صالح علي شرنوبي
ولد في 26 مايو 1924
موطن الميلاد مدينة بلطيم بمحافظة كفرالشيخ
حفظ القرآن الكريم وعمره 10 سنوات
حصل على الابتدائية من معهد القاهرة عام 1939
حصل على الثانوية الأزهرية من المعهد الأحمدي بطنطا عام 1947 في عام 1947
فشل في الالتحاق بدار العلوم بعد أن اجتاز الامتحان التحريري ، ولكن القدر ترصده في شخص أستاذ الشريعة في الامتحان الشفهي للقرآن الكريم
خلف صالح الشرنوبي عدة دواوين وبعض الأزجال والقصص القصيرة والمسرحيات ، وقصائد النثر والشعر الحر جمعت كلها في مطبوع ضخم ( 675صفحة ) في سلسلة " من تراثنا " مع مقدمة عملاقة للدكتور عبد الحي دياب
قال فيه صديقه عبد العليم خطاب مداعبا
فتى من نسل أيوب
نظيف الجيب شرنوبي
أضاع الدين والدنيا
وباع الدر بالطوب
كمن غنت وهزت خصرها بين السراديب
كذاك الشاعر العربيد
بين الغاب والكوب
وأحنى رأسه طوعا
بسلطان الألاعيب
وقضى عمره ضيفا
بمستشفى المجاذيب
وبالفعل كان أهله قد أدخلوه مستشفى العباسية للأمراض العقلية بناء على نصيحة طبيب
فأثناء دراسته الثانوية بمعه طنطا الأزهري عام 1944 كان أحيانا كثيرة يغلق على نفسه حجرته ويمكث فيها وقتا طويلا وأحيانا كثيرة كان يعنف به توتره النفسي أثناء كتابته لبعض القصائد فيعلو صوته حتى خيل لأهله أنه فقد قواه العقلية
يحكي أحد أقاربه وهو الأستاذ فتحي الشرنوبي على لسان الدكتور محمود جامع وكان زميله في المعهد وأستاذهما فيه الشيخ محمد متولي الشعراوي
وقف الثلاثة أمام المعهد يوما ينتظرون الأوتوبيس فمرت عليهم فتاة متسولة رثة الثياب ذات وجه جميل فأعطاه القرش الوحيد في جيبه وقال لها
لوجهك لا لوجه الله مما أغضب الشيخ الشعراوي فعنفه وقبح قوله
وعاد يومها صالح إلى بيته سيرا على الأقدام فوصل متأخرا فسألته أمه عن سبب تأخره فحكى لها القصة
وهنا رأته أسرته مجنونا بحق فأرسلوه إلى مستشفى المجانين وما هو بمجنون لكنها طبائع الشعراء المجنونة التي تجعلهم يقومون بمثل هذه الأعمال
وفي مستشفى المجانين حاول صالح جاهدا أن يقنع الأطباء أنه بكامل قواه العقلية وقرأ عليهم بعض أشعاره
وخرج صالح من مستشفى المجانين لكنه لم يلبث طويلا حتى عاد إليها من جديد كما يحكي شقيقه طلعت رحم الله الجميع فيقول
بناء على نصيحة نفس الطبيب فقد عاد صالح إلى المستشفى بعد أربعة أشهر وقد أوثقوه بالحديد وألبسوه قميص المجانين
ولأنه كان عاقلا بالفعل وخائفا على نفسه من تصرفات المجانين من حوله بالمستشفى فقد احتاط لنفسه واحتال على المجانين بحيلة ظريفة بأن رسم لهم بالطباشير على الأرض خطا وقال لهم إن من يستطيع العبور من أسفل هذا الخط سأعطيه مائة جنيه
وسالت الدماء من رؤوس المساكين يومها وهم ينطحون الأرض لولا أن مر عليهم بعض الأطباء والممرضين
كان صالح سوداوي المزاج يكثر من ذكر الموت وسوء الظن بالنفس وبالناس وزاد من ذلك الشعور تضييق عائلته عليه ولوم تصرفاته باستمرار مع ما كان يظنه عن نفسه من دمامة بالوجه الملئ بحب الشباب حتى أنه حاول مغازلة فتاة ذات يوم فقالت ل اذهب فانظر إلى وجهك
فحطم ذلك نفسيته تحطيما
البيت الذي عاش فيه
ميلاده
يحكي الحاج عبد العزيز الشرنوبي رحمه الله عن شقيقه فقال
كان الجميع سعيد بمولده خاصة أنه ولد بعد شقيقه الاكبر شرنوبي بعشر سنوات ففرحت به أمي وخافت عليه من الحسد حتى أنه علقت قرطا في أذنيه وأسمته يونس وكان والدي قد نذر أنه إن أنجب ولدا أن يهبه لطلب العلم وأقام في يوم سبوعه احتفالا كبيرا
وعندما وصل إلى السادسة أحضر له شيخ الكتاب الكفيف ( أبو دعله ) ليحفظ القرآن ولكن شيخ السوء كان يكثر من عقاب صالح لكي يظهر لوالدي أنه يتفنن في تعليمه
فكان صالح ينفر منه حين مجيئه ويفر بعيدا عن الأعين فيبعث والدي من يبحث عنه حتى يحضره
تعليمه
بزي الأزهر في المرحلة الإبتدائية
أخذ الإبتدائية من مدينة دسوق والثانوية من طنطا عام 1947 وكان ينوي إكمال تعليمه في دار العلوم بالقاهرة فكان يقول لزملائه " إلى دار العلوم شددت رحلي "
واجتاز فيها الإمتحان التحريري غير أنه لم يوفق في القرآنه الشفهي رغم حفظه له كاملا
فحطمت آماله وأحلامه وصارت أعصابه أكثر انفلاتا فترك لنفسه العنان وغدا يتردد على المسارح ودور السينما وكان يعيش معه في شبر أحد أقربائه اسمه عبد المقتدر خطاب الذي أرسل إلى والد صالح ليخبره أن ابنه يحرق نفسه بالمكيفات
حاولت أسرته جاهدة أن تعيده إلى صوابه حتى نجحت في إعادته إلى بلطيم ليعمل مدرسا في مدرستها الإبتدائية والتي وكما يقول شقيقه عبد العزيز كان سببا في إنشائها عندما ا،شد وهو تلميذ أما وزراء الوفد فؤاد سراج الدين وعبد الحميد عبد الحق أثناء حضورهم لافتتاح مركز الشرطة قائلا:
نحن قوم نعيش في أرض مصر
وترانا كأننا غرباء
ظمأ محرق وجهل غشوم
وطغت فوق ذلك الأدواء
فأغيثوا قوما جياعا طواهم
في الرزايا الإصباح والإمساء
التوبة
يحكي شقيقه عبد العزيز قائلا
أثناء عيشه في بلطيم سمع صالح أثناء نومه هاتفا يهتف به " أما آن لعبدي أن يتوب " فقام فزعا من نومه وهو يقول تبت إليك يا رب
ثم توضأ وصلى ركعتين وعند الفجر سار في شوارع البلدة يدعو النيام إلى صلاة الفجر
وتشيخ وتصوف وأطلق لحيته حتى التف حوله بعض أشقياء البلد من اللصوص والبلطجية فهداهم الله على يده
عودته إلى القاهرة
مع صديق له في القاهرة
أرسل له الشاعر صالح جودت يطلب منه الموافقةعلى أن تغني لورد كاش قصيدته أحلام الصيف وأيقظت هذه الرسالة في نفسه الحنين إلى الشعر والحب فسافر إلى القاهرة وهناك طلب من شقيقه الأكبر شرنوبي أن يصحبه ليخطب إبنة عمه التي يحبها ويتمناها
شقيقه شرنوبي مع ابنته سناء
ولكن وبسبب ترسبات عائلية كانت أمه ترفض هذه الزيجة بقوة وأقسمت على ابنها ألا يخطو عتبة دار عمه هذا
فكان صالح يحتال ليبر قسم أمه فكان يذهب إلى بيت عمه صاعدا على السقالة ووقتها كان عنه يبني الدور الثاني في منزله
أثر هذا الرفض على نفسيته فذهب إلى القاهرة وأقسم ألا يعود إلى بلطيم مرة أخرى
وبالفعل لم يعد إلى بلطيم إلا في المرة التي قضى فيها نحبة
وحكى ذلك لصديق له قبل عودته فقال له أشعر أني لن أعود مرة أخرى
يحكي الدكتور عبد الحي دياب فيقول
فمضى صالح إلى القاهرة منكسف البال مكسور القلب حزين الوجدان وأنشد يقول في نداء لمحبوبته
تعالي يا ضياء لم ينور أفق ليلاتي
تعالي يا رحيقا لم يزل يروي خيالاتي
تعالي نجمع الماضي الذي راح مع الآتي
تعالي يا غراما تاه في دنيا الصبابات
ابتلعته القاهرة دون مأوى له فكان يتردد على أصدقائه يستضيفه هذا ويأويه ذاكلكن ذلك لم يستمر ورأى منهم جحودا كما رأى من أسرتهوترامت أخباره إليهم وكان عقابه الكبير- والذي استهان به - أن يمنعوا عنه المال بعد أن أصبح موضع غمز ولمزبين أهل بلدته وأصبح والده لا يطيق سماع اسمه أو قصته بعد أن غدت مضغة في الأفواه
أقنعه صديقه المخرج إبراهيم السيد أن يؤلف له أغاني فيلم فتنة مقابل خمسين جنيها أنفقها في أيام معدودة
وحاول أصدقاؤه أن يجدوا له عملا يقتات منه فعثروا له على وظيفة مدرس في مدرسة سان جورج لكنه ولأسباب غير واضحة تم فصله بعد ثلاثة أشهر
بعضهم قال بسبب كثرة غيابه وبعضهم قال بسبب التفات البنات من حله وافتتانهم بأشعاره وبعضهم قال بسبب ضبطه يتعاطى المخدرات
وتأخر عن سداد أجرة الحجرة المتواضعه التي يسكنها فوق أحد السطوح فجمع متاعه القليل وذهب ليلتجئ إلى مغارة في المقطم بجوار جبانة الغفير ويعيش فيها
ولعل قصيدته على ضفاف الجحيم تصور بدقة هذه الحياة التي عاشها
- إني هنا أيتها المدينة الحرة الفاجرة المجنونة
- أحبس في جفني الرؤى السجينة والأدمع الوالهة السخينة
- إني هنا أغربل السكينة وأزرع الخواطر الحزينة
ولعل المقدمة التي كتبها لهذه القصيدة أبلغ من القصيدة نفسها حيث يقول
" إليك يا قاهرة إلى أضوائك القاسية التي عذبت عيني وأنا قابع هناك في الجبل المضياف بصخوره الحانية وكلابه العاوية وصمته الكئيب وإلى هؤلاء المترفين الكسالى الذين ينكرون علي إيماني بالألم وعبادتي الدموع وإخلاصي للحزن
---
سعى إليه صديقه المخرج إبراهيم السيد وأرغمه على أن ينتقل معه إلى سكنه وكانا قد تصادقا منذ أن كتب له أغاني فيلم فتنة ولكن هذا السكن أيضا لم يكن أفضل من سابقه حيث كان بدروما لا تتعدى مساحته عشرين مترا وليس به سوى وابور جاز وصفيحة للإستحمام
وحينما ضاق بالشاعر الحال أكثر لجأ إلى محمود إسماعيل ليكلم صديقه كامل الشناوي ليعمل مصححا في الأهرام وأرسل للشناوي بيتين من الشعر يشكو له فيها فرد عليه الشناوي ببيتين وجنيهين وعينه بمرتب اثنى عشر جنيها
وعندها قال صالح : استرحت الان من عناء التفكير في رغيف الخبز
الشيخ علي شرنوبي والد صالح وشقيقه طلعت
والسؤال هنا كيف تتركه عائلته في هذه الحال التعسه في حين أن والده أعطى لشقيقه شرنوبي مبلغ سبعة آلاف جنيه ليزاول بها تجارته وزوجه مرتين تكلفت إحداها ثلاثة آلاف جنيه
فكيف يتركونه للجوع والشقاء وهو الذي سيكون شعره مفخرة لهم
ويكتب صالح فيقول
الحمد لله على ما قضى
والشكر له على ما أمر
فما أظن الأرض تحوي فتى
وجوده كان إحدى الكبر
مثل فتى يدعونه شاعرا
وما بغير الموت يوما شعر
يبكي بلا دمع وفي قلبه
ما يغرق الدنيا إذا ما انفجر
لا يعرف الصبر لكنه
لما رأى طول الظلام اصطبر
سياسي
كانت لصالح بعض المواقف السياسية التي استدعت البوليس السياسي للقبض عليه اكثر من مرة
حاول البوليس القبض عليه أثناء دراسته الثانوية فهربه والده إلى عمته التي كانت تعيش مع زوجها الشاعر البكباشي يوسف صديق في قرية ( زاوية المصلوب ) بمحافظة بني سويف
واحتضنه يوسف صديق وعطف عليه ومكث هناك أكثر من خمسة أشهر
ولم يعد إلا بعد أن سقطت حكومة إسماعيل صدقي باشا
ويقول شقيقه طلعت الشرنوبي للدكتور دياب أن صالح قاد مظاهرة من الشبان بعد مقتل الوزير الوفدي أمين عثمان وهتفوا " أنت الجاني يا فاروق "
ولم ينج من قبضة البوليس يومها إذ أوسع ضربا حتى أشرف على الهلاك وظل يعالج بعدها شهرا من أثار الضرب
أم الشاعر
رغم أن أمه كانت تبدو قاسية عليه فحالت بينه وبين حبيبته وكانت هي التي تضيق عليه أثناء فترة إقامته في القاهره إلا أنها كانت ترجو من ذلك أن يثوب إلى رشده ويعود إلى بلطيم ليعمل فيها مدرسا حتى أنها كانت تغضب عندما تعلم أن والده قد أرسل له بعض الأموال سرا إلا أنها كانت معجبة بشعره كثيرا وله الفضل بعد الله في الحفاظ على الكثير من أشعاره عندما انتابته حالة نفسية سيئة فأشعل النار وكاد أن يحرق كل أشعاره التي ألفها فهبت وخطفتها وأنقذتها من لحظة الجنون
حتى البيتين اللذان كتبا على اللوحة الرخامية التي جعلت على قبره فقد حفظتهما أمه عندما قالهما وهما في وسط المقابر يوما وأصرت على أن يكتبا فوق قبره
يا زائرين لقبرنا
لا تعجبن لأمرنا
بالأمس كنا مثلكم
وغدا تكونوا مثلنا
أخته هيام
يقول صالح جودت عنها وعنه
صالح الشرنوبي يمينا وصالح جودت يسارا
يقول جودت
احتفيت بشعره منذ أن قرأت له فقدمته إلى الإذاعة ولست أنسى ما حييت قصيدة كلما قرأتها في جمع بكيت واستبكيت وهي قصيدة في أخت له اسمها هيام كانت بلهاء
يقول فيها :
أختي قصيدة شاعر الغزل
أختي تميمة ساحر الخبل
أختي هيام وأنت من أملي
لأنا الحزين عليك يا أختي
ثم يصف كيف كانت الأسرة تعاملها
وتقول أمي حين تلقاك
يا ليت قلبي ما تمناك
أو ليت مهدك كان مثواك
وإذا ما الكرى نادى الخليينا
فأجبته وهجرت نادينا
قالوا نأى من كان يسلينا
فأقول بل من كان يبكينا
انتاج لم ينشر
يحكي شقيقه عبد العزيز أن ما يوجد الان عندهم هو القليل من الأشعار والكتابات النثرية أما أغلبها فقد سرق ويقول
لقد ذهبت إلى البنسيون الذي كان يعيش فيه في القاهرة بعد موته بأسبوعين وهناك لم أجد سوى بعض ملابسه وأوراق لا قيمة لها وبعض الكتب وقالت صاحبة البنسيون أن صديقه الشاعر ( ..... ) حضر بعد وفاته بيومين وأخذ ما وجده من كتابات
أما الجزء الآخر فقد أخذه الناقد الدكتور عبد الحي دياب الذي حضر إلينا بعد وفاته ومكث لأسابيع يجمع سيرته وأشعاره وأخرج بعضها في الديوان المنشور " ديوان صالح الشرنوبي "
وعندما توفي الدكتور عبد الحي دياب قالت لنا زوجتهأن الكراسات الخاصة بصالح جودت ضمن تركته وقد أخذها شقيقه المهندس عبد الكريم دياب الذي لا يعرف له طريق
النهاية الحزينة
يوم 17 سبتمبر 1951 15 من ذي الحجة 1370 هجرية
استشعرت أمه غيابه فأرسلت شقيقه عبد العزيز في السادسة صباحا للبحث عنه
يقول
أرسلتني لاسأل عنه عند صديقه وابن عمه فتحي الشرنوبي فلم أجده وعندما عدت سمعت سيدة تقول أنها سمعت عن شاب صدمه القطار
فذهبت لأستطلع الأمر فوجدت الناس يلتفون حول الجثة ووسطهم مأمور المركز عبد الخالق صالح وأخرج أحدهم بطاقة القتيل وكان كارنيه الأهرام فأغمي علي ولم أفق إلا قبيل الجنازة
هكذا مات الشاعر الشاب ابن السابعة والعشرين ابن مدينة بلطيم الذي عاش حياة كئيبة قاسية كان ولابد أن تصنع شاعرا سوداويا مثله
شاعر كان لا يرى إلا الموت حتى قابله فأشبعه وروي غليله
مات ولم يعلم كيف مات بالضبط وكيف صدمه القطار
لكنها لا شك ميتة تتماشى تماما مع حياته التي لم يحياها
نسأل الله تعالى أن يرحمه