على سطر الشات الذي يمرق سريعا في قناة ميلودي الغنائية، طالعني اسمها، فأخرجني من أفكاري الخبيثة السارحة في عري الكليبات.
كان اسمها ملفتا وطريفا.
“زبادي”.. هكذا اختارت أن تسمي نفسها.. تماما كما اختارت أن تبدأ رسالتها الأولى على سطر الشات قائلة للموجودين عليه “هاي ازيكو أنا زبادي.. حابّة أتعرف عليكم”. لم ترحم الردود السخيفة لطفها الذي بدا جليّا برغم كلماتها المقتضبة.. سريعا انهالت عليها مطارق الغلظة والبذاءة: “زبادي ممكن أدوقك.. زبادي انتي بتّتاكلي؟.. زبادي انتي كاملة الدسم.. زبادي أنا عسل ممكن تقلبيني فيكي.. زبادي إيه ميّتك”.
استفزتني سخافة الرسائل التي ـ كعادتنا ولن نشتريها ـ تعاملت مع زبادي على أنها بائعة هوى لمجرد أنها اختارت لنفسها اسما شقيا أو إن شئت الحقيقة لمجرد أنها قررت أن تدخل الشات.. رغم أنه شات يذاع على قناة فضائية غنائية يراها الملايين وليس شاتا مغلقا في موقع من المواقع المشبوهة إياها.. لكن ماذا تقول لذكور جائعين تتحرك غرائزهم بمجرد قراءة تاء التأنيث، فما بالك وهي متحركة فعلا بفعل ما يندلق على أبصارهم من أفخاذ وسواعد وزنود مصرية ولبنانية وخليجية.
لحظة بعد أخرى توالى مرور الرسائل التي تنهش “زبادي”.. انتظرت ردها ليس لأعرف لونها أو نظامها أو “ميتّها” كما فعل مرسلو الرسائل، بل لأعرف كيف ستستقبل كل هذه الكمية من الحقارة التي تفجرت لمجرد أن بنتا غلطت وأرسلت رسالة تنضح باللطف، فأصبحت رغما عنها صيدا مشروعا للذكور المستثارة المتحفزة على زراير الموبايلات، كل هؤلاء كيف سترد زبادي عليهم..هل ستلقنهم درسا لن ينسوه.. هل ستنهار أمام حقارتهم.. هل ستذكرهم بالله كما تفعل عادة البنات المصدومات مما يتلقين من حقارة.
لفترة من الزمن لم ترد زبادي.. لعلها صدمت بهذه الردود السخيفة، فقررت أن تترك الشات وتبحث عن مكان آخر تتعرف فيه على إنسان لا يرغب في أن يأكلها أو يذوقها.. لكن الردود السخيفة لم تتوقف:
“ايه يازبادي رحتي فين”..
“أكيد دخلت التلاجة عشان الدنيا حر”..
“شكلها خافت تتاكل”.
“لازم تكون دخلت التلاجة.. مش اتفتحت”.
كان صعبا علي أن أحتمل الأمر أكثر من هذا.. كنت قد توقفت منذ فترة عن دخول الشات مكتفيا بقراءة رسائله لتزجية أوقات الفراغ التي لا تنتهي.. قررت أن أتضامن معها.. لست أدري لماذا.. لكنني تضامنت.. وأنا الذي جبته لنفسي. دون أن أفكر أرسلت إليها رسالة تحمل تعاطفي الإنساني الدائم مع كل شخص يريد أن يعامله الآخرون بشكل لطيف.. كأبسط حق يطلبه البشر من البشر.. لا تسلني لماذا فعلت ذلك.. ربما لأنني وقتها كنت في لحظة ضعف وأنا قلما أفكر إبان لحظات ضعفي.. ربما هي الشهامة التي لطالما “جابتني ورا”.. ربما.. المهم أنني تضامنت وخلاص.
بعد لحظات من إرسالها ظهرت رسالتي المتسرعة على الشاشة: ” إبن زيدون: زبادي.. مالكيش دعوة بردودهم السخيفة.. دي ناس فقدت الإحساس”.
ألم أقل لكم إنني أنا الذي جبته لنفسي.. كل ذلك لأنني لم أستمع إلى حكمة الأجداد التي نهتنا بأننا لن نسلم من الأذى عندما نمشي ورا العيال.
“يابن زيدون أنا المعري.. ممكن تغطيني”.
“بطل نحنحة يا بن زيدون يا (..) أحسن اقول لابوك الحاج زيدون”..
“يا بن زيدون مش ناقصينك.. خلي زيدون يـ..”.
أفاقتني الرسائل التي حذف الرقيب على الشات كلماتها الخارجة من غلبة مشاعر التعاطف التي لا أدري كيف أصبت بها وأنا الخبير بأحوال الدنيا.. لمت نفسي لأنني جعلت من نفسي موضع السخرية لكائنات تافهة كهذه.. كان ينبغي أن أتوقع أن تخرج تلك المخلوقة اللطيفة من الشات فورا بعد كم المضايقات التي تعرضت لها.
وأنا أضع يدي على زرار الريموت لكي أتحول إلى قناة أخرى هروبا من حرقة الدم والاستفزاز الذي يحثني على الرد على هؤلاء السفلة.. انتظرت قليلا لأقرأ رسالة حقيرة داهمتني “هو زيدون ده اسم أبوك ولا أمك”.. اندلعت حريقة في دمي عندما أتى بسيرة أمي هذا الوغد الحقير.. وسوس لي الشيطان بأن أثأر لأمي، فأرد عليه بشتيمة تخص مناطق حميمة لأمه.. لكنني لم أفعل، ليس خشية من الله، بل خشية من أن يذهب إرسالي للشتيمة سدى إذ يبدو أن رقابة الشات كانت وقتها صاحية وحاضرة.. ربما يسعفني الحظ فيغيب مسئول الرقابة أو ينشغل للحظات.. وهو ما يجعل رسائل نادرة تفلت من سيف رقابته.. كتلك الرسالة التي قرأتها قبل ذلك على نفس الشاشة عند إذاعة حوار مع مطربة مشهورة.. حيث مرقت رسالة شات تقول لها بكل حب: “الصقر الجرئ: فلانة انتي زي القمر.. باحبك موت وانتي راكبة العجلة.. ممكن أني..”.. ظلت الرسالة بكلمتها البذيئة الصريحة بكل حروفها تذاع على الشاشة لثواني، لكنها أصبحت حديث مصر لساعات طوال.. برغم أنه تم التنبه لها سريعا ربما بعد عودة مسئول الرقابة من الحمام أو ربما من إجرائه مكالمة نحنحة مع خطيبته.. يومها ظلت رسائل الشات تتوالى “أنا باطلب نفس الطلب اللي طلبه الصقر الجرئ.. لو ماكانش يضايق الفنانة”.. “يا صقر يا جرئ لما تقابل الفنانة تعالوا عندي في البيت في عابدين جنب عمر افندي”.. “يا صقر يا جرئ إسأل الفنانة أم عجلة مش محتاج حمامة سلام.. حمامتي جاهزة”.
خفّف تذكر تلك الواقعة المسخرة من غيظي، فقررت ألا أغامر بثمن هذه الرسالة، وأنا أعلم أنها حتما ولزما لن تذاع .. ليس بيدي سوى أن أتجاهل ذلك الحقير الذي جلب لي تعليقه الساخر مزيدا من السخرية من رسائل أوباش آخرين.. لعنهم الله هؤلاء الكلاب.. انحطاطهم كاد يخرج ما أكتمه بداخلي من إنحطاط.. ليس أمامي سوى أن أغير القناة فعلا وفورا.
قبل أن أدوس على زر التغيير بجد هذه المرة، التقطتني رسالتها كسنارة انتشلتني من الغرق في بحر إحباطي.. أو هكذا ظننت عندما وجدت اسمها يهل على الشاشة:
“زبادي: ازيك يا بن زيدون…”
لم أكد أكمل قراءة باقي الرسالة حتى اكتشفت أن زبادي انتشلتني من بحر احباطي لتلقي بي في محيط أحزانها.. وليتها ما فعلت.
“زبادي: ازيك يا ابن زيدون.. أنا وحيدة”
دون أن أفكر كثيرا كتبت أصابعي الرد وأرسلته سريعا:
“ابن زيدون: آآآآآآه.. ومين سمعك يا زبادي”
وسريعا كتبوا وأرسلوا وقاطعوا وشوّشوا وسخّفوا:
“ياااه.. الحقوا ابن زيدون بيتقطّع يا رجالة الشات”
“ايه يا ابن زيدون.. هو زيدون بطّل يضبّطك”
“زبادي: هل هناك أمل في أن نجد من يفهمنا في هذا العالم؟”
“سبع المنيرة: أكيد يا زبادي.. ممكن تلاقي علبة لبن تفهمك”
“ابن زيدون: أنا آسف.. كان نفسي نتكلم في جو نضيف.. انتي عندك كام سنة”
“علّوش: قصدك تسأل عن تاريخ صلاحيتها”
“أبو كرتونة: إيه أنت قلِقت ولا إيه؟”
“ملك البحار: هيّ لو مفتوحة.. هتبوظ.. إنما شكلها لسه مبرشمة”
“زبادي: متخيل قد إيه العالم اللي إحنا عايشين فيه بشع”
“ابن زيدون: هل حد يرضى فيكو يتقال لأخته الكلام ده؟”
” أنا أختي فاكهة مش علبة زبادي”
“والله.. أختك فاكهة.. نوعها إيه؟.. هل هي بطيخة؟”
” زبادي: نفسي أقابل شاب يعاملني على إني بني آدمة”
” بطيخة مين يا إبن المشقوقة”
“وبعدين في اللخبطة دي.. بني آدمة إزاي.. انتي مش قلتي إنك زبادي.. ما ترسي لك على طبق”
“ابن زيدون: صعب تطلبي من الحيوان إنه يبقى بني آدم”
“تصدق إنك راجل مهزأ يا ابن زيدون وأنا شكلي كده ها… أنت وابوك زيدون الملعوب في أساسه..”
“حيوان مين يا.. يا اللي بتتدق….”
“زبادي: أنا مضطرة أمشي عشان بجد أصبت بالغثيان”
“غثيان ليه.. هو انتي مش مبسترة”
“ياللا في ستين داهية.. وسلمي لي على جهينة”
“ابن زيدون: استني ما تمشيش.. أنا بجد نفسي أتعرف عليكي”
“زبادي: أنا لازم أمشي.. يا خسارة على شباب مصر”
“ابن زيدون اتحلق له يا رجالة”
“يا زبادي مصر هتفضل غالية عليا”
“مش عيب تبقى اسمها زبادي.. وهي اللي تدلقك”
“ابن زيدون: زبادي.. انتي مشيتي بجد؟”
“الزبادي خلص.. أجيب لك لبن رايب؟”
“يا ابن زيدون.. صحتك في العلبة دي”
كنت مجبرا على أن أتحمل طوفانا من الانحطاط كان يداهمني بضراوة.. تحملته صابرا لعلها تعود.. لعلها تتحمل قليلا وتتحدث معي فقط لتعطيني أي أمارة ألتقي بها عن طريقها.. لعلها تدلني ولو بالرمز على مكان نلتقي فيه.. هاتف تكتب أرقامه مشفرة وأفك شفرتها لأتحدث معها.. موقع محترم على النت ندخل عليه سويا لنتبادل دردشة خاصة توصلنا إلى بعضنا.. لم أعد أرى أي كلام على الشاشة، فقد عميت عيني عن أن ترى شيئا سوى اسمها.. زبادي.. زبادي.. زبادي.. كلما طال انتظاري لها كان حنيني إليها يتوحش.. كان حنينا جارفا ربما أنا وحدي الذي أفهمه لأني أنا وحدي الذي انجرفت إليه.
ماذا فعلوا بك يا زبادي.. أين أنت الآن؟.
كانت زبادي وحيدة.. وأنا كنت ولا أزال وحيدا.. كان يمكن لنا أن نلتقي لأضع همي على همها.. كان يمكن لوحدتنا أن تنتهي.. كان يمكن لنا أن نكون مع بعضنا شيئا نظيفا.. كان يمكن لنا أن نجد عزاءنا لدى بعضنا.. كان يمكن أن تكون زبادي هي الحل.. لكنها لم تعد ثانية إلى حيث التقينا.. هربت ببراءتها من المستنقع الذي انزلقت رجلها إليه عن غير قصد.. لعلها دخلت هنا هربا من غرف الدردشة المغلقة التي يكون السؤال الأول فيها “أنتي بنت بجد؟”.. والسؤال الثاني “عندك كاميرا؟”.. لعلها أرادت أن تبث أشجانها لأحد لا يسألها “عشان أتأكد إنك بنت قولي لي هو مقاس البرا كام؟”.. لعلها أرادت أن تحكي عن هزيمتها، لشخص لا يحكي لها عن آخر فيلم جنسي شاهده، ويعرض عليها إهداءها مقطعا منه.. لعلها أرادت فقط أن يقول لها أحد “لذيذ اسم زبادي ده.. بس انتي اسمك الحقيقي إيه؟”.. لعلها أرادت فقط أن تأوي إلى أي جبل أو تلة أو هضبة أو حتى صخرة عالية تعصمها من الماء.. تماما كما أردت أنا أن آوي إليها هاربا من كآبتي ووحدتي.
لكنهم لم يُخلّوا بيني وبينك يا زبادي.
“زبادي وابن زيدون.. أنتوا رحتوا فين؟ ما تيجوا اضربكوا في خلاطي”
“زبادي.. سيبك من ابن زيدون.. شكله واد عجلة”
“يا ابن زيدون.. للأسف اتضحك عليك.. زبادي طلعت راجل اسمه فؤاد.. وبيغني في الموسيقى العربية كمان”
“ابن زيدون.. عايز أقول لك إن زبادي جوّه على سريري.. أغرف لك”
.. آآآآآه .. حال بيننا موج الشات يا زبادي.. فدعيني أغيّر القناة قبل أن أكون من المغرقين.
من مجموعة (ما فعله العيّان بالميت)