فكر في عارضي الأحوال ومدبجي الرسائل وهم يغطون على دكك خشبية, وبين فينة وأخرىيطلقون صبيانهم إلى أسواق الجملة لاصطياد فلاحين
وبدو ضلوا الطريق إلى دوائر العدل والاغاثة.
فكر في مدراء عموميين
يتأففون من مراوح السقف وغياب الصلاحيات,
يتنحنحون على كراس دوارة
فيخف إليهم متطوعون بالسكر الفضي والزنجبيل
وفي ملفاتهم تجف السدود وتفر القرى
أمام جباة فائقي الدهاء.
فكر في لصوص ينتعلون أحذية من كتان
ويسطون على ثكنات غادرها الجند إلى حروب التأديب وتطهير التلاع من عصاة ألبوا النواحي
على حاكم شوهد يتلصص على نسوة ينتفن شعر سيقانهن بمعقود السكر.
فكر في أمير نجا من مقتلة الأعوان
ولما استفاق رأى سيارة يحثون غلاما شاحبا على الغناء
فروى لهم وقائع ليلة الجواري والسيوف التي لمعت في المرايا.
فكر في صديق قتل في شارع جانبي على أيدي أشرار أرادوا أن يؤكدوا للآخرين
أن صحيفة الصباح تكفي لمواراة رجل ميت
وان بكاء أم في بلدة نائية ليس سوى بدعة لم يدرج عليها الأولون.
فكر في نهار من النعناع
يقود موكبا من البزاق الأعمى
إلى مجزرة على أطراف الخض رة ,
ونسوة يرمين مراييلهن على الأرائك
ويطعمن أطفالهن ثريد جيران أولموا
لرجال عادوا من مناسك مبهمة في الوطن الأم.
فكر في قائد اتكأ على رمحه أربعين عاما
قبالة أعداء تحجروا في سفح نظرته,
ولما رأوا الطير تأكل من عنقه
استأنفوا الزحف على الدساكر .
فكر في رجل صالح وصاحبه
كلما مرا بقرية انضم إليهما أفاقون
جعلوا أعزة أهلها أذلة
وحيثما ثقفوا مركبا ليتامى خلعوه;
ولما أشاح صاحبه بوجهه عنه
قال له
ألم
أقل
لك
أنك
لن
تطيق
معي
صبرا.
الغرباء الذين وصلوا الليل بالنهار
تمددوا بين الشراشف وأواني الضيوف
أعانوا السكان على أن يكون الأرق طويلا
بسجلات
ومعدات
وخرائط
مسحوا حليب الصباح العالق بشفاههم
وفكروا في أناس يبشون لهم عندما يلتقون ,
وما أن يولوا وجوه هم
حتى ينهالوا
على بهائمهم بالعصي .
لندن – آب 1989
من ديوان "وصول الغرباء"
توديع غرناطة
(...) وفي قاعـة السفراء تحت سقف الصنوبر والأرز في الحمراء في قلب الهندسة الزرقاء الحمراء الخضراء الذهبية اجتمـع شـيوخ الثغور وفقهاء غرناطة والقضاة واهـل الرباط مع الأمير وقد جلست حده أمه ملثمة بين العلماء والوزراء كيما يقرروا هذه المرة حياة أو موت آخـر خطـوة فـي القضية.
يا محمد أيها الملك إنهم أشعة مملكتك أصغ إليهم يردون على أقوالك بكلمة واحدة: التسليم.
"أراغون، مجنون السا"
1- الرابيـة
لن نعرف كم غفونا هناك
تحت ظلال رموشنا
وكم دارت بنا الأرض
في كتب تداولها مقتنون عديدون
لكننا رجعنا أخف ما نكون
ولم نجد م ن تركناهم على الأبراج
يصدون رياحا من سبع جهات .
كأننا
طويلا
غفونا
وإلا كيف كلح الطيف
وتغضنت قمم الجبال
وأحدودب الألف
كأن سهم الماء الراكد بين ضفتين
طريق شركائنا, عائدين, كما ألفنا,
بقامات مائلة من مبادلات الحدود.
لم يعد للنخيل ما يفعله هنا,
ولا للأغاني ما تزود به سفر الغرباء.
على دراهمنا أثر من النوم
وفي أصواتنا رنة تمتصها الريح .
وها نحن نعود
لنشهد مصير النجمة والغصن
ونرى الأمير
خفيفا
على الأرض
بساقين من قصب يستنهض العاصفة .
رفعناه قليلا
لتكون الرابية التي غذذنا إليها مبكرين
حسرته الأخيرة
ليبكي على حجر الألى
دارا
وأترابا
ونائمات ببكوراتهن
بيضاوات في خدر الضحى.
الضوء يفسد
جرح الماسة ويرد الرقى إلى مادتها الأولى.
سنهيىء سعفا ليوم الجمعة
ونرش الملح على طريق الضواري
ونقف للنهار بالمرصاد كيما ينام
أفليس أخونا الذي من الصبا جدلنا شعره
وربيناه بين العذارى ليكون أكثرنا جمالا
تحت
خائنةالعيون؟
قربك
البهاء شاهق
والفتوة
في إهاب ضيق
والسيف الذي أجلاك من مرح الطفولة
لامعا
يملي
على
العرش
حده.
الخوذة والرمح يقطعان جسر الصرخة
ويضعان حدا لترفع الكلمات.
[ثمة، على الأسوار
من
ينضح
هواء
خاثرا
بالمواعين]
نتنفس معك
وأنت دليل السدى
هواء الأسلحة يهب من ليل الغلبة.
العاصفة
لا الحكمة
تروز النوايا
وتقيم وزنا للأبراج.
القوة , مطمئنة لأثقالها,
تتمطى في الهباء الساقط
من مراصد شاخصة إلى النجوم
تشغل ما شغلت من المرافق
تمحو
وتكتب
وترث
الأختام .
أينك أيها المائل على أكتافنا بقنـزعة الملك ومجازه
ممن بدروعهم وأيقوناتهم وصلوا سريرك, بعد لأي ,
يلصفون بزيت القربان تسبقهم وتوطد لهم
تحالفات مشهودة في النواحي,
رفعوا كؤوس مراوغة الليالي إلى شفاههم
وتقلبوا بين متاهة الزليج وتصور السموات
منجذبين الى رجع الهمم وملاطفات الأنفاس.
[جدل الجباة والمتكلمين يتصادى في ردهة المجلس الأعلى لشؤون الرياح
بينما الامير , على الطنافس, يفلق الرمان بكلتا يديه
ويرمي الأحاجي على خلصائه]
الغالبون مشوا حيثما هفهف إستبرق
وخض جناح كاسر قاعة السفراء
يسحبهم من أطراف بأسهم
حس إناث صغيرات صعدن إلى العرش ودلين أقدامهن بيضاء =في صحاف الندىلما كانت الطفولة تنهى وتأمر .
رأوا الضوء والظل يحفظان عن ظهر قلب
معارج النهار وتقلب الأمراء في المضاجع
فنـزولهم إلى الردهات والدواوين
يتمايلون
من
روعة
الصبا.
تطامن الأقواس والقبب
إذ يستخف الجمال أيدي الصانعين
المهارة
مخفورة
بحدودها;
فوق
كل
ذي
يد
يد
وكل جبل
قمة وسفح .
هكذا أسلم خفيضا وصامتا , نفسه لمشيئة الأصيل.
الخفيفون على الأرض نـزلوا من الطرف الاخر
وجاء جبابرة بزانات طويلة أرسوا قواعدهم في الأسواق
ورطنوا الأسماء .
كذلك تكفلت الريح بالشعلة
والأمطار بآثار الراحلين.
لمن إذن
بيدين أوصلتا الجبابرة إلى البيت
وقدمت المفتاح
تنصب الأيام فخاخها
في ارتفاع المهج
وانقطاع الأنفاس؟
الندم
أب رسم أبناءه القتلى أدلاء إلى التيه
ويلوك عشبا صامتا على رابية.
2 - ميلان النهار
العذراء وصلت بطولها المحسود مشيا على الأقدام
أختا للصباح الصرف عبرت خط الأزل
وصارت عينا لضرير ينحت في الهواء
حاشية للأمير النائم تحت الكتان.
بين الشقائق ممنوحة لرابعة النهار
وطأت
بقدم صغيرة
ناحية الأجراس .
في الربيع الموصوف
جاء مداحون ونسابون
وعازفون بنايات طويلة
وكان
الدخان
يحجب
هياج
الأكباش .
لا بيضاء
ولا موشومة على الزند الفتي
بنظرة الواعدة نفسها بالكثير
رازت وزن الهواء بين الجبل والهاوية
وتركت للساهر على كنـز الأرق
درهما ذهبا بين الكاعبين.
هوذا يوم ها الكبير
يوم العذراء تدق بكعبها ممر الأصيل الطويل
تسب قها الأجراس نفسها التي دشنت
تلعة جديدة بين الرواسي,
يوم السيف
والأكليل
والوجع الذي يحيل الطفولة ذكرى,
يوم اليد ممتدة لتصل إليها
وتبز علو الذي كلما نظرته العذارى
رأين حصانا
في صدره سهم
وتحت غرته شارة الأجل ,
يوم شميم الصبا
مكنوزا فيحقه
على العشب الحوشي
يوم الجمال جهالة من رأى
أفصح من عيد وأدنى من حبل الوريد .
لم يعد للجواري ما يكدن به في الليل
فقد وصلت من بنظرتها
أسقطت الثمار المتلكئة عن الأغصان
ونامت عارية على سطح السهر .
تتنفس تحت الخشخاش
جنب الأفعى التي احتفظت بصلها لعشر ليال
مغمضة
تسعى لتنال حصتها من الألم.
الم نادى بها
تمهلت في رمي نبلتها
كبد النهار اللاهي بين الأشجار .
لامير بطيلسانه على الأريكة
يخف إليه الأقربون بالطاعة نفسها
التي يفشون بها الأسرار
في..... مخادع الحمى
الطرف
الأخفى
الأنوثة
حاكمة
بأوهى الحيل.
مثهم أدركت ميلان النهار
إذ أودع الأصيل النخيل
شماريخه من دم الأختين,
باليد التي روضت نمر الأنفاس
تتقرى شغور المساء من رنينه المعتاد
وتعطي انطباعا بالمدى النافذة إليه الريح
بين الأشجار
بلغ
السيل
كال
الذي
كال
واكتالت بمكيالين.
الضغائن التي تطعم الليل ثديها
خارت قواها
وهن العظم
وانقطع المداد
الضراعة شآبيب لمن بيده السيف قريبا من الأسوار
ومن بيده المفتاح واقفا على العتبة
فسلم ,صامتا , بما آلت إليه الأيام
وسط تصاخب راحلين .
ليس الغروب بلا ثقل على أكتاف رافعي النهار
تاركي جنة العريف تحت رحمة الهبوب
غير أن الموت بالقناع الساهي لاعب في
الجوار يرمي نرده على حصص الهواء
ومن بين أصواته المجربة
يختار أضعفها
الشهقة
انبلجت
فأضاءت
ضجعة
النسر
على رابية.
الأمير
صعرت خدي لآلآء النهار
لا أقدم
ولا أؤخر
تاركا التباريح تسلس قياد الأنفاس .
ما حاجتي, بعد , بالنظر
الغيابة تفي بوعودها
فألج المتاهة مشفوعا بظلمتي.
يا لخفتي
الهواء يرفعني حيث تخلو الفكرة
ويكون ما تبقى من الضوء كافيا
لأرى ما دبرته يداي.
الغياهب تتلو علي
ويغمرني بهباته الهجران .
أنا أبو عبد الله المكنى بالصغير ,
بكر أمي
ولدت تحت لبدة الأسد
رايتي حمراء
ودليلي نهار يميل
سلكت طرقا مشاها أسلاف خطرون
بهمة دم يطرد دما
ووصلت إلى ما دال للقادمين.
الكلمات التي رفعتني فوق معيتي درجات
ستسبقني وتهيء لي مصيرا لن يجادل فيه عابرو المعاني
أنا الذي نودي بين العذارى ولم يكن بيده حسام بل حمامة بيضاء طارت
عندما ختنوه فبكى
لم ار أى الموسى ترشح دما فانهالوا عليه بالقطن
عشت النهار الغالب في عبر ارتجزها مصيري
وفاجأتني بصورتي على الدراهم وأنى وجدت
طيفي جالسا على النمارق أنكرته
فلم أكن من نودي به كنت شقيق المساء
أستدرج طفولتي من متاع القوة
إلى معجزة تتمرأى في الظلال .
آيتي اليوم أن أكون صامتا وسط فصحاء النهار
منقطعا لرنين القوافي بين أسنانهم الكبيرة .
ولما جلست على العرش واستوى الأقربون
وعدت بما لم تصوب إليه أعين كائلي القمم
بما يكفي لأنام نوما يؤرق متسقطي الأخبار ,
بالعهد يحمل إلي دهاقنة النواحي
ببرانسهم البيض منـزهين من كل قصد
وبالهواء الصافي
يقلب سرائرهم على وجوهها
ويأخذ بأيديهم عبر الأشجار .
... ووعدت بالغصن والثمرة
بالمنامة في الطرف الخالي
لم تقدر ضراعتي لمن ألقى بها على وجهي,
بالشميم منبلجا من ضربة السمهري
بجت ربيب الظل فلقتين,
بغالب الجبابرة
اخذ هم بالتلابيب
بساحبهم من خرزات دروعهم
يجرجره من على خيط اللعاب مدنفين.
بالنوم نوم الذي مطمئنا
أن
الصباح
لناظره .
ومن فرط انتظاري ظننت سهم الماء طريق ثقاتي عائدين, بوثبات كبيرة , من حصاد الثغور .
على درج السهاد
سمعت خطو العذارى يتصادى في صالة العرش
ورأيت الندى يتبلر على الترائب .
الأنفاس التي تقود أكبر الفاتحين إلى مرابعي الآن
أهرقت, من قبل , عبيرها السام على بدني
وأدخلتني مضائقها.
أكاد أسمع من سفح غيبوبتي مداحة خفتي تئن تحت ثقل الزند
حيث الصليب وخوذة الفارس يمحوان ظلال قامتي على المياه.
الرائحة التي تهب من هناك
تبلغ مرادها وتستحكم .
رائحة
مرور
اليد
على
تحالف
العشب
والندى.
هناك صيف صممته بيدي الكليمة لم يأت
ولا الذين غفوا جنب يقظتهم في الوصيد .
هناك قمم أعلى وراء تصوري ل- شلير"
حيث الأخوة على أشدها
والسلام الموعود أنقى ما يكون قريبا
من أكتاف مذللي الليالي.
هناك جبابرة , أيضا
أخرجوا غيرنا من شراشفهم
تاركين دروبا أولت اسماءهم
وأناسا أذهلوا المنشدين بالصفير .
وهناك من يصعد إلي
وأنا أرى شعلة الحمراء
تتلطف بها الريح .
وصل الغالبون إلى الفكرة التي سبقتهم
وسددت خطى الغرباء إلى غايتها
كاملين
سوى
من ندب
تركتها
الريح
على
وجوههم
تذكارا .
اليوم ينام واصلو البرج بالوادي على سريري
تحت تسعة وتسعين اسما لليقظة .
ما
أطول
انتظار
الطعنة .
لا سيفي
ولا لداتي
ولا مؤولو الأحاديث
سيردون المكتوب إلى حبره
ويرجعون بالنبأ إلى الطير رمانا به وتناهى
في
ليل
بهيم
منقطع
النظير .
أريد أن أبلى هناك
في فجر الهباء الكبير
قانطا
متصدعا .
طويلا
أريد أن أنام
خفيفا ,
إلى الأبد .
ما عرفت , مذ نوديت , سوى هذه الرغبة
تقودني بخطمها الأعمى إلى مسيل الليل
سوى لهب البنفسج يصاعد من تنين الجوف
سوى الإم حاء .
بأوعية الندم نضحت غبار الأفكار
وتركت للمقبلين
زفرتي حجرا
على رابية.
من ديوان "مرتقى الأنفاس"
أي الأناشيد تلك
I
ماذا نفعل بالجبال الأكثر علوا من قاماتنا نحن
الفتيان المزهوين بأغصان الفتو ة ونحاس القبضات؟
تنأى الأكمات والكينا وأشجار الترمس البري ,
ويتسع قلب الأسمنت, وتنفرد غزالة بالركض
على قميص، المؤابي، وتقترب سنابك الهجانة
وصليل الخيزران , وسيارات الجيب المكشوفة..
أي هلع يصيب الحباري آنذاك. أي ارتجاف يشيل الضحى المتباطىء بين أعشاب الشيح
ونقرة الماء، ويحطه شظايا؟
أي شعر إذن سيعيد لنا لسعة مياه الفجر في
حقول الشمال؟ أي الأناشيد ستنهض فينا
المسرات القديمة, وتعيد دفء الصباحات إلى
زغب العارضين ؟
II
اتسع نطاق المغامرة فدلفنا إلى القصيدة والأرض.
اختلط كل شيء بكل شيء, فجاء الأردنيون من
أسرع المهار الى خيام مشدودة على أسنة
الحراب التي تدعي أيدينا وتدعي لوننا
وتخطف من "عجياننا" حليب النوق وغرة الفرس
المحجلة .
اتسع نطاق المغامرة فجاءت نساؤنا إلى صفيح
المدن، الوشم تحت الشفة السفلى أو على الزند، والخزام في الأنف، والثياب السود إعلانات على أزمنة النفي
والطراد .
جاء الأردنيون من أوسع برية وأكبر شمس
ودخلوا في حاضنات الرصاص وأنفاق الفوسفات ومغاور البر ق;
جاؤوا من الشمال والجنوب، من البحر الميت
والصحراء، فألفوا المدينة متناهبة بين سدنة الخرائط
وتجار المواشي وموثقي العقود.
كانت "فيلادلفيا" معد ة لاستقبال الأمير.
الإحتفال والنشيد لهم
ولنا مشاريع
التوطين والسدود النخرة والمعلبات.
واهراءات "روما" اندلعت في اسطبلات خيل
الأمير.
اندفع العبيد باتجاه التمثيل الضوئي ومقالع
الكلس، يخصون الثيران ويحددون الأرض
فالعمامة البيضاء استوت على رأس
الأمير والحاشية انتظمت في وبر الجمال، والطرق
شقت وبهائم البريد سيرت. اتسع نطاق المغامرة
فجاء "كليب الشريدة"(*) مع رعيل الخيل
والأنصار وتحصن بالزيتون. البواريد ذوات
الطلقة الواحدة في يد واللجام في الأخرى, فسرت
رعشة في ظهور النساء فأطلقن الزغاريد وعجن
الحناء .
اختلط كل شيء بكل شيء ولم يتقدم الزيتون
شبرا واحدا، ولكن الطواحين ظلت تدور.
من الشمال إلى الجنوب ظلت أحجار الرحى تطحن القمح
والندى وأصابع النساء، تطحن مناديل الأعراس
والحلم المخاتل.
III
فإذن، فإذن، من سيوقد حجرا في الشعاب والأغوار، حيث يقعي ذئب،
وتصفر أفعى، ويخر شواظ على سائر متوحد
في بهمة الليل؟
بيروت 1980/10
* قائد انتفاضة فلاحية في منطقة "الكورة" شمال الأردن في العقد الثالث من هذا القرن
الرائحة تذكر
الرائحة تعود لتذكر
الرائحة ذاتها
في المتروك
والمأهول
بالطيف والهالة .
الرائحة تذكر بأعطيات لم يرسلها أحد
بأسرة في غرف الضحى
بثياب مخذولة على المشاجب
بأشعة تنكسر على العضلات
بهباء يتساقط على المعاصم
بأنفاس تجرب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيلا
بالترائب
بأكباش يهيجها البول برواد فضاء تخطفهم سحنة القمر
بالصنوبري
بالليلكي
بالمشرئب
بأمطار على أسطح من طين
بحنطة مركوزة في الحظائر .
الرائحة تذكر بالأعشاش
بالنـز
بالغيبوبة
بالمستدير
بذي الحافة .
الرائحة ..
الرائحة ذاتها التي تهاجم في أمسيات
معلقة بقنب الهذيان.
دعي متربص الشقوق
يشهد صحوة الفراشة .
الرائحة
تصعد
إلى
الخياشيم,
اليعسوب
يطير
بين الأ عمدة
ويهوي
على العتبة .
قربيه صائد الضعف
من رقائق الذهب ,
قربيه
من الزغب الطالع على المرمر
من طعنة الآس
من تويج زهرة الإغماء
من الذي يعيد الفم إلى طفولته
ويطلق اللسان حية تسعى.
الرائحة تبقى
على اليد
في الأنف والشفتين
في ثلم الصدر
على الشراشف
في الهواء المكابر
الرائحة
ذاتها.
يا لأحكام النهار إذ تبدأ القهقرى
وللمواضعات إذ تساقط تباعا
وللرغبات إذ تطلق فهود الكتفين
لتجوس مفازة الهجران.
لندن - صيف 1988
من ديوان" سر من رآك"
أمجد ناصر
في زمن عربيّ اختلط فيه الحابل بالنابل ويصعب تصنيفه الآن، طيّرت وكالات الأنباء من نيويورك خبر وفاة شاعر "المقاومة الفلسطينية" راشد حسين، محترقا بسيجارة كان يدخّنها وهو يغفو غفوة لم يفق منها. بعد ذلك كان علينا أن نقرأ في صحف الصباح خبر احتراق الفنان التشكيلي السوري المتمرد لؤي كيالي بسيجارة في منزله بمدينة حلب.
لا شيء يربط هنا بين وفاة الشاعر الفلسطيني في نيويورك والرسام السوري في حلب سوى الموت بسيجارة.. ليست بالضرورة من النوع نفسه!
محتمل جدا أن تكون هناك صلات ثقافية، وتشابهات مزاجية، أو تطلعات تحرّرية ربطت على نحو غير مباشر بين شاعر فلسطيني يقيم في نيويورك ورسام سوري من حلب، ففي تلك الأيام لم يكن العرب قد بلغوا "سن اليأس" الوطني تماما، رغم لمعان نذر الخروج المصريّ الرسمي من الصراع مع إسرائيل في الأفق، فقد كانت هناك أحلام، بل مشاريع مشتركة، بوسعها أن تحمل على أجنحتها المحلّقة شاعرا فلسطينيا يقيم في نيويورك ورساما سوريا من حلب.
هذه المقالة ليست عن الشعر أو الفن التشكيلي، ولا هي عن راشد حسين، الذي لم يقبل قسم من الفلسطينيين أن تكون سيجارة مشتعلة سبب موته المفاجئ، ولا هي عن لؤي كيالي، الذي قيل إنه أراد الموت حرقا عندما تمدّد على فراشه وتناول حبة "فاليوم" عيار عشرة ملغ، وأشعل تلك السيجارة الأخيرة، كما أن هذه المقالة ليست عما يسببه التدخين من كوارث "جانبية"، بل عن التدخين نفسه، أو بدقة أكبر: الإقلاع عن التدخين. " أعرف من أين أبدأ، وكيف. لديَّ "خريطة طريق" كتابية واضحة ولديّ من يقودني في متاهاتها الداخلية: السيجارة. من دون السيجارة، ذلك الضوء الساطع في ليل الكلمات، لا كتابة "
وعلى النحو الذي استهل فيه غابرييل غارسيا ماركيز مقالته "ذكريات مُدخّن متقاعد" أبدأ مقالتي، أو بحسب تعبير ماركيز، ذكرياتي.
"لم أترك التدخين لأي سبب معين، ولم أشعر مطلقا بأني أصبحت أحسن حالا أو أسوأ حالا، ولم يتعكر مزاجي، ولم يزد وزني، واستمرّ كلّ شيء كما لو أنني لم أدخن في حياتي قط، أو كما لو أنني ما زلتُ مُستمرا في التدخين"!
هذا ما يقوله ماركيز بعدما أقلع عن التدخين، ومثل معظم مقارباته المحتدمة للأشياء فإنّ ما قاله يبدو لي غير قابل للتصديق. أعني بحسب المعنى الحرفي لتلك الكلمات. أو بتعبير آخر: بحقيقتها الواقعية، إذ غالبا ما "تضيع" الحقيقة عند ماركيز تحت قصفه البلاغي وتزاحم مجازاته وتلاطم ألفاظه.
المجازات، الصور والكلمات، هي تقريبا "حقيقته" الأدبية. إنها "التحويل الشعريّ للواقع" الذي يصرف النظر عن "الحقيقة" الواقعية. يغريني الكلام عن سيّد الواقعية السحرية فأسترسل، أو أصاب بعدواه. لأبقى، إذن، عند ذلك المقتبس الذي استهللت به حديثي.
أصدّق الجملة الأولى من كلام ماركيز ويصعب علي، بل يستحيل من "واقع التجربة" كما يقولون، تصديق ما تبقى. قد لا يكون هناك سبب مباشر وضاغط دعاه -أو غيره- للتوقّف عن التدخين. هذا ممكن. لكن أن لا يشعر مطلقا بأنه أصبح أحسن حالا أو أسوأ، وبأن مزاجه لم يتعكر، وبأن وزنه لم يزد، كأنه لم يدخِّن في حياته قط، أو كأنه (يا لألعابه اللفظية المدهشة) مستمرّ في التدخين!!
طيِّب. سأتحدّث عن نفسي الآن وأروي تجربتي مع الإقلاع عن التدخين. في عام 1996 تحدّاني صديق أقلع عن التدخين توّا بأني لن أستطيع أن أحذو حذوه. قلت له إني أستطيع، أمهلني بضعة أيام ريثما أفرغ من بقايا "كروز" المارلبورو الذي لديّ الآن! قال متى يعني؟ قلت له يوم الاثنين القادم! كان ذلك يوم أربعاء أو خميس.
أعطيت موعدا حاسما لا مجال للتراجع عنه مع بداية الأسبوع (الغربي). مع آخر سيجارة من آخر علبة من "كروز" المارلبورو انتهت علاقتي بالتدخين لتبدأ علاقتي مع كلّ ما قال ماركيز إنّه لم يعرفه بعد إقلاعه عن التدخين: التوتر، و"النرفزة"، وتعكرّ المزاج، وازدياد الوزن، والتفكير بالسيجارة طوال الوقت، والأسوأ طُرَّاً: التوقف التام عن القراءة والكتابة.
كلّ فعلٍ حيويّ في حياتي ارتبط بالتدخين. إنه الناظم السري (هل أقول السحري؟!) لحبّات سبحة الحياة اليومية: الصحو صباحا لا يكون صحوا من دون فنجان قهوة، وهذا الفنجان لن يكون له طعم من دون السيجارة الأولى التي تُعَزَّزُ، سريعا وتلقائيا، بالثانية فالثالثة إلى أن أكاد أشعر بانسداد في حلقي. أكره التدخين للحظات بعد متوالية السجائر الصباحية. ثم سيكون علي التوجه بمزيج من السعال والكره المضمر للتدخين إلى مكتبي (الركن المخصص لي في البيت) حيث تنتظرني مشاريع مقالات، وقصائد، ونصوص تبحث عن تجنيس لها. " يمكن القول إن السيجارة تشبه (ولكن على نحو معاكس) أنبوب الأوكسجين الذي يديم حياة بعض المرضى. إنها ضرع الحياة الذي لا فطام منه.. أو هكذا بدا لي الأمر إلى أن جاء "يوم التحدي" ذاك.. فتوقفت تماما عن التدخين "
هناك مواعيد محددة ينبغي أن تُوفى. هناك زوايا تنتظر أن تُملأ في يوم محدّد من الأسبوع. أعرف تراتب "مسؤولياتي" الكتابية. أبدأ بالمهم. وهو ليس بالضرورة قصيدة أو نصاً ملتبس التجنيس بل لعله أن يكون مقالاً كتبت عنوانه فقط، أو بضعة أسطر منه.
أعرف من أين أبدأ وكيف. لدي "خريطة طريق" كتابية واضحة، ولديّ من يقودني في متاهاتها الداخلية: السيجارة. من دون السيجارة، ذلك الضوء الساطع في ليل الكلمات، لا كتابة. بل لا طرف خيط "أردياني"، ابنة مينوس ملك كريت، الذي قاد حبيبها "ثيسيوس"، ابن ملك أثينا، داخل المتاهة العظيمة. "خيط أردياني" لا غنى عنه للتجول داخل المتاهة والخروج منها.
قد يقيض لي قتل "الميناتور"، في جولتي داخل المتاهة، وقد يظل يخور، بصوته النحاسيّ المؤرق، إلى جولة قادمة. لكن الخروج، بفضل الخيط السحري، مضمون. المعدة التي لم تتلق، حتى الآن، سوى جرعات متواصلة من القهوة العربية المركّزة تستسلم إلى العادات المزمنة، فلا تثور، بل تستكين بلا احتجاج يُذكر.
ثلاث إلى أربع ساعات تتواصل، كل صباح، أمام "الكيبورد" بفضل الدخان، الذي يتلوّى بين أصابعي "كالأفاعي الصغيرة" سعيا وراء "الميناتور". المنافض المتنوعة ضرورية لتحسين شروط التدخين وتزيينه، لذلك يكون عليّ أن أختار منفضة معينة كل صباح. منفضة نظيفة لا رماد فيها ولا أعقاب. تلك النفايات التي سرعان ما تكتظ بها المنفضة فأقوم بإفراغها، بقرف من لم يعرف التدخين يوماً في سطل النفايات محكم الإغلاق، معطلا في الأثناء حاستين على الأقل: النظر والشمّ في حال من التواطؤ المكشوف مع الذات.
الأمر المؤكد بعد نحو ثلاث ساعات أمام الكيبورد (لاحظوا أني لم أتحدث عن القلم فهو يتنسب إلى زمن آخر ذي غنائية مجنَّحة!) أنني دخّنت عشر إلى اثنتي عشرة سيجارة! هذا هو "إنجازي" المؤكد، و"المضمون" الذي لا أفاجأ فيه، ما يفاجئني حقا أن أكون قد أكملت ما كنت أعمل عليه: مقالة، قصيدة، فقرة من كتاب. أقمع، في حال من النكران الكامل، أسئلة يطرحها عليّ الجانب "المسؤول" فيّ، من نوع: لا تربط السيجارة بالكتابة، وبـ"الإبداع"، فها أنت دخّنت عشر إلى اثنتي عشرة سيجارة حتى الآن (أكثر من نصف علبة) ولم تكتب سوى خمسمائة إلى سبعمائة كلمة في أفضل الأحوال، وأحيانا كثيرة لا تكتب بضعة سطور! مثل هذه الأسئلة تُقْمَع في الحال.
التواطؤ في نفسي يعمل بكفاءة منقطعة النظير، كي أصل إلى الظهيرة. أتناول غداء (سريعاً) وأفكر متى سينتهي الغداء ليأتي وقت الشاي! وهذا وقت للتدخين من غير أسئلة وشكوك وريب. لا مجال مع كأس شاي بعد الغداء لأيِّ تساؤلات يطرحها الجانب "المسؤول" فيّ. الشاي والسيجارة صنوان لا يفترقان. " ثلاث إلى أربع ساعات تتواصل، كل صباح، أمام "الكيبورد" بفضل الدخان الذي يتلوّى بين أصابعي "كالأفاعي الصغيرة" سعيا وراء "الميناتور". "
ولضمان "شرعية" هذا القران يحلو لي أن أستحضر أشخاصا في أفلام أو مسلسلات أو كتب يرتشفون في استرخاء سعيد، أمام "برندات" بيوتهم أو وهم جالسون إلى طاولات المقاهي، كؤوس الشاي مع "سحبات" طويلة، ومحبوسة، من الدخان. ولأمر ما فإن معظم هؤلاء الذين تستدعيهم ذاكرتي مصريون. قد تكون الأفلام أو المسلسلات التلفزيونية، أو قراءاتي للكتاب المصريين المتحدرين من الأرياف، هي السبب.
بحكم عملي الصحفي فإن دوامي يبدأ بعد الظهر. أصل إلى المكتب فأجد طاولتي نظيفة، ومرتبة. منفضة السجائر الزجاجية تلمع. أصنع كأس شاي سريعة ولتبدأ معها متوالية التدخين لما تبقى من النهار، ففي تلك الأيام لم يكن التدخين ممنوعا في المكاتب (الأماكن العامة عموماً) في لندن.
هذا وصفٌ تقريبي لروتيني اليوميّ المنضبط، كعسكر الإنجليز أيام عزِّهم، بالسيجارة. هناك تفاصيل عديدة أخرى يستعان عليها بالتدخين. مع كلّ استثارة حسيِّة أو عقلية أجد يدي تمتدُّ، أوتوماتيكيا، إلى علبة السجائر.
لا تتم الاستثارة في الفراغ. لا بدَّ لها من وسيط أو بيئة تقع فيها: التدخين. هذا يعني أن الخبر الجيد يتطلب سيجارة، وكذلك الخبر السيئ. ما بين يحتاج، أيضا، إلى سيجارة لتمريره، باعتباره حالة لا معنى لها سوى توسّطها بين استثارتين! مما يعني أن التدخين مستمر طوال الوقت. الوقت الوحيد الذي لا تدخين فيه هو النوم، ولكن يحصل حتى في وقت يتم الامتناع فيه عن التدخين، قسرا، أن أرى نفسي في حالة تدخين!