قال : حدثنا عثمان بن ساج قال : بلغنا في الحديث المأثور عن وهب بن منبه قال : كان بطن مكة ليس فيه ماء وليس لأحد فيه قرار حتى انبط الله لإسماعيل زمزم فعمرت يومئذ مكة وسكنها من أجل الماء قبيلة من اليمن يقال لها جرهم ، وليست من عاد كما يقال ، ولولا الماء الذي انبطه الله تعالى لإسماعيل من عمارة لم يكن لأحد بها يومئذن مقام ، قال عثمان : وذكر غيره أن زمزم تُدعى سابق ، وكانت وطأة من جبريل ، وكانت سقياها لإسماعيل يوم فرج له عنها جبريل وهو يومئذ وأمه عطشانان فحفر إبراهيم بئر زمزم بعد ذلك
وقال أهل العلم : كانت جرهم تشرب من زمزم فمكثت ، فلما استخفت جرهم بالحرم وتهاونت بحرمة البيت وأكلوا مال الكعبة الذي يهدى لها سراً وعلانية ، وارتكبوا مع ذلك أموراُ عظاماُ نضب ماء زمزم وانقطع فلم يزل موضعه يدرس ويتادم وتمر عليه السيول عصراُ بعد عصر حتى غبى مكانه ، وقد كان عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو الجرهمي قد وعظ جرهماُ في ارتكابهم الظلم في الحرم واستخفافهم بأمر البيت وخوفهم النقم وقال لهم : إن مكة بلد لا تقر ظالماُ ، فالله الله قبل أن يأتيكم من يخرجكم منها خروج ذل وصغار ، فتتمنوا أن تتركوا تطوفون بالبيت فلا تقدروا على ذلك ، فلما لم يزدجروا ولم يعون وعظه عمد إلى غزالين كانا في الكعبة من ذهب وأسياف قلعية كانت أيضاُ في الكعبة فحفر لذلك كله بليل في موضع زمزم ، ودفنه سراً منهم حين خافهم عليه فسلط الله عليهم خزاعة فأخرجتهم من الحرم ووليت عليهم الكعبة والحكم بمكة ما شاء الله أن تليه موضع زمزم في ذلك لا يعرف لتقادم الزمان حتى بوأه الله تعالى لعبد المطلب بن هاشم . لم أراد الله من ذلك فخصه به من بين قريش .
وقد تحدث الفاكهي عن ذلك فقال وكان ألأول ما ابتدى ء به عبد المطلب من أمرها وهو نائم في الحِجر كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري ، عن (مرثد) بن عبد الله اليزني ، عن عبد الله بن يزرير الغافغي ، قال : أنه سمع علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها ، قال : قال عبد المطلب : إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت ، فقال : احفر طيبة . فقلت : وما طيبة ؟ ثم ذهب عني فرجعت إلى مضجعي ، فنمت الفد فجائني فقال : احفر بره . قلت وما بره ؟ ثم ذهب عني فلما كان الغد ، رجعت إلى مضجعي ، فنمت ، فجاءني ، فقال : احفر زمزم . قال : قلت : ومازمزم ؟ قال : لا تنزف ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم وهي بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل
قال : فلما تبين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه صُدِق غدا بمعوله ومعه الحارث بن عبد المطلب ، ليس معه ولد غيره ، فلما بدا لعبد المطلب الطوى كبر فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته قاموا وقالوا : يا عبد المطلب ميرثنا من أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها شركاً فأإشركنا معك فيها قال : ما أنا بفاعل ، إن هذا أمر خُ صصت به دونكم وأعطيته من بينكم ، قالوا : فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نحكمك فيها ، قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أخاصمكم إلى كاهنه بني سعد بن هذيم ؟ قالوا : نعم ، وكانت بأشراف الشام .
فركب عبد المطلب في نفر من بني أبيه من بني عبد مناف ، وركب من كل قبيلة نفر . قال : والأرض إذ ذاك مفاوز ، فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصاحابه وظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة ، فاستسقوا من معهم من قبائل قؤيش فأبوا عليهم وقالوا : إنا بمفاوز ، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم .
فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم تخوف على نفسه وأصحابه وقال : ماذا ترون ؟ قالوا : ما رأينا إلا تبع لرأيك ، فمرنا بما شئت
قال : فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرة لنفسه بما بكم الآن من القوة ، فكلما مات رجل دفعه اصحابه في حفرته وواراه حتى يكون آخر رجلاُ ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا
قالوا : نِعم ما أمرتنا به ، فقام كل رجل منهم غحفر حفرة له ، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطاشاً ، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه ، والله إن القينا بأيدنا هلكاً للموت لا تضرب في الأرض ونستبق أنفسنا لعجز فعسى الله تعالى أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ، وارتحلوا ،فارتحلوا حتى فرغوا ، ومن معهم من القبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون تقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها فلما انبعث به انفجر من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب وكبر أصحابه ، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه وأستقوا حتى ملأوا أسقيتهم ثم دعا القبائل من قريش ، فقال : هلم إلى الماء ، فقد سقانا الله فاشربوا واسقوا فشربوا ثم قالوا : والله قضى لك علينا يا عبد المطلب ، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الذي أسقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك وإنه بدا له فرجعوا ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قيل لعبد المطلب حين أمر بحفر زمزم : ادع بالماء الرواء غير الكدر فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش ، فقال أتعلمون أني قد أمرت أن أحفر زمزم ؟ قالوا : فهل بين لك أين هي قال: لا . قالوا : فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت إن يكن حقاً من الله بين لك وإن يكن من الشيطان لم يرجع إليك
فرجع عبد المطلب إلى مضجعه فنام فأري . فقيل : احفر زمزم . إن حفرتها لم تذم وهي تراث أبيك الأعظم فلما قيل له ذلك : قال : وأين هي ؟ قال: قيل له : عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غذاً ، قال : فغدا عبد المطلب ومعه ابنه الحارث وليس له يومئذ ولد غيره ، فوجد قرية النمل ووجد الغراب ينقر عندها بين الثنين : أساف ونائلة ، فجاء بالمعمول وقال ليحفر حيث أمر
فقامت إليه قريش حين رأوا جده فقالت : والله لا ندعك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما
فقال عبد المطلب للحارث : دعني أحفر والله لأمضين لما أمرت به فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه وبين الحفر وكفروا عنه فلم يحفر إلا يسيراً حتى بدا له الطي ، طي البير فكبر وعرف أنه قد صدق ، فلما تمردى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب ، وهما الغزالان اللذين دفنت جرهم حين خرجت من مكه ، ووجد فيها أسيافاً قلعية وأدرعاً وسلاحاً . فقالت له قريش : إن لنا معك في هذا شركاً وحقاً . قال: لا . لكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم نضرب عليها بالأقداح ، قالوا وكيف نصنع ؟ قال : اجعل للكعبة قدحين ، ولي قدحين ولكم قدحين . قالوا : أنصفت فجعل قدحين أصفرين للكعبة ، وقدحين أسودين لعبد المطلب ، وقدحين أبيضين لقريش . ثم قال: أعطوها من يضرب بها عند هبل وقام عبد المطلب ، فقال
لاهم أنت الملك المحمود ربي وأنت المبدي المعيد
من عندك الطارف والتليد فأخرج لنا الغداة وما تريد
فضرب بالقداح فخرج الأصفران على الغرابين للكعبة وخرج الأسودان على الأسياف والدروع لعبد المطلب وتخلف قدحا قريش فضرب عبد المطلب الأسياف على باب الكعبة وضرب فوقه أحد الغزالين من الذهب ، فكان ذلك أول ذهب حليته الكعبة وجعل الغزال الآخر في بطن الكعبة في الجب الذي كان يجعل فيه ما يهدي إلى الكعبة وكان هبل صنم قريش في بطن الكعبة على الجب فلم يزل الغزالين في الكعبة حتى أخذه النفر الذي كان من أمرهم ما كان ، فظهرت زمزم