® مدير المنتدى ® رسالة sms : عدد المساهمات : 11575 الاٍقامة : وراء الأفق حيث لاشئ سواى وحبيبتى العمل : مهندس نوسا البحر : 2013-09-17, 5:21 pm | | حاسوبي حيث أقيم
شربل داغر (لبنان)
أستريح في مقعدي، وأرقب من النافذة الصغيرة الاتساع الشكلي واللوني الذي لا يتاح لي إلا في طائرة، طالما أنني لا أكون طائراً إلا على جناحي طائرة: هذا ما أعرفه في كل رحلة، وأعايشه بخفة مبتهجة بما يحدث لها، تماماً مثل الخفة التي كنت أعلو بها وتعلو بي، حينما كنت أُطير في فضاء طفولتي طائراتي الورقية. كانت هذه محاولاتي الأولى في تقليب الغيوم، وفي تفقد القمم الجبلية مثل رسوم في دفتر الدروس الصيفية.
هذه الخفة أستعيدها، اليوم، إذ أجلس إلى حاسوبي، أمام شاشته التي تتسع لما هو أكثر من مناظر مقعدي في الطائرة. وأشد ما يثيرني في هذه الجلسة هو أن المخلوقات تخرج من خلاء البياض، ممسكة بكلامها وأحوالها، كما لو أنها تتابع، بمعنى ما، ما سبق لها أن كانت عليه قبل خروجها هذا. بل تخرج متأهبة، خفيفة، ببزاتها الورقية الجديدة، كما إلى يوم عيد، وتمضي في وجهاتها من دون أن تستبين أبداً ما سيكون عليه مآلها. تمضي مرتاحة إلى ما تشرع به كما لو أنه سيدوم أبداً. لا تلوي على شيء، ذلك أنها مدفوعة بمحركات الرغبة، فوق صنادل من ريح.
أستريح، بل أرتاح هذه المرة، وقد جعلت طائرة خاصة بتصرفي؛ بل جعلت لأقدام الحروف الهوسَ الذي كان لي في صندلي، إذ ينط وينط، أو يركب عصا، ويخال الهواءَ موكبَه الخاص.
أستريح، بل أرتاح هذه المرة، بعدما تنبهت إلى أنني أقيم واقعاً في صالة “ترنزيت”: إليها أصل، ولا ألبث أن أغادرها، على أن أصل إلى غيرها. وما يبدو أنه وصول لا يعدو كونه استراحة، وقفة مؤقتة، قبل رحلة أخرى. إذ أقيم كما تحققت - في فضاء الانتظار والتوقع، في فضاء الهجس بالآتي، وبما للعيون أن تغتسل فيه. وهذا، في انتظار الإقلاع الذي أجد فيه دوماً مسافرين جدداً، يرافقونني في ما أعتبره رحلة خاصة.
لي أن أتدبر أمري معهم، ذلك أن الطائرة مأهولة، وإن ظننت أنني احتجزتها لنفسي، لمغامراتي الهوائية. مأهولة بأحلام وخيبات من رحلوا عنها، وبقي ألق كلامهم عالقاً في فضائها. مأهولة بتوقعات من يفدون إليها، على أن كل مسافر احتجزها لنفسه من دون أن يظهر ذلك فوق بطاقة صعوده إلى الطائرة. ففيها وحدها تندلع الأحلام والأوهام والمبادرات بما لا تسعه استعارة أو موكب رمزي.
لي أن أتدبر أمري معهم، كأن يرافقونني صامتين، في هيئة متفرجين في أحسن الأحوال، وإلا فإنني ملزم كما في نكتة شائعة إلى دعوتهم للخروج منها، وإلى تدبرِ أمرهم من دوني. كان في مقدوري شراء طائرة خاصة، إلا أنه يعنيني دوماً أن ترافقني كما في الأفلام “موسيقى مصاحبة”، “موسيقى تصويرية”، ليس إلا.
الطائرة تسعني كما تسع غيري، وتبقى في تصرفي، طالما أنني أنظر إلى من سبقني أو تبعني إليها مثل وجوه مجهولة، وإن كانت لها هيئات وألبسة متشابهة مع من سبق لي أن التقيتهم في رحلة سابقة أو مقبلة.
أستريح في الطائرة، بل أنام وأمتزج بالهواء، الذي يصلني كما في تشبيه بلاغي.
* * *
في ودي على ما يبدو أن أسافر من دون أن أصل، أن أبقى معلقاً، مشدوداً إلى بهجة الوصول، التي تعرض للمسافر مفاجآت دائمة، وإن ينتقل إلى البلد عينه. فللسفر بهجته المتجددة، ووَهْمه الأكيد، وبأن الحياة تجري، تتغير، وتنتقل من دون هوادة من رتابتها المقيمة إلى فضاء هواء متغير.
كان لي أن أصعد من طائرة إلى أخرى، أن أحيد بنظري عما كان يجري “في الخارج”: ففيه ما لا أقوى على تحمله من دون أن أشعر بإهانة، بصفعة.
في هذه المرة تحققت من أنه لا يكفي أن أقول لمن قضوا، من دون أن يعرفوا سبباً لموتهم: أنا آسف، كانت رحلتكم الأخيرة. لهم أن يعيشوا ولو فرصة جديدة، واحدة، جميلة، بسعة التوتر الالتذاذي الذي يرافق المسافر في السفر.
كما تحققت من أنني لا أقوى بعدُ على رؤية صورة صديقي الشهيد فوق جدران المدينة. في مرة سابقة قلت له: “لا تلتفت إلى الوراء”، وبات علي، اليوم، أن أقول له ببساطة زاجرة: “لا تلتفت”. ابقَ بحيث لا تخرج، ولا تصل. ابقَ بحيث تمضي الوقت مثل ثوان معدودة قبل الخروج من المطار. ابقَ بحيث تخال أن “العمر لحظة”، و”الحلم أبد”. ابقَ، واجعل لعينيك ما يكفي من الصور: تدبرْها، تسلقْ أول استعارة.
غيري ينتظر ويرجو، خاصة وأنه “وكل” إلى غيره، مهمة تدبير المخرَج، على أن المعابر المسدودة، والخيم المنصوبة، تبسط سجادة لكشافة الموت.
كيف لي أن أقبل بأنه ممنوع علي أن أمشي من دون إذنه، أن أتابع سطري من دون “كلمته”؟
أيعقل أن أبقى معلقاً لشهور في لحظة غضب، طالما أن الهواء وحده يتغير يوماً تلو يوم، لا عند هؤلاء، ممن يقبضون على رؤوسنا مثل قطع نقدية فوق طاولة مقامرة.
* * *
لهذا أقيم في حاسوبي، ولا أتوانى عن السفر. أيعقل أن تكون الرحلة شكلاً من الانتقام البارد، شكلاً من الحياة المؤجلة؟
أعمــــى يجـــس الصــــور ويَــزِنُـهــــــا
هذا الضوء يكفيني, تكفيني هذه الارتعاشة في الأصابع,
وهذا الضيق الذي يصعد من صدري طالما أن النور الداخلية
تضيء المفردات في سريانها في حركة تتجه حسب طاقتها, تثْقب فلا
تتمدد, تخترق فلا تستكين, تشع وتنطفئ مثل عود ثقاب, كما لو
أنك نقشت حجر الماء بعد أن قرأت أوراقَ النار دون أن تعرف ماذا
فعلت بخلاف الفتى الذي جلس أمام نوْله يصل الخيط بالخيط
والقافية بالقافية ساكنًا مثل عين لا ترى وديعًا مثل كنز مفقود مثلما
جلست ذات يوم أمام بابي دون أن أحادث المارة أو طيور الغروب
كشّاش الحمام قال لي سيأوي الحمام إلى أعشاشه في الوقت
المناسب حتى حين تنبسط السماء مثل ورقة بلهاء.
تعبي كلمتي
كلمتي وجهتي. وجهة العائم في المحيط في متّسع من الرغبات
هذا الضوء يكفيني طالما أن أصواتًا مثلما الريح تعبرني, وأنا أخيط
حبة الرمل بحبة الرمل كاشفًا وجهي تتقدمني عصاي
عصاي خطوتي
عصاي كسوتي
مثل أعمى يرى بعينين مفتوحتين يَجُس الصور ويزنها
هذا الضوء يكفيني لأنكبَّ فوق هذا الجدار بحنان القنديل بعد أن
عادت اليد المتسخة بشحم الدواليب إلى المريلة الزرقاء ونسي الفتى
طبشورته تحت قدم عجولة مثل قدمي, كانت تخط على الأرض ما
كانت تمحوه. مجهـــــول بـاقـــــي الهـويــــــة
أستعيد وقائع يومي كما في كرسي الاعتراف, بعد أن أشعل
قنديلي وأرى روحي على ستارة مضيئه.
طاولتي بمثابة خشبة مسرحية, أستدعي إليها من أشاء, لا بل
أدعهم يتدافعون بالمناكب أمام بابي:
يا حزمة أحزاني!
يا زحمة أحزاني!
لا أقوى على النوم قبل أشباحي
في غرفة مضاءة
في وضح النهار
أجلس إلى ورقتي:
أصوات أم أصداء?
مرآة أو نافذه?
أمرر أصابعي على وبر ناعم
لا بل أشد عليه مثل تعويذة
منتظراً طفلاً
ينتخبني أباً له
لو أنني أسكن جسدي
مُلكاً, لا إيجارًا
لوقعت
قدماي
في
حذائي
تمامًا
مثل
إصبع
في
خاتمه,
إلا أنني أغيب
كنت أصعد على درج تنبسط درجاته أمامي
كلما وقعت قدمي على الهواء.
تحط بي حياتي مجبرة على الهبوط
الاضطراري,
فأمشي بمحاذاة حذائي
حد أنني أراها تعبُر أمامي ـ
وبهيئة مهملةٍ..
خلف تجاعيد وجهي
وأنتظر خروج غيري من المرآة. من قصيدة: وطن رهْــن التوقيف, جســـد قيـد التأليــف
أنـزل درج العتمـة فلا أصلُ.
أقصد محطة الحنين فلا أجدُ
أما أبي فيتكوم حول السنديانة, يتمتم شيئاً أشبه بالصلاة.
لم يبقَ شيء غير التذكارِ,
غير هذا الغرابِ.
قفا نبكِ,
قفا نمضِ.
أنا ما طرقتُ الباب هذا المساء,
ولا التفتُّ إلى ظلي العالق في الرماد,
أنا ما ارتجفت,
ولا انتحيتُ زاوية في مشهد الذكريات,
أطرقت الرأس فقط,
لا أحدْ , لا أحدْ ,
الدخان هذا فقط.
هذا الدخان يبلغني
هذا الدخان يبلِّغني
أن نساء لم ينتظرن..
موعدَ الرحيل للبكاء.
على عجلٍ
طوينَ البيارق الممزقه..
على هلعٍ
بسطن أشرعة الغياب:
يا وجوهنا بلِّغي عنا.
هذه امرأة تجلس أمام نولها,
ترتق ثياب الخيبه
وثقوب الأحلام
لرجلها المحارب
وأبنائها الشاردين في منحدرات الحروبِ.
تسافرُ وهي تنتظرُ,
تهاجر وهي تفتكرُ.
هذه امرأة لا تخلع ثوب الحدادِ:
ثوب واحد
للبيت والمأتمِ
شربل داغر
* الدكتور شربل داغر (لبنان). * ولد عام 1950 في وطي حوب ـ لبنان. * حاصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها من كلية التربية ـ الجامعة اللبنانية 1974 , وشهادة الكفاءة في اللغة العربية وآدابها من الكلية ذاتها 1975 , ودبلوم الدراسات المعمقة 1977 , باريس الثالثة ـ جامعة السوربون, ودكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية 1982 , باريس الثالثة ـ جامعة السوربون. * يقيم في فرنسا منذ 1976 , ويعمل صحفيًا في المجال الثقافي منذ 1974 . * الأمين العام لجائزة الشعر الإفريقي منذ تأسيسها 1988 . * دواوينه الشعرية: فتات البياض 1981 ـ دم أسود 1989 . * مؤلفاته: التقاليد الشفوية العربية (بالفرنسية) ـ الشعرية العربية الحديثة ـ الحروفية العربية: فن وهوية ـ ترجمة رسائل الشاعر رامبو إلى العربية. *
عنوانه : 62, rue Louis Calmel, 92230 - Geunerrilliers, France. _________________ حسن بلم | |
| |