كلَّما بلغ القمر
فدوى سليمان
ا
لي قوَّةُ الفراشةْ
وضعْفُ ثورْ
ولي هشاشةُ الجبالْ
وصلابةُ خيط العنكبوتْ
ولي ضجيجُ أَرْجُلِ النملةْ
وصمتُ البحر
ولي موتُ الحياةِ في الشَّرنقةْ
وحياةُ الموتِ في السَّائرِينْ
وخُضْرةُ أوراقِ الخريفِ
واصفرارُ العُشبِ في آذارْ
ولي تمُّوزُ
لنْ يعودَ بتمُّوزْ
ولي مِنَ الأيَّام لحظةْ
حين يأخذُ القلبُ استراحتَهُ الأبديَّةْ
لينتهيَ كلُّ شيءْ
ليكونَ لي
ما لَـمْ يـبدأ بعد
أو بَدَأ.
باريس، 2 تشرين الأول 2012
«لا نحرسُ الحيَّ بالحارس
بل نحرسُ الحيَّ بالحيِّ
ولا نحرسُ الأموات»
حمص، 11 كانون أول 2011
اغتراب
تجتاحني العَتَمة
فلا أنوار في هذي المَتَاهة
النارُ قد أبصرتُها نُوراً
فأعْمَتْـني
وتُهْتُ
أَمسكتُ بالبُشرى
لكنَّها أَحالَتْـني شظايا
ألْصَقْتُ أشلائي
وبُحْتُ بها لِـمَ انعكسَ إليَّ
ولِـمَ أرى في الانعكاسِ العكسَ
لَمْلَمتُ صوتيَ علَّني أسمعْ
ناديتُ
فرأيتُ صُورتَهُ التي كانت
ولَـمْ تَكُنْه الآنْ
هُمْتُ بالَّتي عادتْ إلى الوراءِ بي
إلى شيءٍ فَقَدتُه
وعلى رصيفِ اللاجئينَ تَبَخَّرت
وأنا رمادُ العارفينَ بكلِّ ما وَهِمُوا
سَقَطْتُ
عَدَمٌ في أنْ يكون هناكَ قد قُتلتَ
وهاهنا لا يَدفنُونكْ
سآخُذُنُي
وسوف أعودُ لا لأعودْ
بل إنَّه عَودٌ
لألقى نهايتي الَّتي شئتُ
باريس، 8 تشرين أول 2012
عَلِقَتْ على أطرافِ أصابعي الكلماتْ
لا أُسْقِطُها
ولا تُسْقِطُني
لا أُطرِّزُها حكاياتٍ على الجُدران
ولا أَعْزفُها على أوتارِ حنجرتي
لا تُلوِّنُني ولا أرسمُها
لا أرقُصُها
ولا تَتْركُني تمثالاً من حَجَر
لا أسْتَفْرِغُها
ولا تَخْرجُ مِنْ بُرجِ جُمجمتي
لا أَلِدُها ولا تَلِدُني
أبحثُ مِنْ حَولي عن نهرٍ
لأرميَها فيه
فتَعضّني الأسماكْ
أُطْعِمُها لسرطانِ البحر
فيُمسكُ بكلَّاباتِهِ قَدَمَيَّ
أرمي لهُ بآخِرِ ما تبقَّى من حُروف
فيُسْرِعُ لالتقاطها
أمشي بخُطىً من ماءٍ ودَمْ
فيَلْتَقِطُني نسرٌ بمنقارِهْ
فوق أسوارِ عُشِّهِ
تُمزَّقُني فِرَاخُهْ
فأعيش خلايا في أبصارهمْ
ستَـنْقضُّ على اللَّاشيءْ
باريس، 3 تشرين الثاني 2012
على حافَّةِ هذه الهاوية
أتأرجحُ ما بيني وبيني
لا أَسْقُطُ
ولا أَعُودُ مِنْ حيثُ جئتْ
تُطوِّقُني المرايا
فتُسْقِطُ كلَّ وجوهي
وتُوصِدُ من حَولي الـمَعابرْ
باريس، 12 تشرين أول 2012
وما زالتِ النَّاياتُ تَبكي حكايتَها
وما زالتِ الأمُّ تـنتظر
تَتَسَرَّبُ عَصَا الريحِ
مِنْ شُقُوقٍ لا أراها
تُبَعْثرُ أفكاري
كنُدَفِ القُطن
أَسْتَلُّ قَلَماً مِن شمس
أَغْمِسُهُ في القمرْ
كي لا يَتَبلَّلَ فمُ النهرِ
ويَفيضَ بالأَسْودْ
حتَّى إذا ما تَحَطَّمتِ الألواحُ
وعادتْ إلى أصْلِها الطِّينيِّ
ورَحَلَتِ الكلماتُ
لتـنامَ في قُرصِ الكونْ
تبقى هذهِ الكلماتُ
سابحةً في فضائهْ
تبحثُ عن أَمَلْ
لا شيء يمنع الكنبة الكبيرة من أن تكون تابوتاً
رشا عمران
طائرة ورقية للسوري تمام عزام
1
ليس عليَّ أن أجرح إصبعي بالسكّين
أعرف جيّداً لون الدم
كلّ صباح أراه على مخدّتي
كوردة حمراء
تركها عاشق الليلة الماضية
2
طويلاً انتظرتُ صوتَ جرس الباب
كنتُ أدرك أن لا أحد سيأتي
وأن الطعام الذي أعدُّه لشخصَين
ليس أكثر من احتيال على الوقت
الوقت الذي حوَّل غرفتي
إلى دائرة صغيرة
صغيرة جداً
كما لو كانت
عين ساحرة
في أعلى الباب
3
تتوزَّع الأشياء على الطاولة
كتب مبعثرة
آنية بورود تبدأ بالذبول
نظارة شمسية
علبة مُسكّن للصداع
كيس مناديل ورقية ممتلئ
قطة فرعونية سوداء
قطعة خشب تنتظر إناءً ساخناً
هناك ما يوحي بالحياة على الطاولة
تحت الطاولة
ثمة فراغ أبيض
فراغ أبيض ناصع
كقبر بلا شاهدة
4
فجأة أكتشف
أن قلبي مركون في زاوية الغرفة
وأن خيوط العنكبوت تلتفُّ حوله كما لوكان حجراً ترابياً قديماً
حين أمدُّ يدي كي أحمله
يتفتَّت بسهولة نادرة وتمتلئ يداي بالتراب
كلُّ ما عليَّ فعله وقتها
أن أحضر بعض الماء كي أُعيد تشكيله
ثم أضعه على الطاولة
الطاولة نفسها
التي أضع عليها ما اقتنيته
من الآثار المغشوشة
5
أن أمسك منشاراً حاداً
ثم أحزُّ به الحائط الذي بجانبي
ثم أستخرج من الحائط قطعةً نابضةً
أن أتامَّل القطعة بزهو
ثم ألفّها بهدوء كما تلفّ سيجارة حشيش
ثم أشعلها وتنطفئ
وأشعلها وتنطفئ
ثم أمضغها كي أشعر بالانتشاء
ثم أُخرج ما تبقى منها في فمي وأضعه في منفضة السجائر
ثم أتأمَّلها جيداً لأكتشف:
أن الحائط لم يكن غير جسدي
والقطعة في المنفضة هي قلبي
بينما أسنان المنشار
ليست سوى ما اختبرته من الحب في حياتي
حينها سأدرك تماماً أن المكان الذي أنا فيه الآن
ليس أكثر من غرفة خانقة بلا أي منفذ للهواء
وأن ما أفعله هنا
هو أن أشبه نفسي كلَّ يوم
دون أية رغبة مفاجئة
6
غيَّرتُ ملاءات السرير
غسلتُ أطباق الليلة الماضية
تابعت فيلماً رومانسياً تافهاً
فعلتُ كلّ ما تفعله امرأة المنزل العادية
لكنني حين أردتُ النوم
وجدت جسدي ممدَّداً على السرير
مطعوناً عشرات المرات دون أن تنزل منه قطرة دم واحدة
وعلى امتداد أرض الغرفة نحو السرير
كان الرماد يملأ المكان
بينما لـمْ يـبقَ مني منتصباً سوى سبَّابتي اليسرى
وعينيَّ العاتمتَين
تراقبان المشهد بذهولٍ ثم تختفيان هما أيضاً
بين أكوام الرماد
وحدها السبَّابة ظلَّتْ معلَّقةً في الفراغ
كشاهد
على حياة امرأة منزل عادية
كانت هنا قبل
ساعات قليلة
7
يحكي لي حكايات ماقبل النوم
يمسح بيده على شَعري ليسكن قلقي
يرفع اللحاف إلى كتفيَّ العاريتَين كي لا أُصاب بالبرد
ينتظر أن أستيقظ كي يقول لي: صباح الخير
يراقبني وأنا أشرب القهوة
وأنا أتناول طعامي
يعترض على تدخيني المتواصل
وعلى عادة الكسل عندي
يختبئ في الغرفة الخلفية كلما زارني أحد الأصدقاء ويستمع كما المخبر إلى أحاديثنا
وإن أحببت رجلاً يحاول أن يتوارى كما لو أنه طيف في ظلام الغرفة
أو يبدأ بخدشي احتجاجاً كما لو كان قطاً يغار على صاحبته
لا يقترب من باب البيت كلما انفتح
ولا يقترب من النافذة الوحيدة
وكلما حاولت الإمساك به كي أُخرجه من حياتي
التصق تماماً بالحائط وتماهى معه كلوحة قديمة
لا يرى امرأة غير
ولا يخونني مع صديقاتي
وحين أبحث في نفسي عن مشاعر نحوه
لا أجد شيئاً
أنا لا أحبّه ولا أنا أكرهه
ما بيننا هي علاقة ألفة يومية
تحدث بين أيّ زوجين عاديين
الفارق فقط أنني أنا امرأة مطلَّقة منذ زمن طويل
بينما الموت يصرُّ منذ سنة كاملة على التعامل معي
كزوجته الشرعية.
8
بقلم أسود باهت أرسم على الحائط الأبيض ساعةً كبيرةً
وأُحدّد الوقت على الثانية عشرة
ثم كل يوم أنتظر أن يتغيَّر الوقت
بلا فائدة
شيئاً فشيئاً بدأت خطوط الساعة تختفي
الدائرة
العقارب
الأرقام...
وحده رقم 12 بقي كما هو :
ظلّأسود باهت
في فراغ الحائط الأبيض
9
أذهب إلى المطبخ
أتأمَّل السكاكين التي اشتريتها قبل مدَّة
أحمل واحدة منها
وأعود إلى الغرفة
على الجدار الفارغ
أرسم ظلاً لقاتل ما
وبالسكين التي بيدي أحفرفي الحائط كي أنتزع كبده
وحينما أنتهي
أعود إلى المطبخأضعالكيدالأسود في كيس بلاستيكي
ثم أفتح الباب وأضعه أمام القطة التي تموء بجواري
وحين أعود ثانية إلى غرفتي
أكتشف أن حائطي امتلأ بظلال عشرات القتلة
يتناوبون على حمل السكين ويتَّجهون نحو سريري
بينما القطة في الخارج
ما زالت تموء بانتظار المزيد
10
كلّ مساء أجلس فوق خرائب غرفتي حافية القدمَين
وأضع عليَّ لحافاً عتيقاً يقيني من البرد
اللحاف الذي سرقته ذات يوم من صندوق كان في بيت جدّي
بينما عيناي تراقبان الدود يخرج من طرف اللحاف المثقوب
ويزحف فوق قدميَّ الحافيتَين
ثم يختفي بين الخرائب
وهكذا...
لا أحتاج زلزالاً كي أرى جدران غرفتي تتهدَّم
يكفي أن أحدق في المرآة المقابلة لي .
11
لا شيء يمنع الكنبة الكبيرة من أن تكون تابوتاً
غير يدي اليسرى التي تُرتّب المساند الملوّنة
بينما تشتهي اليمنى أن تصبح حبَّة دواء لنوم طويل
وهكذا
يمرُّ الوقت وأنا حائرة بين الرغبتَين
كما لو كنت الطفلة في دائرة الطباشير القوقازية
بانتظار أن أعرف
أيهما هي الرغبة
الأكثر أصالة.