مــوت نـرسيس
ما هذه النجوم التي تتنفّس في الجَسَد? العينان اللتان ترشفان
الفضاء? الفريسة المستحيلة المطمئنة بين العناصر? البدر الذي ينزلق
بذهبه على الجلْد الملكي والأعضاء المنسابة في صفاء البلّور? أيها
العالَمُ, أيها العالم الناقص, ها هو الوجه الذي تكتمل في قسماته
الثابتة, ها هي الملامح الشمعية التي تذوب فـي خطوطها الملساء.
ها هو وجهك ها هي النقطة التي تبدأ بها الاشياء وتنتهي. أيها
العالم, يا مفقود الكنوز, ها هو كنزك الذي لا ينفد, تكوّر في هذه
الهبات الإلهية, إستغرقْ في هذا الغياب المطلق. ها هو نرسيس!
نرسيس المُقْبل أبداً على فجـره الواحـد, المُقْبـل أبداً على فصله
الواحد, المُقْبل أبداً على مرآته الواحده, المُقْبل على ذاته بين
الأسوار العالية. الحاضر بين الغيابات. وحده , يأتي ولا يغادر . ها
هو نرسيس يحوّل المسافة إلى حجر, الصوت الطالع إلى نسيان,
يحوِّل الحركة إلى ما يشبه الأعمدة الرخامية, إلى ما يشبه جفنيه
فلْتتلوَّ الواحدة المكتنزة أمام شغفها المتدفق, فلتلتمعْ في فيضها
اللازمني فلتفترس ذاتها وتتلذذ بثمارها, فلتتكررْ في دائرتها المغلقة,
في هوائها الساكن!.
كل هذا الزمن السادر زمنُك يا نرسيس, زمنك المسترخي
في حاضر لا ينتهي, في حاضر لا يتزحزح ولا يصل, باركاً في فجوته
الباردة. كـل هذا التـألق منـك يـا نـرسيس. ماؤك منك. شمسك
منك. هواؤك منك. لا يملك عصفور أن يسقط ريشةً على حصارك
الجميل, لا تملك امرأة أن تخدش حضورك الشاسع. افتح حواسك
على حواسك, عينيك على عينيك, كفيك على كفيك, ذاكرتـك
عـلـى ذاكرتك, فهناك الكنوز الأبدية, كنوزك. أنت الأب والأم
والزوج والزوجة والبرعم والوردة والثمرة والحديقة. الذكر والأنثى.
الأول والأخير. البتول الأبدي, مصوناً في برجك العاجي كعذارى
الملاحم لا يدركك صـوت, لا تسبيـك إشـارة ولا يُغري فمك الخالد
فم فانٍ, فاستوِ على عرشك الأوحد يا نرسيس, تَعَبّد لعظمتك,
اغسل بجمالك مراياك التي تملأ العالم من أقصاه إلى أقصاه, وانثر
الزهر والعطور على وجهك المطمئن, وجهك الثابت خلف قسماته
المطمئنة المتوهج في انتصاراته الخالدة.
أوراق الغــائــب
شجرة كينا تلمع من طفولتي وتذوب في الهواء. أطفال حولها يرمون ألعابهم ويتجمدون.
أموات يسندون رؤوسهم إلى الجذوع ولا يموتون. ينفخون أنفاسهم على المياه ولا ترتعش.
شجرة كينا تلمع من طفولتي بكل موتاها.
كأني اليوم أقود الموتى من أطراف تذكاراتهم.
كأن وجهيَ نصفه شارع ونصفه نافذةٌ.
يعبر الموتى من نصفه الأول إلى نصفه الأخير ويرجعون.
يصرخ الموتى من نصفه الأول إلى نصفه الأخير ثم أسمعهم.
وراء الموتى موتى آخرون من نصفه
الأول إلى نصفه الأخير, وراء الموتى
الآخرين موتى آخرون ينتصبون من نصفه
الأول إلى نصفه الأخير ولا يتسع لامّحائهم
ولا يتسع لحصادهم.
كأنيَ اليوم أقود الموتى إلى أطراف تذكاراتهم.
نساء يتباعدن في وضح الليل. يخلعن أجسادهن ويلوحن بها.
أتسلق النافذة ولا أراهن.
ذلك السرب المجنّح من السنونو يقطِّع
الهواء بأنصال مبهمةٍ. أرفع رأسي قليلاً
لأراه.
طيرانه كمن يتلفّت بعين واحدة.
ذلك السرب المجنح من السنونو يقطِّع
الستائر بأنصال مبهمةٍ. أرفع صوتي قليلاً
لأراه.
طيرانه كمن يخلِّي الصباح دفعة واحدة.
ذلك السرب من السنونو يقطِّع الأنفاس بأنصال مبهمة.
أرفع شِرياني قليلاً لأراه.
في العتمة تبتسمين على مهلٍ كما تُفتح نافذة بعيدة.
في العتمة
مرآتك على مهل طويل
كما يُقْبل الغريب
من الخلف.
كيف يمكن أن يميز الغائب بين أن يفتح
يديه ويرى نافذة?
كيف يمكن أن يميز الغائب بين أن
يغمض عينيه ويتنفس?
كيف يمكن أن يميِّز الغائب بين أن
يصمت
وينكسر
مصباح مطفأ على شفتيه.
من قصيدة: أيهــــا الطــــاعــن فـي المـوت
الشجرة المخمورة والظل السادر
اقترب في انحداره حتى التصق
بالضفاف فأي سكون يرفع حركاته
حتى الأشياء المعطوبة تهيأت لكلمات عالية.
(هنا تحترق الأجساد وتنتصب في رمادها)
ولو تقدم الوجه الملآن على لمع
القامات والهواء
هل ستفزع إليك حرقات غصَّت بحنين القمم
أو ترسل بين الأغمار أعلام المدن
وحدك رمح الريح في تناسل العناصر
تحفر في الرمل وتحدّق في الجباه
لعل تنبسط على القسمات سعادة البحيرات
كيف تروي أنك تحصى الجوع
وتنتحب
كيف تروي أنك ترثي الجسور
الشجرة المخمورة اشتعلت في الموت
وهزت أغصانها أصوات أيقظت الخشب
والتراب
الشجرة المخمورة دارت وامتزج
الحلم بالسكون