أصبح معلوماً من الحياة بالضرورة، أن ترى عقب كل عملية إرهابية يرتكبها متطرفون مسلمون، من يردد بحماس شديد عبارة: "الإسلام منهم براء"، حتى لو كنت تراه غالباً يردد آراء متطرفة، لا تختلف في جوهرها عما يتبناه أنصار داعش، في الوقت الذي يردد فيه اتهامات للغرب "الكافر" بمسؤوليته عن تدبير العمليات الإرهابية، لتوريط المسلمين فيها. وفي حين ينشر، في لحظات الأزمات بالذات، آراء تؤكد على سماحة الإسلام ولينه ورفقه، تراه في غيرها، يمارس التكفير "الدايت" على من يختلفون معه دينياً، ويدعو خلف أئمة المساجد على كل المختلفين عنه، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو شيعة أو من شايعهم أو والاهم، من دون أن يرى في ذلك تناقضاً مع جوهر عبارة "الإسلام براء من الإرهابيين"، لأنه، ببساطة، يقيس الأمور على نفسه، فهو مثلاً، على الرغم من اقتناعه أو تماسه مع التفكير الداعشي، إلا أنه لا يمكن أن يقتل أو يفجر أو يذبح بيديه. ولذلك، هو يعتقد أن "الإسلام منهم براء"، وهو نموذج ليس فردياً على الإطلاق. ولذلك، يصلح أن يستند إليه من يسأل: "حين تكون هذه هي الطريقة التي يفكر بها مسلمون كثيرون، فهل الفهم المعاصر السائد للإسلام اليوم رسمياً وشعبياً، براءٌ فعلاً من الإرهابيين؟".
مع كل عملية للمتطرفين الإسلاميين، يقع ضحيتها مسلمون أو غير مسلمين، ستزداد صعوبة التهرب من مواجهة سؤال كهذا، بالتكفير والزعيق والتشنج، لأن ذلك قد ينجح في قمعه داخل حدود أوطاننا التي يسهل فيها قمع الأسئلة، لكنه لن ينجح خارج حدود أوطاننا التي لا تحرم الأسئلة في المطلق، فما بالك حين تكون تلك الأسئلة مرتبطةً بمستقبلها وواقعها اليومي المعاش، وما بالك حين لا يكون ذلك السؤال مطروحاً فقط لدى "الآخر"، بل يصبح مطروحاً بقوة لدى أبناء الأجيال الشابة في أوطاننا، الذين رأوا ويرون من الكثيرين من "أنصار الإسلام"، ما يجعلهم يتمردون عليه، ويتشككون في تعاليمه وعقائده، وهي ظاهرة لم يعد مجدياً تجاهلها، أو مواجهتها بالزعيق والتكفير والبصق على الشباب في برامج التوك شو، أو اقتراح علاجهم كيميائياً، وصعقهم كهربياً في مستشفيات الطب النفسي.
"إننا أحوج ما نكون الآن، إلى مواجهة شجاعةٍ لأسئلة كثيرة، عن مفاهيم الجهاد والشهادة في سبيل الله والحاكمية والولاء والبراء والتكفير، بعيداً عن طريقة البرامج الدينية التي يرد فيها على "الشبهات"، مشايخ تحيطهم الشبهات من كل اتجاه"
ما يزيد المسألة تعقيداً، أننا مواجهون، في الوقت نفسه، بكثيرين من رافعي شعارات التنوير والعقلانية والعلمانية، ليسوا مستعدين لطرح ذلك السؤال، بهدف السعي إلى الفهم والمعرفة، بل يفضلون تقديم إجابة قاطعة عليه، تعتقد أن "الإسلام ليس براءً من الإرهابيين، فهم ليسوا إلا منفذين لتعاليمه وأحكامه"، معتبرين تلك الإجابة قاطعة مانعة، ويجب البدء منها أولاً، ثم مناقشة أي شيء آخر بعدها، ومع أنه يفترض في هؤلاء الاختلاف عن المتطرفين من أصحاب الإجابات المطلقة والتعميمات التي تتحدث، مثلاً، عن الغرب بوصفه (دار الكفر)، سنجد كثيرين منهم يتبنون إجابات مطلقة، وأحكاما تعميمية، تتجاهل خطورة التعامل مع ظواهر مركّبة بشكل بسيط، ما يؤدي، في المحصلة، إلى زيادة طين التطرف بلّة، وتغذية سرديات المؤامرة الكونية ضد الإسلام والمسلمين، من دون أن يتحقق شيء مثمر عن طرح أفكارهم، سوى إفراغ شحنات انفعالية، تساعد صاحبها على أن يتوهم أنه أرقى وأفضل، لمجرد أنه يقف ضد قاطعي الرؤوس ومفجري المدنيين، حتى لو كان لا يجد أدنى حرج، في تأييد قتل المدنيين بالرصاص الحي والقنابل والبراميل المتفجرة، بدعوى الحفاظ على الوطن، وحماية الدولة من الانهيار.
للأمانة، لا يمكن، في أيام عصيبة كهذه، أن نقلل من أهمية إفراغ الإنسان شحناته العصبية الزائدة، ليستطيع إكمال يومه على خير، سواء قرر أن يفعل ذلك وسط أصدقائه المجبرين على تحمله، أو أن يفعله على ملأ الإنترنت، مع أناس ليسوا مجبرين على تحمله. لكن، ما يمكننا فعله، أن ننبه أصدقاءنا الذين نحب تحملهم، أو نضطر إلى تحملهم، أن لا يعتقدوا أن علاقة كل منا بجرائم الإرهابيين الإسلاميين ستنتهي، حين يفرغ ـ ولا أقول يستفرغ ـ كل منا شحنته العصبية على الآخرين، سواء بإعلانه أن "الإسلام بريء من الإرهابيين" الذين يتحملون وحدهم مسؤولية إرهابهم، أو إعلانه أن "الإسلام ليس براءً منهم"، بل هو مسؤول عن إرهابهم، لأن ذلك لن ينفي أنك ستظل مطالباً بالاشتباك فكراً وتأملاً وحواراً وجدلاً، مع النصوص الدينية التي أصبحت تسود تفكير الناس، في الجزء الذي تعيش فيه من العالم، حتى لو كنت لا تؤمن بها، أو كان إيمانك بها ضعيفاً، أو كنت لا تتفق مع التفسيرات المتشددة لها، بل أنت مطالب أيضاً بأن لا تتبنى فهم هذه النصوص، من مداخل سهلة، فقط ليبدو أنك أكثر رقياً من غيرك، أو أنك أدق فهما للإيمان من غيرك، لأنك، شئت أم أبيت، وبشكل أو بآخر، في بلادك أو في بلاد المهجر، ستتحمل مسؤولية أفعال الإرهابيين المسلمين، سواء وضعت على "بروفايلك" علم فرنسا، أو اعتقدت أن داعش تُدار بريموت مخابراتي أميركي، أو دعوت بالهلاك على اليهود والنصارى والشيعة، تماماً كما يضطر المواطن الغربي القادم إلى بلادنا لأن يدفع أحياناً ورغماً عنه، ثمن سياسات حكوماته الإجرامية في الشرق الأوسط، حين يجد نفسه مخطوفاً أو مذبوحاً أو مروّعاً، مع فارق مهم، هو أن حكوماته ستدافع عنه بضراوة، أما أنت فلن يساعد في إخراجك من ورطاتك أحد سواك.
ينطبق هذا، أيضاً، على من يلجأون، عقب كل حادث إرهابي أليم، إلى الاكتفاء بالتذكير بجرائم المستعمرين الغربيين، واستعراض تاريخ الأديان والأيديولوجيات في ممارسة القتل ورعايته، أو سرد جرائم "إرهاب الدول العظمى" التي تضرب المدنيين بالغارات الجوية الموجهة عن بعد، وعلى من يتصورون أنه سيمكن حتماً القضاء على الإرهاب، حين تخف قبضة الاستبداد السياسي، أو حين تنجح التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية في محاصرة الفقر والتخلف، فمع أن طرح كل هذه الزوايا مهم، حين نتحدث عن ظاهرة الإرهاب، لكن الاكتفاء بأي منها لإبراء الذمة وإلقاء اللوم على "آخر ما"، خطأ بالغ، خصوصاً بعد أن قدمت لنا السنوات الماضية نماذج مربكة ومحيرة، مارس فيها الإرهاب أناس ليس لديهم مشكلات إقتصادية، أو هموم اجتماعية، كما قدمت لنا الأحداث الدامية المتوالية دلائل على أن مقاومة إرهاب الدول العظمى لن ينفع في دحره عمليات إرهابية تستهدف المدنيين، لأن ذلك سيشرعن إرهاب الدول العظمى لدى شعوبها، وسيعمل من أجل خدمة شركات السلاح ومهاويس اليمين، الذين يتبنون بدورهم أفكارا عنيفة وعنصرية، مستمدة أيضا من كتبهم المقدسة، ونابعة من رغبتهم في فرض "رؤية خيرة صالحة" وحيدة على العالم بكل من فيه، فضلاً عن أن ظواهر ملغزة، مثل ظاهرة إطلاق النار العشوائي على المدنيين في أوروبا وأميركا، بأيدي مهاويس غربيين متعددي الأهداف، يفترض أن تكون قد ساهمت في توسيع زاوية رؤيتنا للكون، وأثارت لدينا أسئلة عديدة عن لجوء الإنسان إلى العنف، مهرباً للخروج من أزماته، متديناً كان أو منحلا، صاحب هدف أو صاحب مرض، صاحب سلطة أو طالب سلطة.
بالطبع، يستحيل، في ظل مساحة كهذه، استعراض كل جوانب ظاهرة الإرهاب والقتل الجماعي. لكن، لا يمكن إغفال الإشارة إلى الذين يؤكدون على تعقيد الظاهرة، وأهمية مناقشة كل جوانبها، لكنهم، في الوقت نفسه، يعارضون طرح الأسئلة التي تناقش دور النصوص الدينية الثابتة في تغذية العنف والإرهاب، بدعوى أن مناقشتها بحرية كاملة قد يثير مشاعر المتطرفين، ويحدث البلبلة بين بسطاء الناس، وهو تكرار لمنطق الوصاية الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية التي تعتقد أن من واجبها حماية الشعوب من الأسئلة، مع أننا أحوج ما نكون الآن، إلى مواجهة شجاعةٍ لأسئلة كثيرة، عن مفاهيم الجهاد والشهادة في سبيل الله والحاكمية والولاء والبراء والتكفير، بعيداً عن طريقة البرامج الدينية التي يرد فيها على "الشبهات"، مشايخ تحيطهم الشبهات من كل اتجاه، وبعيداً عن أساليب النقل الانتقائي من كتب التراث الإسلامي المتشعب والمتنوع، التي تستبعد سطراً من فقرة، أو تختار عباراتٍ بعينها من نص ما، لإظهار "سماحة الإسلام ووسطيته ورفضه العنف"، في حين يستخدم الإرهابيون سطوراً أخرى وعبارات أخرى، أحياناً من المرجع التراثي نفسه، لتبرير عملياتهم الإرهابية وجذب مزيد من الشباب المستعدين للتضحية بأنفسهم، من أجل جنات الخلد التي تجري من تحتها أنهار، تتمدد الحور العين على ضفافها.
"التشدد تغلّب على طريقة تفكير مسلمي اليوم، لأنهم أصبحوا، منذ زمن بعيد، يفضلون التلفيق والتوفيق والتبرير، بدلاً من مواجهة نصوص دينية كثيرة، والتساؤل عما إذا كانت صالحة بحذافيرها لكل زمان ومكان؟"
نعم، يمكن أن نؤكد، بحسم، على عدم مسؤولية عموم المسلمين عن أفعال المتطرفين منهم، ونتحدث بثقة عن وجود قراءات مختلفة للنصوص الدينية، ونذكِّر بنماذج إرهاب "الآخرين" في الماضي والحاضر، لكن ذلك لن يعفينا من مواجهة حقيقةٍ مريرة، هي أن التشدد تغلّب على طريقة تفكير مسلمي اليوم، لأنهم أصبحوا، منذ زمن بعيد، يفضلون التلفيق والتوفيق والتبرير، بدلاً من مواجهة نصوص دينية كثيرة، والتساؤل عما إذا كانت صالحة بحذافيرها لكل زمان ومكان؟، أم أنها وليدة عصر معين وظروف معينة، وأن علينا أن نجتهد في فهمها بشكل آخر، في عصرنا وظروفنا، بل وبات علينا أن نتجاوز بعضها، لكي لا يتجاوزنا الواقع إلى الأبد، وكل هذا مجهود لن نبدأه لحسن الحظ من الصفر، فقد سبق أن بذله، عبر التاريخ الإسلامي وحتى اليوم، مئات العلماء والباحثين، تعرض كثيرون منهم للقتل والقمع والتيئيس، وتعرضت رؤاهم للرقابة والحجب والحبس في بطون الكتب حتى الآن.
كل هذه الأسئلة التي تخص نصوصنا الدينية وتفسيراتها، لن تتبنى طرحها والتفكير فيها، الأنظمة الحاكمة التي تستبيح قتل الناس وخطفهم وتعذيبهم، والتي لا تتوانى، من أجل مصالحها، عن تشجيع أكثر النسخ الإسلامية تطرفاً وتشدداً، ولن تتوانى عند الضرورة من أجل مصالحها، عن رفع شعارات العلمانية والعقلانية والتنكيل برافعي الشعارات الإسلامية، ولن يفلح في طرحها مشايخ السلطان الذين لن يتوانوا في الحالتين، عن استخراج النصوص والتفسيرات الملائمة لرؤية السلطة، ولن يقوم به الذين طغى عليهم غضبٌ ما، أو هوس ما، جعلهم يرون الجنة حلاً للخلاص من جحيم الأرض، ولن يفيد فيه دعم الأنظمة الغربية المنافقة التي تنسى كل شعارات العقلانية والحرية، حين يتعلق الأمر بالنفط والمصالح وتجارة السلاح. ببساطة، لن يقوم بمواجهة هذه الأسئلة، ولن يدعمها، ولن يتحمل تبعاتها، إلا المتضررون من واقعنا الأليم في بلاد الوطن أو المهجر، والذين يحلمون بمستقبل أقل سوءا لأهاليهم وأحبابهم، وهو ما يستحيل حدوثه، في ظل سيادة الرؤى المتطرفة للدين والوطنية والتحضر، والتي تسعى إلى سحق كل من يخالفها الرأي، أو، في أحسن الأحوال، تستسهل إخراسه، ليبقى صوتها مسموعاً وحده، بوصفه الأفضل والأنفع للناس.
شئنا أم أبينا أم تمنّعنا أم "استعبطنا"، ستبقى مواجهتنا النقدية لكثير من نصوص ديننا وتفسيراتها مواجهة حتمية، يفرضها علينا الواقع المرير، مواجهة نحتاجها من أجل مستقبلنا، وليس من أجل الحصول على (شهادة حسن سير وسلوك) من الغرب، مواجهة يجب أن نخوضها بعقل نقديٍّ، لا يعاني من خجل مرضيّ، يلجئه إلى جلد مستديم للذات، ولا يغطي أيضا على عيوبه، بفخر مرضيّ بماضٍ تليد بعيد، وقطعاً لن تكون مواجهة كهذه سهلة، ولن يمكن لأحد أن يتنبأ بتبعاتها، خصوصاً في ظل سيادة أنظمةٍ، تستخدم شعارات التجديد الديني للاستهلاك الخارجي فقط، وانتشار جماعات مسلحةٍ، لا تملك سبيلاً لفرض مشروعها السلطوي سوى شعارات الدين ونصوصه. لكن، ما يمكن أن نبدأ به، وما لا نملك غيره في واقع الأمر، هو أن نعمل، أولاً، على رفع الحظر عن كل الأسئلة التي نراها شائكة أو حرجة، وفي مقدمتها أسئلة مثل: "هل الإسلام منهم براء"؟.