كتاب ذاكرة القهر pdf لبسمة عبد العزيز
لتحميل الكتاب أضف ردّا وأعد تحميل الصفحة
فصل من الكتاب
الجلاد والنظام
حين يتأمَّل المرء خريطة التعذيب وممارساته، لا يسعه إلّا أن يتبيَّن ملامح منظومة كاملة من العنف والقهر. تضم تلك المنظومة مَن هو ضالع في التعذيب مباشرة، ومن هو متواطئ علي توفير المناخ المناسب له، ومن هو مُدَبِّرٌ لاستمراره. يدرك المرء بوضوح أن التعذيب ليس مجرَّد سلوك شاذ يطفو علي السطح بين الحين والآخر، لكنه فعلٌ مُعَمَّمٌ ومدروس يتخطي حيِّز الاستثناء الضيق الذي تُحاجج به السلطة دومًا عند مساءلتها، ويتجاوزه إلي مساحات واسعة من القمع والتنكيل، وإن ظلَّت في بعض الأحوال مساحات غير منظورة. يدرك المرء أيضًا أن ممارسة التعذيب مسألة متشعِّبة، لا يمكن اختزالها في فاعل صريح محدد، فالفاعلون كُثُر، وبعضهم لا يظهر علي سطح الأحداث إلّا في أضيق الحدود.
هناك طرفان رئيسان في عملية التعذيب هما الفاعل والمفعول به، أو الضحية والجلاد؛ وطرف ثالث هو جمهور المتابعين أو المجموعات التي تُعرَف لدي العلماء بجمهور «الشهود». يمكننا أن نُصَنِّف الفاعلين في مستويات متعدِّدة؛ الأدني منها يحوي القائمين علي مباشرة التعذيب بأيديهم، يليهم الرؤساء الذين يُصدِرون الأوامر بالتنفيذ، ثم المؤسسة الأمنية التي تصنع أولئك وهؤلاء، وأخيرًا هناك النظام السياسي الذي يتبنَّي العملية برمَّتها، ويُقِرُّ بها منهجًا ضروريًا وصالحًا للحفاظ علي قوته ونفوذه.
يقع الطرف الأكثر ضعفًا الذي توافَق المهتمون علي تسميته بالضحية علي الجانب الآخر من المعادلة، وهو الطرف الموضوع قسرًا في دور المفعول به، والذي قد تربطه بالجلاد علاقة شديدة التعقيد، يصعب فهمها في بعض الأحيان. يقبع هذا الطرف في الدرجة السفلي من المنظومة القهرية، يتلقَّي العقاب ولا يتمكَّن من الفعل، ويظل دوره في الأغلب مقتصرًا علي التلقي إلّا في حالات استثنائية يتمكَّن فيها من تحقيق بعض الانتصارات الصغيرة. أخيرًا نجد لدينا ذلك الدور الذي تلعبه الجموع الحاضرة، الشاهدة علي الفعل بشكل أو بآخر، والمتعاطية معه بطرق قد تكون غير متوقعة علي الإطلاق، سواء بالسلب أو الإيجاب.
الدائرة المغلقة
تعتمد أغلب الأنظمة القمعية علي إرساء وترسيخ فعل التعذيب باعتباره جزءًا لا ينفصل من سياساتها الداخلية، فتقوم بتزكيته، وتطويره، وتوفيرالامتيازات للمضطلعين به. ينقسم الباحثون حول أفضل السبل الممكنة للتعامل مع منظومة التعذيب، فيفضل بعضهم تسليط الضوء علي البناء الأيديولوجي للأنظمة المتورِّطة بما تَتَّبِعه مِن وسائل وأساليب، بينما يُفَضِّلُ البعض الآخر اقتطاع جزء محدد من المشهد والتركيز عليه؛ كأن يُوضَعُ الجلادون أنفسهم تحت المنظار، وتُدْرَسُ سلوكياتهم، وطرقُ انتقاؤهم وتدريبهم علي العمل، بمعزل عن البناء الإيديولوجي العام للنظام، والحقيقة أن كلا الأمرين يستحقان دراسة وافية، فالجلاد الفرد ما هو إلّا جزء من النظام، والعلاقة القائمة بين الطرفين هي علاقة تكامل ومصالح تبادلية وإن تباينت النسبة التي يشارك بها كل طرف، واختلف مقدار الفائدة الذي يعود عليه، والنصيب الذي يتحمَّله من اللوم في حال الإخفاق.
علي كل حال، لا بد وأن نشير إلي كون التعذيب الممنهج الذي تتشابه أساليبه وتتوافر أدواته في مقرات الاحتجاز المختلفة؛ السري منها والمعلن، لا يمكن عمليًا ممارسته سوي بمعرفة ودعم السلطة المسئولة، ولا يمكن تنفيذه إلّا في حماية النظام، وكجزء أصيل من أدوات حكمه. بغير هذه الضمانات يصعب توفير أماكن احتجاز مخفية عن الأعين، وأدوات تعذيب خاصة، كما يصعب تقنين الفعل عن طريق صياغة القوانين المليئة بالثغرات التي تسبغ الحصانة علي الجلادين، وتستبقيهم بعيدًا عن المحاسبة.
لا يخفي علي القارئ أيضًا أن السلطة تسعي دومًا إلي رسم دائرة شبه مغلقة فيما يتعلق بمنظومة التعذيب، فهؤلاء الجلادون الذين يبدون مُتَمَتِّعِين بكثير من النفوذ، يجري ابتزازهم بما نالوه من امتيازات خلال فترة عملهم، ويُستَبقَونَ في مواقعهم عنوة كلما أعلنوا رغبتهم في الانسلال منها، ومِن ثَمَّ يصبحون أسري تلك الدوامات المستحكمة، ويشرعون بدورهم في تسخير آخرين لمساعدتهم مقابل التنازل لهم عن جزء من المميزات. هكذا تضمن السلطة استمرار المنظومة القهرية، بل وتوالدها ذاتيًا.
مفاهيم وتعريفات
تكتسب بعض المصطلحات والمفاهيم السياسية شيئًا من الأهمية حين يتعلَّق الأمر بتوزيع الأدوار؛ وبالتالي تحديد الصلاحيات والمميزات، وإضفاء المشروعية علي الأفعال، والخضوع للمحاسبة أيضًا. إن تعبيراتٍ مِن قَبيل القوة، والنفوذ، والسلطة، لتختلف في دلالاتها رغم أنها قد تبدو متشابهة، ورغم استخدامنا لها أحيانًا باعتبارها مترادفات؛ لكن التفرقة بينها تصبح لازمة إذا أردنا التعبير بدقة عن الأوضاع المختلطة، فقد يمتلك الكثيرون قدرة علي استخدام القوة مثلًا، لكن القلة هي التي تملك هذا الحق.
السلطة والقوة
يرمز مصطلحا «القوة» و«النفوذ» إلي: «القدرة التي يمكن من خلالها إجبار الآخرين علي الطاعة»، هذا بينما يرمز مصطلح «السلطة» إلي: «الحق المشروع في القيادة والتوجيه، والحق المشروع في فرض الطاعة علي الآخرين».
هكذا يصبح الفارق ما بين «القوة» أو «النفوذ» من ناحية، و«السلطة» من ناحية أخري، هو حضور الشرعية من عدمه؛ الشرعية المستمدة من وجود أهداف عامة مشتركة، بين النظام الحاكم والمحكومين، ومن الاتفاق الشعبي علي أن البناء الهيكلي الكائن فعليًا، هو الأنسب لتحقيق هذه الأهداف. تلك الشرعية هي التي تستوفي في حقيقة الأمر، العناصر اللازمة كي تصبح هناك «سلطة»، أو بمعني آخر »قوة شرعية مقنَّنة«.
يستخدم أغلب الباحثين والمفكرين مصطلح «القوة» بدلًا من «السلطة»، في الإشارة إلي ما تسعي الأنظمة القمعية إليه عبر ممارستها التعذيب، وهو ولا شكّ استخدامٌ بليغ القصد مادام مقصودًا، إذ يدل علي غياب الأهداف المشتركة ما بين الشعب وتلك الأنظمة الحاكمة، الأمر الذي يعني بالتبعية غيابًا لشرعية سلطتها، أي أن حقها في قيادة الآخرين هنا هو حق ساقط، ويمكننا النظر إلي التعذيب في هذا السياق، كوسيلة فعَّالة للسيطرة والهيمنة المطلقة، وللتعامل مع المعارضين الذين يمثِّلون معسكر «الأعداء» وسحقهم، سواءً بانتزاع المعلومات التي تجعل بسط السيطرة عليهم -بصورة غير مباشرة- أمرًا ممكنًا، أو بتحطيمهم كأشخاص مباشرة.
من المثير للسخرية، أن تلك الأنظمة تدرك جيدًا أهمية تقنين انتهاكاتها المتواصلة للحقوق والحريات، لذا فهي تسعي سعيًا حثيثًا لصناعة وتمرير القوانين اللازمة لتنفيذ مآربها، وإحاطة أفعالها بأُطُرٍ براقة من الشرعية التي يدرك الجميع كم هي زائفة. لا تمثل تلك المسرحية البائسة استثناءً بل تكاد تكون القاعدة، فهناك مِن الإحصاءات الطريفة ما يؤكد أن ثلث بلدان العالم تحوي أنظمة غير شرعية؛ قرَّرت أن تبقي في مواقعها رغمًا عن أنف الشعوب، وأن تحتفظ بنفوذها عن طريق القوة وحدها، وأن تستخدم التعذيب باعتباره إحدي أدوات القمع التي لا غني عنها.
الأنظمة والحكومات
يُعَرَّفُ مصطلح «الحكومة» بأنه «وحدة عامة عاملة؛ تملك مسئوليات محددة للحفاظ علي النظام، وهي بالضرورة جزء منه، ولا يملك حق استخدام القوة القسرية في المجتمع سواها» . من ناحية أخري، يمكن تعريف النظام بأنه «مجموعة من الأفكار المتراتبة، والمتواصلة، التي تشكل إطارًا سياسيًا عامًا».
يعني هذا بالتبعية أن النظام هو المسئول الأول عن اختيار السياسات والأفعال التي تمارسها الحكومات علي الأرض، وحين نتحدَّث عن الأنظمة حينًا وعن الحكومات حينًا آخر، فإن الأمر لا يختلف من حيث المسئولية السياسية، إذ تمثل الحكومة تبعًا للتعريفات جزءًا من النظام، ويحيلنا ما ترتكبه تلقائيًا إلي مراجعة طبيعة النظام الذي أتي بها واحتضنها، وفي علاقتهما بالتعذيب، فإن اتهام الحكومات هو اتهام للأنظمة عامة، ولأسلوبها في الحكم، وهو محض انعكاس لفشلها في تحقيق التوافق الشعبي المطلوب، والدعم الذي يكفل لها الاستمرار دون اللجوء إلي تدابير عنيفة.
توجد نماذج متعدِّدة في بلدان العالم الثالث للأنظمة والحكومات التي تجمع النفوذ والقوة التنفيذية المفتقدة إلي الشرعية جنبًا إلي جنب مع هشاشة البناء، والفجوات الاقتصادية، والاجتماعية والسياسية. تتسع تلك الفجوات يومًا بعد يوم، فتفصل ما بين هؤلاء الذين يقودون ويحكمون، وأولئك الذين يرزحون تحت وطأة الحكم وسوء الظروف المعيشية، ويشكلون الأغلبية العظمي، وقد تتغيَّر الحكومات وتتعاقب شكلًا لا موضوعًا، ويبقي العنف والتعذيب طالما بقي النظام المستبد المفتقر إلي مسوغات الاستمرار الشرعية، ولا يتوقع مناهضو التعذيب بحال أن تتغيَّر أدوات وآليات التعامل مع المواطنين، أو أن تُتَخَذ إجراءات حاسمة تُحِيل الجلادين إلي المساءلة والعقاب، في ظل بناء قمعي كامل، لا يعترف بحقوق ولا حريات.
الاستبداد واحتكار التعذيب
تُري هل تحتكر النظم الاستبدادية ممارسات العنف والتعذيب؟ سؤال لا يُرجَي من ورائه ردٌ سريع، فكثير من النشطاء والمدافعين عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان بوجه عام، يميلون ولو عن هوي شخصيّ، مثاليّ إلي حد بعيد، إلي اعتبار التعذيب فعلًا مقصورًا علي الأنظمة الشمولية المستبدة دون غيرها، مع ذلك فإن نظرة عابرة تُلقي علي الدول العظمي المتشدِّقة بشعارات الديمقراطية والحرية، تضربنا بحقيقة صادمة؛ تُمَارس تلك الدول التعذيب بمباركة أنظمتها وتسامحها ورضاها. ربما لا يطال مواطنيها بكثافة لكنه يسحق بشرًا آخرين. لا محل هنا لحديث مطوَّل عما يجري في جوانتانامو علي سبيل المثال، لكن مجرَّد ذكر هذا المعتقل لكفيل باستدعاء صور سجنائه وأسراه التي انتشرت في وسائل الإعلام؛ هؤلاء المُسَلسَلَة أيديهم وأرجلهم، والمدفونة رؤوسهم في حقائب سوداء مُعتِمَة، والمحرومون من أية خصوصية تحفظ لهم حدودًا دنيا من الآدمية. إنهم هؤلاء الشاخصون أمام الجميع في لقطات تجعلهم أقرب ما يكونون إلي عبيد العصور القديمة. لقد قامت إحدي الممثلات البريطانيات في النصف الثاني من عام 2013 بإضراب عن الطعام،، تضامنًا مع معتقلي جوانتانامو الذين قضوا في الأسر ما يتجاوز الأعوام العشرة دون توجيه اتهامات لهم، والذين أُجبِرُوا علي التغذية قسرًا حين أضربوا عن الطعام معترضين علي أوضاعهم المأساوية. يدرك المجتمع الدوليّ أن الأمر جد مفجع وقميء؛ ويلتزم بمبادئه إخلاصًا أو حرجًا فيندد أو يشجب أو ينظم بعض نشطائه احتجاجات وتظاهرات، لكن الأمر لا يتغيَّر كثيرًا بالنسبة للسلطات إذ إن المعتقل الأمريكيّ المرعب موجود علي أرض خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية عن عمد، حتي لا يخضع لقوانينها التي تجرِّم ما يُرتَكَبُ فيه، والدولة التي يرتفع في سمائها تمثال الحرية لا يعبأ نظامها بتلك الترهات، فيواصل احتجاز أشخاص غير مدانين، ويعذب آخرين للحصول علي اعترافات تظللها الشكوك.
كان المنصف المرزوقي؛ الرئيس الذي تولي منصبه نهاية عام 2011 عقب الثورة التونسية، يري في بعض أبحاثه وكتاباته السابقة أن التعذيب ظاهرة قديمة ومستمرة، وأن انتشاره الواسع هو جزء لا يتجزَّأ من عملية الحكم التي توجد طالما وجدت الدولة أو ما يشبهها هيكليًا بغض النظر عن طبيعة وسياسة الحكم فيها؛ وسواءً كانت استبدادية أم لم تكن. ربما أُخِذَ عليه هذا الرأي إلي حد ما مِن جانب مناهضي التعذيب، لكن هناك من اتفق معه، ومن أكد أن التعذيب ليس كما يأمل الحالمون؛ مجرَّد صورة متقادمة ومتخافتة من صور العقاب التي تنتمي للقرون الوسطي، بل هو فعلٌ منتشرٌ تستخدمه أنظمة عديدة، وتُخضِعَهُ للتخطيط والتطوير، وتجتهد لاستحداث أساليب أكثر تأثيرًا كلما لزم الأمر.
ثبت صدق المرزوقي في كتاباته إلي حد بعيد، فقد تعرَّض التونسيون خلال عهده إلي قمع الدولة وعنفها، فحُبِسَ المدونون والصحافيون، وعُذِّبُوا بسبب اتهامات تتعلَّق بحرية الفكر والتعبير، كما أصدر هو بذاته وصفته الرئاسية؛ قرارات تقضي بتمديد حالة الطوارئ، بما يستتبعها من إجراءات قمعية لا حصر لها، وقد اعترف أحد وزراء حكومته باستمرار ممارسة التعذيب في تونس ما بعد ثورة الياسمين، وأعلن المجلس الوطني التأسيسي التونسي عن عزمه مساءلة وزراء الداخلية والعدل وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية بشأن أحوال التعذيب في مراكز الإيقاف والحجز، إذ تزايدت الحالات المبلغ عنها من طرف الضحايا.
يبدو أن السياسات نادرًا ما تتبدل، يروح أشخاص ويأتي آخرون وقليلًا ما تنقشع سحب الاستبداد والقمع. لقد كتب جان بول سارتر في نصه المسرحيّ »تاريخ حياة طاغية« حوارًا ربما يظل صالحًا لقرون مقبلة، يخطب فيه البطل الذي كان ذات يوم ثائرًا عتيدًا، إلي أن تَقَلَّدَ الحكم فانقلب طاغية مستبدًا: «أيها المغفلون الغلابة؛ تظنون أنكم ستغيرون السياسة لكن كل ما ستحصلون عليه هو استبدال أشخاص بأشخاص.. وأنت .. أنت ستسير علي نفس سياستي، لأنه لا سياسة أخري هناك لتسير عليها، وستجد الأعذار لسياستك خلال ثلاثة أو ستة أشهر من حكمك«.
خطاب النظام
تكاد الطرق المستخدمة لتبرير التعذيب وصبغه بالمشروعية وجعله مقبولًا من عامة الناس أن تتطابق لدي أغلب الأنظمة، حيث يبرز دائمًا وبشكل ثابت هذا المحتوي المتعلِّق بحماية مصالح الوطن العليا، والحفاظ علي أمن البلاد واستقرارها، وهو خطابٌ في العادة مُضللٌ، تُرَاقُ في سبيله الحريات كلها، ويحظي لشديد الأسف بتأييد شعبيّ واسع النطاق، فقسم عريض من الجماهير ينظرُ إلي تغليب مصلحة الوطن المزعومة علي الحقوق الفردية بشيء من التفهم والإقرار، وبالتالي يحظي القمع من هذا المنطلق بالمباركة والتضامن.
قد يصيب بعض الناس تسطيح انفعاليّ وعاطفيّ، يجعلهم لا يرون شيئًا أبعد من المادة التحريضية التي يجيد النظام تقديمها في خطابه، وبوسعنا أن نحصي عددًا لا بأس به من المواقف والوقائع، التي مال فيها الرأي العام إلي تشجيع الإجراءات الاستثنائية المشينة التي تتخذها السلطة ضد جماعة من الأشخاص المعارضين، ليس هذا فقط بل واتجه إلي مطالبتها بالمزيد، كي يتحقَّق الاستقرار التام، وندرك جيدًا أن فكرة «الاستقرار» تجد صدي طيبًا لدي شرائح اجتماعية متنوعة قد تقع علي طرفيّ النقيض؛ علي سبيل المثال هناك من ترتبط أعمالهم بوجود مناخ صالح للاستثمار؛ وهم ممثلو الطبقة المتوسطة العليا والعليا، وهناك أصحاب المهن الهامشية، الذين يتحصَّلون علي القوت بشكل يومي؛ وهم ممثلو الطبقة الدنيا والمعدمة. يعتمد أولئك وهؤلاء علي وجود قدر نسبي من الهدوء واستتباب الأوضاع، وقد تتضرَّر أعمالهم بشكل فعلي في وجود اضطرابات علي الصعيد السياسي واحتجاجات علي الأرض، وفي أغلب الأحوال تُلصَقُ أية أزمات ناشئة تعوق مزاولة هذه الأعمال أو تلك بالمعارضين، ومن ثم تتَّخذ السلطة منها بابًا للقمع يحظي بتأييد ممن تضرَّروا، كما تصبح قادرة بمقتضاها علي عبور المحاذير القانونية والأخلاقية علي حد سواء.
ربما لا ينخدع المتضررون بمبررات استخدام التعذيب، ولا بخطاب السلطة الذي تحاول فيه دمغ معارضيها بكل سوء وتشويههم، لكن الخيارات تبقي محدودة، والنُظم المستبدة تظل دومًا قادرة بأدواتها وأساليبها المتنوعة علي خنق فرص إقرار الحريات وتدعيمها، كما تظل تتلاعب بوعي الجماهير وإدراكهم عن طريق الخطاب الذي تستخدم فيه كل ما أوتيت من حيل ومهارات، كي ترسم صورة زائفة لها وللمعارضين أيضًا.
التصنيف والوصم: حين يقرِّر نظام ما استخدام التعذيب لقمع بعض معارضيه، أو لقمع أقلية دينية أو عرقية لا يفترض أن يعلو صوتها، فإنه يتبع نموذجًا تقليديًا ذا خطوات محدَّدة لا تتغيَّر بتغير شكل المعارضة وتوجهاتها؛ كخطوة أولي تبدأ الحكومة التي تمثل النظام ذا الطبيعة القمعية باتهام مجموعة من الأفراد في خطابها الرسمي بكونهم أعداء للوطن، وبأنهم يشكلون تهديدًا حقيقيًا لأمنه وسلامته، وللقانون الذي يجب الحفاظ عليه، ويتم الإعلان عن حتمية القضاء علي هذا التهديد؛ تحت أي ظرف و بأي ثمن.
هذه المجموعة من الأفراد، التي تُتَّهَمُ بالعمل ضد مصالح الوطن، هي في الأغلب المجموعة التي تُمَثِّلُ معارضة حقيقية، ذات قاعدة شعبية مضادة للنظام القائم، وهي في الأغلب أيضًا، المجموعة التي يُشَكِّل وجودها خطرًا علي بقائه في سدة الحكم، مع ذلك لا يخلو الأمر في بعض الأحيان من هجمات شرسة علي بعض المجموعات المعارضة الصغيرة، التي لا تملك أرضية جماهيرية لكنها تملك حزمة من الأفكار المزعجة، بحق، للنظام.
يتوحَّد النظام القمعي بالوطن، ويعتبر أن معارضته هي معارضة للوطن، وأن مناهضته والعمل علي إسقاطه لهي محاولات لإسقاط وتدمير للوطن، وتصبح مصلحة الوطن هي مصلحة النظام القائم، بغض النظر عن كونه فاسدًا، غير شرعي، أو مستبدًا.
عند هذه المرحلة، يصبح الاعتقال والتعذيب أمرين تلقائيين لا يقبلان الجدال، ويكتسب التعذيب مشروعية ظرفية في أذهان الناس لارتباطه بمحاربة الخطر المحدِّق بالوطن، بل وقد يصبح التعذيب ليس فقط مقبولًا بل ومحبَّذًا أيضًا، إذ يتم تصوير الأمر علي أنه معركة مصيرية ما بين الوطن وأعدائه، وربما نجد في الأشهر الأخيرة من عام ألفين وثلاثة عشر، ومطلع العام ألفين وأربعة عشر نموذجًا مثاليًا علي كيفية حشد وتجييش الأفراد واستعدائهم علي المجموعات المعارضة، بحيث يطالبون ليس فقط بالسيطرة عليها بل بمقاتلة أعضائها وربما إعدامهم، فإذا لمسوا تراخيًا من النظام لم يعد لديهم موانع من تولي دوره وسفك الدماء.
ربما يكون هذا »التهديد« الذي يُجَنِّد النظام أبواقه للإعلان عنه وتسويقه حقيقيًا، لكنه في أغلب الأحيان تهديد مصطنع، يفضح احتياج الأنظمة الاستبدادية الدائم إلي خلق أزمات وهمية تكفل لها الاستمرار في سياسيات القمع وكبت الحريات. تجلَّت بعض هذه الأزمات علي سبيل المثال في قيام النظام المصري بمطاردة حركات معارضة، لايزال بعضها في طور التكوين، ورسم هالة مفزعة حول أعضائها وأفكارهم، وادعاء خطورتهم الشديدة، رغم إدراكه إنهم لا يشكلون خطرًا حقيقيًا علي بقائه. علي كل حال ربما تكون محاولة تبرير استخدام التعذيب من النظام عملية عسيرة ومعقدة، لكن صك المبررات وصياغتها بمهارة، يجعلان الأمر مقنعًا لكثير من الناس، وبالتالي يُكسبانه الشرعية المطلوبة.
الخطوة الثانية هي خلق مؤسسة تختص بحماية أمن الوطن المهدَّد؛ «أمن الدولة» علي سبيل المثال. قد تتكوَّن هذه المؤسسة في بعض البلدان من أفراد أمن سريين، وأحيانًا من مجموعات عسكرية مسلحة، إلي جانب نواة غير تقليدية مؤلَّفة من عناصر مختصَّة بتنفيذ عمليات التعذيب، وتخضع تلك العناصر في العادة، وحال توفر الوقت وتخصيص الإمكانات اللازمة، إلي تدريبات مهارية محدَّدة، تمامًا كما يخوض هؤلاء الذين يمتهنون أعمالًا نادرة، تدريبات دقيقة وغير عادية.
يأتي بعد هذا وكخطوة ثالثة دور المجموعة المستهدفة، حيث يتم التعامل مع أعضائها باعتبارهم ضالعين في تشويه صورة النظام، وبالتالي تشويه صورة الوطن وسمعته، ويمكننا أن نلحظ هنا ذلك الربط المتواصل ما بين النظام والوطن. يصبح هؤلاء إذن من المارقين، المعادين للوطن، الذين يعملون علي إعاقة تقدمه، والذين لا يرحب أحد بوجودهم داخل النسيج المجتمعيّ، وعلي هذا يوضعون في مرتبة أدني من الآخرين المؤيدين للنظام، ويتم توصيفهم علي هذا الأساس خارج نطاق المواطنة، وربما يتم نعتهم من خلال الخطاب الذي يُعِدُّه النظام، بالإرهابيين أو العملاء، وبأنهم خوارج علي المجتمع ككل: الشيوعيون كفرة، الإسلاميون إرهابيون، الليبراليون عملاء، الثوريون بلطجية.
في مرحلة مبكرة يؤدي هذا الوصم إلي تمييز واضح ومُجحِف تجاه أعضاء المجموعات المستهدفة علي جميع المستويات، خصوصًا فيما يتعلَّق بآليات وروافد وأدوات الإثابة أو العقاب، وفي مرحلة لاحقة يصبح القضاء عليهم واجبًا وطنيًا. تتوالي سلسلة الانتهاكات التي تشمل علي سبيل المثال لا الحصر؛ الاضطهاد في العمل والدراسة، وتشويه السمعة، والاعتقال، والتعذيب، بل وأحيانًا القتل، ولا يعتبر التعذيب هنا أمرًا واردًا فقط، بل يصبح ضرورة لبقاء النظام، ومع توالي الضربات القاصمة وحال تحطيمهم، يتوجه خطاب النظام إلي الجماهير معلنًا انتصار «الوطن»، في رسالة ضمنية تؤكد علي نزع الهوية الوطنية عن أعضاء المجموعة المستهدفة.
يمكننا إذن تلخيص الخطوات السابقة في نقاط ست؛ أولًا: تضخيم الأخطار المحيطة بالوطن، ثانيًا: انتخاب مجموعة يُنسَب لها هذا الخطر، ثالثًا: تقديم كيان أو شخص ما قادر علي درء الخطر، رابعًا: طرح وسائل الحماية ومنها بالطبع استخدام القمع والعنف والتعذيب، خامسًا: رسم صورة برَّاقة لمرتكبي العنف والتعذيب وإقناع الجماهير بوطنيتهم وإخلاصهم، سادسًا: إضفاء المشروعية اللازمة علي انتهاك النظام للحقوق والحريات تحت راية إنقاذ الوطن.
قد لا يحظي النظام القمعي ورؤوسه بإحدي الشرعيات الثلاث المتعارف عليها؛ سواءً الشرعية التقليدية التي تنبع من حفاظ صاحبها علي القيم والأعراف المجتمعية المتوارثة، أو الشرعية الكاريزيمية التي تخلب لب الجماهير بطلاقة وجاذبية صاحبها، أو القانونية المحتكمة إلي صناديق الانتخابات والتي تعتمد علي الاستقطاب والتجييش. يجد النظام نفسه إذ ذاك مضطرًا إلي خلق شرعية جديدة يستظل بها، هي غالبًا تلك الشرعية التي يمكننا أن نطلق عليها شرعية »الإنقاذ«، إذ يُقَدِّم نفسه إلي الجماهير العريضة باعتباره مُخَلِّصها من الأخطار المُحَدِّقَة.
صك الشعارات: بين الحين والآخر، يقوم النظام القمعي بابتكار شعارات جديدة متنوعة يُلقي بها إلي الجماهير في محاولة منه لإعادة تشكيل وعيها وتزييفه بقدر المستطاع، بحيث لا تبدو الصورة العامة شديدة القتامة من ناحية، وبحيث يتمكن علي الناحية الأخري من تبرير وتنقيح ممارساته غير المشروعة في حق المواطنين.
لا يمكننا أن ننسي هنا ذاك النموذج الطريف في مجال صك الشعارات الداعمة لسلطة النظام، حيث تحوَّل شعار (الشرطة في خدمة الشعب) منذ سنوات خلت وبقرار مفاجئ في عهد حبيب العادلي، إلي شعار آخر يحمل دلالة بليغة هو (الشرطة والشعب في خدمة الوطن)، وتلك دلالة يندر أن يخطئ أحد فهمها، ففي حين كان واجب الشرطة، كما نص الدستور، هو حماية وخدمة الشعب، هدف التغيير، كما بدا، إلي إلغاء هذا المفهوم تمامًا، واستبعاد الشعب من موقعه باعتباره مكونًا أساسيًّا من مكونات الوطن، وكأنما يمثل الوطن كيانًا مستقلًا، تلزم حمايته، ربما من الشعب ذاته. أدي هذا التغيير نظريًا إلي إعطاء صلاحيات أكبر لجهاز الشرطة في سبيل الحفاظ علي الوطن، كما أعطي مجالًا أوسع وأكثر أمنًا واستيعابًا للتجاوزات، إذ صار الجلادون يرفعون أمامهم، وفي وجه المدافعين عن حقوق المواطن رمزًا أكثر قدسية ألا وهو «الوطن».
لم يؤدِ الشعار الجديد عمله علي الوجه الأكمل، فالجمع بين الشرطة والشعب ووضعهما في قارب واحد يستهدف «خدمة الوطن»، لم يكن له معني في الأذهان سوي إجبار المواطنين علي أن يصبحوا عملاء للنظام؛ مخبرين أو مرشدين. لقد فقد الشعار معناه المرجو وتحوَّل إلي النقيض. علي كلٍ، حَكَمَ القضاء فيما بعد بعدم شرعية تغيير الشعار القديم «الشرطة في خدمة الشعب»، وأمر بإعادته مرة أخري، لكن وزارة الداخلية لم تُذعِن للحكم إلّا بعد تلقيها ضربات موجعة في الأيام الثلاثة الأولي لثورة يناير، اضطرتها إلي الانسحاب أمام غضبَة المواطنين، ثم التنازل عن بعض مكتسباتها. عاد شعار الشرطة في خدمة الشعب ليس فقط بمقتضي النص الدستوري والحكم القضائي، بل بالانتصار الجزئي الذي تحقق للثائرين، والذي مكنهم من فرض خطابهم الثوريّ في بعض المناحي، ولهذا مقال آخر سوف أتطرق إليه فيما بعد.
بعض الشعارات التي تنتجها النظم القمعية قد تُقَابَلُ مِن الجماهير الفَطِنة بوابلٍ من السخرية اللاذعة، مثلما حدث مع شعار «بلدنا بتتقدم بينا» الذي أنتجه نظام مبارك في أواخر فترة حكمه، وقام ببثه من خلال إعلان تليفزيوني في إطار حملة لتوظيف الشباب المقعد بفعل البطالة. هناك أيضًا شعار «من أجلك أنت» الذي استخدمه مبارك الابن بكثافة، وقد استغل الساخرون هذا الشعار الأخير تحديدًا في شن هجوم مضاد، حيث صارت عبارة »من أجلك أنت« تشير إلي المعتقلات المفتوحة وعمليات التعذيب الممنهجة، وقد صاحبتها في بعض مواقع التواصل الاجتماعية صور الزنازين وعربات الترحيلات.
ينضم إلي الشعارين السابقين شعار آخر أكثر حداثة، خرج إلي الوجود بعد ثورة يناير لكنه بدا أكثر مدعاة للسخرية والتنكيت؛ فقد صرَّحت المؤسسة الأمنية في خطاب دراميّ مؤثر عن اعتزامها صرف "تي شيرتات" لجنود الأمن المركزي، تحمل عبارة «إحنا معاكم»، كي يرتدوها أثناء خدمتهم في أوقات التظاهرات. لم يخلُ هذا الشعار من غموض، فالضمير الموصول بكلمته الأخيرة يصعب رده إلي جماعة معينة أو تيار ما من التيارات المتناحرة. لا يدري من يُطالع الـ "تي شيرت" إلي أي فصيل ينحاز الأمن المركزي بشعاره الجديد؛ مَن سوف يحمي ومَن سوف يضرب، ومَن سوف يقتاد إلي معسكرات التعذيب. علي كل حال لم يتم تنفيذ هذا التصريح علي أرض الواقع واكتفت المؤسسة الأمنية برفع شعار «شرطة الشعب».
التهميش مقابل المبالغة: يمكننا أن نلحظ في خطاب النظام ومؤسساته الأمنية والإعلامية علي حد سواء، ميلًا مستمرًا إلي تهميش الانتهاكات الحقوقية التي تصيب المواطنين وبخاصة وقائع وقضايا التعذيب. يَتَطَرَّقُ الخطاب الرسمي إلي هذه القضايا باعتبارها أمورًا فرعية تافهة، لا يجب أن ينشغل الناس بها، وفي سبيل تقزيمها وفض الجموع من حولها يُعَادُ تشكيل الحدث والسياق الذي جري فيه بحيث يفقد ضحاياه التعاطف. يتم انتقاء بعض الجوانب السلبية المتعلِّقة بهؤلاء الضحايا وإبرازها وتضخيمها، ثم يجري تطعيمها بما يطغي علي القضية الأساسية، وأخيرًا تُقَدَّمُ وجبه شهية إلي الجمهور تصرف أنظاره تمامًا عن الجرم الواقع بحق الضحية وتوجهه نحو إدانتها. يُلاحَظُ علي سبيل المثال، إن الخطاب الأمنيّ تجاه واقعة وفاة محتجز في قسم شرطة أو سجن، يبدأ دومًا بتحقير المحتجز، والحط من شأنه، ثم تفصيل الجرم الذي اتهم به والمبالغة فيه والتخويف من خطورته، ثم يأتي بعد ذلك التعامل مع أسباب وظروف الوفاة الجنائية بشكل مقتضب وفي مساحة أقل بكثير من المساحة المفرودة لوصمه أمام المجتمع. قد تظهر الأخبار الواردة في الصحف بصياغات من قبيل هذا النص المُتَخَيَّل: «لقي مسجل خطر مصرعه في أحد السجون، حيث كان يقضي عقوبة السجن لعشرة أعوام لاتجاره في المخدرات، وقد أشار مصدر أمني إلي أن المسجون اتهم من قبل في عدد من قضايا السرقة بالإكراه، وأنه كان دائم الاعتداء علي المحلات والمقاهي لجمع الإتاوات من أصحابها، كما سبق له الاشتراك في جريمة اختطاف، وقد ألقي القبض علي أحد أصدقائه أثناء زيارته في السجن لمحاولته تهريب المخدرات داخل أرغفة الخبز والطعام، وسوف يتم تشريح الجثة لبيان سبب الإصابات الموجودة عليها».
يمكننا أن نجد نماذج كثيرة لهذا الخطاب، سواء فيما هو منطوق من خلال الشاشات أو ما هو مقروء في الصحف والمجلات؛ حيث يتنحي الخبر الأهم وهو وفاة المسجون لصالح التفاصيل الهامشية الأخري التي لا تبيح في الأحوال كافة قتله خارج إطار القانون، ولننظر مثلًا في الخطاب الأمني تجاه قضية مقتل أحد النشطاء السياسيين، والشكوك التي ثارت حول اختطافه وتعرضه للتعذيب. لقد تطرَّق الخطاب مِن فوره وقبل أن يعطي معلومات كافية عن ملابسات الأمر إلي إبراز العثور علي قناع أسود مما يستخدمه أعضاء جماعة تدعي «البلاك بلوك» داخل ملابس الشاب المتوفي، وهو ما يوحي للقارئ بأن هذا الشاب ربما كان خطرًا وغير موثوق فيه، وأنه ربما قام بأعمال غير مشروعة. تصبح تلك هي القضية الأساسية، وينصرف اهتمام القارئ إليها وإلي الجماعة المذكورة، بينما لا يهتم كثيرًا إن كان الشاب قد تعرَّض إلي التعذيب والقتل. لننظر أيضًا في قضية خالد سعيد الشهيرة، حيث اتجه الخطاب الأمني إلي البحث عن سوابق إجرامية لدي الشاب بحيث يمكن التركيز عليها وتضخيمها، وإهمال واقعة قتله علي أيدي عدد من أفراد الشرطة، ولقد أبرزت وسائل الإعلام في عناوينها مطلع العام ألفين وأربعة عشر، أن الضحية «كان يضع وشمًا علي ذراعه وهو علامة للمسجلين خطر ومعتادي الإجرام»، ولقد تم اقتطاع هذا العنوان من مرافعة دفاع الجلادين المتهمين بتعذيبه حتي الموت.
أخيرًا يمكننا مراجعة تلك الواقعة التي قام فيها بعض معتصمي ميدان التحرير باحتجاز شخص ملتح كانت له مواقف سابقة مناهضة لهم، إذ تصادف مروره بالمكان. ذُكِرَ الخبر في عدد من الصحف حيث جاءت سطوره الأولي بصياغات متشابهة: «ألقي معتصمو ميدان التحرير القبض علي محمود شعبان الداعية السلفي وبحوزته حوالات قادمة له لمساعدة المجاهدين في سوريا، كما تم العثور في سيارته علي واق ذكري». عمد الخطاب الإعلامي هنا إلي تهميش الحدث الأصلي؛ وهو قيام مواطنين لا صلاحيات أمنية أو قضائية لهم بإلقاء القبض علي مواطن آخر واحتجازه دون وجه حق، وقد أبرز الخطاب نفسه وجود «واق ذكريّ» في سيارة هذا المواطن، رغم أن الواقي الذكري لا علاقة له بالأمر علي الإطلاق، ومن الجليّ أنه قد ذُكِرَ بهذه الطريقة المُبَالَغ فيها لمجرد إثارة الشكوك حول سمعة الرجل، وإعطاء إيحاءات جنسية تنتقص من كونه ملتحيًا، ومنتميًا لتيار دينيّ، والمبطن هنا بالتالي هو رغبة النظام في إسقاط الشخص المقصود من موقعه علي الساحة السياسية، بعد أن انتهي دوره.
إن خطورة هذا الخطاب لا تتمثَّل فقط في عبثه بحقوق الضحايا، بل في تلاعبه بوعي الجماهير عن طريق التتابع السرديّ المضلِّل؛ فحين تأتي المقدمة لتُحَقِّر مِن الضحية، وحين يمتلئ المتن بوصمات أخلاقية تشينها، ثم يُذكَرُ ما تعرَّضت له من عنف وتعذيب كحدث ثانوي لا يستحق أن يوليه القارئ الانتباه، تصبح الأذهان شيئًا فشيئًا ممهدة لقبول تلك الأطروحة؛ إن التعذيب ممكن ومقبول، وإن ممارسته تجاه المخطئين أو أصحاب السمعة السيئة أمر منطقي لا يستدعي التوقف أمامه، وإن التعذيب دائمًا ما يجري علي خلفية ارتكاب الشخص مخالفة للقانون، وإن مساءلة مرتكبيه في هذه الحالة لهي من العبث والتَزَيُّد.
التجهيل والتعميم: تعمد الأنظمة القمعية في أحايين كثيرة إلي الإبقاء علي شيء من الغموض حول المجموعة التي تصنفها في خانة العدو، إذ يترك لها هذا الغموض مساحة من حرية الحركة، كما يتيح لها ضم المزيد من الأشخاص المعارضين، وحين يُنتِجُ النظام خطابًا تهديديًا فإنه لا يخُصُّ بالتهديد أشخاصًا معيَّنين، ولا يُسَمِّي مجموعات محدَّدة، بل يكتفي بالتلويح بعبارات عامة مبهمة مثل «العناصر المخربة» أو «الفئات المضللة» أو «الشباب المغرر به» وما إلي ذلك من مسميات فضفاضة مطلقة.
يمكننا في هذا الصدد أن نطالع خطاب أحد وزراء الإعلام متحدثًا في برنامج تليفزيوني شهير: «لا داعي للفوضي والأجندات الخاصة والخارجية وتنفيذ مطالب لعناصر لا ترعي مصلحة الوطن»، يأتي هذا الخطاب دون أن يضع تعريفًا أو توصيفًا محدَّدًا لتلك «الأجندات الخاصة»، ودون أن يسمي مباشرة هذه العناصر «التي لا ترعي مصلحة الوطن». يمكننا أيضًا أن نشير إلي خطاب أحد قادة المؤسسة العسكرية مُتَّهِمًا «بعض التنظيمات السياسية» بأنها «تشوش أفكار الشباب وتتبني أفكارًا هدامةً ضد مصالح الوطن»، لا يسمِّي صاحب هذا الخطاب أيضًا أيًا من تلك التنظيمات بوضوح، ولا يذكر ماهية تلك «الأفكار الهدَّامة»، وكيف تزاول الهدم. هناك أيضًا الكثير من الحوارات والنصوص التي حذَّر فيها مسئولون أمنيون، ومنهم علي سبيل المثال مدير المباحث الجنائية، مَن وصفهم بأنهم «العابثون والمخربون»، من عواقب وخيمة، بغير أن يُسَمِّي منهم شخصًا واحدًا.
يري أساتذة وعلماء تحليل الخطاب أن هذا التجهيل ربما ينال من قدر المجموعات المناهضة للنظام، ويضفي عليها قدرًا وافرًا من التهميش والاحتقار، ويجعلها بانتقاده المستتر محل ازدراء ممن يتلقون الخطاب، وبالتالي يغدو التنكيل بها أمرًا مقبولًا وطبيعيًا، مع هذا لا نستطيع إنكار ما للغموض بوجه عام من هالة مثيرة وجاذبة قد تحدث أثرًا معاكسًا في المتلقين، فالحديث دون إفصاح يستجلب الفضول، ويسبغ شيئًا من الخطورة والجدية علي الموقف بأكمله، وإذا نزعنا عن الخطاب المفردات المسيئة المشوهة للمجموعات المقصودة به، لاستقبلنا إشارات متعدِّدة علي وجود معارضة حقيقية وقوية تتهدِّد النظام وتؤرِّقه، قد تثير إعجاب المتلقي لا امتعاضه.
بينما يستخدم النظام خطاب التجهيل بهدف النيل من أعدائه، قد يستخدم التعميم بشكل مختلف تمامًا؛ فرجال الشرطة قد يعلنون في بعض الأوقات عزمًا وإصرارًا علي الانحياز الكامل إلي «المواطنين»، وقد تطلق المؤسسة الأمنية من حين لآخر تصريحات تزعم فيها الوقوف إلي جانب «الشعب» في خندق واحد، ورغم هذا الخطاب الذي يبدو في ظاهره براقًا، فإن المدقق فيه لا يتمكن من فهم أي مواطن علي وجه التحديد هو المقصود بهذا الانحياز، ولا أي طائفة أو فئة من الشعب هي التي ستحظي بالدعم الشُرَطيّ، فمناهضو النظام ومؤيدوه جميعهم مواطنون، والشعب يضم مجموعات كثيرة بعضها متآلف والبعض الآخر متناحر، والأولي بخطاب أي مؤسسة أمنية أن يؤكد حمايتها للقانون، وحرصها علي تساوي الجميع أمامه. ربما يتركنا هذا الخطاب التعميمي أمام رغبة المؤسسة الأمنية في استمالة السواد الأعظم من الناس وكسب تعاطفهم وتأييدهم، بما يُيَسِّرُ لها فيما بعد ارتكاب الجرائم والانتهاكات تحت غطاء شبه شرعي، وبقدر من التوافق يظلله عنوان عريض براق هو «الشرعية الشعبية».
إعادة تعريف المفاهيم: إن إعادة تشكيل المعاني والمفردات وخلخلة المفاهيم، وإطلاق أوصاف تجافي ما استقر في وجدان الناس، ثم العمل علي إحلالها وترسيخها في عقولهم محل تلك التي أصبحت غير صالحةً للاستهلاك، وغير قادرة علي حفظ ماء وجه النظام؛ إنما تمثل آليةً ناجحةً ومثمرةً إلي حدٍّ بعيدٍ، فعن طريقها يمكن فرض خطاب تغييبي متكامل، ورسم صورة جديد للسلطة، وخلق مراكز قوة ونفوذ لم تكن موجودة من قبل، وتصنيف الأفراد بما يطيح بالمعارضين منهم بعيدًا عن الساحة، ويفسح طريقًا ممهَّدًا أمام الموالين.
يصبح لدينا علي سبيل المثال؛ «مواطن صالح»، أو بتعبير شبيه «مواطن شريف»؛ ويمثل المفهوم بعد إعادة التعريف والتشكيل والتلاعب، ذاك المواطن الذي يسير في ركب النظام ولا يعلو صوته معارضًا أبدًا. يرسِّخ النظام التعريف الجديد أيًا كان، ويلح عليه في خطابه، ولا يخفي علي ذي بصيرة أن هذا التعريف يفضي إلي معني مناقض لما يراد منه تمامًا. يقتضي »الشرف« في الأحوال الطبيعية عدم السكوت عن الحق، والوقوف في وجه الباطل، أو علي أقل تقدير كف يد العون عنه. مع ذلك وفي ظل نظام قمعي لا ينفك يهتك حقوق مواطنيه، قد يكتسب الشرف معني مختلفًا يمكننا أن نراه في خطاب أحد رؤساء جهاز مباحث أمن الدولة السابقين: «يكفينا شرفًا نجاحنا بتوفيق من الله ودعم المواطنين الشرفاء في القضاء علي بؤر الإرهاب التي كانت تؤرق الشعب». هل يكون المواطن الشريف هنا هو المضحي بوقته وراحته وسلامته من أجل الآخرين؟ ربما؛ لكننا لا يجب أن نغفل أيضًا احتمالية كونه الواشي، المتعاون مع الأجهزة الأمنية، الذي يسهم في الإيقاع بأعداء النظام المفترضين أي بالمعارضين له، وهو عمل لا يتعلَّق في هذه الحالة بمفهوم الشرف الذي تعارف عليه الناس.
في كل زمان ومكان، سوف نجد مرادفًا ما لتعبيرات خبرناها في مواقف عدة، مِن قبيل القلة المندسة، وأعمال الشغب، والثوار الحقيقيين. أما الذي يحدِّد «من» و«ما» تشير إليه هذه التعبيرات علي أرض الواقع، فهو انتماء المنتصر وقبلته، إنها كما أشار علماء البلاغة والخطاب، تسميات يفرضها المنتصر، ويرسخها انتصاره، ويحذف من أمامها ما يناقض محتواها أو يثير التشكك فيها.
تتبع الأفعالُ المسميات، ومِن ثَمَّ فإن خطابًا للمؤسسة الأمنية يقول: «إن رجال الشرطة سوف يواجهون أي أعمال عنف أو تخريب بمنتهي القوة»، قد يتغير في حال قيام ثورة ناجحة تقوض أركان النظام القائم، وفي هذه الحالة تصبح «أعمال العنف والتخريب» بعد إعادة التعريف بمثابة «ثورة مجيدة»، كما يغدو «العابثون والمخربون» هم «الثوار الحقيقيين»، وتبعًا لتوجهات النظام قد يلحق بأذيال تلك التغيرات «رجال الشرطة» أنفسهم؛ فيمحو الخطاب اللاحق ما سبق وارتكبوه ضد المواطنين، ويؤكد علي الجهد الذي بذلوه لحماية الثورة المجيدة، مُؤَرِّخًا لدورهم الإيجابي فيها، وحامدًا لهم حسن تعاونهم مع الثوار الحقيقيين، وهو أمر صادفناه لمرتين متتاليتين بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.
التعذيب والولاء للمنهج
فيما يخص هؤلاء الذين يملكون منهجًا واضحًا للحكم، سواء كان ذا طبيعة دينية أم عسكرية أوغيرها، فإن ارتباطهم بمنهجهم وتشرُّبهم له يلقيان دون شك بظلالهما علي عملية الحكم بأسرها، وفي إطار سعيهم إلي تطبيق هذا المنهج وفرضه علي الجماهير وفي مقدمتها، بكل تأكيد، المعارضون، يمكننا أن نتوقع انتهاكات عديدة. قد تطغي رغبة المرء في ترسيخ منهج أو تطبيق نظرية ما علي توازن رؤيته، وقد تدفعه إلي التغاضي عن أمور كثيرة مؤرِّقة ما كان ليتغاضي عنها نظريًا تحت أي ظرف، وقد تصبح الصورة النهائية التي ينتجها مشوَّهة رغم نبل المقاصد المعلنة.
يُقال إن المرء كلما ازداد تشبعًا بأفكار ومبادئ عقيدة يؤمن بها، حَلَّت بقِيَمها ومفرداتها مَحَلّ مكونات شخصيته، وعلي ضوئها تتشكَّل علاقاته بالآخرين وتتحدَّد مجموعات الأصدقاء والأعداء، وحين يشق طريقه باتجاه السلطة يصبح أصحاب العقائد المناوئة هدفًا لعمليات تنكيل مشروعة ومبررة، وتنفرط تدريجيًا أية قيود أخلاقية علي الوسائل والأدوات المستخدمة ضدهم، وتصبح أمورٌ كالتعذيب والاغتيال والقتل الجماعي غير مرفوضة ولا مستهجنة رغم أنها قد تجافي مبادئ عقيدته نفسها. هكذا قد تشكل بعض العقائد والمناهج السياسية أو الدينية جسورًا لعبور محاذير كثيرة، حيث تمسي الانتهاكات المروِّعة، بمضي الوقت وبفعل الاعتياد، مجرَّد ممارسات طبيعية يقوم بها المرء بلا أدني مراجعة أو تفكير.