في الصحيح من حديث ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباس: «يا عباس، ألا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو راجعته» قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال: «إنما أنا أشفع» قالت: لا حاجة لي فيه.
قلت: وفي هذا الحديث أصل عظيم من أصول مراعاة هذا الدين الحق للجبلة الإنسانية فهو يهذبها ولا يعاندها.
فهذا رجل يحب امرأة لا تحل له، وأنت ترى حبها وقد ملك عليه قلبه وشارف به على الهذيان؛ فبينا كانت أمس زوجته، إذا هي اليوم امرأة أجنبية عنه، فأضحى ماء قلبه ورواء روحه سراباً كأن لم يكن.
فهل رأيت نبي الرحمة ينهاه، ويقول له حبك لها حرام؟
لا. فهذا الحب من قول القلب وعمله لا سلطان للرجل عليه، ولا يحاسبه الشرع عليه، ولا على لوعة نفسه وبكائه، فتلك لواعج النفس لا يعاندها الشرع، لكن الشرع ينظر: هل تقول حراماً أو تفعل حراماً؟
أما هاهنا = فلا.
يقول الحافظ مغلطاي: (( وقد أجمع العلماء: أن الحب ليس بمستنكر في التنزيل ، ولا بمحظور في الشرع )).
وفي شرح البخاري لابن بطال: ((لا حرج على مسلم فى هوى امرأة مسلمة وحبه لها ظهر ذلك منه أو خفى، ولا إثم عليه فى ذلك، وإن أفرط فيه ما لم يأت محرمًا)).
يا أيها الرجل الذي قد جبله الله على خلقة ثم لم يعاندها بشرعه:
ليحزن قلبك وتدمع عينك في الموت، ولينتفض قلبك، وتضطرب جوارحك في الحب، ثم إن الله جعل ما بعد ذلك قولاً وفعلاً منه حلال ومنه حرام، ولا يؤاخذك الله إلا على أقوال محرمة بينة وأفعال محرمة بينة، متى اجتنبتها= لم يؤاخذك الله بقلبك هذا، بل لو شئنا الدقة: إنه يرحمك ويرفق بك، ويحب لك الخير.
وأنت مأمور فقط بجهاد نفسك عن المعصية، ولست مأموراً بإزالة هذا الحب بالكلية.
يقول ابن تيمية: ((وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم بعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه في طاعة الله تعالى وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمرا حرمه على نفسه فيكون في طاعة نفسه وهواه؛ بل هو أمر حرمه الله ورسوله ولا حيلة فيه، فتكون المجاهدة للنفس في طاعة الله ورسوله)).