مقال لاسلام حسين
كالكثير من المصريين المغتربين الذين يعيشون خارج وطنهم بأجسادهم فقط، أحرص على متابعة أخبار بلدي كلما تيسر الوقت. لفت اانتباهي منذ بضعة أيام خبر عن فوز عدد من الشباب المصريين بلقب "أفضل عالِم عربي" في "بطولة كأس العاَلم للمبدعين العرب".
و نظراً لأني أعمل بالبحث العلمي منذ أن أنهيت دراستي الجامعية في عام 1999، فلم تستسغ أذني هذا اللقب ولم يستطع عقلي تقبُل تعبير "بطولة كأس عالم" (المفترض أنها دولية) على مستوى عربي فقط. في واقع الأمر، لم أسمع طيلة هذه السنين الطويلة، التي تقترب من الخمسة عشر عاماً قضيتها بين أفضل جامعات ومعاهد بحوث العالم، عن أي مسابقة أو طريقة للمفاضلة بين العلماء بهدف منح أحدهم لقب كهذا.
مجال البحث العلمي كغيره من المجالات ينتهج أساليب موضوعية لتقييم النتاج البحثي للعلماء، فهناك ُمعامل H مثلا، والذي يأخذ في الاعتبار عدد الأبحاث التي نشرها العالِم، وعدد المرات التي تم الاستشهاد فيها بأبحاثه بواسطة باحثين آخرين في أوراقهم البحثية المنشورة في الدوريات العلمية. كلما زادت قيمة معامل H الخاص بأحد العلماء، كلما أعطى هذا انطباعاً عن قوة تأثير أبحاثه في مجاله، ولكن في كل الاحوال لا يُمنح لقب "أفضل عالِم" لأي من العلماء نظراً لاختلاف التخصصات والمجالات البحثية، والتي يصعب قياسها بمعايير موحدة.
هناك أيضاً العديد من طرق التكريم والجوائز التي تمنحها المؤسسات الأكاديمية والجمعيات العلمية المرموقة للعلماء تقديراً لإسهاماتهم العلمية. يبدأ هذا التكريم من المراحل الأولى في التاريخ المهني للباحثين وتتدرج حتى تصل إلى الجوائز الكبيرة التي تُمنح للعلماء الذين أحدثوا نقلة نوعية في حجم المعرفة البشرية، كجائزة نوبل على سبيل المثال. ولكن حتى جائزة نوبل نفسها لا تعني أن حاملها يستحق عن جدارة لقب "أفضل عالِم" ولو حتى في مجال تخصصه، فهناك عوامل كثيرة تتدخل في الاختيار، وهناك العديد من الأمثلة لعلماء قدموا اكتشافات عظيمة للبشرية ولكن للأسف لم ينالوا هذا الشرف. باختصار شديد، مفهوم "أفضل عالِم" غير متعارف عليه من الأساس في الأوساط العلمية!
إقتادني فضولي البحثي لمعرفة قصة حصول هؤلاء الشباب على هذا اللقب الغريب، فإنتهى بي الحال بمشاهدة العديد من لقاءاتهم الإعلامية على شاشات الفضائيات التي أفردت لهم مساحات غير قليلة لشرح إنجازاتهم التي من المفترض أنها جعلت منهم أهلاً لهذا اللقب. وبنظرة متفحصة لصور الاحتفال الذي أُقيم في العاصمة البريطانية لندن، يوم 30 أغسطس الماضي، لمنحهم الجائزة تبين لي أن الجهة المانحة هي شركة خاصة تدعي "المجموعة العربية" The Arabs Group. وبعد اطلاع متأني على الموقع الخاص بهذه الشركة على الشبكة العنكبوتية وصفحتهم الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، تبين الآتي:
طريقة "غير علمية" لاختيار "أفضل عالِم"
"المجموعة العربية" هى شركة تسويق خاصة هادفة للربح، أسسها طبيب سوري وزوجته الهندية الحاصلة على ماجستير في إدارة الأعمال، واللذان يعيشان في إنجلترا بالمملكة المتحدة. بدأت هذه الشركة مزاولة نشاطاتها التجارية في سنة 2011، والتي تتلخص في تسليط الأضواء على الباحثين عن الشهرة في مجالات مختلفة تتضمن العلوم، الفنون، الرياضة والموضة حتى يتم جذب أنظار العالم إليهم (على حسب ما يقولون حرفياً في منشوراتهم الرسمية). يتم هذا من خلال حفل توزيع جوائز سنوي ُيقام في فندق فخم من فنادق لندن يُدعى إليه وسائل الإعلام والشخصيات العامة، كما يُسمح بحضور جمهور من عامة الناس بعد دفع تذاكر تصل قيمتها إلى 200 جنيه استرليني.
للتقدم لهذه المسابقة، بإمكان أي إنسان من أصل عربي يرى في نفسه أنه مُبدع أن يُرشح نفسه أو أن يحصل على ترشيح من أي جهة رسمية يتبعها. وعلى الرغم من أن هدف الجائزة هو تقدير الإنجاز العلمي للمتسابق، نجد أن معايير الفوز لا تتفق مع الأساليب العلمية الموضوعية المتعارف عليها. يتم اختيار "أفضل عالِم" في بطولة كأس العالم للمبدعين العرب التي تنظمها هذه الشركة من خلال التصويت على الفيسبوك، والتصويت من خلال رسائل الهاتف القصيرة SMS، وتصويت الحضور وأخيرًا قرار لجنة تحكيم (مجهولة المؤهلات والتخصصات) أثناء الحفل.
بالتأكيد تنظيم حفل كهذا سيتكلف الكثير من الأموال، هذا طبعًا بالإضافة إلى أن "المجموعة العربية" تهدف إلى تحقيق هامش ربح مجزي من وراء هذا الحدث. وينُص أحد بنود العقد الإثنين وثلاثين المكتوبة بعناية فائقة لإخلاء طرف الشركة من أي مسؤوليات قانونية تجاه المتسابقين، على أن هناك مصاريف للاشتراك، وعلى الرغم من أنها لم تحدد قيمة هذا الاشتراك إلا أنني استنتجت من خلال تصريحات المتسابقين الإعلامية أن قيمة الاشتراك هي 26 ألف جنيه مصري. بالإضافة إلى مصاريف الاشتراك، يتحمل المتسابقين كافة تكاليف السفر والإقامة وإستخراج تأشيرة زيارة المملكة المتحدة. لا يقتصر الـ business model الخاص بالـ"مجموعة العربية" على تحصيل مصاريف الاشتراك من المتسابقين وتذاكر حضور الحفل من الضيوف والتصويت عبر رسائل SMS فقط، ولكن أيضًا تحاول "المجموعة العربية" جذب رعاة رسميين وشركات إعلانية واستقدام الضيوف من سائر الدول العربية لزيارة لندن وحضور حفل توزيع الجوائز بتكلفة قدرها 1300 جنيه استرليني لكل ضيف.
إنجازات زائفة وعلماء زائفون تحت الأضواء
يستطيع القارئ أن يستنتج مما ذكرته سابقاً أنني معترض على طريقة اختيار الفائزين بلقب "أفضل عالِم"، والتي لا تختلف كثيراً عن مسابقة "ستار أكاديمي" التي لا تمت للعلم بصلة. ولكن لا أستطيع إلقاء اللوم على هذه الشركة فقط، والتي لم تخفِ نشاطها التجاري الهادف للربح أو طريقة تنظيمها للمسابقة، وأعتقد بدرجة كبيرة أن موقفها القانوني قد لا تشوبه شائبة. نحن أمام ظاهرة متشابكة الأطراف يشترك فيها شباب يلهث وراء الشهرة السهلة، وإعلام غير مهني، ومتلقى، للأسف، قد يجد صعوبة في التمييز بين العالِم الحقيقي والزائف.
تبدأ دورة حياة هذه الظاهرة بشباب طموح لم يحط قدمه على طريق النجاح الحقيقي الطويل المليء بالمصاعب، واختار طريق مُختصر لتحقيق الانتشار السريع المبني على إنجازات زائفة. يحاول هؤلاء الشباب بشتى الطرق الوصول إلى منصات إعلامية، والتي بدورها تبحث عن نماذج مضيئة شابة لإبرازها، ولكنها للأسف لا تتبع الأصول المهنية السليمة والتي تقتضي الفحص الجيد للسير الذاتية لهؤلاء الشباب، والتأكد من صحة ادعاءاتهم قبل عرضها على جمهور المشاهدين. وفي ظل التعطش المستمر لأي إنجاز مُشرف (خصوصاً لو كان في مجال العلم) يُدخل الفرحة على قلب المشاهد، والثقة التي يوليها المجتمع للإعلاميين بدون تمييز، يتحول هؤلاء الشباب في وقت قصير إلى نجوم.
دفعني الفضول نحو فهم أبعاد هذه الظاهرة إلى مشاهدة العديد من لقاءات هؤلاء الشباب الإعلامية، مما مكنني بدرجة كافية أن أحدد بعض السمات المشتركة. الغالبية العظمى منهم في أوائل العشرينيات ولا يزالون في مراحلهم الأولى من سنوات الدراسة الجامعية المختلفة، يُزين الواحد منهم اسمه بلقب "مُخترع" (الذي لم نعهده من قبل على اسم أي مخترع حقيقي ممن أضاءوا البشرية باختراعاتهم) وغالباً ما يختار اسم شهرة لواحد من مشاهير العلماء، كأينشتاين ونيوتن، ليقرنه باسمه كمحاولة لتثبيت مكانته العلمية المزعومة في عقول المشاهدين. يُقَدَم الشاب للجمهورعلى أنه وحد من هؤلاء العباقرة الصغار، ولا يجد أي غضاضة في أن يناديه مقدم البرنامج بلقب "عالِم"، اللقب الذي يخجل منه الكثيرون ممن عملوا بالبحث العلمي لسنوات عديدة، وذلك لما تحمله الكلمة من مدلول ثقيل نسبياً في اللغة العربية.
يسهب الشاب في ِذكر إنجازاته العلمية التي تتضمن العديد من الاختراعات والأبحاث والنظريات غير الموثَقة في أي دوريات علمية أو براءات إختراع. لا مانع أيضاً من تقديم ادعاءات زائفة بأنه حطم أحد النظريات العلمية المشهورة (كنظرية النسبية لأينشتاين مثلا) وأتى بتعديل عليها أو بنظرية أخرى أفضل منها. وبالتالي لن يحتاج أي إنسان متخصص إلى أكثر من دقائق معدودة لإدراك زيف هذه الإنجازات التي يستحيل تحقيقها تحت ظروف السن الصغيرة، وغياب تام للخبرة البحثية والإمكانيات المعملية والتوجيه العلمي الصحيح. وتحت تأثير صيحات الإعجاب الشديد التي تخرج من حناجر المذيعين، يزداد تجلي الشاب "المخترع" ويرتفع سقف الأكاذيب التي ينسجها له خياله الخصب. فمنهم من ادعى أنه مُرشح للفوز بجائزة نوبل، في ظل غفلة تامة منه ومن مُقدم البرنامج أن الترشيح لهذه الجائزة يتم منحه بشكل حصري للعلماء الذين غيروا تاريخ العلم، وبالطبع لا يأتي هذا التكريم في أوائل العشرينات من عمرهم، كما أن الترشيح لنوبل يتم تحت ظروف سرية تامة. ومنهم من ادعى أنه حاصل على شهادات دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة، وبعد فحص هذه الشهادات المزعومة تبين لي أنها خطابات توصية مُقدمة من أعضاء هيئة تدريس إلى من يهمه الأمر. منهم أيضاً من ادعى توجيه نداءات إلى جامعاتهم لإعفائهم من استكمال دراستهم الجامعية بحجة أنهم عباقرة وهذه السنوات هي مضيعة لوقتهم الثمين الذي من الأفضل أن يُستغل في استكمال أبحاثهم نحو الحصول على درجات الماجستير والدكتوراه!
تتميز هذه الظاهرة بخاصية التغذية الذاتية، فهذا الظهور الإعلامي المتكرر هو أحد الكروت التي يستخدمها الشاب لإتقان دور المخترع العبقري على من يصوتون له بالفوز في مسابقات صورية كالتي تقوم بتنظيمها "المجموعة العربية". وفي خضم هذه الإنجازات الزائفة المتدفقة يخرج الشاب على الجمهور بطلب أو نداء للمسؤولين بأنه في حاجة إلى مساعدة للسفر إلى لندن لحضور حفل تنصيبه "كأفضل عالِم على مستوى العالم العربي". وطبعاَ في ظل مشاعر الوطنية المتأججة والرغبة في تمثيل مصر ورفع اسمها عالياً في المحافل الدولية تتذلل كل العقبات، فلا ينتهي هذا اللقاء الإعلامي دون مكالمة تليفونية من مسئول يتعهد فيها بتلبية مطالب الشاب. تراوحت هذه المساعدات ما بين مبالغ مالية من جامعات وبنوك حكومية لتسديد قيمة الإشتراك في المسابقة، وتذاكر طيران، ومحاولات من وزارة الخارجية لتسهيل إجراءات ااستخراج تأشيرات سفر أو إبتعاث ممثلين دبلوماسيين رسميين من سفارة مصر في لندن لاستلام الجائزة نيابة عن من لم يوفقه الحظ في الحصول على التأشيرة. يذهب الشاب إلى لندن لحضور الحفل و يعود مُتوجاَ بلقب براق يخرج به على عامة الناس مرة أخرى من خلال شاشات الإعلام، وهكذا تستمر دورة الحياة.
أوقفوا هذا العبث!
أكاد أتخيل طالب مجتهد يكافح من أجل أن يتفوق دراسياً وأن يبني له طريقاً في هذه الحياة الصعبة، ومن سوء حظه أنه زميل دراسة لأحد هؤلاء المخترعين الزائفين الذي يعيش حياته متنقلا بين محاضراته العامة في الجامعات ولقاءاته التليفزيونية في استوديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي. كيف سيكون شعور هذا الطالب؟ هل هذه النماذج الزائفة تصلح أن تكون قدوة لشبابنا؟ ألم يكن من الأنفع لنا إنفاق هذه الأموال العامة على تشجيع من يستحق أن يكون صورة مشرفة لمصر في مسابقات إبداعية حقيقية؟
مفتاح بداية الحل في يد الإعلاميين، أنتم من يقدم هؤلاء الشباب لعامة الناس على أنهم عُلماء عباقرة، بدون أي تحقق من خلفياتهم وادعاءاتهم غير المنطقية. هناك وسائل كثيرة يمكنكم من خلالها "فرز" من يستحق أن يحل ضيفاً على برامجكم كنموذج مشرف للشباب المصري الناجح، منها أن تفحصوا كل الادعاءات المذكورة في السير الذاتية لهؤلاء الشباب وتتأكدوا فعلا أنها حقيقية وتلائم خبراتهم وأعمارهم الصغيرة. وإذا كانت هذه المهمة تقع خارج نطاق خلفياتكم المهنية، بإمكانكم أيضاً الإستعانة بمحكمين متخصصين لإبداء رأيهم في الإنجازات المزعومة لهؤلاء الشباب. الخطوة الثانية نحو القضاء على هذه الظاهرة تقع على أكتاف المتلقي، أرجوك لا تصدق كل ما تشاهد دون أن تتحقق بنفسك من صحة الادعاءات. هناك العديد من النماذج المشرفة لشباب مصريين فازوا في مسابقات إبداعية حقيقية، ولكنهم لم يفكروا يوماً في أن يُزينوا أسمائهم بلقب "مخترع" عن غير إستحقاق، ولا أن يكونوا نجوماً على شاشات الفضائيات، هؤلاء هم أحق بإعجابك و تقديرك. وأخيراً أريد أن أوجه كلمة لهؤلاء الشباب "المخترعين".
مما شاهدت أستطيع أن أستشف رغبة عارمة في تحصيل العلم وفضول شديد نحو تحقيق إنجازات علمية، أنتم تُسيئون توظيف هذه الصفات الحميدة. ابحثوا عن الطريق الصحيح للنجاح، اجتهدوا دراسياً واختاروا من يوجهكم نحو تحويل أفكاركم (إن أمكن) إلى نماذج أولية لاختراعات ومنتجات حقيقية. النجومية الزائفة لن تُفيد.