رسالة عبد الباسط الصوفي إلى حبيبته - س- ومنها:
«عزيزتي - س- حينما تنطلق العاصفة من الأفق البعيد أو يسرع الراعي بقطيعه الى كهفه المظلم , تسرع نفسي كذلك الى كهفها السحيق وتنزوي في ركن بعيد تناجي أشباحها الثائرة .
حينما تنطلق العاصفة تختفي تحت أجنحتها ذكرياتي خائفة مذعورة , حاملة قصة حياتي الى الأجيال .. لقد حملت ذاتي أفتش لها عن وجود عميق وانطلقت باحثة عن الأبدية , هناك لم أجد في مخيلة الزمن إلا صورتك تنطبع على صفحات روحي فتملؤه كما تملأ الألحان أرواح الهائمين .
منذ سنوات أربع بينما كنت أسير هارباً من نفسي , والوحشة المخفية تعصف بكياني الضعيف إذ برزت فتاة صغيرة نحيلة , تمشي بهدوء وفي وجهها الرقيق كل معاني الألم والشقاء .. نظرت إلي نظرة عابرة بريئة ثم تابعت طريقها .
لم أدر لماذا انحدرت دمعتان حارتان على وجهي الشاحب الصغير واضطربت نفسي لعل ذلك من تأثير الصدمة التي تلقيتها في ذلك اليوم , أو لعله منظر تلك الفتاة الغريبة .. أو لعله شيء مجهول لم أدر معناه أم لعله جميع هذه الأشياء ... لا تصمت أيها الطائر سوف أفتح دوماً نافذتي .. لأسمع أناشيدك السحرية لا تطبقي أيتها الأزهار أجفانك بفتور , سوف أصلي وسوف تسيل صلاتي حلماً رائعاً بين أهدابك ينبض طيوفاً بيضاء , وها أنذا أسير اليك أيها الغدير .»...
امرأة من بور سعيد
خُذْ يا صغيري وامْضُغْ اللعناتِ ماتَ أبوك غيلة
لَبَني مَزَجْتُ به السمومَ ، ولم أكنْ يومًا بخيلة
فمُكَ البرئُ يغصُّ .. خُذْ ثديي سأُرْضِعُكَ البطولة
الوردُ يُنْبِتُ شوكَهُ .. وكذاك زَنْبقةُ الطفولة
طفلٌ ينامُ على الدموعِ مُهَدْهَدًا ، أنا لستُ أُمَّه
خُذْ يا صغيري ، واشربِ الأحقادَ والفُظْ كلَّ رحمه
لا تبكِ مذعورا .. تفجّر في يديَّ لظًى ونِقْمَة
خُذْ واعتصرْ مني اللهيبَ ، ففي ضلوعي حقدُ أُمَّةْ
يقولون:
هام، بأفريقيا، عاشق، في ضمير البحار، وغاب
يغلغل، في الأفق،
أسود كالقار، عريان، يلطم صدر العباب
يطير مع الوهم، تركض عيناه،
ينصل من سدفي الإهاب
أضاع، على الموج، أيامه،
فكان رحيلاً، بغير اياب
مكادي! أنا، والشراع الصديق، وقيثارتي:
غربة وارتحال
شددنا إلى البحر،
والبحر في الزرفة الأبدية، قبر الرجال
تميل بنا نزوات الرياح
بأنوائها، الصافرات الصخاب
شددنا.
عيوناً، وخفق شراع صديق، وقيثارة من عذاب
ف«سيزيف» من قبل، شد إلى الصخرة الجامدة
تسلق، يحمل أثقال خيبته الخالدة
مكادي! أنا بعض «سيزيف» بعض الذين كابده
فرغت على الزرقة الأبدية،
قلباً هشيماً وروحاً خراب
تسلقتها، لجة وعرة، وارتميت عليها،
عصيَّ الرغاب
مكادي! أنا بعض «سيزيف» بعض الذي جالده
يطاردني اليأس، دامي السياط، كما طارده
مكادي! هما: الصخر والعقم في لجتي الصاعده
هما الصخر والعلم،
هزها حقدها الزبدي
فثارت غضاب
منافقة، تكتم السخريات،
وتطفو، بزرق الصحارى، سراب
ودرب البحار، بأبعاده،
قديم المتاه، قديم الضلال
ركام سماء رمادية
وزحف ظلال، وراء ظلال
وليل البحار، بآباره السود
عمق تفجر نبع ضباب
مكادي! ترنحت، وانهدمت جبهتي الصامدة
وظلت عيوني، تحدق في العتمة الوافده
ولم يبق في الكأس، من قطرة واحده
أنا، والشراع، وقيثارتي غربة وارتحال
افتش عن وعلة، خبأتها أقاصي التلال
على جيدها، أتلعت كبرياء المروج، اختيال
وتفلت، فوق النسائم، مذعورة شاردة
أنا: وعلتي كل أيامها، وجل، أو دلال
ربيعية العشب، تعبق أنفاسها الراغدة
أفتش عن شهرزاد برونزية،
طوقتها كنوز البحار
مضمخة جسداً حر كالصيف،
جم الحنايا، لفيف الثمار
رخامية الصدر، في قبتي لذة، ناهدة
تصب عتيق لمأدبة واجدة
وتكنز، من كرز، شفتيها للهفة قبله
لوهلة حب، لومض لقاء، لرشفة تله
وسادتها الورد، في ألف ليلة حلم، وليلة
تخبئها الجزر النائيات،
وتغفو بها، لهفة وانتظار
بقرطين يرتجفان، بشلال شعر بهيم،
بضافي إزار،
بكسرة هدب، بأغوار عينين، عاشقتين
سراجين، زيتهما الحب، أعطى الهوى شعلتين
حكاياهما: غزل مسرف
طري الحروف، شجي الحوار
وتسألني كل أفريقيا، يا مكادي،
لم أنت تطوي البحار؟؟
أفتش عن شهر زادي!
وعن قطعة، من فؤادي!
أفتش عنك، مكادي!!
ڤڤڤ
مكادي! أيا جنة الحب، في الجزر الرافدة!
أيا عطش الراحلين إلى النبعة الباردة!
هبطت، إلى الجزر الحالمات
وغصت بعيداً.. وراء المحار
وقلبت عنك المرافئ،
أبحث، اسأل، انثر فيك النضار
وأغرقت ضوضاءها،
برخيص الخمور يسيل، بعنف الشجار
وألقيت كل شباكي
وألقي، عرائسة، البحر، بيضاً حزار
على أي أرض، يغني، مع الفجر، إنسانها؟
بأي الشواطئ، تكتظ في الشمس، ألوانها؟
توسدت عرش البحار؟
بأي محار
مكادي! بأي قرار؟
==========
29/5/1960م
لابي غينيا
طريق
رجفةٌ بين حنايا القبرِ، فلأُرسلْ صلاتي
وَلأَسِرْ، كالحُلُم الغارب، ولأَطْوِ حياتي
أذرع المجهولَ، واهي الخطو، دامي البَسَمات
ذاكَ صوتٌ، من خفيّ الغيب، من أعماق ذاتي
خضَّبَ اللحنَ، على ثغري، وأدمى نغماتي
تلك أقدامي تجوب العمرَ، يوماً بعد يومِ
ما رأتْ عينايَ؟ لا أدري، وما سطَّرَ حُلمي؟
أقطع الأوتارَ آهاتٍ، واستنزف إثمي
آهِ! لا أعلم، ما جهلي بدنياي وعلمي؟
أنا... لا شيءَ، ولا شيءَ سأحيا... عبدَ وهمي
عبثاً أنظر في الأعماق، لا أُبصر شَيَّا
والمدى الشاحبُ، ما مات رؤىً في مقلتيّا
هكذا أمضي مع الدهر، ولا أشكو المُضِيّا
أتخطّى الزمنَ الموغلَ إيقاعاً خفيّا
أنا... لا شيءَ، ولا شيءَ وجودُ الكون فيَّا
أنا ابن الأرض
غنّيتُ للفجرِ حتى انسابَ مُنْهَمِرا ورحتُ أنفضُ أَجفانَ الهوى صُوَرا
والأرضُ من أُفُقٍ تسعى إلى أُفقٍ يصحو لها الوَتَرُ الغافي، ولو سَكِرا
غنَّيتُ... واخضَلَّتِ الذكرى على شفتي وصَفَّق الهُدْبُ للحُلْمِ الذي خَطَرا
أختاه! أَيُّ شفاهي لم تَذُبْ نغماً وأيُّ جرحٍ عميقٍ لم يَعُدْ نضِرا
أصْفى من النورِ آلامي، ولو جُحِدَتْ ودمعتي بوركتْ: مجرىً، ومُنحَدرا
توسَّدَ الروحُ، في أفياءِ جنَّتهِ، يُسربلُ الكونَ، أَطياباً، وما شَعَرا
رَدَّ الليالي عذارى، وَهْوَ مصطفقٌ ولوَّنَ الشَّفَقَ المسفوحَ مدّكِرا
روحي صلاةٌ، إذا هامَ الحنينُ بها، تضوَّعَ الإثمُ غُفْراناً، وإن كَفَرا
أختاه! هذا فؤادي في ارتعاشتهِ كجدولِ الضَّوْءِ، أرخى نَبْعَهُ وَجَرى
قفي على طَلَلِ الماضي نودِّعُهُ عَفْوَ الهوى ينطوي من بعدنا خَبَرا
عَفْوَ القوافي، فَلَمْ يَصْمُتْ لها وترٌ إلاَّ وصُغتُ جراحاتي لها وَتَرا
قفي على طَلَلِ الماضي، لنا غَدُنا ينشقُّ من كَبِد الأيامِ منحسِرا
غدٌ رحيبُ المدى، من كلِّ بارقةٍ تهدهدُ اللّيْلَ، في أحداقنا، سَحَرا
غدٌ يغنّي له الأحرارُ ما طربوا وما تنادى الحمى فيهم وما زأرا
لا... لا تلومي: بلادي جنَّةٌ عَبَقَتْ رمالُها السُّمْرُ أمجاداً ومُفْتَخَرا
خَطَّتْ دروبُ العصورِ الهارباتِ دَماً وهزَّتِ الأَبَدَ المذعورَ، فانْفَطَرا
ألم نشيِّدْ صُروحَ العزِّ شامخةً وَنَقْذِفِ الشُّهبَ، في آفاقِنا، زُمَرا؟
مواكبُ الشَّمْسِ سارتْ في معارجنا في كلِّ مُفْتَرَقٍ تبني لنا أَثَرا
لا... لا تلومي، أَنا من أمَّةٍ رقَصَتْ، على الجحيمِ، تضمُّ الجمرَ والشَّرَرا
ماذا دهى الوَطَنَ المذبوحَ، فاختلجتْ على الشِّفارِ، دماهُ الحُمْرُ واحتضَرا
يا لَلخمائلِ قفْراً في مراتِعِنا كالموتِ جرداءَ، لا ظلاً، ولا ثَمَرا
يا لَلنجومِ الزَّواهي غوِّرَتْ حلَكاً لا سامِرٌ، بَعْدَنَا، يشدوَ ولا سَمَرا
القدسُ، في قبضةِ الإجرامِ قد هُتِكَتْ والعهدُ، تحت يد السفّاح، قد نُحِرا
واستصرخَ المغربُ الدّامي فهلْ خفقتْ له المروءاتُ؟ والموتورُ، هل ثَأرا؟!
دنيا العروبةِ، صرعى، ترتمي مِزَقَاً لكلِّ مغتصِبٍ، إنْ جالَ، أو جَأَرا
فكلُّ باغٍ، على أشلائها، ثَمِلٌ وكلُّ مستعمرٍ، في بيتها، سَدَرا
ألقاكِ، يا أُختُ، في صحْوِ الشجونِ رضاً تباركَ الحزنُ، فينا، ضاحكاً عَطِرا
تمضي على لهَبِ الأحزانِ باسمةً جراحُنا، ودمانا الطيبُ إن نُشِرا
مأساتُنا، لو تعي الأيامُ، صارخةٌ حمراءُ، تنسج من آلامنا الظَّفَرا
سنحمل الجرحَ، لا نشكو به ألماً ولا نضيق، على أوهامه، وَطَرا
نُعدُّ، للثأرِ، راياتٍ مزغرِدةً ونلطُمُ الدَّهْرَ، والأنواءَ، والخَطَرا
إرادةُ الشعبِ، في أعماقِنا، قَدَرٌ وكم طلعنا، على أجيالنا، قَدَرا!
هي الحضاراتُ، فجَّرْنا منابعها من الصميم، فسالتْ.. بيننا نَهَرا
ألقاكِ، يا أختُ، فالدنيا بنا حلُمٌ، من الظلالِ الضوافي، بات مؤتزِرا
سننظمُ الصبحَ، بعدَ الصبحِ، مؤتلقاً ونغرس المجدَ، بعد المجد، مزدهرا
غداً، تُرَدُّ الأماني البيضُ مائجةً والدربُ يزخرُ بالوهج الذي زَخَرا
غداً، وسال فمي نجوى وقافيةً ورفَّ جفني على الألوان منتثرا
الشعر من كبدي نُعمى، مسلسلةٌ أو ثورةٌ جمحتْ، أو عاصفٌ طفَرا
أنا ابنُ أرضٍ على آبادها درجتْ قوافلُ الدهرِ وانساحَتْ بها ذِكَرا
فكلُّ شبرٍ، نسيجٌ من دمٍ ولظىً وكلُّ أفقٍ، نداءٌ ضجَّ واستَعَرا