ابد أن تموت أمامي
موت أحبائنا فرصه رائعة لنبحث عن بدائل
في قطارات شرق الدلتا, تعودت أن أختار سيدة مناسبة
تفتح لي خزانة تعاطفها عندما أخبرها بموت أمي و أنا في السادسة
في الحقيقة
حدث هذا و أنا في السابعة
و لكن "السادسة" تبدو أكبر تأثيراً
فالأمهات في منتصف العمر يدمنّ الحزن
ربما لتبرير حداد سابق لأوانه
و الرتوش البسيطة أثناء الحكي
لها سحر
لن يفهمه أبداً من لم يضطروا لسرقة حنان الأخرى"
" يبدو أنني أرثُ الموت
ويوماً ما
سأجلسُ وحدي على المقهى
بعد موتِ جميع مَن أُحبُّهم
دون أيّ شعورٍ بالفقد
حيثُ جسدي سلةٌ كبيرةٌ
ترك فيها الراحلون
ما يدلّ عليهم."
عندما تخفي الأم وجهها خلف إيشاربها البيتي تتخلق تلك
اللحظة المرعبة في ذهن الطفل بأنه فقدها إلى الأبد،
ولكن لحُسن الحظ عادة ما تكشف الأم وجهها سريعا
وعادة ما يضحك الطفلُ بصوتٍ أعلى كلما تكرّر الرّعب.
أنا لم أفعل ذلك مع عيالي قط؛ ربما لأنني عندما
ماتت أمي كنت مازلتُ أحبُّ هذه اللعبة وظللت أنتظر
وجهها أن يظهر لي".
الشرّ
كنت أظن أن هناك شراً كثيراً في العالم
فرغم أنني أكثر أصدقائي حناناً، لم أرَ وردةً في فازة مائدة
إلا وطحنت طرفها بين الإبهام والسبابة
لأتأكد أنها ليست من البلاستيك.
ومؤخراً بدأت أشك في وجود الشر أصلاً
ويهيئ لي
أن الأذى كله يكون قد حدَث بالفعل
في اللحظة التي نتأكد فيها
أن الكائنات التي أدميناها كانت حقيقية.
صورة عائلية
امرأة وطفلة، شاحبتان لأن الصورة لم تكن خالية من الأسيد، المرأة لا تبتسم (رغم أنها لم تكن تعرف أنها ستموت بعد ذلك بسبعة وأربعين يوماً بالضبط)، البنت لا تبتسم (رغم أنها لم تكن تعرف ما هو الموت)، للمرأة شفتا البنت وجبينها، (للبنت أنف الرجل الذي سيظل دائماً خارج الصورة)، يد المرأة على كتف الطفلة، كف الطفلة منقبض (ليس ذلك بفعل الغضب بل لوجود نصف حبة من الكراميل)، ساعة المرأة لا تعمل ولها استيك عريض (ذلك لا يتماشى مع موضة 1974)، وفستان البنت ليس من القطن المصريّ (عبد الناصر- الذي كان يصنع كل شيء من الإبرة للصاروخ – مات منذ سنين)، الحذاء وارِد غزة (وكما تعرف غزة لم تعد منطقة حرة على الإطلاق).
الحب
قرر رجلٌ أن يفسر الحب لي، بقايا نبيذ والظهيرة تعبر للجهة الأخرى، كان يُدخل آخر زرٍ في قميصه بينما العتمة تتزحزح إلى الركن. توهان ما، كتلك اللحظة التي تُظلم فيها الشاشة، حيث يكون على المتفرج البحث عن باب الخروج من السينما. هكذا قرر أن يفسر الحب لي، بنظارة أحكم وضعها خلف أذنيه بينما أنا ما زلت عارية.
كانت الغرفة مشوشة وصافية عندما قال: “الحب هو البحث عن…”، فتحت عينيّ لأرى فلولاً من الأسبان يبحثون عن الذهب في شيلي، كانوا جوعى وخائبي الرجاء بينما كان هنديٌّ أحمر مختبئاً من الذعر خلف صخرة. وعندما قال: “الحب هو الرضا بـ … ” بدأت أتحسس بأصابعي جبلاً من الشيكولاته السوداء وأستمع إلىElla Fitzgerald ،تغني … ” وهو السعادة…” عندها لم أتخيل شيئاً على الإطلاق.
لابد أنني لم أره بعدها أبداً، لأنني لا أتذكر أنني سألته، إذا كان الحب هو أن ينسى ساعته بجانب السرير.
حياة
لم يحدث هذا في بيت أهلي، بالتأكيد ليس بين من ظننت أنهم يعرفونني.
حياتي التي فشلت دائماً في لمسها، في أن أجد صورة لي معها، بجانبي على نفس السرير، تفتح عينيها بعد غيبوبة طويلة، تتمطع كأميرة واثقة أن قصر أبيها محميٌّ من اللصوص، أن السعادة تحت الجلد رغم الحروب التي لا تنام.
تلك الحياة التي حشر فيها أكثر من أب طموحه، أكثر من أم مقصاتها، أكثر من طبيب مهدئاته، أكثر من مناضل سيفه، أكثر من مؤسسة غباوتها، وأكثر من مدرسة شعرية تصورها عن الشعر. حياتي التي جرجرتها خلفي من مدينة لمدينة، وانقطعت أنفاسي في الجري وراءها من المدرسة إلى المكتبة ومن المطبخ إلى البار، من الناي إلى البيانو ومن ماركس إلى المتاحف ومن ذكرى رائحة جسد إلى الحلم بصالة في مطار ومن كل ما لا أعرفه إلى كل ما لا أعرفه. حياتي التي فشلت حتى في التأكد من وجودها، بجانبي على نفس السرير، تفتح عينيها بعد غيبوبة طويلة، تتمطع كأميرة تعرف أن قصر أبيها محميّ ٌ من اللصوص، أن السعادة تحت الجلد رغم الحروب التي لا تنام.
هكذا استيقظت في أرض غريبة ذلك الصباح الذي بلغت فيه الأربعين، ولولا أن الله لم يرسل نساء من قبل لقلت إنها أول إشارات النبوة، ولولا مزاجي الخاص لاستشهدت بكلام محمود درويش عن “امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها” أو بكلام ميلوش عن الباب الذي فُتح بداخله فدخل.
أمامي طابور من الموتى الذين ماتوا ربما لأنني أحببتهم، بيوت للأرق داومت على تنظيفها بإخلاص في أيام العطلات، هدايا لم أفتحها لحظة وصولها، قصائد سُرقت مني سطراً سطراً حتى أنني أشك في انتمائها لي، رجال لم أقابلهم إلا في الوقت الخطأ ومصحات لا أتذكر منها إلا الحديد على الشبابيك. أمامي حياتي كلها؛ حتى أنه يمكنني ضمها إذا شئتُ، يمكنني حتى الجلوس على ركبتيها والغناء أو العويل.