الكبير كامل الشناوي، الذي استهوت أبناء جيلي قصة حبه الجارف لكِ، والتي قيل لنا إنها انتهت بمأساة عاصفة، حين رآكِ واقعة في هوى غيره، فكتب أغنيته الخالدة “لا تكذبي”، والتي سمعنا قصتها في كل مرة، مرتبطة بأشخاص اختلفت أسماؤهم، وجمع بينهم الوسامة والإبداع والتوهج.
المهم أن تلك الأغنية كانت، في البدء، تستثير سخريتي الحافلة، أنا وزملائي من هواة التحفيل، لكنها فجأة، وبعد أول صدمة عاطفية، تحولت إلى لسان حال لخيبتي الثقيلة. وقتها، لم أكن بنفس ضخامة كامل الشناوي، التي رأيناها في الصور، ولم يكن لدي عينان جاحظتان ولا ملامح قاسية مثله، لكنني، وتحت تأثير الأسطورة المتداولة المرتبطة بأغنيتكما، بدأت أكتب مثله شعراً شديد التعاسة، محاولاً الوصول عبثاً إلى “level” (عدت يا يوم مولدي، عدت أيها الشقي)، لأشعر، بعد فترة من المعايشة المَرَضية، أن كامل الشناوي بُعث من جديد بداخلي، مع فوارق مهمة، أبرزها أن شعري كان شديد الرداءة، وأنني أصلا لم أر حبيبتي في أحضان أحد، لأنها كانت على الرغم من جمالها الشديد (أو بسببه) تعاني من اضطرابات عصبية حادة، تصعب من حدوث أي تلامس بينها وبين أحد، كما أنني، ولن أكذب عليكِ، كنت أسكن وقتها في شقة صغيرة يقطنها تسعة أفراد، فلم يكن لدي أبداً رفاهية تقليد طقوس كامل الشناوي، فأطلب مثلاً من رفاق شقتي أن يظلوا بصحبتي، حتى أروح في النوم، لأنني أخاف من أن يستفرد بي الحزن، فقد كان كل ما أتمناه وقتها أن يغوروا في ستين داهية، لأنفرد بغرفتي، حتى ولو كنت وحيداً شريداً مهدم الخطوات.
أيامها، كان هناك إذاعة متخصصة في الأغاني، يسمونها إذاعة أم كلثوم، مع أنها لم تكن قاصرة على أغاني الست وحدها، كانت تبدأ إرسالها في الخامسة من عصر كل يوم بأغنية لأم كلثوم، وتنهيه في العاشرة مساء بأغنية لها أيضاً، وكانوا يذيعون لكِ بعد عبد الحليم وقبل شادية، وأحيانا أنا آسف بعد محرم فؤاد، أغنيتين أو ثلاثة، ولا أريد أن أصدّعكِ بتذكّر وقع كل أغنية من أغانيكِ علينا. سأحكي لك فقط كيف كان الوجوم الرهيب يخيم على الشقة التي كانت صاخبة على الدوام، فقط حين تغنين: “وبعتنا مع الطير المسافر جواب وعتاب”، لأنك كنت تذكّريننا بها، بطبيخ أمهاتنا وصخب إخوتنا، وونس البيوت التي كنا نظنها طابقة على صدورنا إلى الأبد، وكنت كلما سمعتها أهرب من زحام الشقة، وأنزل إلى محل الحجر الأسود للألبان الذي كان تليفونه يمتاز دوناً عن غيره بخدمة الترنك وإظهار الرقم، لأسمع دعوتين حلوين من أمي، التي أحب بالمناسبة أن أسمع منها “عاليادي اليادي” أكثر من حبي لسماعها منكِ، ولا أظن أن ذلك سيغضبكِ.
المهم أن علاقتي ظلت رائعة بمعظم أغانيكِ، حتى جرى ما جرى، وأصبحت أرى في ذكرى
“حكاية الإنسان منا مع الحب بسيطة ومؤلمة، ومختصرها المبتذل المفيد أن الحب رزق، والرزق دائماً للموعودين، وليس للحسّابين”
حبي المفشوخ انعكاساً لما قيل إنك فعلتِه بكامل الشناوي، فآخذ كلما استمعت إليكِ، أدير بداخلي حواراً معكِ، أذكّركِ فيه بعواقب “الافترا على الغلابة”، خصوصاً أنكِ، وأنا آسف يعني، لم تولدي جميلة وفاتنة، بل كانت ملامحك شاحبة، كمن يعاني من أنيميا حادّة، وكان يمكن أن تطلبي من كامل الشناوي أن يفقد كثيرا من وزنه، أو أن يهتم بمظهره أكثر، بدلاً من أن تعبثي بعواطفه بكل قسوة، ولعلي كنت حينها بذلك الحوار أبرّر لنفسي، لماذا قرّرت، فجأة، أن أخبط، كل أسبوع، مشوارا إلى دوران شبرا، لأتردد على عيادة دكتور تخسيس كان شهيراً وقتها، اسمه ماهر القبلاوي، كان له عيادة قريبة من الجامعة، لكن سعر الكشف فيها كان ضعف سعر الكشف في عيادة شبرا. لذلك، كنت أذهب إليه لآخذ منه نظاماً غذائياً، والأهم لكي يوصلني بجهاز غامض، تحدث أسلاكه ذبذباتٍ، زعم أن في مفعولها الخسسان الأكيد، وحين بدا لي أنها غير فعالة، كنت أخرج من عيادته إلى كشري الدوران، المجاور لأسماك الدوران، لأستمتع بشم رائحة البوري المشوي، وأنا أجهز على طبق الكشري خالي العدس ورد زيادة، وأجهز نفسي لطلب الكمالة، وحين تصادف، مرة، أن غنى عبد الحليم من أشعار كامل الشناوي: “حبيبها لست وحدك حبيبها بل أنا حبيبها قبلك وربما كنت بعدك”، عدت لمحاورتكِ معاتباً على دورك في إيصال إنسانٍ، كان بكامل عقله، إلى تلك الحالة المزرية.
…
وبعد أن كبرت وتخرجت، توقفت عن التفكير فيكِ بتلك العدائية الساذجة، لأن دماغي أصبحت مشغولة أكثر، بكيفية البقاء على قيد الحياة، من دون أن تهرسني المدينة، لكنني كنت كلما مررت بأغنية لكِ، أتذكر عم كامل الذي أحببته أكثر، بعد أن عرفت عم محمود السعدني، وحكى لي عنه ما زادني محبة له، لكن موقفي تغير تماماً بعد ذلك، حين اختبرت، أول مرة، الحب الحقيقي، أو ما أصبحت أسميه الحب أبو روحين، تمييزاً له عن الحب من طرف واحد تعيس، وأدركت، بعد ذلك، أن الحكاية وما فيها، جاب آخرها شاعر آخر، نسبوا إليه قصة حب عابرة معك، حين قال: “هي لا تحبك أنت، أنت شاعرها وهذا كل ما في الأمر”، وأدركت أن المسألة لا علاقة لها بكرش عم كامل، ولا بجحوظ عينيه، وإلا لما تعرّض لها محمود درويش برشاقته وزرقة عينيه أو خضرتهما، لا أذكر الآن، لأن ما يهمني أن حكاية الإنسان منا مع الحب بسيطة ومؤلمة، ومختصرها المبتذل المفيد أن الحب رزق، والرزق دائماً للموعودين، وليس للحسّابين.
للعلم يعني، لم يكن حبي “أبو روحين” سهلاً، حاولت الدنيا بشراسة إزهاق أحد روحيه، أو لنقل إنها نجحت في ذلك فترة، ولا أريد أن أصدّعكِ بتفاصيل شخصية، فأطيل عليكِ، فما يهمني ذكره أنكِ كنت، في تلك الفترة العصيبة، رفيقة درب مخلصة بأكثر مما كنت أتوقع، يعني، هل أقول لك مثلا، إن الحال بي وصل ذات يوم، لأن أسير في شوارع مصر الجديدة، وأنا أنظر إلى الشبابيك باحثاً عن وجهها، مستعيناً على عناء ذلك بـ “دوارين”، و”استناني”، و”عيش معايا”، و”ماكانش عالبال”، وهل سأنزل من نظركِ، لو عرفتِ أنني أخذتُ الموضوع بجد أكثر من اللازم، فقضيت ذات مرة، ساعتين أو ربما ثلاثاً، ملطوعاً على محطة أتوبيس “في وسط الطريق”، لعلها تطل من الشباك وهي عائدة من شغلها، فأنطلق فور وقوع عينها عليّ مغنياً: “ما استغناش عنك بالدنيا”، فيبكي من في الأتوبيس، حتى تخضلّ لحاهم، وتوافق هي على خوض الحرب مع أهلها حتى النهاية، لكنها لم تأتِ ولم تخض الحرب، وليأتي عليّ حين من الدهر، رفعت فيه الشعار الذي كتبه لك مرسي جميل عزيز من قبل: “أنا خالي يا ليالي.. لا بافكر ولا باسهر ولا حدّش على بالي”، لكنني كنت أكذب بالطبع، فقد كانت هي دائماً على بالي، تماما كما كان لكل صديق من أصدقائي، من هي دائما على باله. للعلم، ظللنا، فترة طويلة، نجد مكانا يجمعنا لليالٍ كثيرة، بعد أن ينهي كل منا شغله، لنستعيد حواديت الروايات والشهوات والأفلام والفذلكات والأساتذة وخيبات الأمل، ونغني لبعضنا ما نحبه من الأغاني، كأننا نغنيها لمن نحب، وكنتِ كالعادة حاضرة على الدوام، بالذات مع الأبنودي والموجي في (عيون القلب)، التي لعلك لا تصدقين أنني غنيتها عدداً من المرات، أكبر من عدد مرات غنائكِ لها.
كنت حسن الحظ، لأنني استعدت حبي “أبو روحين”، بعد طول عناء، وكنت سيئ الحظ أو ربما حسن الحظ، لأنني فقدت كثيراً من أصدقاء تلك الأيام، لم تتفرّق بنا السبل، تفرّقنا نحن عامدين، بعد أن اختار كل منا سبيله، ربما لأن بقاءنا معا لم يعد يليق أبداً بما اجتمعنا عليه. تعرفين؟ حين استمعت إليكِ زمان، وأنت تغنين مع عبد الرحيم منصور وهاني شنودة: “وضاع فيه الصديق، أنا باعشق الطريق”، لم أكن أيامها أدرك كم هو قاسٍ ومهم ذلك المعنى، لأنني لم أكن أتخيّل أن ضياع الصديق، ربما كان حتمياً أحياناً، للاستمرار في عشق الطريق، ولاحتمال وعثاء السفر الطويل فيه، ولم أكن أتخيل أن بداخلنا قوة فطرها الله فينا، تمكننا من احتمال أغلب أنواع الفقد، ولم أكن أتخيل، أيضاً، أن الأهمية الاستثنائية التي كنت أعطيها للحب، وأنا في مقتبل عمري، اتضح لي، في منتصف عمري، أنها صحيحة تماما، وليس فيها أدنى مبالغة، لكن شرح ذلك يطول، بأكثر مما يمكن لكِ احتماله، فمن يدري، ربما جرفنا الموج إلى حديث خَطِر، عن كمائن الدهر، وعن رهانات الحياة الخاسرة و”تريبّاتها” اللئيمة، وعن سعاد، فتغيب حينها عن وجهكِ، تلك الضحكة الفاتنة، التي ما إن تصبح عريضة أكثر من اللازم، حتى تبادرين إلى قطمها، بإغماضة سريعة لعينيكِ الساحرتين.