أورخان ميسّر... رائد السوريالية العربية
قبل ثلاثة وأربعين عاماً، رحل عن عالمنا الشاعر السوريالي السوري الأول أورخان ميسّر، بل كان الشاعر السوريالي الأول على مستوى العالم العربي كلّه، والذي جهد في ابتكار نظرية خاصّة بالسوريالية في مقدّمة ديوانه اليتيم والاستثنائي "سريال".
كان ميسّر متفرّداً في سورياليته، فقد طرح مفهوماً جديداً وغريباً في الشعر السوريالي من خلال تأكيده على أن اللغة في الشعر السوريالي لغة علمية، فيما هي في بقية أنواع الشعر لغة أدبية. في معنى أن لغة العلم لا تسمح بالعواطف، لأنها تدخل في مجال الاكتشاف أكثر مما تدخل في مجال الإبداع. وله في ذلك وجهة نظر فلسفها في مقالاته وليس في شعره. فهي محاولات تحرّرية في سبيل التخلّص من ضغط كابوس المقاييس الفنية، فللذهن أثر ظاهر يُدنيها من الإنتاج العلمي والفلسفي، بصرف النظر عن جمال صورها أو قبحها، وعن مطابقتها للمقاييس الاجتماعية أو تنافرها معها فـ"الفن الصحيح هو الذي يرسم الانعكاسات التي تتولّد نتيجة للتفاعل بين نضالنا الخارجي وذاتنا المجرّدة، بعيداً عن دائرة المنطق، وبعيداً عن التأثر بأي توجّه فكري".
الشاعر أدونيس الذي ساهم في نشر ديوان "سريال" قدّم له بالقول: "لئن كانت الثورة الشعرية مجموعة من المتغيّرات الجذرية في مفهوم الشعر وفي بنية الكتابة الشعرية على السواء، فإن إنتاج أورخان ميسّر يندرج في المقدّمات النظرية الطليعية لهذه الثورة في الممارسة الشعرية العربية. إننا في هذه الثورة ننتقل من صورة جديدة للإنسان العربي إلى صورة جديدة للشعر العربي، أي من انقلاب في فهم الإنسان إلى انقلاب في فهم الكتابة".
"سريال" الذي لم يُقدَّر لميسّر أن يراه مطبوعاً، كان أهداه إلى نفسه:
"إلى
هذه "الأنا" النهمة التي لا ترى،
والتي دأبها إبداع مسوخٍ تقدّمها
لهيكلها المليء بالمسوخ...
لترقد بعد ذلك لحظة هنيئة
فيها استمتاع وفيها اطمئنان؛
تستجمع بينهما قواه،
لتخلق مسوخاً جديدة أخرى".
صارع أورخان ميسّر المرض حتى أواخر أيامه (1965). وأذكر بالمناسبة أن مؤتمراً طبّياً عالمياً متخصصاً في مرض السرطان كان منعقداً في تلك الفترة بكلية الطب في الجامعة السورية بدمشق ضمّ حوالى 200 طبيب متخصص في السرطان، فإذ بكوليت خوري تدخل القاعة، وتصيح بأعلى الصوت: "كفّوا عن هذه المناقشات وتعالوا معي لعلّكم تنقذون لنا شاعراً يعاني من عذابات هذا المرض". وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما توقّف المجتمعون عن نقاشاتهم ليختاروا عشرة أطباء رافقوا كوليت خوري إلى منزل أورخان ميسّر في الروضة بالقرب من وزارة الثقافة، وكنت حاضراً الحادثة. اطّلع الأطبّاء على الصور وعُلَب أدوية العلاج حتى قال أحدهم: "لقد فات الأوان يا سيّدتي". عندئذ ابتسم أورخان بمرارة، ووقف بصعوبة مصافحاً الجميع، وقبّل يد كوليت خوري شاكراً لها ما فعلته، قبل أن يجلس على كرسيه، وبيده كأس الويسكي يرتشف منها بضع قطرات بكل هدوء، لعلّها توقف هذا الألم العظيم.
وقبل أيام من رحيله، زرناه، فؤاد الشايب وأنا، وكأنها صحوة الموت، استقبلنا بحرارة وقدّمت لنا زوجته القهوة، وعلى تجاعيد وجهها حزن عميق، ثم لمحنا ورقة على الطاولة بخطّ أورخان. فطلب منّا قراءتها، وجاء فيها:
"زوجتي العزيزة
إن لي طريقتين في توجيه عبارات الوداع:
الطريقة الأولى: هي أن أعمد إلى إحياء أجمل الذكريات وأطيب الانطباعات المشتركة.
والطريقة الثانية: هي أن أعمد إلى الإشادة برابطة إنسانية قوامها مرتكزات الفلسفة الإنسانية المعاصرة. ولعلّ وداعي هو من النوع الثاني".
كان ذلك في أواخر نيسان 1965. وبعد يومَين شيّعناه إلى مقبرة الدحداح حيث رثاه سعد صائب، بينما خلع سعيد الجزائري نظّارتيه وحطّمهما على طريقة بطل رواية "الساعة الخامسة والعشرون" الذي هو الآخر حطّم نظّارتيه في المعتقل وهو يردّد لرفيقه: "ما من شيء بعد اليوم يستحقّ أن أراه".
منتخبات من ديوان "سريال"
بمناسبة مرور 43 عاماً على رحيل الشاعر السوريالي السوري أورخان ميسّر، تنشر "الغاوون" منتخبات من ديوانه "سريال"، والذي لم يُنشر إلا بعد مضيّ 14 عاماً على رحيل صاحبه ("منشورات اتحاد الكتّاب العرب" في دمشق، 1979)، علماً بأن ميسّر كتب قصائده منذ أربعينيات القرن العشرين.
الوهم
مضغت حياتك حتى اللون والإطار
ثم بدأت تمضغ ظلّك
ظلّك الذي فاض عن الإطار وتكوّر
خيمة مهلهلة نصبها وهمك في مسالك قدمَيْك
حتى بدت لك الخيمة إشراقة كون جديدة.
قبور
لم تكن لي معاول في الماضي
فكنت أحفر القبور بأظافري
وكنت أضع في هذه القبور
لهاث المدى
وكنت ما بين لحظة وأخرى
أعود إلى مقبرتي فأجد
ما بين حفرة وأخرى
حفرة لم تصنعها يداي
غير أني في تجوالي هذا،
أحسست كأنني لم أنتقل
من قبر إلى قبر آخر.
ضياع
هذا الإله الذي فغر فاه منذ أن خلقناه، وجعلناه
في السماء الوهميّة،
ليته ظلّ مُطبقاً شفتيه
فاتحاً قلبه وذراعيه
ليضمّ أولئك الذين خلقوه
وجعلوا منه أسطورة أبدية
ليت ظلّه مكث دون أن تتخلّله ألوان
وليت خطوطه بقيت دون أن يحسّها انسيابٌ
وليت لفظته استمرّت دون أن تقضمها أشداق قضمتها من قبل أشداق
إلا أنه تمرّد على خالقه
وأراده أن يكون مخلوقاً
وضاع الإنسان ما بين خلقَين
خلقه للإله
وخلق الإله له.
إلا أن المصير واحد لكليهما،
للخالق والمخلوق.
إنهما يسيران معاً
نحو الانصهار في كيان ما زلنا نجهله.
الجري في الحلم
امتدّت فيه ساقاه
اللتان ضمرهما الجري في الحلم،
وارتمى فيه الرأس الذي حذّره دويُّ قرع المسمار
في انحناءات
ارتدّ فيها لمسات ضارعة، هزيلة
نحو صحراء
تعانق ظلمتها
جناحي الحاجز الأصم
في ضمّة
تغيب فيها ضجّة التاريخ مع هيولى الزمن...
وراحت ساق ضامرة
مسخها الشوق
تحلم بأجيال
لن تتدفّق للوجود.
يقظة
هنا في قعر كأسي رؤى لا تنضب.
رؤى يحيلها فراغ الكأس، أحياناً إلى مآتم شفّافة تولول فيها غصّات من زمن مبتور، وتعربد حولها بقايا صلوات مجَّت التحنّط والالتصاق بجدران هياكل دأب لبناتها التثاؤب.
غير أن الأنفاس الشاردة التي تطوف في فراغ كأسي تطوافاً محموماً، تُذيب أمسي الذي كُنته، وغدي الذي أحياه، ويومي الذي ما زال يتسكّع في الظلمة بقدم واحدة وبنصف عين،
تذيب هذا الكلّ في صيغوغةٍ من جمال ينضح بألف لون ولون، فأصبح كأني والقعر والأمس والغد واليوم، رشقة سادرة لحلم لا يعرف الفجر، وليقظة لا تفقه اليقظة!
انطلاق
شاقَها الانطلاق
فراحت تدور حول خطوط عرض الكرة
حيث الحياة انتفاضة بلهاء
في اجترار واحة وهميّة
وفي عثرة جناح
تراءى أفق لكون جديد،
لكون يبدع أنفاً لمخلوق غريب.
فان كوخ
فان كوخ يحرق كوخه
"هو" يلهب قصره
وفي المدى الذي يتقوّس حرقاً والتهاباً
قمّة تنتعل
ونعل يجنح
أما النثار
فنيازك تستقرّ على عين
عدستها فقاعة قهقهة.
مرثية امرأة
ذويتِ قبل الأوان،
ومن يقضم ظلّه يذوي.
وفي غمرة الصراع الذي قام بينك وبين توق الجنس المُلجم وحنين الأمومة المخنوق،
انتصبت لكِ أجنحة تصفق دون تحليق،
وتحدو دون سير
حتى امتصّ وهمك ما فيك من دفق أعمى وانسياب خدر،
فظللت تحيين السنين مواسم عجافاً،
حتى انعكستِ ظلاً لنحلة، ثم تلاشت
كنفثة دخان حائرة قذفتها رئة حشّاش.
طين
دأبي تكويم الظلال،
أما الخطوط والألوان فأتركها طعماًَ لأحلامي التي
تلتهم بعضي دون وعي منّي.
أما أنا، أنا المجرّد من الظلال والألوان وخفقة الحلم،
فأمضي كبحّة وتر مقطوع، غمر في الطين.
ماكس إرنست
جسده الملفوف بالكفن الحجري يتلوّى
فوق مياه البحيرة الهادئة، التي تتردّد بين لفظه وابتلاعه.
صرخات الرعب والهلع تختنق في رئتيه المتصلّبتين وتتلاشـى بيـن دفـقات اللهاث.
النجدة -
مسوخ شريرة جائعة، أجوافها ممتلئة،
أصداء قهقهات...
التوأمان
ظفري أطلقته ليحزّ في نيزك
قلبي قطرته ليرتمي من عين،
وإذا بالظفر والقلب
توأمان يرعيان في عينَي إله.
دمى
ما أجمل اللعب بالدمى!
دمى يخلقها الحنين الأبدي الملتهب،
التوّاق إلى اللاشيء، إلى كلّ شيء.
دمى يخلقها حلمنا الأبله
لتحطّمها يقظتنا البلهاء...
ونحن، نحن أشباح هذه المسرحية الشفّافة
نصفّق دون نشوة
ثم نصفّق دون حسّ!
تحوّل
ليس الصدى كالصوت،
وليست الذكرى وقعاً
غير أن بعض السمع
يحيل الصدى صوتاً
والذكرى وقعاً.
خيبة
ليتك بقيت ظلاً،
ظلاً أعطيه كلّ حصيدي من الألوان والأشكال والخطوط
غير أنك أبيتَ إلا أن تعرّي الأضواء التي عكستك ظلاً،
فانقلبت امتداداً لخط يتموّج تموّجاً شفافاً
فلا بقي ظلّك
ولا بقي حصيدي.
بلادي
بلادي يا أسطورة تجترّها أسطورة
يا أرزة يعانق أنفاسك النرجس والريحان
بلا لون ولا رائحة،
يا قمّة تطأ القمم، يا قمّة بلا قمّة،
بلادي يا روعة الوجود
يا عطرها الممزوج بشهقة دم،
بشريحة جلد، بولولة أرملة، بزفير دنّ، بحلم بنفسجة،
برتابة العقارب في ساعة لا تفقه الزمن،
يا عطرها المستحمّ في ذوب القمح
يا عارها،
لا عار،
بلادي،
إنها لم تولد بعد.