عيون المبدع.. التي تعرفنا وتتوه عن ذاته! نهى البلك
بشغف يبعثر الطفل قطع البازل، مشعلا حماسه ومحفزا ذهنه لكي يستطيع التقاط العلاقات بين كل قطعة وأخرى، حتى ينجح في الاكتشاف والتركيب، إلى أن تكتمل اللوحة المحددة مسبقا. نلعب نحن أيضا – الكبار- هذه اللعبة، أحيانا بحماس مشتعل، وأحيانا أكثر بفتور واعتيادية تؤول بنا إلى الكثير من التخيلات العبثية والتكوينات الخاطئة والاستنتاجات غير المنسجمة مع مخيلة راسم اللوحة الأصلية. ………. هل يمكننا تخيل الحياة كلها كلعبة بازل، مرسومة لنا منذ البداية ومحددة التفاصيل سلفا، وأننا جميعا نتشارك في إعادة اكتشافها وتركيب قطعها المبعثرة، حتى نعيدها كاملة، صحيحة.. هل هناك معيار حقيقي لهذه الصحة أم أن لكل منا لوحته المكتملة بذاتها، الصحيحة في نظره حتى وإن بدت للآخرين عبثية، كما تبدو لوحاتهم لعينيه غير مريحة أو غير منطقية؟ ………. في مقدمة الحجرة الدراسية، بمدرسة ضخمة مكتظة انتقل إليها الطفل حديثا من مدرسته الخاصة الرائقة التي اعتاد فيها المعلمون معاملة التلاميذ بقدر من اللياقة، وقف قبالة المعلمة والأم.. بلهجة مشتعلة ملؤها الغضب والقسوة ألقت المعلمة باتهامها للطفل أمام أمه التي أرسلت في طلبها بشكل عاجل وإلا فلن يدخل التلميذ من باب الفصل؛ ضبطت المعلمة تلميذها وهو يكذب كذبة شنعاء فاضحة، هكذا آمنت، حين سألته عن أبيه فأخبرها بتلقائية أنه “غير موجود”، إجابته التي ترجمتها هي إلى موت الأب، وحين عرفت أن الأب على قيد الحياة قررت تأديب الطفل واستدعاء ولي أمره لتوبيخه على “سوء التربية”.. الأم التي تعرف أن ابنها لا يكذب وأنه تحرى الصدق كعادته دائما فلم يقل “مسافر” مثلا، وإنما دقق حين قال بعدم وجوده، الأب الذي ترك البيت والأسرة منذ فترة في حين تجتهد هي لاحتواء الابن. كان الطفل يبتلع خجله وخوفه وغضبه المكبوت، حين تحدثت المعلمة بلهجتها القوية الواثقة شبه المتعالية على الأم وهي تخبرها -بيقين- أن ابنها كاذب وسيئ الخلق، وكادت تنعته بالإجرام، نظرا لخبرتها مع بعض الأولاد في مثل عمره ممن يحترفون الشقاوة الخشنة، وبالكاد حاولت الأم أن تمنع نفسها من إخبار المعلمة بأنها محض غبية وجاهلة وفارغة ولا تحكم إلا بخبرة معتلة بين أطفال لايشبهون ابنها.. لم يعرف الطفل ما تهمته وهو الذي حرص على الصدق التام، ولا فهمت المعلمة ما اقترفت من جرم في حق الطفل وهي تظن أنها أريبة وتصحح للأم إهمالها، الأم التي مادت بها الأرض بينما تحاول المحافظة على كرامة ونفسية ابنها دون أن تشوه صورة المعلمة في نظره. ……… على صفحته على موقع فيس بوك طرح دكتور عصام اللباد –الطبيب النفسي والأديب- تساؤلًا عميقا كعادته حين يحاور أصدقاءه ومتابعيه؛ سأل اللباد متأملا عما إذا كان المبدع يستطيع رؤية ذاته بصدق وقوة ووضوح كما يرى العالم الخارجي من حوله. تساؤل د.عصام أثار بداخلي بدوره تساؤلات أخرى.. هل يستطيع الإنسان، أي إنسان، أن يرى ذاته بالكامل؟ كيف يمكنه أن يتفاعل مع كل شيء إذا فقد مكونات أساسية تشكل السلوك والمشاعر والتفاعلات مع البشر والحياة، كالحيرة والدهشة والتأمل والتساؤل والمتعة، وغيرها.. هل يمكن أن يحتفظ بإحداها إن هو فك شفرة نفسه تماما؟ أو إن هو رأى بجلاء أثر كل شيء على نفسه بل واكتشف سر الأثر وبالتالي ربما عرف تبعاته؟ فعليًا نحن مؤهلون للنظر باتجاه واحد فقط؛ سيكون علينا أن نتلفت لكي نرى الجانبين، وسيكون علينا أن نعود في نصف دائرة لكي نرى ما وراء ظهورنا، وسيكون علينا الدوران حول أنفسنا دورة كاملة لكي نرى كل شيء! وسيبقى في حكم الاستحالة أن ننظر إلى داخل أجسادنا لنرى كيف تعمل، ولنكتشف سر إشارات المخ ودقات القلب ودورة “الدم” في العروق والأوردة والشرايين، وتنقيته حتى يصب في الأجهزة، التي تشكلنا، حياة.. هذا كفيل بأن يجعل الرائي، الناظر إلى داخله، يموت رهبة! التساؤل كان يفترض بداية أن المبدع يرى خارجه “بوضوح”.. ربما الحقيقة أن المبدع يرى الصورة التي يعكسها داخله للخارج بوضوح يخصه. فأنت حين تقف أمام مرآة نظيفة تماما ولامعة السطح، تنتظر صورة دقيقة أمينة لا تبدل تكوينك الحقيقي، بيد أن الأمر لازال يتوقف على جودة المادة التي طليت بها الجهة الأخرى من المرآة.. المبدع، مثله كأي إنسان، يرى العالم من خلال قناعاته –الإنسانية والعقائدية والسياسية والعلمية والروحية والعاطفية وغيرها- وخبراته الحياتية وقراءاته التي يستوعبها أيضا بحسب قدراته الذهنية والوجدانية، وفي هذا يتفاوت الناس؛ فالكتاب الواحد تتعدد مستويات تلقيه بعدد قرائه.. وكذلك البشر وكذلك الحياة. ليس المبدع فقط، نحن أيضا بدورنا قد تتشوش رؤيتنا للمبدع، وتتعدد مستويات تلقينا لإبداعاته وله كشخص، وبالتالي كيف لنا أن نحكم إن كان يرانا ويرى العالم بوضوح، فضلا عن رؤيته لذاته!؟ المبدع، ككل عابر للحياة، كيان غامض حتى على نفسه، يتفاعل مع الحياة في محاولة لفهمها وفهم شركائه فيها وعلى أمل أن يتعرف على نفسه.. فيراها! في ممر بأحد المشافي الضخمة، سارت بخطوة متعرجة، تستند إلى ذراع رفيقها، حين ظهر شاب يعرض المساعدة وهو يمد يده ليمسك بذراع الفتاة، التفت الرفيق إليه بحدة يشكره بلهجة متشككة موبخة.. الفتاة كانت منشغلة بالألم، والغريب كان منشغلا بتقديم المساعدة، والرفيق كان منشغلا بحماية فتاته من خطر محتمل. هكذا تسير مشاهد الحياة اليومية.. لا أحد منا يرى الصورة مجسمة من كل اتجاه، محكومون نحن بمدى رؤية وبقدرة وبقوة بصر وبزمان وبشيء غامض يسكننا.. وبآخر لا نرى فيه إلا بعض أنفسنا.