نحلة بيضاء سكرى بالعسل
بابلو نيرودا
ترجمة وتقديم: بول شاوول
(لبنان)
مائة عام على ولادة بابلو نيرودا، العالم يحتفل أو يستعد للاحتفال في هذه المناسبة من أمريكا اللاتينية (قارته الواسعة) الى باريس. ونظن انه من خلال ما وصلنا من برمجات في هذه البلدان، ان الاحتفال به سيكون استثنائيا: أكثر من تكريم. وأكثر من تذكير بدوره. وأكثر من منابر وأفلام وفيديو وندوات وكتب وأمسيات وآراء. وهذا طبيعي، فنيرودا أكثر من شاعر. وأكثر من مناضل من أجل الحرية وضد الدكتاتوريات التي كانت مدعومة من الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة.
نيرودا أكبر من حجم مرحلة. وهو كما قيل (شاعر مرحلة) (ولو نرى ان هذه التسمية انتقاص منه) شأنه في ذلك شأن الشعراء الذين يستوون في الجبهة ذاتها، والفنانين والكتاب أو في الفضاءات السياسية وحتى الأيديولوجية والإبداعية ذاتها: لوركا، البرتي، ناظم حكمت، اراغون، ايلويار... كأنما حلقة واحدة وأحيانا لغة متقاربة الرهافات والهواجس والمستويات. ونظن ان نيرودا، مع بعض هؤلاء اكتسب ما اكتسبه. من هالات وأسطورة، ليس فقط بسبب نهايته (المأساوية). عندما استولى بينوشيه على السلطة ومات نيرودا حرقة وألما بعد نحو أسبوعين بعدما أحرق منزله ومتاعه ومكتبته...، وإنما لأنه أيضا استطاع بشعره أولا وأخيرا، وخارج الضجيج الاعلامي، أن ينجو، أو ان يبقى بعدما سقطت الأيديولوجيات (وقبلها الأنظمة) التي تبناها، كيساري وشيوعي ملتزم.
بمعنى آخر، ولأن شعر نيرودا، (وحتى نيرودا كرمز)، ما زال يحتفظ بقوته ونضارته بعد زوال مختلف الظروف التي ساهمت في تغذيته وشحنه، فانه يبدو الآن أكثر حضورا ، مما كان في تلك المرحلة. ذلك ان الهالات السياسية التي كانت تغلف هذا الشعر وتحجب طاقته الهائلة وتقننه وتوجهه توجها (أحاديا) (أي توجها أيديولوجيا بالدرجة الأولى) عبر الأدوار التي لعبتها الأحزاب والتنظيمات السياسية ، (لأهداف أحيانا دعائية) قد تبددت، لتترك الشعر وحيدا بحياته الخاصة. بقيمته النسبية. وهذا تحديدا ما شعرت به، وأنا أراجع دواوينه: من كتاباته الأولى في العشرينيات وحتى كتاباته الأخيرة في السبعينيات أي قبل وفاته، وما صدر بعد رحيله.
شعرت أولا بأني اكتشفت حجم نيرودا الشعري. وهذا ما كان ليتم عبر قراءات متباعدة ومتفرقة لأعماله. ثانيا ، شعرت بأن الأحزاب اليسارية العربية أساءت الى هذا الرجل، عندما قدمته في صورته الطاغية (كمناضل سياسي)، وأغفلت ما تناءى من شعره عن سياساتها. ثالثا ، شعرت بأن قراءتي لهذا الشاعر الكبير قد تحررت مما يجعلها تقع في أحكام مسبقة، والتي ورثناها من (الطليعيات) الشعرية، والنخبوية، واعتبار أن نيرودا (دون) هذه الملامح التجريبية والالتباسات اللغوية، والتشريحات في بنية اللغة وصولا الى القصيدة، التي عرفتها الحداثة الشعرية منذ بودلير حتى اليوم.
المغامرة
اذا هنا تبدأ المغامرة: ان تقرأ عاري الذهن، نصا ، تريد ان تتوغل فيه، لا بحثا عن أفكار ومواقف أيديولوجية وثورية وملتزمة، وإنما بحثا عن طاقات هذه الشعرية وتعابيرها، وأسرارها، ومتونها، وفضاءاتها، وتراكيبها، ومنتوجاتها وكانت قراءاتي على مدى أكثر من شهر قمة المتعة. والسعادة. والحرية أيضا. فأخيرا وجدنا الشاعر بعدما كان ضائعا في متاهات ما (أغدق) عليه من شعارات وخانات... لكن كل هذا لا يعني وضع حدود بين الشاعر وقصيدته ومضامينها وأطرها الفكرية والسياسية.
على مدى قراءاتي لأعمال هذا الشاعر التشيلي الكبير وجدت انه لم (يتخل) لحظة عن الغنائية. شاعر غنائي بامتياز. نقول هذا لأن هناك اتجاهات راهنة (كانت موجودة من قبل) ت نكر على الشعر أي غنائية أو عاطفية أو حتى رومانسية. ويمثل هذه الاتجاهات شعراء كبار في فرنسا مثلا كبرنار نويل أو دنيس روس أو غينيك أو غرومون، أو شارل دوبزنسكي من دون أن ننسى أن جزءا من ارث السوريالية القائم على التداعيات واقتباس الصورة المجانية والهذر المجاني (التلقائي الآلي) واللاوعي السحيق ينفي طغيان الغنائية أو يختزلها أو يحولها في اتجاهات أخرى، من دون أن تغفل المنحى الصوفي الشرقي فيها.
الشاعر الغنائي نيرودا.. ينتمي في غنائيته هذه الى سلالة ضاربة الجذور في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا، منذ ردنار، ودوبيليه وحتى الرمزية (في بعض جوانبها) مرورا بالينبوع المتدفق: الرومانطيقية: من لامرتين الى هولدرلين الى كيتس وبايرون وويتمان وغوته ونوفاليس (شاعر الليل). موروث غني ومتنوع يختزن العاطفية المبسطة اختزانه الميتافيزيقيا والفلسفة والتأملية، الى حدود الادراكات الحدسية في اكتشاف العالم، وكذلك الادراكات الذهنية والعقلانية.
لكن أين نيرودا من كل ذلك? أين غنائيته? لا نبالغ اذا قلنا انه تأثر أو استوعب أو اغترف من كل هذه الغنائيات. فمن حالات (رومانسية) مبسطة وحميمة وخصوصية رافقته منذ بداياته وهو في العشرينيات، حتى آخر أيامه، الى غنائية اختلطت فيها الأحاسيس والمناخات التي توجهها نحو الخارج. نحو الآخر. وهنا لابد من أن نشير الى ان نيرودا كماركسي، (أي كعقلاني)، واجه العالم بعاطفية واعية، مجمل التناقضات والأوضاع الإنسانية من ظروف الاستبداد، الى واقع العمال والفلاحين، والشعوب المسحوقة، والظلم الاجتماعي والتاريخ المرتبط بالحاضر، والحاضر المفتوح على التواريخ، بفروعها الأسطورية والخرافية والحكائية والقصصية. (تراث أمريكا اللاتينية ثري جدا بها).
هذا يعني انه نيرودا الغنائي هو شاعر الداخل. الداخل الذي يتدفق على الخارج. وشاعر الخارج الذي يمتزج في الداخل، العقلاني الذي ينظر الى عقلانية حسية وعاطفية، ورومانسي يوظف شغفه في فضاء أوسع من الذاتية وحدودها الضيقة (كما نرى عند لامرتين ودوموسيه ودو فيني)، من منطلق المغادرة الدائمة للذات الى الآخر. فهذا (في غنائيته) شاعر الذات بقدر ما هو شاعر الآخر. أي ان غنائيته هذه، وان راوحت في مجانية خصوصية (وإن مفتوحة)، تخرج الى ما هو أرحب: الى الشارع. الى المصانع، الى السجون الى المنافي،. الى الفقراء... الى التفاوت الاجتماعي، والدكتاتورية، غنائية نقدية إذا في بعض وجوهها.
الحب
فهو أكثر شعراء أمريكا اللاتينية كتابة عن الحب فمنذ بداياته: (عشرون قصيدة حب). الى مراحله المتقدمة (مائة قصيدة حب). وقد عرف كيف يجمع بين البوحية (المباشرة)، وبين ربط هذا الحب (الشقي) الجارف المجنون بالأرض والطبيعة والناس وبالزمن أيضا. وألاحظ هنا ان نيرودا في ابرز كتابين عن الحب (عشرون قصيدة حب) و(مائة قصيدة حب) يعود في نهاية العملين الى نوع من الميلودراما، أو الأحرى الدرامية: خط بياني يبدأ باللحظات الباهرة، والعشق المتفتح، لينتهي الى الفراق. تطور درامي عند نيرودا وكأنه . في عبره غير المباشرة، يجعل الزمن ينتصر.
لكن علينا ان نتبع هذه الغنائية الرقيقة والعنيفة والفاجعة في عشقه الى ما هو أضخم وأوسع عندما تعانقا، وبأجواء خيالية وأسطورية عالية الملحمية لا سيما في (النشيد العمومي) (تحفته الكبرى)، أو (سيف اللهب)، حيث يمتزج الحس الخاص بالحس التاريخي والأسطوري، لتتداخل فيها الخوارق والحكايات والأساطير والتواريخ في بنية متماسكة ومفتوحة. فهو في هذين الكتابين عرف كيف يعد الغنائية المتفجرة بالملحمية العالية ووصولا الى صفاء النشيد.
فغنائيته هنا تخترق المخيلة التاريخية والذاكرة الجماعية. في لغة متماسكة، وموصولة يبني عمارتها حجرا حجرا ، ونشيدا نشيدا ، ومشهدا مشهدا، ولحظة لحظة. انه الوعي الحاد بالتاريخ اكتسبه من انتمائه الأيديولوجي، وهو الوعي الحاد بالأسطورة اكتسبه من تراثه اللاتيني، وهو يمر بكيمياء العناصر اللغوية والصورية والإيقاعية اكتسب بعضها من ثقافته الأوروبية لا سيما الفرنسية (هذا ما فعله ماركيز وبورخيس),
هذه المناخات (الغرائبية) التي نقرأها في (النشيد العمومي) و(سيف اللهب) (متأثرا بهذا الأخير بحكاية التكوين بارودي للواقع)، هل تلتقي السوريالية التي تعمقها نيرودا. هل عناصر الصورة: جمع المتباعد، أو لم المتنافر، من ارث الدادائية أو السوريالية?
علينا ان نعرف ان نيرودا التقى السوريالية وافترق عنها (كرينيه شار، وبريتير وارطو وايلويار وحتى لوركا): اقصد انه اختزن هذه اللعبة السوريالية القائمة على (المدهش...، والغرائبي، والصدمة في الصورة والتراكيب. هذا موجود في شعره: المزيج من الإبهار الغريب في تركيب الصورة نجده حتى في قصائده الأولى (صدرت في ثلاثة أجزاء)، وفي مجمل أعماله حتى في قصائده الغنائية (الصافية).
لكن علينا أيضا ان نعرف ان نيرودا يبتعد بحكم تكوينه الأيديولوجي والنفسي على المجانية. فالصورة المتداعية عند السورياليين مجانية. يسمها الغياب. أو الغيبوبة. ولا تذهب ابعد من ذاتها، أي أنها لا توظف في خدمة رؤيا أبعد منها. وتحديدا رؤيا يتخللها وعي (صارم) بالعالم.
الصورة السوريالية تلتقي مناخات الصوفية، والصوفية حواس متلاشية، أو ذائبة، أو نائمة، أو حالمة... عند نيرودا الصورة جزء من الصمد: الصوفيون (ذوو عيون مغلقة) يستنبطون بها العالم. عند نيرودا الصورة طالعة من (عين مفتوحة) على العالم. أي ذاهبة الى وظيفة ومعنى وإيحاء وفكرة أي حقيقة ما. أي مغادرة لقيمتها (الادهاشية) ومجانيتها.. يعني ان نيرودا استفاد والى حد كبير من (تقنيات) السورياليين، ليدرجها في رؤيا (نقدية.. للعالم. أو في نسيج متماسك للقصيدة (السورياليون رفضوا مبدأ القصيدة كبناء واع في اتجاه ان الجمالية المشغولة بعيدة عنهم).
لكن اذا كان نيرودا ترك ما ترك من السوريالية، واخذ ما أخذ، فلأنه تأثر أيضا بالرمزية (البرسامان، جان بول رو، هنري جايمس، بول فور، وصولا الى مالرمه نفاليري وصعودا الى بودلير وفرين وحتى رومبو). اقصد ان نيرودا لعب لعبة الظاهر والباطن (وهي أيضا عند الصوفيين)، الرمز والمرموز اليه. أي المجاز الذي يحبك عناصره حبكا مشدودا ، أو حبكا يستغل فيها مبدأ (الإيماء) بدلا من التفسير المباشر، سواء عبر الصورة (رامبو)، أو الموسيقى (فرلين)، أو الاثنين معا (فاليري).
لكن علينا ان نلاحظ ان علاقة نيرودا بالرمزية (كمدرسة) كعلاقته بالسوريالية (كمدرسة أيضا) وبالرومانطيقية، علاقة تقاطع ومغادرة. فهو ابتعد عن الوقوع في التصنيفات. وفي الكاتدرائيات النظرية الصارمة. أي ابتعد عن تبني إحدى هذه المدارس كأبجدية مكتملة، ليستغلها كمفردات. ويكون بذلك قد تحرر من كل ربق أو جماعة أو لغة جاهزة. (كل المدارس تخضع لنظريات جاهزة وهذا مقتلها).
نقول هذا من دون ان نغفل ان نيرودا الذي نأى بنفسه عن الارتباطات الجمالية المحددة، قد التزم الفكر الماركسي أو الشيوعي كمناضل وكحزبي حتى آخر أيامه. هل هو تناقض? ربما! لكن علينا ان نعرف ان نيرودا بقي في مجمل نتاجه ذا التزام مفتوح. شيوعي متفتح. بلا علامات مفروضة ولا ارتباط مقنن، أي انتصر الشاعر على الايدولوجيا. وعلينا ان نعرف انه، عدا بعض شعره السياسي المباشر، كتب معظم شعره خارج هذه الالتزامات الأيديولوجية الضيقة، سواء في (حجارة التشيلي) أو في (قصائد الحب)، أو في (سيف اللهب).. وهي أعمال مشرعة على الشرط الإنساني العمومي لكن عبر تواريخ وطنه تشيلي وأمريكا اللاتينية. (هكذا كان لوركا والبرتي بالنسبة الى اسبانيا، وناظم حكمت بالنسبة الى تركيا)، بل وعلينا ان نلاحظ ان نيرودا وظف كل العناصر والمدارس الجمالية في زمانه، في خدمة قصيدته الخاصة. أي قصيدته التي بقيت خارج التصنيف، ولكن يجدر بنا ان نلاحظ انه اذا كان نيرودا من أصحاب الضربات الجمالية العالية، وتلك الكيميائية الخصبة في صهر العناصر لصوغ قصيدة متماسكة، فانه في المقابل بقي شاعر الضوء بامتياز. أي شاعرا لم يلجأ وعلى امتداد مراحله (عدا مرحلة شبابه عندما انفعل بكثير من السوريالية أو الرمزية)، لا الى الغموض، ولا الى الالتباس (علما بأن صورته بعناصره تؤدي الى التباس مضيء. أو التباس بلا تعمية)، ولا الى الصيغ الوعرة، ولا الى عتمة الداخل، ولا الى التمارين اللغوية (كريمون كلينو وفيليب سوبو)، ولا الى اجتراحات شكلانية، انه كالديار شاعر البساطة (لا التبسيط)، ولوركا (وان بدت السوريالية أكثر تأثيرا فيه)، وناظم حكمت ذي السلاسة الصعبة. أي ذو سهولة مركبة. وهو بذلك ابتعد عن (ظلمة) الداخل عند فاليري، وانغلاقية مالرمه، وصوفية رمبو... ذلك ان الغموض، اذا كان موجودا عند نيرودا، بالمواصفات (الرمزية أو السوريالية بناء على الإيحاء وتراكم العناصر)، فانه غموض شفاف غموض يضيء الداخل، والفكرة، والموضوع. لا غموض طالعا من تجريبية لغوية، أو تكسير متونه، أو تحطيم معان ، أو طمس علامات، أي لا غموض تجريبيا متصلا بفكرة منسبقة أو بقلق شكلي يريد تطبيقهما. فهو بعيد عن المختبرات، ب عده عن إرادة تسجيل أهداف (طليعية) مجردة. على صعيد التجربة الشعرية، أو تحقيق (بيانات) إيديولوجية ترتبط بجماعة أو بفرقة. فلنقل ان غموضه (ضوئي) لا معتم (وأنا لا أفاضل هنا). غموض العناصر الطبيعية والإنسانية في تبادليتها ضمن إطار جمالية ما. ونظن ان استغلال الأساطير والحكايات والتاريخ عند شاعرنا، ما هو إلا سير أو تحليق في ظواهر غرائبية أو تخييلية تصب في نوع من الإدهاش قد يلتقي السوريالية لكن يفترق عنها. أقصد ان كل أسطورة هي (فعل مركب وإدهاشي في ذاته ينفتح على مجمل الظواهر العجيبة) و(الغريبة) لأنه يتجاوز الحسابات (العقلانية) ، الى ما هو مقدس، أي الى ما هو فوق عقلاني. هذه هي طبيعة الحكاية. أو الأسطورة. هذه الجماليات الغامضة بمثابة جسور الى الآخرة، لا فجوات ولا جدران، ذلك ان نيرودا هو شاعر الذات وشاعر الآخر بامتياز.
ولكن هل هذا يعني اننا يمكن إدراج نيرودا ضمن لائحة الشعراء الشعبيين? (أو الشعبويين كما هي حال كثير من شعراء الأيديولوجيا والأحزاب?). هذه النقطة حساسة جدا. وملتبسة. ذلك ان نيرودا، هو، أصلا ذو انعطافات شعبية بطبيعة تركيبه وتوجهاته ومفهومه لدور الشاعر والمثقف، لكن هذه الانعطافات (الفكرية) قد لا تتحقق في ميدانه القصيدة النيروداوية بالشكل الكامل. صحيح ان لديه كثيرا من القصائد (المناسبية) صاغها لأهداف آنية كأن يوزعها أو يلقيها في تجمعات عمالية أو ثقافية أو حتى جماهيرية ثم تطوى بانطواء المناسبة، لكن الأصح ان نيرودا ليس شاعرا شعبيا بالمفهوم الاستهلاكي أو السياسي أو الآني. فشعره يحتاج الى تأمل. والى درجة ما من الثقافة، والوعي الجمالي، والتلقي الايجابي (النقدي) أي انه شاعر تهيأ لي قرأ في كتاب. لا ليسمع في مهرجان. حتى قراءته تحتاج الى جهد قد لا يقوم به سوى (النخب) (مع انه يعارض مفهوم النخبة). فقصائد مثل (النشيد العمومي) أو (السيف الملتهب)، أو (يوميات الإقامة)... أو حتى حجارة التشيلي، هي قصائد ذات بنى مرتبة. أي قصائد كتبت ضمن مشاريع كتب. وهنا نصل الى نقطة هامة: قلما كتب نيرودا قصائد متفرقة، كانت كل قصيدة عنده (أو معظمها) مشروع كتاب مؤلف بدأب وصبر وبهواجس فنية عالية. معظم قصائده طويلة. تمشي في الزمن (على عكس رينيه شار مثلا الذي لم يكتب سوى قصائد قصيرة باستثناء (أوراق هيبنوز)). ويعني ذلك ان هاجس (الكتاب) كتجربة متكاملة كان يسكن بال نيرودا. هذه الناحية، وارتباطا بقصيدته المركبة لا المبسطة، تعني القارئ (المبدع) الجلود، والمكتشف والمتفاعل (لا المنفعل فقط). أكثر مما تعني القارئ الجوال، أو الهتاف أو العابر.
انه عام نيرودا في وطنه تشيلي وفي العالم كله. عام شاعر كبير. وحالم كبير، وتراجيدي كبير، استخلص في شعره عصارة قارة كاملة، بكل تواريخها، وأساطيرها، وأحلامها، وأفكارها، ونضالاتها، ودكتاتورييها، وسجونها، ومنافيها، شاعر القارة بل هو الشاعر القارة.
***
مختارات من شعره
FAREE WELL
أحب حب المراكب:
بضع قبل ثم تمضي
تترك تلك وعودا
لكنها لا تعود أبدا
امرأة تنتظر في كل مرفأ،
البحارة يقبلون ويمضون
ذات مساء ينامون مع الموت
بأسره في زرقة المحيط.
***
أحب الحب الذي يتقاسم بالقبل، في السرير والخبز.
حب يمكن أن يكون أبديا
وربما أيضا عابرا.
حب يريد أن يتحرر
ليعاود الحب من جديد.
حب كإله يقترب
حب، كإله يمضي.
غسق ماروري
المساء على السطوح
يهبط
يهبط...
من أعطاه لكي يأتي
جناحي عصفور?
وهذا الصمت الذي يملأ
كل شيء،
من أي بلد كوكبي
جاء وحده
ولماذا هذا الضباب أيضا
- ريشة صغيرة مرتعشة -
قبلته المطر
- المحسوسة -
هل سقطت في الصمت
- والى الأبد- كل حياتي
(مقطع)
***
الريح
الريح تمشطني، يدها تمر
أمومية، على شعري.
للذكرى افتح الباب
وفكرتي تخرج وتمضي.
إنها أصوات أخرى احملها
غنائي من شفاه أخرى
لمغارة تذكاراتي
- ضوء غريب!
ثمار أراض غريبة،
أمواج زرق من بحر آخر،
عشق آخرين، أحزان
لا أجرؤ على تذكرها.
والريح الريح التي تمشطني،
على شعري يد أموية!
حقيقتي أكملها القمة
ليس لي لا عتمة ولا حقيقة!
نائما وسط الطريق،
يجب دعسي لأمشي.
قلوبهم تطأني، قلوبهم
السكرى بالخمر والحلم.
جسر جامد، أصل
قلبك بالأبدية.
ان مت فجأة
فلن أكف عن الغناء!
مياه راكدة
أريد ان اقفز الى الماء لأسقط في السماء
من (غسق)
***
عشرون قصيدة حب
(1)
انه الصباح المليء بالعاصفة
في قلب الصيف.
مناديل بيض للوداع، الغيوم تجنح
والريح يدفعها بيديه المسافرتين.
قلب الريح لا يحصى ، ويخبط
حبنا الصامت.
اوركسترالي وإلهي، يهمهم في الشجر
كلغة مفعمة بالحروب والأناشيد.
الريح لص سريع يخطف الشجر
ويحرف سهمه الهادر للطيور
يقلبها في موجة بلا زبد
مادة أصبحت بلا وزن، نيران تنحني.
إناء قبل غارق ومكسور
يهزمه للتو ريح الصيف عند الباب
(2)
إنها النحلة البيضاء، السكرى بالعسل، التي
تطن في نفسي، تنكسرين في لوالب بطيئة
من الدخان.
أنا اليائس، الكلمة بلا صدى.
الذي حصل على كل شيء وفقد كل شيء.
الملجأ الأخير، فيك يحطم قلقي الأخير.
أنت في صحرائي الوردة الأخيرة.
آه! أيتها الصامتة!
أغمضي عينيك العميقتين. فالليل يجنح فيهما.
آه! عري جسدك من التمثال الخائن.
تمتلكين عينين عميقتين تصطفق فيهما أجنحة الليل.
واذرع طرية للزهر وحضن ورد.
ونهدين شبيهين ببزاقات بيضاء.
فراشة ليلية تحط على بطنك.
آه ! أيتها الصامتة!
ها هي الوحدة وأنت غائبة عنها.
تمطر. ريح البحر يطرد بجعاً تائهاً.
الماء يمشي بخطى غارية في الدروب المبللة.
وورقة الشجرة تئن كمريض..
أيتها النحلة البيضاء، الغائبة، في همهماتك تدوم.
تنبعثين في الزمن، نحيلة وصامتة!
آه، أيتها الصامتة.
(3)
فقدنا مرة أخرى هذا الغسق..
ولا أحد رآنا متشابكي الأيدي
بينما كانت القمة الزرقاء تهبط على العالم.
رأيت من نافذتي
عيد المغيب على الهضاب البعيدة.
أحيانا ، وكميدالية
تشتعل قطعة شمس في يدي.
وأتذكرك وقلبي منقبض
حزين من الحزن الذي تعرفينه في.
أين كنت إذا?
وبين أي أناس?
أي كلمات كنت تلفظين?
لماذا يمكن ان يأتيني كل هذا الحب دفعة واحدة
عندما أحس نفسي حزينا وأعرفك بعيدة?
سقط الكتاب الذي كنا نأخذه الى الغسق،
معطفي، قلب جريح، تدحرج عند قدمي.
تبتعدين دائما ، ودائما في المساء
فإلى أين يسرع الليل ماحيا التماثيل?
(4)
قلبي يكفيه صدرك،
أجنحتي لحريتك.
من فمي يدرك السماء
كل ما كان يرقد في نفسك.
فيك الوهم اليومي.
تأتيني، ندى على التويجات
غائبة وتحفرين الأفق
تهربين، موجة أبدية.
وقلتها: تغنين في الريح
كالصنوبر وأشرعة السفن.
أنت مثلها عالية ومثلها صامتة.
تكتئبين فجأة، كما يكتئب سفر.
مضيافة، مثل درب قديم.
أصداء وأصوات حنينية تسكنك.
عند يقظتي أحيانا تهاجر وتمضي
طيور نامت في نفسك.
(5)
أيتها الصبية السمراء، الصبية الرشيقة، الشمس التي تصنع الثمر،
التي تثقل القمح وتعذب ال- alque ،
صنعت جسدك الفرح وعينيك المضيئتين
وفمك الذي من بسمة الماء.
سوداء، قلقة التقت شمسي بخيوط
ع رفك الأسود، وأنت تشدين الذراعين.
وتلاعبينهما كما تلاعبين نهدا ،
الذي يخلف في عينيك ماءين قاتمين راكدين.
أيتها الصبية، الصبية الرشيقة، لا شيء يقربني منك.
كل شيء يبتعد عنك، كما في ظهيرة مكتملة.
لك طفولة النحلة الهاذية،
قوة السنبلة، ثمالة الموجة.
مع هذا فقلبي القاتم يبحث عنك،
أحب جسدك الحبور وصوتك الحر والنحيل.
آه، يا فراشتي السمراء، عذبة وحاسمة.
أنت قمح وشمس وماء وخشخاش.
(6)
يمكنني ان أكتب أحزن الأبيات هذه الليلة.
أكتب مثلا: (الليل مزدان بالنجوم وكواكب
الأثير ترتعش في البعيد).
ريح الليل يدور في السماء ويغني:
يمكنني أن اكتب أحزن الأبيات هذه الليلة.
كنت أحبها، وأحيانا هي أحبتني أيضا.
في الليالي وكهذه الليلة كانت في أحضاني.
كنت أحضنها مرات كثيرة تحت السماء، السماء اللامتناهية..
أحبتني، وأحيانا أنا أحببتها أيضا.
وكيف لا ت حب عيناها الواسعتان، عيناها
الواسعتان الثابتتان.
يمكنني ان أكتب أحزن الأبيات هذه الليلة.
أفكر بأنها لم تعد لدي . آسف لأني فقدتها.
(مقطع)
***
من (عشرون قصيدة حب)
الفن غير المرئي
قصائد أولى
نمشي
نمضي ونغني، نغني الأغاني
التي تملأ قلوبنا حبا ونشوة،
وهذه الشكوك المرة التي نحملها فيها
تحت جلبتها الحبورة تحرك أجنحتها.
نمشي نمشي متعطشين للأوهام،
ووجوهنا تصرخ بالحزن والتعب
ومع هذا نغني: بعيدا في الغابة
نجد الينبوع المنعش المنشود.
نصل متعبين، نحني جباهنا
وشفاهنا الملتهبة، الناشفة والمجعدة
تشرب وهي ترتعش من العطش والانفعال
عندها، بهدوء المياه الهادئة
نرى الضوء ينبعث في بؤبؤنا
وينبعث عطش الأوهام من قلوبنا.
سأشرح لكم
سأشرح لكم: عندما كنت أعيش في المدينة،
كان شارعي يحمل اسم كابتن
وكان لهذا الشارع جموعه،
حانات الشرب، أسواق بيع الأحذية
محاله المليئة بالمجوهرات.
ما كان يمكن التجول
من شدة ما كان الناس عجولين،
الناس الذين يأكلون، يبصقون،
يتنفسون،
يشترون ويبيعون ملابس.
كل شيء كان يبدو لي مضيئا،
كل شيء كان يلتهب
ولم يكن سوى رنين
كأن من اجل إبهارنا أو إدهاشنا
مضى زمان ولم اسمع شيئا عن
هذا الشارع، نعم زمان طويل طويل
غيرت أسلوب حياتي، أعيش بين الحجارة
والمياه المتحركة.
الشارع الذي أتكلم عنه قد يكون مات
ميتة طبيعية.
من (البحر والأجراس)
***
البحر هنا?
البحر هنا? حسنا فليدخل.
احضروا لي الجرس، من النوع الأخضر.
هذا، لا، الآخر، الذي فمه من
النحاس المغلول،
وهذا كل شيء الآن، دعوني وحدي
مع البحر الأساسي، مع الجرس.
أريد الامتناع عن الكلام مدة طويلة،
أريد، أيها الصمت، ان أتكلم أكثر،
أريد ان أعرف، نعم، اذا كنت موجودا
من (البحر والأجراس).
***
أغنية حزينة
أمضيت ليالي حياتي كلها
وأنا أحسب، لكن في حساباتي
ما كنت أدرج لا أبقارا
ولا جنيهات إسترلينية
ولا فرنكات
ولا دولارات
لا لا ، لا شيء من هذا.
أمضيت ليالي حياتي كلها
وأنا أحسب، لكن في حساباتي
ما كنت أدرج لا الهررة
ولا السيارات
ولا العلاقات.
لا.
أمضيت ليالي حياتي كلها
وأنا أحسب، لكن في حساباتي
ما كنت أدرج لا الكتب
ولا الأرقام
لا..
أمضيت ليالي حياتي كلها
وأنا أحسب، لكن في حساباتي
لم أكن أدرج لا الأسرة
ولا القبل
ولا الخطيبات
ولا..
أمضيت ليالي حياتي كلها
وأنا أحسب، لكن في حساباتي
لم أكن أدرج، لا الأسنان
ولا القناني
ولا الكؤوس،
لا.
أمضيت في الحرب كلها سلمي
وأنا أحسب، لكن في حساباتي
لم أكن أدرج لا الموتى
ولا الأزهار
لا.
(مقطع) من (أخطاء مختارة)
***
الزوايا
ثلاث زوايا من الطيور عبرت
السماء على المحيط الضخم
المتمدد في الشتاء كحيوان أخضر.
كل شيء جمود موت، الصمت،
الانتشار الرمادي، الضوء الثقيل.
للفضاء، الأرض العاطلة.
فوق كل شيء عبر
طيران
ثم طيران آخر
لطيور س ود، لأجسام شتائية، زوايا مرتعشة بالكاد تنبض
ناقلة من مكان الى آخر
على سواحل تشيلي
البرد الرمادي، الأيام الآسفة.
أنا هنا بينما ارتعاش
الطيور المهاجرة المنزلقة من سماء الى سماء
تتركني غارقا في ذاتي وفي مادتي
كما في بئر من الأبدية
محفورة بلولب جامد.
اختفت الآن:
الرياش السود للبحر،
الطيور المعدنية
للصخور والموج والعواصف
الآن، ظهرا
ها أنا إزاء الفراغ: انه خفاء
الشتاء المنتشر
والبحر وضع
على وجهه الأزرق
قناعا من المرارة.
من (حديقة الشتاء)
***
Le froudeus euthousiaste. (1935)
(1)
يا عبدتي. اخشيني، احبيني. يا عبدتي
نحن من سماء أوسع غروب
وقلبي ينبثق فيه كنجمة باردة.
خطاي إذ تبتعد عنك تعود اليّ.
السوط المسلول عليك يسقط علي .
أنت ما هو موجود في ابعد مني.
ما يهرب كجوقة من الضباب المطارد.
قربا مني لكن أين? بعيد بعيد ما هو بعيد.
وما هو بعيد جدا ، يمشي تحت قدمي.
صدى هذا الصوت وأبعد من الصمت.
وما ينبت في قلبي كزبدٍ على الحطام.
***
كتاب الأسئلة
(1)
اذا كنت مت من دون ان اعرف
فمن سأسأل عن الوقت?
أي اذا في فرنسا، يستنفد
الربيع كثيرا وكثيرا من الأوراق?
حيث يستطيع أعمى ان يعيش
يطارده طيران النحل?
اذا اختفى الأصغر يوما ما
فبم سنصنع الخبز?
(2)
ماذا تخبئ هنا تحت حدبتك?
قال الجمل للسلحفاة.
إجابته السلحفاة:
- وأنت ماذا تقول لأشجار البرتقال?
أيكون لشجرة الأجاص من الأوراق
أكثر من (بحثا عن الزمن الضائع?)
لماذا إذن تحس الأوراق
باصفرارها تنتحر?
(3)
سلام الحماقة أهو سلام?
أيضع الفهد الحرب?
لماذا يدرس المعلم
جغرافية الموت?
ماذا يحدث للسنونوات
التي تعد متأخرة الى المدرسة?
أصحيح أنها توزع عبر السماء
رسائل شفافة?
(4)
هل أدركت كم يشبه
الخريف بقرة صفراء?
وكيف ان الحيوان الخريفي
يصبح بعدها هيكلا عظميا قاتما ?
وكيف ان الشتاء يكدس
أكثر فأكثر زرقات أفقية?
من سأل الربيع
شفافيته الملكية?
(5)
أي مسافة بالأمتار المدورة
تفصل الشمس عن أشجار البرتقال?
من تراه يوقظ الشمس
عندما تنام على سريرها الملتهب?
الأرض هل تغني كجدجد
في الجوقة السمدية
الحزن أهو بهذا الاتساع،
بهذا التماسك، الكآبة?
(6)
من أسأل عما
جئت افعل في هذا العالم?
لماذا أتحرك بالرغم مني
لماذا لا استطيع أن أكون جامدا!
لماذا أجري هكذا بلا طرق
وأطير بلا أجنحة ولا ريش?
ومن دفعني الى المكان الآخر
اذا كانت عظامي تعيش في تشيلي?
(7)
ولماذا تكون الشمس صديقا بهذا السدى
لمسافر الصحراء?
ولماذا الشمس لطيفة
في حديقة المستشفى?
أعصافير أم أسماكا يحفظ
القمر في شباكه?
لا هنا ضيعوني لكي
انتهي عن إيجاد نفسي?
(
وفي الفضائل المنسية، هل يمكنني
ان أخيط بدلة جديدة?
لماذا تذهب أجمل الأنهار
لتجري في فرنسا?
لماذا لا يحط ليل
غيفارا في فجر بوليفيا?
هناك، قلبه المغتال، هل
يبحث عن مغتاليه?
وعنب المنفى الأسود
أوليس فيه أولا طعم الدمع?
(9)
الا تحس ايفا الخطر
في ضحكة البحر المجنونة?
الا ترى في حرير الخشخاش
المفرح تهديدا?
الا ترى ان شجرة التفاح
تزهر لتموت في التفاحة?
الا تبكي، بين الضحكات،
قرب زجاجات النسيان?
(10)
من كانت تلك التي كانت تحبك
في الأحلام، عندما كنت نائما?
أين تمضي أشياء أحلامنا?
أفي أحلام الغير?
الأب الذي يعيش في أحلامك
أيموت بمجرد ان تستيقظ?
ونباتاتها أتزهر?
وثمارها الرحيبة اتنضج?
(11)
ما الذي مر يهتز في الليل?
الناس? سنابك الخيل?
أعلي ان اختار هذا الصباح.
بين البحر والسماء?
ولم السماء، اذا كان الصبح
قد اكتسى بضبابه?
من كان ينتظرني في (الجزيرة السوداء)?
الحقيقة الخضراء أم الإطار?
(12)
لماذا ولدت بلا سر ?
لماذا كبرت هكذا وحدي?
من طلب مني أن أحطم
أبواب كبريائي?
من خرج ليعيش مكاني
عندما كنت أنام أو الزم الفراش
أي راية ارتفعت هنا
حيث لم أنس?
***
مقبرة حب
(1)
أيتها المرآة الكلية: تفاحة اللمم، نار القمر
عطر المحار الكثيف، قطعة ضوء مطروقة،
أي ضوء معتم ينفتح بين عموديك?
وأي ليل عتيق يلامس حواس الإنسان?
الحب سفر، بكل أسف! من الماء والنجوم،
من الهواء المختنق، من عاصفة طحين مفاجئة:
الحب سفر ومعركة من البروق
وجسدان ضللهما عسل واحد.
اعبر بالقبل لامتناصيك الصغير
أنهارك، ضفافك ذات القرى الصغيرة
والنار الحسية وقد تحولت متعا
ها هي تجري بدروب ضيقة من الدم
لتسرع كقرنفلة ليلية
وتصبح في الليل مجرد شعاع.
(2)
أنا لا أحبك كوردة من ملح
الزبرجد.. قرنفل نشاب ينشر النار:
كما نحب بعض الأشياء الغامضة
إنما بين الظل والنفس، سرا أحبك.
احبك كالنبتة التي لا تزهر
التي تحمل في ذاتها، خبيئا ، ضوء هذه الأزهار،
وبفضل حبك يعيش غامضا في جسمي
العطر المهموم الذي يفوح من الأرض.
أحبك ولا أعرف كيف ولا متى ولا أين،
أحبك بلا مواربة، بلا كبرياء، بلا مشاكل:
أحبك هكذا، ولا اعرف طريقة أخرى للحب،
أحبك هكذا، بدون ان أكون، بدون ان تكوني
قريبا لدرجة ان يدك على صدري هي يدي
وقريبا لدرجة ان عينيك تغمضان حين أنام.
(3)
فلينثره كل الحب في فمه،
فلا أعاني بعد الآن لحظة ربيع
لم أبع للألم سوى يدي
الآن، يا حبيبتي، وقد تبقت لي قبلاتك.
غطي بعطرك ضوء الشهد المفتوح
الأبواب، غطيها بشعرك،
أما بالنسبة إلي فلا تنسي: اذا أفقت وبكيت
فيعني وأنا نائم لست سوى طفل تائه
يبحث عن يديك في أوراق الليل
واحتكاك القمح الذي تصلينني به،
نشوة لامعة وعتمة وقوة
آه يا حبيبتي، لا شيء سوى العتمة،
عتمة ترافقينني بها في أحلامك
وهناك تقولين لي وقت الضوء.
(4)
أحبي، قبل ان احبك لم يكن عندي شيء:
كنت أتردد عبر الأشياء والشوارع
لا شيء كان يتكلم من اجل اجلي لا شيء. كان له اسم:
كان العالم ينتمي الى انتظار الهواء.
عرفت عندها الصالونات بلون الرماد
عرفت أنفاقا مسكونة من القمر
والمستودعات القاسية حيث كنا نأخذ عطلة،
وعلى الرمل إلحاح الأسئلة.
كل شيء كان فراغا، وموتا وصمتا،
سقوطا في الإهمال وكل شيء كان نهارا
وبطريقة غير مستلبة كان كل شيء مستلبا ،
كل شيء كان ينتمي الى الآخرين والى أي شخص
الى ان منح جمالك وفقرك
هذه الصدقة المليئة بالهدايا.
(5)
ببساطة يدك ها أنت عارية:
ملساء أرضية دقيقة ومستديرة وشفافة،
تلك خطوط القمر، دروب التفاح،
عارية تماما أنت رفيعة كالقمح العاري،
عارية أنت زرقاء، من زرقة الليل في كوبا،
النجمة في شعرك تمتزج باللبلاب
عارية تماما أنت صفراء وضخمة
كأنما صيف في كنيسة من ذهب.
عارية فها أنت صغيرة كأحد أظافرك
منحنية، وردية، دقيقة حتى بزوغ الفجر
الذي سيراك تعودين الى باطن العالم
كما في نفق طويل من الأشغال ومن الأزياء:
وينطفئ ضوؤك ويرتدي ملبسه ويتناثر
ويصبح من جديد يدا عارية تماما .
(6)
حبيبتي، من حبة الى حبة، من كوكب إلى كوكب،
إنها شبكة الريح وبلادها القاتمة،
إنها الحرب تأتي بأحذيتها الدموية،
أو ها هو نهار السنبلة وليلها.
حيثما ذهبنا، أيتها الجزر، الجسور والرايات
قيثارات الشتاء (العابر) والمرهق
يضاعف الفرح الشفاء على الكأس
وبعبرة من البكاء، يجمدنا الألم.
الريح كل الجمهوريات
(7)
اعلمي إنني لا احبك وأحبك
بما ان طريقة ان تكون الحياة مزدوجة
بما ان الكلمة جناح الصمت
وأنها في النار نصف برودة.
أنا احبك لكي ابدأ بأن احبك،
لكي اقدر على استئناف اللانهائي
ولكي والى الأبد لا اكف عن حبك:
ولهذا لا أحبك حتى الآن.
أحبك ولا أحبك، فهكذا
كان في يدي مفاتيح السعادة
وعاثر الحظ، قدر غير واثق.
لحبي وجودان لأحبك
لهذا احبك عندما لا أحبك
ولهذا أحبك عندما أحبك.
(
يا حبي، ياشعاعا مجنونا ، آه تهديد الأرجوان
تأتين لرؤيتي، متسلقة سلمك النضر
الى القصر الذي توجه الزمن بالغيوم،
يا قلبي المسجون في جدرانه الصقر.
لا أحد سيعرف ان العذوبة الوحيدة
صنعت شيئا فشيئا كريستالا قاسيا كمدن،
ان الدم فتح أنفاقا عاثرة
من دون ان تتجاوز ارث الشقاء.
لهذا، يا حبيبتي، فمك، جلدك
ضوؤك وأحزانك هي الإرث
الحي، عطايا الشتاء المقدسة والطبيعة
الذي يرفع استقباله وعود الأحبة،
عاصفة النبيذ السرية في الأقبية
الالتهاب الباطني للزرع
(9)
العاشقان لا يصنعان سوى رغيف واحد،
قطرة قمر، واحدة، في العشب،
يخلف ان وهما يمشيان ظلين يتحدان
في السرير غيابهما شمس فارغة واحدة.
حقيقتهما الوحيدة تحمل اسم النهار:
ارتبطا بعطر وليس بخيوط
لم يمزقا السلام ولا الكلمات
وسعادتهما برج من الشفافية.
الهواء والنبيذ يرافقان العاشقين،
الليل يقدم لهما عطية من الأوراق السعيدة،
والى العاشقين يعود القرنفل.
العاشقان السعيدان لن يعرفا لا النهاية ولا الموت،
وغالبا ما يولدان ويموتان بقدر ما يعيشان
يمتلكان أبدية الطبيعة.
(10)
نحن اليوم: أمس، بهدوء، سقط
بين أنامل من نهار وعينين من ندم
غدا سيأتي بمشيته الخضراء
ولا شيء يوقف نهر الفجر.
ولا شيء سيوقف نهر يديك
ولا كذلك النوم من عينيك يا حبيبتي،
أنت اهتزاز الساعات التي تنقضي
من الضوء الهاوي الى شمس الظلال
وعليك فهي السماء تطوي جناحيها
وتدفئك وتحملك في ذراعيها
دقيقة، بمجاملتها السرية.
لذا أغني للنهار، للقمر
للبحر وللزمن، لكل المجرات،
لكلماتك المضيئة إنها لجسدك الليلي
(11)
كوتابوس قال ان ضحكتك التي يسقطها
كما ينقض العقاب من أعلى الأبراج المفاجئة
تعبرين، وهذا صحيح، ورق العالم
بلحظة خاطفة مخترقة وقريبة للسماء
تسقط، وتقفز لفات الندى،
مياه الماس، ضوء النحل
وهناك حيث الصمت ي سكن لحيته
رمان الشمس، النجوم، كل شيء ينفجر
مع السماء هو الليل الحالك يهبط،
وأجراس وقرنفل يشتعل ملء القمر،
في حين تجري خيول الرحالين:
أنا اعرف، أنت صغيرة جدا، ومع هذا
تمطر الضحكة منك كما من نيزك،
الطبيعة تحمل بك اسما كهربائيا
(12)
عوسج، كؤوس محطمة، دموع وأمراض
تحاصر ليل نهار عسل السعادة،
ولا جدوى من البرج، السفر، الحيطان:
البؤس يدخل إليك، يا سلام النائمين،
موج الألم مقربا ملعقته
ولا أحد يسلم من هذا التأرجح،
لا سقف، لا حائط، أي فصل من الوجود:
وها هي الصفة التي يجب تقلدها.
في الحب، لا تجدي العيون المغلقة نفعا ،
ولا الأسرة العميقة، عندما ينتن الجرح،
حيث يجب خطوة خطوة الفوز براية.
الحياة دَبق، كوليرا أو نهر
وتفتح نفقا دمويا حيث تراقبنا
عيون عائلة ضخمة من الآلام.
(13)
الأمطار الغزيرة في الجنوب تمطر على ايسلانينغرا
كقطرة وحيدة وشفافة وثقيلة،
البحر يفتح أوراقه الباردة، ليستقبلها
الأرض تتعلم قدر الكأس المبلل.
آه، يا نفسي، على قُبلك ان تهبني
هذا الماء الأجاج، مع عسل البلاد،
المطر الذي بلل ته السماء ذات الألف شفة،
صبر البحر المقدس في الشتاء.
انه نداء، الأبواب كلّها تفتح من تلقائها،
الماء يسرد قصة طويلة من الجلبة على النوافذ،
السماء تمضي الى تحت، مدركة الجذور
النهار يعقد ويحل شبكته السموية،
المحبوكة من الزمن، الملح، الضوضاء، الحركة، الدروب
من امرأة ورجل، والشتاء على الأرض
(14)
ماتيلدا أين ثراك? ألم ألاحظ
بين الكرافات والقلب، في الأسفل، ونحو الأعلى
موجة كئيبة متخللة الأضلاع:
ذلك لأني فهمت فجأة غيابك.
ضوء حيويتك افتقده
نظرت مفترسا الأمل،
المنزل وفراغه من دونك،
لم يبق سوى نوافذ تراجيدية،
صامت هو السقف، من كثرة ما يصغي
الى أمطار قديمة تمطر، كما تسقط الأوراق،
الريش، وما يحفظه الليل أسيرا:
وهكذا انتظرك كمنزل وحيد
اذا ما رجعت لتقابليني وتسكنيني
وإذا لم تفعلي، فنوافذي تؤلمني
أشعار الكابتن Les vens du Capitaine
الريح في الجزيرة
اصغي لريح حصان:
كم يجري
عبر البحر والسماء.
ولكي يأخذني: اصغي
كم يعبر العالم
ليأخذني الى البعيد.
خبئيني في ذراعيك،
هذه الليلة المستوحدة،
بينما يجرح المطر،
في البحر ، في الأرض،
بلا عدد، فمه.
اسمعي كم تدعوني
الريح وهي تجري
لتأخذني الى البعيد.
جبينك على جبيني،
فمك على فمي،
جسدانا مقلعان
نحو الحب الذي يلهبنا،
دعي الريح تمر، فلا تحملني.
دعي الريح تبحر متوجة بالزبد
فلينادني ويبحث عني
جاريا نحو العتمة
بينما أنا غارق في عمق
عينيك الكبيرتين
هذه الليلة المستوحدة،
يرتاح الحب.
الغصن المسروق
في الليل سندخل
نسرق
غصنا مزهرا .
سنعبر الحائط،
في عتمة بستان شخص آخر،
ظلين في الظلمة،
الشتاء لما ينقض بعد
وسي خال ان شجرة التفاح
تحولت فجأة
شلالا من النجوم العطرة.
في الليل سندخل
حتى المدى المرتعش
ويداك الصغيرتان ويداي
ستسرق النجوم.
عندها، خلسة،
عندنا،
في الظل وفي الليل،
سندخل مع قدميك
خطى المطر الصامت
ومع قدميك المكوكبتين.
جسد الربيع المضيء.
****
حجارة السماء.. حجارة تشيلي
(1)
بحثت عن قطرة ماء
عسل، دم: تحول
كل شيء حجارة:
دمعا أو مطرا، الماء
يجري دائما في الحجارة:
دما أو عسلا اخذا طريقهما
الى عميق
النهر ي قطع
ضوءه السائل
النبيذ
يسقط في الكأس
ناره الهادئة تشتعل
في كأس الأرض:
الزمن يجري
كنهر مقطع
يواطئ امواتا مهيبين،
أشجارا تجردت
من حفيفها، كل شيء يمشي نحو الصلابة:
الغبار، الخريف، يمضيان
والكتب والاوراق
الماء: وعندها سنرى شمس الحجارة تلمع
على كل الحجارة.
(2)
يوم بلا نهاية تغطى بالماء
النار، الدخان، الصمت، الذهب،
المعدن، الرماد والوقت الذي يعبر.. هنا
بقي النهار البلانهاية واقفا:
الشجرة سقطت هامدة ومفحم ة،
عصر غطاها، وعصر آخر كذلك،
الى اللحظة التي، وقد تحول كل شيء حجرا ضخما
غير من الابدية ومن الورق.
(3)
اريد ان يستيقظ
الضوء الأسير هنا:
يا زهرة معدنية، أجيبي
عن فعلي:
الجفون ترفع ستار
الزمن الطويل الكثيف
الى ان تولد من جديد
هاتان العينان وتريا شفافيتهما.
من (حجارة السماء)
***
سيف اللهب
(1)
رودو المحارب كان قد هاجر
من عمق الرمال اللامتناهية للصحراء الكبرى:
كان عاش عصر الرماح الخضر، صاعقة
الخيول، اتجاه البرق.
الرعب جعل من الدم رايته
الموت غطاه بجداره كما
يغطي الليل الأرض
عندها قرر ان ينذر نفسه للصمت،
الى الغور المجهول،
وبحث عن أرض لمملكة جديدة،
بحث عن مياه زرق ليغسل بها الدم.
حيث تنتهي التشيلي ينكسر الكوكب:
البحر والنار، علم الأمواج،
صدمات البركان، مطرقة الريح،
العاصفة القاسية جدا وغضبها الحاسم
قطعا الأرض والمياه: جزر من فوسفور
كبرت، نجوم خضر، أقنية مدعوة،
عناقيد غابات، استعراضات صاخبة
ففي هذا العالم ذي العطر البارد.
أسس رودو مملكته.
(2)
آه يا رفيقتي! قال سيد الغابات
لماذا نعرف اننا عاريان?
كل الثمار كانت ملكنا
عندما علمت البراكين السبعة
إنني لا استطيع العيش من دون عينيك،
وإنني بلا جسدك احتضر
وإنني اشعر بالضياع في حضورك.
والآن القلعة بلا جدران،
شلالات الملح، قمر السرو،
الغابة، الجذور الغضوب، صمت،
الجذوع الضخمة المنجمة، العزلة الفارغة،
تلك التي سعيت إليها وعليها، المملكة العاصفة،
المُرة، المؤسسة من الشمس والمطر،
وتماثيل الماضي الميتة
وحفيف الريح بين منحل الشجرة،
الكثافة التي يخترقها غناء شيكو،
كضحكة، كنشيج، هبوب أو هروب،
وثلوج جبال رالون، حيث يبدأ
الأرخبيل الرهيب وأجراسه الصقيع،
آه يا رفيقتي، حوائي- الوردة، وردتي- الزهرة-
تتركني بما اننا نعرف،
إنها غابة شجرة الحياة، عنقود
كل نبات، تقل الثمرة البرية
غذيانا فجأة، بقينا عاريين،
عاريين حتى الموت حباً، الموت ألماً.
(3)
ماذا جرى على الأرض?
هذا الرجل أكان الأخير أم الأول?
في منطقة من الشقاء والسعادة?
ولم تأسيس الإنسانية من جديد?
لماذا كانت تقفز الشمس من غصن الى غصن
الى درجة تأخذ فيها حنجرة عصفور لكي تغني?
ماذا عساني افعل? قالت الريح.
لم تحولت ذهبا ?
قال القمح، نعم، ما نفع الوصول
الى الخبز اذا لم يعد ثمة أيد ولا أفواه:
الفراغ الأرضي ينتظر
خارج الإنسان أو داخله:
كل الحروب قتلتنا حتى آخر واحد فينا،
لم ينج أبدا أي حي.
منذ الحرب الأولى
بالحجر، وبعدها
بالسكين وبالنار
لم ينجح احد:
أراد الموت ان يكرر عنصره
باختراع بشر جدد مخادعين
بشر، يبدأون الآن بالاثم
بالتقاتل- وبقتلنا.
قابيل وهابيل غالبا ما سقطا
(قتلا مليون مرة)
(مليون فك وبلوى)
قتلا بالمسدس والخنجر،
بالسم والقنبلة،
أخذا بالجريمة ذاتها
وفي كل مرة كانا ينثران كل دمهما.
لا احد كان يستطيع أن يعيش
لأن المقتول كان مذنبا
لكون اخيه هو القاتل
وان القاتل قد مات:
مات هذا المحارب الأول
لأنه قتل اخاه.
(4)
رودو، مخلفا وراءه ما يسمى ماضيا ،
كف عن ان يكون شريكا في الجريمة، جريمة،
شريكا في ما ارتكب أم لم يرتكب، شريك
الآخرين، كل الآخرين،
وعندما رأى نفسه مضرجا بالدم.
الدم البعيد أو القديم أو الحاضر أو الآتي،
كاسرا الزمن، وصل الى قدره،
صار من جديد الإنسان الأول من دون نفس ملوثة بالدم،
لم يهرب: كان الأمر ابسط من ذلك:
صار الإنسان الأول من جديد وحيدا :
ما عاد احد يريده هذه المرة:
الشوارع المظلمة تنبذه،
القصور الفارغة،
لم يعد في وسعه الدخول الى المدن لأن الجميع هجرها
لم يعد احد في حاجة اليه، كلا، لا أحد، لا أحد!
لم يعد يعرف كثيرا ان كان ما يتبقى
في الافران طحينا أم رمادا
ان كان ما يتبقى سمكا أم أفاعي
في السوق بعد ذلك الحريق،
وإذا ما كانت الهياكل العظيمة المنسية في الحفرة
مجرد فحم أو جنود مفحمة.
(مقطع)
****