لم يمنحنا العالم رشفة ماء
محمد عفيفي مطر
28 يونيو 2014
1
لم يمنحنا العالم رشفة ماء
)مقاطع مختارة(
أمي.. ضربتها صاعقةٌ خضراء
فانفجرتْ من قدميها العاريتين عروق الماء
واختبأت في رئتيها النار
وتكسّر في عينيها بحر العنبر والقصدير.
أمي كانت تتقلب فوق سرير الطلق
تسقيها شمس الصيف.. فيندفق الأبناء
أمي ولدتنا دوامات بشرية
تتراكض، ترقص في الأبواب
أمي هجرتنا ذات مساء
ركبتْ مركبة الهيضةِ واللاجرا والتيفوس
فرضعنا خشب المقصلة السوداء
وشربنا مطر السوس
ودخلنا في غابات الخوف..
كنا في قلب النهر، ولم يمنحنا العالمُ رشفة ماء.
(من "الحصان والجبل"، 1966)
أغنّي وأكتب أقمار عشبٍ مجنحةً وشموساً معلقةً
بالشبابيك، أكتب إكليل فاكهةٍ وأضفّره في
زواج المواويل والماء والطمي،
أكتب فجر المواني وقُبّرة الموج والسفنَ العائدة
وأكتب شال الصبايا الملوّن أكتب أجسادهنّ
المليئة بالرعدة الموقدةْ
وأكتب أغنية الريش والقشّ أكتب تاج
العصافير للرحم الواعدة
وأكتب جوعي على واجهات المتاجر، أكتبه في
الرياح الثقيلة بالغيم، أكتبه في احتلام
التلاميذ وقت البلوغ، وأكتبه في سروج الخيول
ووشم الرصاص على قبة الجامعة.
(من "أكتب نافذة على مملكة الموت الآخر"، 1973)
ألتفّ بالشمس وغبار المسافات المفتوحة
أغسل جسدي بالقشّ ورغوة الغضب
وخناجر العشب المسننة
وأفتضّ أختام الريح وكُمون الندى في البراعم.
يسكن النحل تحت إبطيّ وبين أصابعي تختبئ
الينابيع الخائفة
والأرض زجاجةٌ تهشِّم ألوان الطيف وتذرّيها على
جسدي المعلق بين الجوع والربيع
أمتلئ شيئاً فشيئاً كاليقطين العسليّ الأحمر المدلّى
فوق أهرامات التراب ومصاطب التحاريق
أنضج بطيئاً
بـ
طـ
يـ
ئـ
اً
وأفرح بمراهقتي واكتشاف دمي
(من "فرح بالماء"، 1980)
أحدّق عبر صمت معتم علّي أرى
آثار عرس أو بقايا مأتم أو
صندلاً لصبية قد أعْجلتْها الغول عنه
أو انفراط الأحرف الأولى بأقلام
الطباشير الملوّن خطّها طفلٌ صغير
هي قفزة أعلو بها فوق الجدار
وخطوة.. فأكون أول من يرى
النسيان رأي العين:
آنية تكسّر طينَها حرقاً من العطش
استنامتْ في نسيج العنكبوت
ومراقد الحيوان والإنسان ربْقة ماعزي بليتْ
وفضْل حصيرة شرب التراب ترابها
تتآكل الجدران تحت نضائح الملح المرقّدِ،
والمهجات العميقة والشنشْنات التي اكتحلتْ
بدخان المصابيح القديمة حفّها جير من
الذرْق المنمّش.
هذه الأعشاشّ خالية..
نداء الشمس والريح الطليقة بعثرا أسرابها
عُيّثتْ في ظلم المهجات
ارتعدت بنقرتي وبخمش أظفاري
وريشي مرتعبْ
من مكْمن البوم اسْتللتُ البومة الكبرى،
لويت جناحها بجناحها،
انتفضتْ وحاولتِ الهربْ
ورجعت وهي أسيرة الفخّين: كفي والعشى في الضوء،
وجه في مهابته كوجه الأولياء الملهمين
حفّتْ به من هالة الأسفار في الظلمات شيْبته
حريراً في نديفي من زغبْ
عينان واسعتان شهْلاوان كالبحر المصفي
في زجاج كهوفه،
لا تنظران وليستا تريان شيئاً من غثاء الصبح،
منقار به كِبر الملوك وكبرياء الفهم.
أنتِ وريثة الأهل القدامى الراحلين:
وحفيظة الدّمنِ البواليِ
والعليمة بالسرائر كيف كانت تغْتلي بالعشق
والشعر المجنٌّح بالجنون
وهواجسِ الأهوالِ من غلّ وجوع واحْتراب وانكسار.
أطلقْتها بعد انحدار الشمس،
روحي واشهدي في ظلمة الملكوت
هوْلَ الذاكرة..