هما اتجننوا ولا إيه؟ ده السؤال اللي كلنا بنسأله في محاولة لفهم الإعدامات والقمع المسعور بتاع دولة السيسي.
كريس هارمان، الاشتراكي الثوري البريطاني، مرة كتب إن إرهاب وقمع الدولة النازية كان قد فقد مبرره الموضوعي قبل انهيار الدولة النازية بسنين كتيرة. بمعنى آخر: القمع كان بقى مش مفيد، بل مضر، للنظام الفاشي الهتلري، ورغم كده استمر، بقوة دفع الآلة المجنونة للقمع.
السؤال هنا، هل دي هي الحالة المصرية؟
أيوه فيه أوجه شبه مهمة.
سلطة الانقلاب العسكري ابتدت حكمها في لحظة فاشية بامتياز.. لحظة فيها تجييش رجعي هائل ف الشارع، مش بس ضد الإخوان، لا ضد الثورة نفسها.
التجييش ده حصل طبعا بتحريض من قوى الثورة المضادة، لكنه كمان حصل كردة فعل شعبية واسعة النطاق على فشل الثورة في تحقيق أهدافها على مدى زمني طويل نسبيا، وعلى انسداد أفق أي حل ثوري للأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، فالناس كرهت الثورة، وانطلقت في تأييد أشباه الفاشيين الأغبياء، رؤوس سلطة 3 يوليو اللي انطلقو يقتلوا في الناس بلا منطق عدا بث الرعب وتثبيت السلطة، وذلك تحت غطاء التفويض الشعبي الدرامي اللي حصل في 26 يوليو 2013.
دلوقتي دايرة التفويض بتنكمش، والملايين اللي كانوا آملين ف السيسي أمل كبير، أملهم بيتقلص، والسحر بيتبخر، والشك بيزيد، بل الأنكى إن اندفاع آلة القمع، وفيضان أنهار الدم، اللي كانوا متشافين كحل سريع للأزمات، وطريقة لري الظمأ الانتقامي، بقوا بيتشافوا أكتر فأكتر كجنون بيزود المشكلة، ويعمق الأزمة، وكسبب من أسباب كارثة الفشل المدوي في تحقيق الأهداف اللي شرعية آلة القمع قامت على إنها هي الطريق لتحقيقها.
انكماش القاعدة الاجتماعية والسياسية للسلطة المضادة للثورة بيكشفها، وبيشيل سجادة التأييد الشعبي من تحت رجليها، فلن يتبقى ليها، مع مرور الزمن إلا تأييد قطعان من المنحطين أصحاب المصلحة المباشرة في تثبيت دعائم دولة الظلم.
في سياق الوضع ده القمع مبقاش شيء شعبي قوي، أو خلينا نقول: بعض القمع مبقاش شيء شعبي، بالتحديد قمع القوى المدنية والحركة الديمقراطية والتحركات السلمية، إلخ، وبالتحديد الجنون المطبق المتمثل في إعدامات قضاء الثورة المضادة. القمع اللي لسة ليه مبرر بالنسبة للناس العادية، والقوى السياسية اللي مش رافضة أساس النظام الراهن، هو قمع التنظيمات الإرهابية والقضاء عليها، وده الموضوع اللي النظام فشله فيه ظاهر وباين للعيان. عشان ده طبعا لقينا ردة الفعل الكبيرة على قتل شيماء الصباغ، وعلى الإعدامات، إلخ.
لكن رغم كده السلطة بتواصل في القمع، اللي بيزيد الإحساس إنه مش مبرر وإنه مش مفيد. وفي هذا السياق بيزيد الإحساس في دوائر مش متعارضة بالضرورة مع السلطة (عبد الله السناوي، محمد حسنين هيكل، كتير من إعلاميي السلطة المنحطين) إن فيه حاجة غلط، وإن الوضع بقى هبل في هبل، وقمع مجاني، وسياسات فاشلة.
رغم كده فالسلطة بتكمل في الهبل بإباء وشمم. وتصوري إن تفسير ده لا يمكن أن يكون إنه فيه عقل مسيطر ذكي بيخطط لسياسة محنكة تتضمن كل هذه الجرعة من القمع، المصاحب لسياسات إفقار، ولفشل كبير على كل الأصعدة. لا.. المسألة مش عقل ذكي بيخطط للدولة كلها. المسألة هي إن فيه فوضى وتفكك بيؤدوا إلى سيطرة المصالح الجزئية لجماعات المصالح المختلفة.
باختصار: تفكك وتناحر مؤسسات الدولة من قضاء لجيش لشرطة، واتباع كل واحدة منهم لسياسات تخصها هي، بل حتى سياسات طالعة من دماغ كل فرد فيها، هي التفسير للهبل القمعي المضر للسلطة واستقرارها اللي إحنا شايفينه. المكنة مش متسيطر عليها، مش بتخضع لعقل جمعي بيفكر ليها ويحدد تمشي إزاي.
ف البداية السلطة شجعت جموح كل قاضي وكل شرطي وكل ضابط جيش وكل إعلامي وكل واحد من الأجهزة إنه يطيح وبقسوة، على اعتبار إن دي أولا فرصة منحها التأييد الشعبي، وثانيا إن دي الطريقة الوحيدة لكنس كل معارض، ولكنس الثورة بالمرة. لكن بالوقت، ولما الموضوع اتعقد، وبقى يتطلب حسابات، رأس السلطة، وبعض أطرافها، وبعض اللي حواليها، شايفين إن الاستمرار بالشكل الجامح ده، من غير تخطيط، ولجم، مشكلة. لكن محدش عارف يوقف القطر، مفيش فرامل، فيه بس جموح من الأجهزة والمؤسسات ضد المعارضة والناس، وتكسير بين المؤسسات وبعضها، وبين الأفراد في المؤسسات وبعضهم.
السؤال دلوقت: مين يقدر يركب فرامل للقطر الجامح ده؟ نظريا الجيش هو اللي يقدر، بس عمليا الجيش مش هيعرف غالبا. لأنه رغم إنه الأقوى – معاه الطيارات والدبابات زي ما إحنا عارفين – لكن درجة اهتراءه ونفاذ المصالح المالية الشخصية والشللية فيه وانهيار كفاءات قياداته واصلة إلى حد لا يمكن معه أن يكون مؤسسة قادرة على توحيد أطياف الثورة المضادة وقمع جنوح وتجاوزات بعضها.
مش عارف المستقبل شكله إيه؟ ممكن التناحر والهبل يفجر الموقف بشكل فوقي (يعني تدخل من أعلى)، ممكن يتغير التوازن بين القوى في السياسة والمجتمع، ممكن سيناريوهات تانية. بس توازن الفشل والهبل ده غير قابل للاستمرار.. عشان كده المرحلة الجاية كله يستعد، غالبا هنشوف قصص درامية كتير، ربما مش بكره، لكن بعد بكره أو بعد بعده.