أستطيع الآن أن أقول، وبكل ثقة، إن مؤسسات الدعاية والإعلان حققت هذا العام نصرا مهولا، أكبر من انتصاراتها المعتادة كل عام.
الإعلانات، أكتر من المسلسلات، هي حديث المدينة. الإعلانات أصبحت الموضوع الأثير للمناقشة والتفضيل والإعجاب، لدرجة إن بقت عندنا جماعة "شاي العروسة" وتيار "كرانشي" ومدرسة "فودافون".
لكن حقيقي الضربة القاضية لشركات الإعلانات السنة دي هي إنها نجحت، أكتر من أي فترة سابقة، إنها تغزو جمهور كان مغلق نسبيا عليها: الشباب "اللي مش عاجبه حاجة".
في سنوات سابقة فاكر إن كان فيه إعلانات بتستوحي مظاهرات كفاية، وكان فيه إعلانات بتستوحي أغاني الالتراس، أو بتستوحي الثورة وأيام الميدان.
دلوقتي صانع الإعلانات قفش إن المزاج اتغير تماما، وده شيء سهل يتقفش.. بس مش بس كده، الأهم إنه قفش حاجة أخطر، إن اللي بقى سايد بين قطاع مؤثر من الشباب هو نزعة عدمية نقدية زهقانة ورافضة ومركزة كل رفضها على الجيل الأكبر وكل الحاجات السايدة المملة.
التفكير اللي بيكسب أرض دلوقتي هو "متبضنوناش، مش ناقصين حِكَم، ولا نوستالجيا، ولا كلام فخم، ولا وطنية، ولا وجع دماغ، كل اللي بتقولوه سخافة وملوش لازمة وباهت، كل أفكاركم قديمة وتافهة، مفيش مقدسات ولا أشياء فوق النقد".
هو ده اللي لقطه صانع الإعلانات واشتغل عليه في أكتر من إعلان بطرق مختلفة.. إعلانات فاجومية، بتتريأ على السائد والموروث والمستقر، ودي فيما يبدو لي المدرسة بتاعت مليودي أفلام وإعلاناتها، بس المرة دي بقت مينستريم في كل القنوات، وبقت مهذبة شوية عشان تنفع تبقى في كل القنوات.
صانع الإعلانات بيحول المود الرافض والمتململ من كل شيء سائد إلى نكتة لطيفة وفكرة لذيذة.. إلى موضوع يشترك في الضحك عليه ومعاه الرافض وغير الرافض والكل جميعا.. فلقد امتلكـ"نا" الموضوع وأصبح منزوع السم وتحول إلى سلعة أسرية غير ضارة.
الدرس المستفاد من كل ده: تنجح الرأسمالية كثيرا في ابتلاع وتطويع حتى نقدها والثورة عليها. بيكاسو الفنان الثائر بقى لوحة بتتباع بالملايين للأغنياء في صالة مزادات كريستي.. جيفارا بقى تي شيرت وكولونيا ومطعم فانسي.. وهلم جرا.. القوة الجبارة للتسليع تبتلع كل شيء في طريقها حتى نقد التسليع نفسه.. ودي طبعا حقيقة اتقالت واتهرست كتير من جانب نقاد الرأسمالية من مدرسة فرانكفورت وغيرهم
لكن دي مش كل الحقيقة.. الناس مش مجرد مشاهدين ومستهلكين.. وإحنا مش عايشين في مجرد مجتمع فرجة بياكل الدماغ ويستوعب الناس بسحره.. إحنا كمان عايشين في مجتمع مليان تناقض وقهر وظلم وألم وبؤس.. فإلى جانب استيعاب وتدجين الثورة والنقد، فيه ثورة تانية ونقد تاني بيتولدوا من حيث لا أحد يتخيل..
أملي إن الميزان في النهاية يطب ناحية الأغلبية اللي من مصلحتها إنو تتكسر الآلة الشريرة للتسليع.. هنشوف!