® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2013-09-30, 10:19 am | | تحميل رواية المرايا - نجيب محفوظ pdf
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
بالتأكيد، لم تكن صدفة تلك التي جعلت أديبنا الأعظم نجيب محفوظ يختار حكاية المثقف المتحول ابراهيم عقل ليبدأ بها روايته الفذة (المرايا)، لتكون المدخل الرئيسي الذي يقود قارئه إلى درب (المرايا) التي يرى من خلالها تاريخ مصر طيلة أكثر من خمسين عاما، وهو تاريخ تخلصنا من بعض ملامحه، في حين تُعاد ملامح أخرى كثيرة بالتصوير البطيئ الممل السمج والحزين كأنها ترفض أن تغادرنا إلى الأبد.
طيلة قراءتك لمرايا نجيب محفوظ سيرافقك صوت المتنبي وهو يقول «صحب الناس قبلنا ذا الزمانا..وعناهم من شأنه ما عنانا»، وستضحك «ضحكا مجروحا» على بكائيات «الزمن الجميل وأيام زمان الحلوة وماذا حدث للمصريين وفين المصري بتاع زمان»، وغيرها من البكائيات التي يحب الناس في بلادنا تداولها بوصفها مسلمات غير قابلة للمناقشة. فهاهو نجيب محفوظ يصف على لسان بطل روايته الحقبة التي تلت ثورة 19 والتي يحن إليها الكثيرون بوصفها العصر الذهبي للمجتمع المصري، بأنها كانت «فترة انهيار في الأخلاق والقيم لا نظير لها حتى خُيِّل إليّ في أحيان كثيرة أنني أعيش في بيت كبير للدعارة لا في مجتمع»، بينما يقول بطل آخر بنبرة تسليم يائسة من التغيير «بتُّ أعتقد أن الناس أوغاد لا خلاق لهم، وأنه من الخير لهم أن يعترفوا بذلك، وأن يقيموا حياتهم المشتركة على دعامة من ذلك الاعتراف، وعلى ذلك تصبح المشكلة الأخلاقية الجديدة هي: كيف تكفل الصالح العام والسعادة البشرية في مجتمع من الأوغاد والسفلة».
في قلب ذلك الإنهيار الشامل انطلقت شهرة الدكتور ابراهيم عقل كواحد من أبرز من يدعون إلى التمسك بالمثل العليا وينتقد بشراسة كل السياسيين والثوريين الذين يراهم خارجين عليها غير مبالين بها، لكنه فجأة وفي لحظة درامية حادة قرر أن ينقلب على مثله العليا حين وضع يده في يد السفاح اسماعيل صدقي ووافق على أن يتولى منصبا جامعيا كبيرا بعد أن كتب مقالا ينافق فيه صاحب العرش ويشيد بأيادى أسرته على نهضة البلاد، كان انهيار ابراهيم عقل الفرد متوافقا مع انهيار جماعي يصفه نجيب محفوظ بقوله «كانت أزمة تهاوت فيها القيم إلى الحضيض وتقوضت كرامة الكثيرين من الرجال، ورمى الأبرياء المهزلة بأعين حمراء ولكن حتى صفوفهم لم تبرأ من فساد. كان عصر الزلازل والبراكين المتفجرة. عصر احباط الأحلام وانبعاث شياطين الإنتهازية والجريمة. عصر الشهداء من جميع الطبقات. وظل الدكتور يخطر بيننا متظاهرا بالثبات والشجاعة، يطالعنا بنظرات متحدية تخفي في أعماقها احساسا بالهزيمة والذنب، وإنا نلقاه بالاحترام اللائق بمركزه على حين نضمر له الإستهانة والسخرية، الاستهانة والسخرية أجل، لا البغضاء ولا الرغبة في القتل، كما شعرنا بهما نحو كثيرين من رجال السياسة، لم تكن شخصيته تثير شيئا من ذلك، وكان لخفة روحه ومناوراته البهلوانية خليقا بأن يتبدى لنا مهرجا أو دجالا شريرا أو سفاكا للدماء أو عدوا حقيقيا للشعب».
الغريب أن ابراهيم عقل لم يكتف بما ناله من حظوة لدى أسياده الجدد، فقد ظل راغبا في الإحتفاظ بمكانته لدى الجيل الشاب الذي كان يعتبره رمزا مشرقا، لذلك نراه يدعو عددا من طلابه إلى لقاء بمكتبه في اليوم الأخير للعام الدراسي، متطوعا بتبرير تحوله المفاجئ لهم بقوله أنه وجد في مصر أناسا يخطبون وأناسا يعملون فقرر أن ينضم إلى العاملين، كان طلابه قد قرروا ألا يردوا عليه دفعا لأذاه، لكن طالبا ثريا منهم امتلك الشجاعة ربما لأنه لم يكن يخشى على مصيره وقال له «إن من يخطب مطالبا بالاستقلال والدستور خير ممن يبني الكورنيش ويسفك الدماء»، فابتسم ابراهيم عقل وقال بشيئ من الأسى: ليس كالسياسة مفسدة للعقل، ثم ألقى عليهم خطبة في أهمية سلوك طريق الحقيقة والقيم والتخفف من غلواء الطموح الدنيوي، فأخذ بطل الرواية يقول لنفسه وهو يستمع إلى تلك المحاضرة الجوفاء «ترى أدعانا الرجل ليعذبنا ويسخر منا؟... كيف يتحدث عن أن الجلوس تحت شجرة في يوم صافٍ خيرٌ من امتلاك عزبة وهو من باع جميع القيم من أجل منصب... وما غادرنا الكلية حتى انفجرنا ضاحكين من عنف المفارقة واليأس، واستبقنا إلى نعته بكل قبيح: الوغد، المهرج، الدجال».
لم يدم هناء ابراهيم عقل طويلا بما ناله من عز وسطوة، فقد فقد ابنيه الوحيدين في وباء الكوليرا الذي اجتاح مصر عام 1947، ليدخل بسبب تلك الفاجعة في سكة تصوف أوصلته إلى الدروشة حتى بات لا يُرى إلا في جوامع الأولياء، وعندما التقاه تلميذه القديم صدفة في الحسين وسأله عن موقفه من ثورة يوليو التي كانت قد قامت للتو قال له «هبوط صعود، موت بعث، مدني عسكري، فلتسر الدنيا في طريقها، أما أنا فإني أستعد لرحلة أخرى».
بعد سنوات قليلة رحل ابراهيم عقل إلى جوار ربه، لكنه بقي حاضرا للتأمل والتفكير كنموذج معبر عن المثقف الإنتهازي الذي يتميز عن غيره من نماذج الإنتهازيين الصغار من مختلف الطبقات والتي قدمها نجيب محفوظ في روايته المدهشة، فهو دائما يرفض مصارحة نفسه بحقيقة تحولاته، ويتصور أنه قادر على خداع الناس طيلة الوقت بالإستمرار في التبرير وتقديم حجج وطنية لكل تحولاته الرخيصة، ظنا منه أن ذلك سيجعله يحتفظ على الدوام بوهج المناضل المدافع عن المثل العليا، دون أن يدري أنه فقد مكانته لدى كثير من الذين آمنوا به وأنه تحول لدى بعضهم إلى أضحوكة مثيرة للقرف والإحتقار، لكنه وهذا الأهم تحول لدى البعض الآخر إلى عبرة يتعلم منها كل منهم كيف ينبغي أن لا يُفتن الباحث عن الحقيقة بشخوص المدافعين عن القيم والمبادئ، وأن يكون قادرا على التفريق بينهم وبين ما يدعون إليه من قيم ومبادئ، فإذا انقلبوا عليها في لحظة إنهيار فردي أو جماعي، فقد إيمانه بهم كأشخاص، وليس بما كانوا يدعون إليه من مبادئ وقيم يجب أن يتمسك بها وهو يسير في طريق الحياة المليئ بالمنعطفات والمطبات، حريصا على أن يسأل الله تعالى بأحب وأهم ما يجب أن يدعو به إنسان «حُسن الختام».
| |
| |